الفصل الخامس والاربعون :ما بالك ههنا يا إيليا

الفصل الخامس والاربعون
ما بالك ههنا يا إيليا
1مل 19: 1-18

يروي 1 مل 19 مسيرة إيليا إلى جبل الله، فيقدّم لنا بشكل خبر محاولة تدلّ على اختبار الله في حياة إيليا. ففي هذا المقطع الكتابي نجد صورة تيوفانية، صورة ظهور الله وهي لا تشبه أي ظهور آخر (آ 11-12). قد يعود النص إلى موسى (آ 8؛ رج خر 18:24)، ولكن الصورة لا تشبه التيوفانيا التي شهدها موسى والشعب على جبل سيناء (خر 19-20). ظهر الله هنا عبر الاصوات والبروق والغمام. "كان جبل سيناء كله دخانًا، لأن الرب هبط عليه في النار. وصعد دخانه كدخان الأتون وارتجف كل الجبل جدًا... كان موسى يتكلّم والله يجيبه بصوت الرعد" (خر 19: 18-19؛ رج تث 3:5-5؛ 23: 27).
فالتعارض بين هذه التيوفانيا حيث تسيطر الضجة وهيجان القوى الكونية، وبين ما يرويه 1 مل 19 حيث نسمع "صوت نسيم لطيف" (آ 12)، يدلّ على فرق مهم لا بدّ من فهمه. تُقحم التيوفانيا أمر الله (آ 11 أ: أخرج وقف)، وتنفيذ هذا الأمر (آ 13 ب: خرج ووقف بمدخل المغارة)، والطريقة التي بها يكون الله حاضرًا للانسان.

1- تقطيع النص (1 مل 19: 1-18)
يقسم الماسوريون (نظّموا النص وشكّلوه في القرن التاسع ب م) 1 مل 19 ثلاثة أقسام: آ 1-14؛ آ 15-18؛ آ 19- 21. هكذا قطّع النصُّ أيضًا في القديم من أجل القراءة في المجمع. نلاحظ أن القسم الثالث يتميّز عن القسمين الاولين، لأنه لا يتركّز على مسيرة إيليا إلى جبل الله، بل على أول لقاء بين إيليا وأليشاع.
أما نحن فنقطّع النص على الشكل التالي: آ 1-3 أ؛ آ 3 ب-8؛ آ 9-14؛ آ 15-18. وهكذا نكون قد قسمنا القسم الأول ثلاثة أقسام لكي ندلّ على التدرّج الجغرافي. خاف ومضى ووصل إلى بئر سبع (آ 3). فقام وسار إلى جبل الله حوريب (آ 8)...

2- تحليل 19: 1-8
عنوان هذه المقطوعة: مسيرة إيليا إلى حوريب. ولكن لماذا هذا السفر؟ ما الذي دفع إيليا، نبي مملكة الشمال، أن يتوجّه إلى الجنوب، إلى مملكة يهوذا؟ هنا نميّز آ 1-3 أ.
أ- لماذا مضى إيليا
آ 1-3 أ: نجد هنا مقدمة تربطنا مع 1 مل 18 الذي يروي مقتل كهنة بعل. وهذه المقدمة تجعل من سفر إيليا هربًا من وجه ايزابيل. أرادت أن تقتل النبي، فهرب ناجيًا بحياته. أجل خاف إيليا من الموت، وإن قال الماسوريون: كيف يخاف من إيزابيل وهو الذي وقف أمام الله؟
بعد آ 3 ب، نرى أن الدافع إلى ذهاب إيليا هو يألس وملل من الحياة. ونحن نفهم هذا الموقف كنتيجة لمهمّة نبويّة سلّمها الله إليه. وجد إيليا نفسه منعزلاً. إنه اليهوي (متعبد ليهوه أي الرب) الوحيد وسط مجتمع يرذل تعليمه. ويربط النص الرغبة في الموت هذه بقول ردّده إيليا مرتين (آ 10-14): "تركوا عهدك (ميثاقك). حطّموا مذابحك، قتلوا أنبياءك بالسيف".
وننتقل من هرب من وجه السلطة السياسية إلى ذهاب أراده إيليا بعد أن فشل في مهمّته النبوية فآلت به الأمور إلى اليأس. إذن، هناك تعارض بين هدف حدّدته المقدّمة (لينجو بحياته) وآخر تشدّد عليه آ 3 ب-4 (طلب إيليا الموت).
ب- الخبر
يبدأ الخبر مع آ 3 ب. لقد وصل إيليا إلى بئر سبع التي تخصّ يهوذا. إذن، ترك أرضه، مملكة اسرائيل وموضع كرازته. ولما وصل إلى هذه المدينة التي هي آخر مدينة في جنوب مملكة يهوذا، ترك غلامه هناك. إذن، توغّل إيليا وحده في البرية، وسار مسيرة يوم واحد (آ 14 أ). وفي النهاية جلس تحت الرتمة.
كل هذا له تأثيره على القارئ: فإيليا هو وحده. دبّ فيه اليأس، فطلب الموت. قال: "لست خيرًا من آبائي". أي لست أفضل من الذين كانوا في البرية مع موسى. تذمّروا على الرب فماتوا (عد 14: 22-23). فيا ليت إيليا كان واحدًا منهم! وكم تمنّى أن يكون مصيرهم مصيره!
بعد آ 5، نجد مشهدين. في الأول يوقظ الملاك إيليا النائم ويأمره: "قم فكل". لقد تمّت "المعجزة" ووصل الطعام إلى هذا المكان الصحراويّ، بل حتى "فراش" إيليا. هذا العمل المعجز هو جواب على كلمة إيليا. ملّ إيليا من الحياة، "قرف" من المجتمع. فأمره الله بأن لا يموت، وقدّم له الطعام الذي يدلّ على الحياة. سبق لله فأطعم إيليا في أيام الجفاف (1 مل 17: 1-7) وها هو يطعمه الآن. وقد ينتهي الخبر هنا.
ولكن للمشهد الثاني مدلولاً آخر، وهو يُطلق الخبرَ من جديد. عاد إيليا إلى النوم، فأيقظه ملاك الرب مرة ثانية وأمره أن يأكل. وقال له السبب: "الطريق طويلة، المسافة بعيدة" (آ 7 ب). نفَّذ إيليا الأمر. "تقوَّى بهذه الاكلة فسار أربعين يومًا وأربعين ليلة حتى (وصل) إلى جبل الله حوريب" (آ 8).
لقد تحوّلت مسيرة إيليا إلى حجّ وعودة إلى الينابيع الروحية. وامتدت المسيرة أربعين يومًا وأربعين ليلة، فرمزت إلى إقامة الشعب في البرية أربعين سنة (عد 14: 32-34؛ رج تث 2:8-4)، كما دلّت على إقامة موسى على الجبل أربعين يومًا وأربعين ليلة (خر 24: 18 ب). ونلاحظ خلال صعود موسى الثاني إلى الجبل أنه لم يأكل ولم يشرب (خر 28:34: لم يأكل خبزًا ولم يشرب ماء)، ولكن هذا الصوم ارتبط بخطيئة شعبه (خر 32). رغم اختلاف الوضعين، وضعَ إيليا خطاه في خطى موسى، وستبدأ موازاة بين موسى وإيليا، وستتوسع مع الزمن.

3- تحليل 9:19-14
أ- حوار في المغارة
حين نقرأ آ 9، ننتظر وصول إيليا إلى الجبل المعروف، جبل الله. في الواقع نقرأ: "وصل هناك إلى المغارة (مع أل التعريف، إذن مغارة معروفة)، وهناك قضى ليلته". إن فعل "وصل" يشكّل محطة في الخبر، ويشدّد على التدرجّ الجغرافي. فقد وجدناه في آ 3 ب (وصل إلى بئر سبع) وفي آ 4 أ (وصل ونام تحت الرتمة). فاذا شكلت بئر سبع والوقفة في البرية محطتين، تكون آ 9 إشارة ثالثة لا تدلّ على جبل الله بل على مغارة يعرفها القارئ.
مع هذه المقدمة يبدأ حوار: "وها إن كلمة الرب كانت إليه وقالت له: لماذا أنت هنا، يا إيليا"؟ أما جواب إيليا على هذا السؤال فكان تشكيًا وبكاء (آ 10). في آ 11، أمر الرب إيليا بأن يخرج ويقف على الجبل، فينفّذ ما أمر به في آ 13. وبين الامر وتنفيذ الأمر نجد خبرًا تيوفانيًا فريدًا.
هنا يتشعّب الخبر، فيُبرز عدة صعوبات. الاولى، استعادة حوار آ 9 ب- 10 في آ 13 ب-14. الثانية، إيليا هو في المغارة ولا يخرج منها إلاّ في آ 13 رغم الامر الذي وصل إليه في آ 11. فكيف يكون شاهدًا لظهور إلهي. الصعوبة الثالثة، تكمن في الخبر التيوفاني ومشاكله. والرابعة والاخيرة، ما معنى آ 15- 18 بالنسبة إلى ما سبق؟
ب- التكرار
يعتبر معظم الشراح أن آ 9 ب-10 دخلت إلى النص في مرحلة ثانية، وبعد أن دوّنت آ 13 ب-14. نقرأ في آ 9 ب: ها إن كلمة الرب كانت إليه وقالت. وفي آ 13 ب: وها إن صوتًا كان إليه وقال. هناك الموازاة أولاً. ثم الفرق في هويّة المتكلّم. في آ 9 ب: كلمة الله. في آ 13 ب: صوت لا اسم له، نجهل مصدره.
ثم إن إيليا يكلّم الله في صيغة الغائب (آ 10-14؛ لم يكن الرب). ويتمّ الانتقال عادة من صيغة الغائب إلى صيغة المخاطب. ونحن نقرأ النص على الشكل التالي:
- آ 9 ب: وها إن كلمة الرب كانت إليه وقالت...
- آ 10: أجاب: "غرت غيرة للرب"...
- آ 11: وقالت له: "أخرج وقف على الجبل"...
- آ 12 ب: وبعد النار صوت نسيم لطيف.
- آ 13: وها إن صوت كان إليه وقال...
في البدء، هناك صوت نجهل مصدره. وفي آ 9 ب نتعرّف إليه. في آ 11 نقرأ: فقال، من دون فاعل، ويمكننا أن نجعل النص على الشكل التالي: "وها إن صوتًا كان إليه (آ 9 ب). ونتبع في آ 11: وقال له: أخرج وقف على الجبل...
كانت كلمة الله إليه. هذا ما يذكّرنا ببداية الاقوال النبوية. مثلاً، نقرأ في إرميا: "وكانت كلمة الرب إليّ قائلاً" (1: 4، 11؛ 2: 1...). إن كلمة الله صارت مشخَّصة، فأوصلنا النص إلى الاصل الالهي للكلمة النبوية.
ج- وضع الخبر التيوفاني
توجّه الصوت (الذي لا اسم له) إلى إيليا. هذا يعني أننا أمام وجهة سمعية في هذه الخبرة الروحية. ويُطرح السؤال: ألا تتضمّن الصورة التيوفانية (آ 11- 12) وبالتالي عبور الله، عنصرًا نظريًا؟ ولكن هل نحن أمام تيوفانيا وظهور إلهي؟ هذا ما لا بدّ من التحقّق منه.
أمرُ الصوت واضح جدًا: "أخرج وقف على الجبل أمام الرب: ها إن الرب عابر" (آ 11 أ) الملاحظة الاولى: ليس الرب هو الذي يتكلّم. فالله مذكور في صيغة الغائب. الملاحظة الثانية: يعلن الصوت عبور الله. وأداة "ها إن" تدلّ على أن هذا العبور قريب جدًا. ولكن النصّ لا يقول كيف يتمّ هذا العبور.
بعد هذا الاعلان تأتي الصورة (آ 11 ب-12) بوضعها الخاص جدًا. نرى تيوفانيا، ولكن إيليا ليس شاهدًا لها. فهو في المغارة، وعبور الله سيتم عندما يقف على الجبل (آ 11). فبين الأمر وتنفيذ الأمر (آ 13) نجد عنصرًا سرديًا لا يتوجّه مباشرة إلى إيليا.
إن هذا العنصر السردي (آ 11 ب-12) هو تحذير من التعلّق بطرق حضور الله. لا بدّ من ردّة فعل ضد نظرة إلى هذا الحضور ترتبط حتى الافراط بالظواهر الكونية. فالنص يذكر ثلاثًا منها: الريح، الزلزلة، النار. وبعد كل ظاهرة نقرأ: لم يكن الرب في... سلسلة من الجمل مع حرف النفي: "لم يكن الرب في الريح... لم يكن الرب في الزلزلة (هزة أرضية)... لم يكن الرب في النار".
نحن هنا أمام لاهوت يعتمد النفي (الله ليس...). وهذا اللاهوت يفترض في خليقته اعتقادًا بحضور الله المرتبط بقوى كونيّة. وبعد هذا النفي المثلث، يُصبح النص إيجابيًا: "وبعد النار صوت نسيم لطيف". نحن أمام تنبيه لإيليا وللقارئ أيضًا: عبور الله وعبور صوت نسيم لطيف (أو صمت نحيف). المفارقة ساطعة. فهناك تعارض بين قوة العناصر الكونية وضعف هذا الصوت الذي سنكتشف هويته. لا يقول النص بوضوح إن الرب هو هنا، ولكن القارئ يستطيع أن يخمّنه. وولْي النص يكشف تمرّس إيليا في اكتشاف هوية الصوت.
وهكذا لا تكون آ 11 ب-12 تيوفانيا بالمعنى الحصري للكلمة، بل تحذيرًا بشكل سردي من تصوّر حضور الله حسب الشكل الذي تعوّدنا عليه. فالظواهر الكونية مرت "أمام الرب" ولم ترافق عبور الرب. ثم إن فعل رأى في المجهول (رؤي، تراءى) غاب عن هذا النص (نقرأ في تك 17: 1: تراءى الرب لابراهيم وقال له). فإيليا لا يرى شيئًا. هو يسمع. وما يسمعه هو صوت يُعطي أمرًا (آ 11)، صوت يرنّ في الصمت.
هل نحن هنا أمام هجوم على "بعل" إله الخصب والمطر، أم أمام خبر يُبرز شكلاً جوهريًا من أشكال حضور الله؟ الامران ممكنان. من جهة، نجد هجومًا اشتراعيًا (يستلهم تثنية الاشتراع) ضد "ظهورات" بعل الذي يتراءى في العاصفة والزلزال والبرق. وما يؤكّده الكاتب بقوّة هو أن يهوه (الرب) يستغني عن كل هذه المظاهر الصاخبة والخارقة، ولكنه يكون حاضرًا في صوت الصمت مع ما في هذا الصوت من مفارقة.
ومن جهة ثانية يتّخذ 1 مل 19 موقفًا من التقليد الاسرائيلي الذي يرى على جبل الله تيوفانيا تعلن فيها المظاهرُ الكونية حضور الله وتشير إليه (خر 19-20) فيؤكّد أن الله يستطيع أن يكون حاضرًا دون أن ترافقه هذه القوى الكونيّة. إذن، هناك شكل آخر للحضور الالهي غير الذي تعرَّف إليه التقليد السابق.
ذكرت آ 11 ب-12 ثلاث ظواهر كونية. نجد النار في خر 18:19: "نزل الرب في النار" (رج تث 4: 11، 12، 15، 36). ونجد ما يقابل الزلزلة في خر 18:19: "ارتجف كل الجبل جدًّ". أما الريح فهي جزء من العاصفة. وهكذا، فعبور الله الذي سينعم به إيليا، لا يوافق تيوفانية التقليد حيث العنصر النظري حاضر بقوّة (خر 20: 18)، كما لا يوافق خبرة إيليا السابقة. فقد رأى إيليا على جبل الكرمل "كيف هبطت نار الرب وأكلت المحرقة" (1 مل 38:18). نحن هنا أمام اختبار آخر حيث لا مكان للظواهر الكونية وحيث يُسمع صوت نسيم لطيف هو صوت الله الذي يتكلّم في الصمت: إذن، ما يؤسّس الاختبار النبوي، هو صوت الله في عمق الاعماق الانسان.
ونقرأ في آ 13: "فلمّا سمع إيليا ستر وجهه بردائه". خاف أن يرى وجه الله بعد أن سمع صوته. وهنا يبدو إيليا قريبًا جدًا من موسى. سمع إيليا ونفّذ الامر الذي أعطي له: "خرج ووقف في مدخل المغارة فإذا بصوت إليه يقول: ما بالك ههنا (ماذا تصنع هنا)، يا إيليا"؟ قال له الصوت: أخرج وقف (آ 11). فخرج إيليا ووقف (آ 13). وهكذا يبرز تماسك النص.
د- الحوار
سأل الصوت: ما بالك ههنا، ماذا تفعل، يا إيليا؟ أجاب النبي محتجًا على الوضع: نُبذ العهد، قُتل الانبياء، هُدمت المذابح، والرب ماذا يعمل؟ ولكن سؤالا الرب لإيليا هو دعوة إلى الافصاح عن سبب حضوره هنا، لا في "أرض المعركة"، في مملكة اسرائيل، حيث تنتظره المهمّة النبوية. على النبي أن يبرر موقفه بعد أن جاء إلى هنا، إلى أرض يهوذا (آ 3 ب) أو إلى البريّة (آ 4) حيث يوجد جبل الله. لماذا ترك موضع نشاطه العادي؟ وهكذا يكون سؤال الصوت لومًا وتوبيخًا! أترى إيليا تخلّى عن رسالته النبوية فجاء إلى هنا؟!
في هذه الظروف يبدو ردُّ إيليا تبريرًا لسلوكه: أشتعل غيرة من أجل الرب... بقي وحده ولم يكن أحد معه. لهذا دبّ فيه اليأس. الله هو رب الصباؤوت، هو الرب القدير. وإيليا هو وحده وهو الضعيف. "بقيت وحدي". كان إيليا قد قال في 1 مل 18: 22: "بقيت أنا وحدي نبيًا للرب" لم يعد من نبي غيري. لا يتوجّه النبي مباشرة إلى الله. هو يتكلّم عن الله بصيغة الغائب: "غرت غيرة للرب".
وتُذكر خيانة اسرائيل العامة في ثلاث جمل: "بنو اسرائيل نبذوا عهدك" (ميثاقك). يقول النص اليوناني: نبذوك، تركوك. والحديث عن العهد والميثاق يذكرنا بما قطعه الله مع موسى على الجبل. ثم: "هدموا مذابحك". تحدّث 1 مل 19: 30 عن مذبح للرب هدمه بنو اسرائيل، فجعل النبي الكلمة في صيغة الجمع: مذابحك. وأخيرًا: "قتلوا أنبياءك بالسيف". يستعيد النص 1 مل 13:18 حيث تقتل إيزابيل الأنبياء.
يحاول النص أن يجد عذرًا لموقف إيليا وما في هذا الموقف من تهرّب: ترك بنو اسرائيل الرب، فلم يبق للنبي شيء يعمله في مملكة الشمالي. نلاحظ هنا كلام إيليا الذيي يتوجّه في صيغة المخاطب: قتلوا أنبياءك (أنت).
وزاد إيليا: طلبوا نفسي، أي أرادوا أن يقتلوني. إرتبطت هذه الجملة بنص 1 مل 3:19 أ فارتبطت بالمقدمة الحالية للخبر. فهذا التعليق يعذر النبي الذي وجد نفسه أمام وضع محرج، ويخفّف من قوّة اللوم الذي وجّهه إليه الصوت.
إذا جعلنا جانبًا إعادة قراءة النص والزيادات، نستطيع القول إن إيليا يؤكّد في الوقت نفسه غيرته للرب وتفرّده في عبادته ليهوه (هو وحده يعبد يهوه). هذا ما يفسِّر حضوره في هذا المكان. ولكننا نلاحظ أيضًا التحوّل الذي تمّ بعد آ 4، ساعة طلب إيليا من الرب أن يميته: إلتمس لنفسه الموت.

4- تحليل 15:19-18
أ- خطبة الله
بعد آ 14، يبدأ النص الماسوري مقطعًا يفصل فصلاً واضحًا جواب إيليا عن خطبة الله التي تليه. نأخذ بعين الاعتبار هذه القطعة دون أن نتأثّر تأثّرًا زائدًا. ونطرح السؤال: هل ينتهي الخبر بجواب إيليا أم يتوالى؟ فاذا كان صوت مغفل قد توجّه إلى إيليا منذ آ 9، فلا بدّ من أن نعرف هويّته. وسنعرفها في آ 15 حيث المتكلّم هو الرب نفسه. إذا توقّفنا عند وجهة التماسك السردي، نربط آ 15 بالخبر القديم. ولكن يبرز اعتراض: ليس من رباط مباشر بين أوامر أعطاها الله لإيليا (آ 15- 17) ووعد أوصله إليه (آ 18)، وبين الخبر السابق. فقال أحد الشرّاح: إن الأوامر الهائلة التي تعطيها آ 15-17 تدلّ على أن الله لا يعمل في الهدوء والصمت: نحن أمام تعارض كبير بين طريقة حضور الله للأنبياء كما يصوّرها الخبر، وبين أوامر الله. نحن حقًا أمام قطعة ترينا وجهًا آخر لله في آ 15-17. فكيف نفسّر هذه المعطيات المختلفة؟
ردّ إيليا على الله، فردّ الله على إيليا. وكان ردّه قصيرًا وموجزًا. قال له الرب: "إمض وارجع في الطريق عينه، في طريقك الذي جئت فيه". أما التحديد "نحو برية دمشق" فهو انتقالة فطنة تربطنا مع الامر الأول الذي أعطي لإيليا، وهو يتعلّق بمسح حزائيل ملكًا في دمشق. نحن أمام واقع حاسم: الرب هو الذي يتكلّم. لم نعد أمام صوت لا إسم له. ولكن ماذا يعني هذا الأمر القصير؟ إن الله يدعو نبيّه لكي يعود أدراجه، ويرجع في الطرق التي أتى بها، لكي يعود إلى مملكة اسرائيل (عاصمتها السامرة) ويتابع فيها رسالته. مثل هذا الأمر يوافق المنطق السردي. كره إيليا الحياة وترك مملكة اسرائيل، فأمره الرب بالعودة في الطريق الذي جاء به، وهذا لا يكون طريقَ دمشق الذي لم يأت به إيليا.
بدت نهاية الخبر هذا سريعة في وقت من الأوقات. لم تكن تعني إلاّ النبي وحده، ولم تكن تقول شيئًا عن الوضع الحرج الذي تعرفه مملكة اسرائيل. لهذا جاءت أوامر الله في آ 15 ب مع عبارة "نحو بريّة دمشق". إن هذه العبارة الفريدة في التوراة، تحوّل وجهة الطريق. على إيليا أن يترك بريّة (صحراء) هي في جنوب يهوذا، ليصل إلى بريّة أخرى هي بريّة دمشق. فكأننا أمام سخريّة النص.
تتيح لنا هذه الانتقالة الفطنة أن نفهم التسلسل الجغرافي في الأوامر التي أعطاها الله. أوكل الله إلى إيليا أن يمسح حزائيل ملكًا في دمشق، وياهو على مملكة اسرائيل، وأليشاع نبيًا. إن الله سيعمل في التاريخ بواسطة هؤلاء الثلاثة. إنهم سيثأرون لكرامة الله ونبيّه. وصلت مهمّة إيليا النبويّة إلى نهايتها. فعليه أن يسلّم المشعل إلى أليشاع.
بواسطة هؤلاء الثلاثة سيُعاقَب الناكرون لله بالسيف (كلمة مهمّة في آخر تدوين للنص، 1 مل 19: 1، 10، 14، 17). إن كان هناك من دينونة إلهيّة، فهي تمر بواسطة ما سيعمله حزائيل الذي ليس من مملكة اسرائيل (إذن، هو غريب)، والذي يرد اسمه قبل ياهو وأليشاع. وهذه الدينونة ليست نهاية مملكة اسرائيل، لأن الرب يبقي "في اسرائيل سبعة آلاف نفس، كل الذين لم يحنوا ركبهم أمام البعل، ولم يوجّه فمهم إليه قبلة" (آ 18). هذه الجملة الاخيرة هي ذروة الخبر ومفتاحه، لأنها تقدّم الجواب لإيليا الذي يشتكي، كونه آخر المؤمنين بالرب. ملاحظة دقيقة، ولكنها تنطبق فقط على النص كما نقرأه الآن. فنحن لا نستطيع أن ننسى أن آ 15 ب-18 لا ترتبط مباشرة بالخبر القديم المركّز على صوت الله (صوت نسيم لطيف أو صوت صمت خفيف) وبالتالي على الخبرة النبوية.
ب- علاقة آ 15-18 بالتاريخ
نندهش من أوامر الله (ما عدا الأول) لأن كتاب الملوك لا يقول إنها تمّت. فمدوّن آ 15 ب-17 يبدو وكأنه يجهل ما سيرويه فيما بعد. وهذا ما يضع أمامنا مشكلة، لأن الكاتب ينظر إلى الامور نظرة خاصّة تجعله يتعامل مع الاحداث ببعض الحرّية.
لا تُروى مسحة حزائيل ملكًا على آرام بيد إيليا. وحسب 2 مل 8: 7- 15، سيلتقي النبي أليشاع بحزائيل قبل أن يغتصب السلطة ويقتل سلفه. نحن لسنا في أي حالة من الأحوال أمام مسحة يعطيها نبيّ لملك دمشق. فهذه المسحة غير معقولة في حدّ ذاتها.
ومسحة ياهو ملكًا على مملكة اسرائيل لم ينفّذها إيليا. غير أن أليشاع سيرسل أحد أبناء الأنبياء فيمسح ياهو (2 مل 9: 1-13) ساعة كان في راموت جلعاد التي تحاصرها الجيوش الآرامية.
ويدهشنا أيضًا الأمر الذي أعطي لإيليا بأن يمسح أليشاع. فالمسحة في أرض اسرائيل هي طقس ملكي محض. ثم إن الخبر عن دعوة إيليا لأليشاع لا يشير إلى هذه المسحة. هذا يعني أننا أمام معطيّة مستقلّة. وأن 1 مل 19: 16 هو النص الوحيد في الكتاب، حيث يتقبّل نبيّ المسحة. على إيليا أن يمسح أليشاع "نبيًا بدلاً منه أو ليحلّ محلّه". وهذا يتضمّن تسلسلاً نبويًا على مثال التسلسل الملوكي. وأخيرًا ينسب الله إلى أليشاع سلطانًا ملوكيًا (يحكم بالقتل أو يعفو، آ 17) مثل حزائيل وياهو. والعنصر التاريخي الوحيد الذي يحتفظ به النص هو الاشارة إلى موطن أليشاع: آبل محولة. وهكذا يعتبر المدوِّن أن هؤلاء الاشخاص عاصروا إيليا، بينما هم عاصروا أليشاع. نحن نجهل متى توفِّي إيليا، ولا نستطيع أن نؤكّد أنه عاش طويلاً حتى بعد موت الملك أخاب سنة 843.
وتبدو آ 9 بشكل وعد فتفترض عداء معلنًا تجاه العبادة لبعل. ولكن هذا العداء امتد على حقبة طويلة تبدأ في القرن التاسع وتصل إلى القرن السابع ق. م.
وخلاصة القول، لم يكن التاريخ الهم الأول لدى مدوِّن آ 15 ب-18 التي هي بعيدة كل البعد عن الاحداث.
تدلّ آ 15-18 على حريّة في التعامل مع التاريخ، وتقدّم إلى هذا التاريخ نظرة خاصّة. وقد دوّنها الكاتب يوم كان لدورة إيليا وجود مستقل مع ارتباطه بدورة إيليا. كل هذا يطرح السؤال: متى دخلت دورة إيليا وأليشاع في كتاب الملوك؟
ما يميّز آ 15 ب-18 هو لاهوت التاريخ مركَّز على حكم الله الذي يصيب بني اسرائيل الذين خانوا الله، والذي يُبقي في مملكة اسرائيل 7000 من المؤمنين. إن عدد 7000 يدلّ على الملء والكمال ويكشف عن نظرة عامة إلى تاريخ اسرائيل.
5- تاريخ تدوين 1 مل 19: 1-18
هناك أولاً الخبر الأساسي، ثم تدوين يربط هذا الخبر بنص 1 مل 17-18 (القرن 7 ق م)، وأخيرًا قراءات لاحقة ومتأخّرة.
أ- الخبر الأساسي
حين نقرأ 1 مل 19 نكتشف خبرًا قديمًا عن عزلة إيليا ووحيًا من الله يبدو بشكل نسيم لطيف أو صمت خفيف. نجد جوهر هذا الخبر في آ 3 ب- 15 أ.
سنجد التعارض بين هذا الخبر و1 مل 17-18. في 2:17، 8؛ 18: 1 تتوجّه كلمة الرب إلى إيليا. إذن، إختبر النبي هذه الكلمة التي هي قوّة وحياة. وأطاع إيليا هذه الكلمة (17: 5). إنه حامل كلمة الله والشاهد لفاعليّة هذه الكلمة (17: 16-24). في ف 19، يبدو إيليا وكأنه نسي هذه الخبرة. أحسّ أنه وحده، فترك مملكة اسرائيل. لم يعد الله بالشبه إليه إلاّ ذلك الذي يلتمس منه الموت. لم يعد الله قوّة حياة.
في 17: 20- 21، دعا إيليا الرب لكي يحيي ابن الأرملة، "فسمع الرب صوت إيليا". وفي 9:19، 13، سمع صوتًا ولكنه لم يتميّز حالاً أنه صوت الرب. على إيليا أن يتعلّم من جديد أن يكتشف هذا الصوت.
في 1 مل 18، ظهر إيليا رجلاً قويًا يستطيع أن يعطي الأوامر للملك (18: 19). وساعة ذبيحة الكرمل دعا الرب، فنزلت النار على المحرقة بناء على طلبه (38:18؛ رج 18: 24). وهنا اختبر إيليا أيضًا قدرة الله. وفي 19: 1 تنبّه القارئ إلى أن الرب ليس في النار (آ 12).
كل هذا يدلّ على اختلاف بين ف 19 وف 17-18. نحن هنا أمام خبرة جديدة لله يعيشها إيليا. في هذه الخبرة، لا يكشف الله عن نفسه بقوّته، بل عبر صوت صمت خفيف. نحن هنا أمام خبرة نبويّة من نوع آخر.
ب- المدوِّن
إستعاد المدوّن الخبر القديم، وربطه بنص ف 17-18، فقدّم لنا لاهوت التاريخ الذي يعمِّم الحالات الخاصّة. الله هو الذي يتدخّل في التاريخ، لا بواسطة الملوك وحسب، بل بواسطة الأنبياء. وصورة الله التي تبرز هنا هي غير التي اكتشفناها في الخبر القديم.
ج- القراءات الأخيرة
وفي زمن المنفى أو بعد ذلك الوقت، جاء قلم اشتراعي، فحدّد في آ 9 "كلمة الرب". ولمّح في آ 8 إلى موسى (أربعين يومًا وأربعين ليلة، حوريب)، وأشار إلى ردّة الفعل عند إيليا الذي غطّى وجهه بردائه (آ 13؛ رج خر 3: 6).
ويبقى التكرار في آ 9 ب- 11أ وآ 13 ب-14: إنه يَرد قبل ظهور الصوت الخفيف وبعده بشكل حوار بين الله وإيليا. ثم إن النص الحالي يعتبر آ 11-13 كأنها تيوفانيا. هذا ما تتبيّنه ردّة الفعل عند إيليا، وهذا يفترض تقاربًا مع موسى. بعد هذا، فردُّ إيليا على الله يبدو تشكيًا وهو يتقبّل جوابًا بشكل خبر تيوفاني. ففي مزامير التشكي، يبدو ظهور الله دومًا بشكل جواب يصل إلى المرتّل (أي: صاحب المزامير).
إن خبرة الله التي يحدّثنا عنها الخبر القديم في ف 19، تعني النبي إيليا. ولكنها تكشف بشكل أوسع طريقة حضور الله للانسان. فالنصّ يحاول في إطار سردي وفي أسلوب النفي، أن يدلّنا على أصل الخبرة النبوية: إنها وحي الله في أعماق الانسان. وتستطيع هذه الخبرة أن تكون خبرة كل مؤمن، رغم أنها تتنوّع وتتحقّق في ظروف مختلفة. فإن تركَّز الخبر على خبرة إيليا، فهذا يرتبط بوظيفته النبوية. حمل إيليا مهمّة وتسلّم تعليمًا يعلنه. ففرض على النص أن يحدّثنا عن أصل هذه المهمّة ليجعلنا ندرك أن الله هو الذي يتكلّم عبر النبي. وصوت النسيم اللطيف (أو الصمت الخفيف) يدلّ عن طريق المفارقة، أن الله لا يفرض نفسه على قلب الانسان، أنه يرسل نداء يفرض علينا أن نتبيّنه لكي نسمعه. في هذا المجال، لا يفترق وضع النبي إفتراقًا أساسيًا عن وضع المؤمن الذي يطلب الله. فوحي الله لا ينكشف جبرًا في القدرة، بل ينكشف أيضًا في الضعف، في ضعف نسيم لطيف. بالاضافة إلى ذلك، يتمّ هذا الوحي ساعة لاحظ إيليا فشلَه في مهمّته بحيث لم يعد يحسب حسابًا للخبرة السابقة. وإن 1 مل 19 يدعو المؤمن إلى التأمّل في نموذج إيليا، إلى تمييز صور الله كما يتصوّرها هو أو كما ينقلها إليه محيطه.
هذا ما قاله الخبر القديم. ولكن نهاية النص (آ 15-18) تقدّم لنا صورة أخرى عن الله أقّل هدوءًا من الصورة الأولى. فالله يبدو سيّد التاريخ الذي يحكم على الذين فقدوا إيمانهم، كما يحافظ على مشروعه بشكل بقيّة من المؤمنين. وهذه النظرة الاجمالية التي تختذل الوجهة التاريخية، لا تقول شيئًا عن الطريقة الملموسة التي بها يتصرّف الله. إنها تؤكّد أنه يعمل، ولكنها لا تتوغّل في الطريقة التي بها يتحقّق عمله.
صورتان عن الله وجدناهما في 1 مل 19. كل واحدة تجعلنا نستشفّ شيئًا من وجه الله دون أن تستنفد سرّه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM