الفصل السادس والاربعون :إيليا النبيّ من جبل الكرمل إلى جَبل الصّعود

الفصل السادس والاربعون
إيليا النبيّ
من جبل الكرمل إلى جَبل الصّعود

حين يتحدّث الناس عن إيليّا النبي يذكرون مشهدَين: الأولى: نبيٌّ أو بالأحرى رجلٌ قديرٌ يرفع سيفه ليقتل الأعداء؛ والثاني: نبيٌّ يرتفع في مركبة الله دون أن يموت. فينتظرون عودته ويسمّونه مار الياس الحيّ. ولقد ذهب بعض أصحاب النظرّيات إلى الربط بين رجوع إيليّا وما يُقال عن التقمّص وعودة الروح إلى جسم تركته أو إلى جسم آخرَ تتّخذه. وينسى الناس ما في هذا الانسان من عظمة تجعله قريبًا من الله، ما في هذا الانسان من قوّة جعلته لا يخاف من أن يحمل كلمته إلى الملوك، ما في هذا الانسان من تواضع أمام ربه وإلهه، ومن حنان تجاه الغريب واليتيم والأرملة والضعيف. سيفُه ليس سلاحًا نعرفه في الحرب يقتل العدوّ، سلاحُه هو كلمة الله يردُّ بها الناس إلى طريق الحقّ.
نقدّم في هذا المقال نظرةً إلى وجه إيليّا الحقيقيّ. نتوقّف بعض الشيء عند النصّ الذي يصوّره على جبل الكرمل في صراع مع كهنة بعل، وننتهي في 2 مل 2 والحدث الأخير الذي فيه يعود إيليّا إلى ربّه كما يعود كلُّ بارّ. مات في الصحراء في عاصفة رمليّة، فلم يعثر الباحثون على جسده. ولكن الربَّ أخذه إليه ليكون مع إرميا وأشعيا وسائر الأنبياء والأبرار.

1- وجه إيليّا الحقيقيّ
لم يهتمّ الكتابُ المقدَّس بأن يقول لنا كيف وُلد إيليّا ومتى جاءَه نداءٌ من الربّ. هو يظهر فجأة على مسرح الأحداث وكلمة الله قاطعةٌ في فمه كسيف ذي حدَّين. ترك الشعبُ عبادةَ الربّ الواحد. والتحقوا ببعل إله فينيقية، وما في عبادته من شطط لاسيّما في مجال الممارسات الجنسيّة. فهدّدهم إيليّا بعقاب الله. وجاء القحط والجفاف ثلاثَ سنوات متتالية. فبيّن لهم إيليّا أن هذا هو نتيجة تركهم للربّ إلههم. إن كان بعل هو إله المطر، فلماذا لا يفعل شيئًا؟ وهكذا هيّأ الناس لصراع مع كهنة بعل، لن ينتهي بمقتل الذين خانوا إيمانهم وتبعوا المكسب السريع. وأوصل إيليّا كلام الربّ إلى الملك آخاب "الذي صنع الشرّ في عيني الربّ أكثر من كل الملوك الذين سبقوه"، الذي أسخط الربّ (1 مل 16: 34) بتنمية عبادة البعل في أرضه، وعاد إلى الخرافات. فبُنيت أريحا في أيامه على ولَدين ذُبحا للآلهة: جعل حيئيل، أحدُ قوّاد الملك، ابنَه البكر في الأساسات، وابنه الأصغر تحت الأبواب. وهكذا يكون كموش، إله الموآبين (في الأردن يوماً) راضياً عن المدينة (رج 2 مل 3: 27). أما منَعَ الربُّ مثلَ هذه الذبائح (لا 18: 21)!؟ أما علّم ابراهيم أن يفتدي ابنه بكبش (تك 22: 12)؟ فالانسان ليس وسيلة، إنه غاية، ولا يحقّ لأحد أن يقتله حتى ولو كانت نيّته عبادةَ الله وتكريمَه!
ووبّخ إيليّا الملك آخاب يوم قتل نابوت اليزرعيليّ (يقع سهل يزرعيل بين جبل الكرمل وبيت شان) وأخذ له كرمه حتى يوسّع الساحات المحيطة بقصره. قال إيليّا: "هكذا قال الربّ: قتَلتَ وورثتَ". ثمّ كلّمه قائلاً: "هكذا يقول الربّ: في المكان الذي لحَست فيه الكلابُ دمَ نابوت، تلحسُ دمَك أنت أيضًا" (1 مل 18:19-19). لم يكن هدف إيليّا الموتَ من أجل الموت، بل دفْع آخاب إلى التوبة. قالت له آخاب: "لقد وجَدتني يا عدوّي". أجاب إيليّا: "وجدتُك. لأنك بعتَ نفسكَ لعمل الشرّ في عيني الرب"، سررتَ أن تفعل ما لا يريده الربّ (1 مل 21: 20- 21). ويروي الكتاب أن آخاب ندم على أثر هذا الكلام. فمزّق ثيابه وجعل على يديه مسحًا وصام. ونظر الربُّ إلى توبة آخاب بعين الرضى فقال لإيليّا: "أرأيت كيف اتّضع آخابُ أمامي"؟ أجل، لا يريد الربُّ موتَ الخاطئ، بل أن يعود عن ضلاله ويحيا. ولكنّه لا يريد أن يُظلمَ الفقير والغريب واليتيم والأرملة: فإن صرخوا إلى الربّ، يسمع الربُّ صراخَهم ويحتدُّ غضبه على مضطهديهم (خر 22: 20-23).
لكن إيليّا ليس هو ذلك القويّ دومًا. هدّد الملكَ بالجفاف، فأجبر على أن يتوارى عن نظر آخاب. ذهب إلى البريّة، إلى شرقيّ الأردن، لجأ إلى العرب الذين استضافوه بأفضل ما عندهم: ذبحوا له، وكانوا يأتونه بالخبز واللحم في الصباح والمساء (2 مل 17: 2-6). هنا نشير إلى أن الترجمة اليونانيّة التي تمّت في القرن الثاني ق. م. تقريبًا، ترجمَت كلمةَ "عربيم" بكلمة "غربان" فدلّت على عمل الله مع نبيّه، على عمل الله بواسطة الغراب! أما يستطيع الله أن يعمل أيضًا بواسطة الانسان؟ وكما استقبل إيليّا غرباءُ في شرقيّ الاردنّ، كذلك استقبلته أرملةٌ غريبة في صرفت صيدا (هي بلدة الصرفند الواقعة على الساحل اللبنانيّ بين صور وصيدا): بقي لها حفنةٌ من الدقيق ونقطةٌ من الزيت فقدّمتها لنبيّ الله، فكان جزاؤها أعظم جزاء: ملأ بيتَها خيرًا وأعاد الحياة إلى ابنها، وهذا كلُّه بقدرة الله (1 مل 17: 7-24).
وخاف إيليّا خاصةً بعد مقتل كهنة بعل، فهرب إلى الصحراء في الجنوب. بل وصل إلى جبل حوريب (أو سيناء) حيث تجلّى الربّ لموسى. وكان لإيليّا أيضًا لقاءٌ عذبٌ مع الربّ: لا مع الزلزال والريح والنار، كما اعتاد أن يفعل، بل في نسيم لطيف، في صمت نحيف. وهكذا دخلت كلمةُ الله في أعماقه، فأعطته قوّةً جديدةً ليعود من حيث أتى ويكمّل الرسالة. ظنّ أنه بقي وحده في الدفاع عن مصالح الله. فقال له الربّ: أبقيتُ لنفسي سبعةَ آلاف (أي عدد كبير جدًا. سبعة هي عدد الكمال. والألف هو رقم ضخم جدًا) من الناس لم يجثُوا للبعل على رُكبهم ولم يقبّلوه بفمهم (1 مل 18:21). إن حضور إيليّا وسَط شعبه مهمٌّ جدًا: إنه قوّة معنويّةٌ وروحيّة، وهذه القوّة جاءته من الربّ في ساعات الضعف.

2- إيليّا على جبل الكرمل
وكان لقاء أولُ بين إيليّا وعوبديا (أي عبد الربّ) الذي أخفى خمسين من الأنبياء (جماعة تشبه الرهبان اليوم) في مغارة وزوّدهم بالخبز والماء، فنجَوا من الموت. ولقاءٌ ثان بين إيليّا وآخاب الملك: سمّى إيليّا: "معكّر صفوَ اسرائيل" لأنه جلب الشدّة على الشعب بعمل دينيّ هو أشبه بالسّحر. فهل إيليّا إلهٌ بيده الموتُ والحياة؟ كلاّ! إنه خادمُ الله، وهو يأتمر بأمره. إكتفى بأن يدلّ على يد الله العاملة في هذه الجماعة. أجل، إنّ الله يكلّمنا من خلال أحداث الحياة، ولاسيّما الصعبة منها والقاسية: هكذا كلّم موسى فرعَون من خلال وفاة بكره، وهكذا كلّم إيليّا آخاب: "أنتَ تعكّر صفوَ اسرائيل (أي مملكة إسرائيل بعاصمتها السامرة)، أنتَ وبيتُ أبيك تركتُم وصايا الربّ وسرتُم وراءَ البعل. صار البعلُ معلّمَكم وقائدَكم" (1 مل 18: 16-19).
ودعا النبيُّ الملكَ إلى مبارزة على جبل الكرمل: من هو الاله الحقيقيّ، الربُّ أم البعل؟ وكانت مناسبة لإيليّا لكي يعظ الشعب على الجبل، كما فعل موسى من قبله. "إلى متى تعرجون بين الجانبين؟ نقول في لغتنا: رجلٌ في البُور ورجلٌ في الفلاحة. تارةً ترقصون أمام بعل وطورًا تأتون إلى الربّ. وتابع إيليّا: "إن كان الربُّ هو الاله فاتبعوه. وإن كان البعلُ هو الاله فاتبعوه" (1 مل 18: 21). اختاروا من تعبُدون: اللهَ أم بعل؟ لا تستطيعون أن تعبدوا الاثنين. وسيقول يسوع: لا تستطيعون أن تعبدوا الله والمال (مت 6: 24؛ لو 16: 13). ونحن نقول: من نعبُد؟ اللهَ أم الخرافات وكلّ أعمال السحر؟ أراد إيليّا النبيّ أن يحارب هذه الوسائل التي يستعملها الوثنيّون ليصلوا إلى مبتغاهُم. أرادوا أن يفرضوا نفوسهم على إلههم. كانوا يرقصون حول المذبح. ظنّوا ربَّهم في شغل، في خلوة، أو في سفَر. صرخوا لعلّه نائم يستيقظ. خدشوا أنفسهم بالسيوف والرماح. ولكنّ الله ليس إلهَ الضجّة، والله الآب يعرف ما نحتاج إليه قبل أن نطلبه (مت 8:6). إلهُنا لا ينعسُ ولا ينام (مز 122: 4)، هو يحفظنا، هو يظلّلنا، هو يقف عن يميننا لكي يدافع عنّا (آ 5).
سخر إيليّا النبيّ من هذه الشعوذات وسخر من الذين يقومون بها. ونحن نتعلّق بها ألفي سنة بعد موت المسيح. نهتمّ للغد والربُّ قال لنا: لا تهتمّوا للغد، فالغد يهتمّ بنفسه (مت 6: 34). ونحن نريد أن نفرض نفوسنا على الربّ ليعطيَنا ما نحن نريد، لا ما يريده هو من أجل خيرنا. فما معنى صلاة نقولها له: لتكن مشيئتك (فينا) على الأرض كما في السماء؟ ونظنّ إن كنّا مهذارين، أو أكثرنا الكلام يستجيب الله لنا (مت 7:6)! كم نحن مخطئون. ونظنّ أنّنا إن أكثرنا التقدمات والذبائح ودفع الأموال، يقبل الله دعاءنا! لنسمع ما يقول لنا الربّ في نبوءة أشعيا (1: 11ي): "ما فائدتي من كثرة ذبائحكم! شبعتُ من محرقات الكباش، ولا يرضيني دمُ الثيران (التي تقدّمونها لي ذبيحة). حين تبسطون أيديَكم أحجبُ عينيَّ عنكم. وإن أكثرتم من الصلاة لا أستمع لكم. فاغتسلوا وتطهرّوا وأزيلوا أعمالكم الشّريرة من أمام عينيّ. كفّوا عن الإساءة، تعلّموا الاحسان، والتمسوا العدالة. أنصفوا اليتيم، حاموا عن الأرملة".
إن كانت قلوبنا على هذه الصورة سمع الله لنا وأعطانا ما نحتاج إليه. إنه يعطينا سمكًا ولو طلبنا حيّة. يعطينا خبزًا لا حجرًا، وسمكةً لا عقربًا. هو يعرف أن يعطينا العطايا الصالحة (لو 11: 11-13).
وهكذا طلب إيليّا من الربّ. لم يطلب شيئًا لنفسه، لم يطلب باسم نفسه، بل باسم الشعب، باسم الأسباط الاثني عشر (1 مل 18: 30- 31): قرّب الشعبَ إليه، رمّم مذبح الرب الذي كان قد تهدّم. ورفع صلاته إلى الربّ: "أيّها الربّ، إلهُ ابراهيم وإسحاق ويعقوب، ليَعلم الجميعُ أنك إلهٌ في اسرائيل وأني أنا عبدك، وبأمرك فعلتُ كل هذه الأمور. إستجبني يا ربّ، إستجبني، وليلعم (وليقتنع) هذا الشعبُ أنك أنت الله، وأنّك تردُّ إليك قلبَ شعبكَ". لا، لم يطلب إيليّا الخيرات الماديّة، بل طلب أن يتمجّد اسمُ الربّ فيؤمنَ به الشعب. وكان جواب الربّ نارًا أحرقت الذبيحة. النارُ تدلّ على حضور الله. هكذا اعتبرها الشعبُ العبرانيّ، ولهذا هتفوا: "الربُّ هو الاله، الربُّ هو الاله" (1 مل 18: 36-39).
ليَعلم الجميع. ليعلمْ كهنةُ البعل مع إيزابيل أن أرض اسرائيل هي للربّ لا للبعل. وليَعلم بنو اسرائيل أنّ الربَّ هو الاله الأوحد. كانت حربٌ بين الله والبعل. خسر خدّامُ البعل الحرب، فكان مصيرُهم الموتَ حسَب شريعة تلك الأيام.
ظلّ إيليّا على الجبل، وأنزل الشعبُ كهنةَ بعل إلى الوادي وهناك ذبحوهم. لاشكّ بأمر إيليّا، لا بيد إيليّا، كما تعوّدت بعضُ الرسوم أن تصوّره. غُلبَ البَعلُ على أمره. وكان يُحسبُ إلهَ المطر:- نقول حتى اليوم: أرضٌ بعل أي أرضٌ يسقيها بعل إلهُ المطر، وهناك الأرض التي تحت الريّ-. فإن سقط المطرُ الآن سيَفهمُ الشعبُ أنَّ الربَّ هو الذي يرسل مطره على الأشرار والأخيار. وبدأ إيليّا يصلّي راكعًا وجبينُه إلى الأرض. كان واثقًا من عطيّة الله، ولهذا قال لآخاب: إصعَد وكُلْ واشرَب. كانوا قد صاموا وأطالوا الصيام تمهيدًا للذبيحة ونيل المطر. وهكذا كان، فتمجّد اسمُ الربّ لا اسمُ إيليّا. هكذا فعل يسوع. قال: "يا أبتاه، مجّد اسمك" (يو 12: 28).
ومع ذلك، لم تنته الحربُ بين تبّاع البعل وتبّاع الاله الحقيقيّ. كان نجاحُ عبّاد يهوهَ موقّتًا ولن يكون نهائيًا إلاّ بثورة ياهو (2 مل 9-10) ومقتل عثليا ابنة إيزابيل (2 مل 11).
وهرب إيليّا من وجه إيزابيل ولكنَّ الربَّ أعاده إلى الجهاد من جديد: "إرجع في طريقك" (1 مل 19: 15). وما لا يعمله إيليّا سوف يعمله أليشاع.

3- اختطاف إيليّا وموته
ونصل إلى نهاية حياة إيليا. يسمّيه الناسُ إيليّا الحيّ ويعتبرون أنه لم يمُت، وأنه سيعود. كيف يتجاسر المسيحيُّ أن يعتقد مثل هذا الاعتقاد؟ هل نسيَ أنّ يسوعَ المسيحَ نفسَه قد مات؟ ثمّ إنّ كلام القديس بولس واضح: "دخَلت الخطيئةُ في العالم عن يد إنسان واحد، وبالخطيئة دخل الموت، وعمّ الموتُ جميع الناس" (روم 5: 12). فإن كان إيليّا إنسانًا من الناس، فلا بدَّ أنّه مات. هذه هي المسلَّمة التي ننطلق منها وهي لا تقبل الجدال. فيبقى علينا أن نشرح النصوص التي تتحدّث عن نهاية حياة إيليّا.
ما هو الواقع؟ إختفى جسدُ إيليّا. بحثَ عنه بنو الأنبياء ثلاثة أيام فلم يجدوه (2 مل 2: 17). كان في البرّية، وقد تكون الريحُ حملته وطرحته "على أحد الجبال أو في أحد الأودية" (2 مل 2: 16): والمعقول هو أنّ عاصفة رمليّة طلعت عليه كما طلعت على أشخاص كثيرين في الصحراء فضاع أثرُهم. هذا ما حدث لموسى. مات بعيدًا عن الناس. مات هناك في أرض موآب. كم تمنّى الشعبُ ألاّ يموتَ موسى، ولكن فمَ الربّ تكلّم (تث 34: 5). دُفن في الوادي. من دَفنه؟ الربّ. لم يكن أحدٌ معه حين مات. وهكذا لم يعرف أحدٌ قبرَ موسى. لقد كان موسى عظيمًا جدًّا (تث 34: 11- 12: الآيات والخوارق). وقد يتعبّد له الناس على حساب الله، كما يفعل عددٌ من المؤمنين اليوم الذين يتعبّدون للقدّيسين وينسون الله الذي مجّد قدّيسيه. نحن أمام خطر على الايمان، حيث يبحث الناسُ عن آيات وخوارقَ وعجائب، حيث يبحثون عمّن يحلُّ محلَّهم ليفكَّ مشاكلَهم ويُنهي صعوباتهم ويؤمّن لهم حاجاتهم حتى الصغيرةَ منها. ومهما خُدعوا فهم لا يتعلّمون أنّ بيت الله هو بيتُ صلاة، وقد جعله بعضُهم "بيت تجارة" (يو 16:2). بل "مغارة لصوص" (متى 13:21).
وتمنّى الشعبُ إلاّ يموت إيليّا. وقد سمّوه "مركبةَ اسرائيل وفرسانَه" (2 مل 2: 12). وتمنّوا أن يعرفوا أين دُفن ليكرّموا مدفَنه. ولكن "الله" أخفاه كما أخفى مدفن موسى، وإيليّا هو صورةٌ عن موسى في كل شيء، ورفيقُ موسى حتى على جبل التجلّي (مت 3:17).
ونعود إلى النصّ كما نقرأه في 2 مل 2: هذا ما حدث حين أصعد الربُّ إيليّا في العاصفة نحو السماء. هناك فكرةٌ ماديّة: إيليّا في العاصفة، عاصفة رمليّة. وفكرةٌ روحيّة: العاصفة تدلُّ على حضور الله، وفكرةٌ روحيّة ثانية يحدّثنا عن صعود إيليّا إلى السماء كما يصعد كل أبرار الله وأتقيائه. هذا ما يشير إليه مز 23:73-24: "أنا معك على الدوام. تُمسك بيدي اليمنى. تقودني بعصاكَ وتأخذني وراء المجد" (أو تأخذني في المجد وراءَك). وهذا الفعل "أخذ" يُستعمل مرارًا في نصّ سفر الملوك الثاني. قال إيليّا لأليشاع: عندما أؤخذ عنك، أي حين يأخذني الله من عندك. أجل، جاء الوقتُ لكي يأخذ الله وديعته.
ونقرأ في 2 مل 2: 11-12: "وفيما كانا سائرَين، وهما يتحادثان، إذا مركبةٌ ناريّةٌ وخيلٌ ناريّةٌ قد فصلت بينهما، وصعد إيليّا في العاصفة نحو السماء. وأليشاع ناظرٌ وهو يصرخ: يا أبي، يا أبي، يا مركبةَ اسرائيل وفرسانَه. ثمّ لم يعد يراه".
نلاحظ أولاً أن النارَ تدلّ على حضور الله. والمركبة الناريّة خاصة بالله. فلم يركبها إيليّا. لقد مرّت المركبة الناريّة، أي مرَّ الله، فأخذ إيليّا وأبقى أليشاعَ على قيد الحياة. رآه أليشاع يختفي فكان وريثَه. لهذا فعل مثله، فقال بنو الأنبياء: "حلّت روح إيليّا على أليشاع" (2 مل 2: 15).
أجل، أخذ الربُّ إيليّا كما أخذ موسى وسائر الأبرار. وسيقول التقليد اللاحق إنّ موسى انتقل إلى السماء ولم يمُت. تلك كانت رغبةً ملحّةً في العهد القديم. كيف يسمح الله أن يتخلّى عن أحبّائه في الموت؟ ولكن هذه الرغبة حقّقها يسوعُ المسيحُ وحدَه. يروي لنا القديسُ لوقا في سفر الأعمال كيف صعد إلى السماء على مرأى من تلاميذه (9:1). صوّر لوقا المشهدَ على مثال ما عرف عن إيليّا. رأى أليشاعُ إيليّا فكان له سهمان من روحه، أي كان وارثَه الأول. ورأى التلاميذُ يسوع صاعدًا، فكان لهم روحُه مسبقًا، بانتظار أن ينزل عليهم هذا الروح ويمنحهم قوةً من العلاء (أع 1: 8).
وسيتحدّث التقليد لاحقًا عن إيليّا. قال ابنُ سيراخ: "وقام إيليّا النبيُّ كالنار، وتوقّد كلامه كالمشعل... ما أعظم مجدَك يا إيليّا بعجائبك (في العبريّة: كم أنت مرهوبٌ، يا إيليّا!). ومن له فخرٌ كفخركَ... أنت الذي خُطفتَ في عاصفة من نار، في مركبة خيل ناريّة، وعيّنتَ للإنذار في الأيام المُقبلة (أي الأيّام المسيحانيّة) لتسكّن الغضبَ قبل انفجاره وتردّ قلب الأب إلى الابن وتصلح أسباط يعقوب. طوبى لمن عايَنك. ومن رقد رقاد المحبّة فهو يحيا حياة". وقد قالت الترجمة السريانيّة: "طوبى لمن رآكَ ومات. ولكنّه لم يمت بل يحيا حياة". ويتابع النص (سي 12:48): "لما توارى إيليّا في العاصفة، امتلأ أليشاعُ من روحه".
نلاحظ الوجهة الماديّة: اختفاءَ إيليّا في العاصفة، والوجهة الروحيّة: حياةً في السماء مع الله. هذا ما حصل لإيليّا، وهذا ما حصل لأليشاع الذي رأى إيليّا. فهو سيصعد مثله إلى السماء، وتكون له الحياة الدائمة. وهذا ما يتمنّاه ابنُ سيراخ نفسُه في القرن الثاني ق. م: ونحن أيضًا سنحيا حياةً. أي لا نموت.
ونقرأ في النصّ العبريّ والسريانيّ: "خُطف (إيليا) في مركبة إلى العلاء، في خيل من نار إلى السماء. وهو مزمعٌ أن يأتي قبل أن يأتي يومُ الربّ ليَرُدَّ البنين إلى الآباء وليبشّر أسباط يعقوب".
هنا يشير النصُّ إلى مجيء إيليّا. ويقولُ الناس: إيليّا هو الحيّ الذي لم يمُت وهو سيعود إلى الأرض. نقول نحن المسيحيين: يسوعُ وحدَه "سيأتي بمجد عظيم"، سيعود بمجد عظيم ليدين الأحياء والأموات.
متى يكون يوم الربّ هذا؟ هنا نورد كلام النبيّ ملاخي (3: 23- 24): "هاءنذا أرسل إليكم إيليّا النبيّ قبل أن يأتي يومُ الربّ العظيم والرهيب، فيردّ قلوب الآباء إلى البنين وقلوب البنين إلى آبائهم".
من يردُّ قلوبَ الآباء إلى البنين؟ هو يوحنّا المعمدان. قال الملاك جبرائيل لزكريّا يبشّره بمولد ابنه: "يسير أمام الربّ بروح إيليّا وقوّته ليردَّ قلوب الآباء إلى البنين" (لو 1: 17). سيكون يوحنا المعمدان شبيهًا بإيليّا في غيرته على الربّ. وهذا ما سيشرحه يسوعُ لتلاميذه مرارًا، مرةً أولى خلال مديح عن يوحنا المعدان: "فجميع الأنبياء قد تنبّأوا، وكذلك الشريعة، حتى يوحنا. فإن شئتم أن تفهموا، فهو إيليّا المنتظر رجوعُه". أنتم تنتظرون إيليّا، وها هو قد جاء في شخص يوحنا المعمدان الذي جاء يربط ملاخي آخرَ الأنبياء بالعهد الجديد. ومرّةً ثانية بعد العودة من جبل التجلّي، إذ "سأله تلاميذه: لماذا يقول الكتبة: يجب أن يأتي إيليّا أولاً؟ فأجابهم: إن إيليّا آت وسيصلحُ كلَّ شيء. ولكن أقول لكم: إيليّا قد أتى ولم يعرفوه، بل صنعوا به كل ما أرادوا. ففهم التلاميذ أنه كلّمهم على يوحنا المعمدان" (مت 17: 10-13؛ رج مر 9: 11-13).
أنريدُ كلامًا أوضح من هذا؟ جاء يوحنا المعمدان فكان إيليّا الجديد، كما أنّ النبيّ الذي أعلن عنه موسى قد جاء في شخص يسوع المسيح. قال الربُّ لموسى: "سأقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلكَ، وأجعل كلامي في فمه، فيخاطبهم بكلّ ما آمره به" (تث 18:18). ولكن عددًا من المسيحيّين ما زالوا يعيشون على مستوى العهد القديم. هم ينتظرون عودة إيليّا الذي ما زال حيًا في مكان ما في السُّحب! وسيأتي يومٌ ينتظرون فيه مجيءَ المسيح وكأنه لم يأت بعد!

خاتمة
هذا هو إيليّا النبيُّ كما نتعرّف إليه من الأسفار المقدّسة بعهديها القديم والجديد، لا من خلال أقاويل الناس وما ينسجون حول النصّ من أساطير. كان إيليّا رجلَ الله فأُعطي أن ينعم بصداقة الله، لا خلاله حياته على الأرض، بل بعد موته. هذا هو نصيب الصدّيقين، وقد قال فيهم سفرُ الحكمة: "أما نفوس الأبرار فهي بيد الله، فلا يمسُّها أيّ عذاب" (3: 1). وقال أيضًا عن البارّ الذي يُعاجله الموت: "أصبح مرضيًا عند الله فكان محبوبًا. كان يعيش بين الخاطئين فنُقل" (7:4، 10). نقلَه الله إليه، إختطفه لكي لا يُفسد الشرُّ بصيرتَه (آ 11). هذا ما حدث لأخنوخ (تك 5: 24) الذي سار مع الربّ، سلَك بحسب طرقه ووصاياه (رج سي 44: 16؛ عب 11: 5). هذا ما حدث لنوح وابراهيم واسحاق وكلِّ الذين شهدوا للمسيح بحياتهم وإيمانهم.
ماتوا، ولكنّ موتهم كان بدايةَ حياة مع الله. ماتوا كما مات يسوعُ نفسُه ودُفن. وقاموا كما قام يسوع الذي هو بكر المائتين. هذا هو إنجيل يسوعَ وما من إنجيل آخر. ولكن هناك قومًا يُلقون البلبلة ويُبدّلون إنجيل المسيح (غل 1: 7). فلا نَتبعْهُم، ولا نَقبَلهُم في بيوتنا (3 يو 10).
هذا هو تعليم الكنيسة عن إيليّا النبيّ الذي عاش للربّ ومات للربّ. فجازاه الربُّ خيرَ مجازاة مثل سائر الأبرار والصدّيقين، فكان له نسلٌ روحيٌّ وصل إلى يوحنا المعمدان، كما كان لاشعيا النبيّ تلاميذُ حملوا تعليمَه خلال مئات من السنين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM