الفصل الأربعون :شريعة المعاملة بالمثل أو سن بسن،

الفصل الأربعون
شريعة المعاملة بالمثل
أو
سن بسن، عين بعين

سن بسن، عين بعين. هذا هو أوجز اعلان معروف لشريعة المعاملة بالمثل: شريعة قاسية همجيّة عمياء، تعود بنا إلى أوائل البشرية: هذا هو رأينا فيها. وهي ليست شريعة مسيحية بعد أن عارضها يسوع حين قال: "سمعتم أنه قيل: العين بالعين والسن بالسن. أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير. من لطمك على خدك الأيمن فاعرض له الآخر. ومن أراد أن يحاكمك ليأخذ ثوبك، فاترك له رداءك أيضًا. ومن سخّرك أن تسير معه ميلاً واحدًا فسر معه ميلين. من سألك فاعطه. ومن استقرضك فلا تعرض عنه" (مت 38:5-42).

1- المعاملة بالمثل في الشرق القديم
وُجدت في رومة في القرن الخامس ق. م. شرائع في اثنتي عشرة لوحة وفي أحداها: "إذا كسر أحد عضوًا لآخر، فليُعامَل بمثل ما عامل، إلا إذا تصالح الاثنان". ولكن هذه الشريعة وُجدت في الشرق الأدنى قبل هذا الوقت بكثير. نجدها للمرّة الأولى في قانون حمورابي الذي ينظّم شؤون بابل حوالي سنة 1750 ق م: "إن فقأ رجل حرّ عين رجل حرّ آخر، تُفقأ عينه. إن كسر عظم اسنان حر، يكسر له عظمه" (196-197) وأيضًا: "إن حطم رجل حر سن رجل حر من مرتبته أو من عمره تكسر له سن من أسنانه" (200).
قُسّم المجتمع البابلي إلى ثلاث فئات: الأحرار، الطبقة الادنى (عمال الأرض في شركة مع سيّد لهم)، العبيد. حين نقرأ هذه النصوص نرى أن المعاملة بالمثل تنحصر في الطبقة العالية، طبقة الأحرار. "فإن فقأ انسان حر عين رجل عادي، يدفع وزنة من الفضة" (198). "وإن كسر سن انسان عادي، يدفع ثلث وزنَة من الفضة" (201).
وهذا التشريع لا يحصر شريعة المعاملة بالمثل بالأحرار، بل في حالات النزاع والقتال. في هذه الحالات، ليس من تعويض ماليّ ممكن. فتتدخّل محكمة الدولة. وهذا يعني أن المشاجرة بين أناس أحرار تدخل في مجال الجرائم. هي لم تعد في النطاق الشخصي أو حتى المدني. فالنظام العام يبدو مهددًا، ولهذا تتدخّل الدولة.
ومهما يكن من أمر، فهذا التشريع هو شيء جديد، لأن تشريعين سابقين اكتُشفا منذ 50 سنة تقريبًا لم يعرفا شريعة المعاملة بالمثل لمثل هذه "الجرائم"، بل التعويض المالي. يعود التشريع الأوّل إلى سنة 2100 ق م واسمه كودكس أورنامو. والثاني إلى حوالي سنة 1930 واسمه كودكس ليفيت عشتار. هذا يعني أن شريعة المعاملة بالمثل لم تكن قديمة جدًا بحيث ترقى إلى أوائل البشريّة.

2- تعابير العهد القديم
هناك ثلاثة تشاريع من العهد القديم تورد بوضوح تعابير ترتبط، على ما يبدو، بشريعة المعاملة بالمثل.
أ- التشريع الأوّل: خر 21: 23- 25
قال سفر الخروج: "إن تأتّى ضرر، تُدفع حياة لقاء حياة. وعينًا بعين وسنًا بسن، ويدًا بيد، ورجلاً برجل، وحريقًا بحريق، وجرحًا بجرح، ورضًا برضّ".
هذا النص هو أكمل النصوص، ونحن نقرأه في دستور العهد الذي يعود، على ما يبدو، إلى وقت انتقل فيه العبرانيون من عالم البدو إلى عالم الحضر. فبعد الوصايا العشر (خر 20: 1- 21) ترد سلسلة شرائع عن المذبح (خر 20: 22-26)، عن العبيد (خر 21: 1- 11)، عن الجرائم التي تستحقّ الحكم بالاعدام ولاسيّما القتل (خر 21: 12- 17). يلي هذا تحديدٌ عن الضرب والجراح (خر 21: 18-27). ويعالج النص عدّة حالات.
تُطرح في الحالة الأولى مشاجرة بين رجلين (عبرانيين، إذًا رجلين حرَّين). واحد جرح الآخر فأقعده الفراش. ولكنه يستعيد قواه بحيث يقدر أن يمشي، أقلّه بمساعدة عصا. في هذه الحالة يدفع المخطئ تعويضًا بسبب انقطاع الضحية عن العمل، والمصاريف الطبية حتى الشفاء (خر 18:21-19).
في الحالة الثانية، نحن أمام سيّد ضرب عبده، سواء كان رجلاً أم امرأة، فإن مات العبد تحت الضرب يعاقب السيد بالاعدام. ولكن إن مات العبد بعد يومين أو ثلاثة، فلا يحكم على السيد بالاعدام. فالعبد هو "مال السيد". إنه يمثل جزءًا من ممتلكات السيد ويكفيه عقاب أنه خسر عبدًا اشتراه بماله (خر 21: 10- 21). ولكن إن ضرب السيد عبده فأفقده عينًا أو سنًا، يستعيد العبد حرّيته تعويضًا له (خر 21: 26-27).
والحالة الثالثة تبدو غامضة، وهي مناسبة تعبير عن شريعة المعاملة بالمثل، ماذا يقول النص؟
خلال مشاجرة بين رجلين (لا يحدّد النص، بل يقول: إذا اختصم قوم، تشاجروا) اصطدم أحدهما بامرأة حامل. هناك امكانيتان مدروستان. في الامكانية الأولى، يسقط الجنين ولا يتأتّى ضرر. في هذه الحالة يكون تعويض يحدّده زوج المرأة ويتسلّمه أمام القاضي أو أمام حكَم يتفق عليه الاثنان، أو ربما أمام الجماعة (ترتبط الكلمة العبرية بلفظة الفل والفليل: الجماعة) (خر 21: 22).
ينقسم الشراح حول تفسير هذه الامكانية الأولى. ما معنى عبارة: "خرج أولادها" (سقط الجنين)؟ إن طرّحت أي ألقت الجنين قبل كماله. أو أجهضت، خرج الولد ميتًا. حينئذ نكون أمام ضرر وتُطالب نفس بنفس. أما إذا كنّا أمام ولادة سابقة لأوانها (خروج أي قبل تمام الأيام) فالأمر يختلف.
في الامكانية الثانية، إن تأتّى ضرر (أي: موت) تُدفع حياة بحياة (حرفيًا: نفس تحت نفس، لقاء نفس) (خر 23:21). ولكن أي ضرر نعني؟ قد يكون الضرر موت الولد أو موت الوالدة.
مهما يكن من أمر، فالنصّ الذي يتكلّم عن العقوبة المذكورة في هذه الامكانيّة الثانية، يبدو صعبًا. فهو يقول: "تعطي (ت ب ا) نفسًا بنفس، عينًا بعين...".
الصعوبة الأولى: لماذا هذا الانتقال الفجائي إلى صيغة المخاطب المفرد: "تعطي". هل نحن أمام نص نُقّح وصحّح؟ الصعوبة الثانية: ما معنى "نفس بنفوس" (حياة بحياة)؟ إذا رجعنا إلى تقطيع النص الماسوري (العبري كما قرأه العلماء في القرن التاسع وشكّلوه)، ارتبطت العبارة بالظرف الذي يكون فيه ضرر. أي موت الولد أو موت الوالدة. هذا يعني أنّ المخطئ يموت. ولكن لا 17:24-18 يميّز بوضوح الحكم بالاعدام أمام مبدأ "نفس بنفس": "من ضرب انسانًا (أيا كان) وقتله يعاقب بالقتل. من ضرب حيوانًا فقتله يعوض رأسًا بدل رأس". في هذه الحالة الأخيرة هناك حيوان يحل محل حيوان أو تعويض مالي. هل يكون الأمر كذلك في الحالة التي يتحدّث عنها خر 23:21 (تعطي نفسًا بنفس)؟
هناك عدّة شرّاح معاصرون يقولون هذا القول. ولكن أي ابدال نعني؟ كيف يرد المخطئ للمرأة ولدًا آخر؟ هل يعطيها أحد أولاده؟ وإن كان لا أولاد له؟ وهل يعطي زوجته للرجل الذي فقد زوجته؟ ولكن، إن كان عازبًا أو أرملاً فكيف يفعل؟ هذا ما يقودنا إلى أن نرى في الفريضة تعويضًا ماليًا لم تحدّد تفاصيله. ولكن، أي فرق مع الحالة التي لم يحدث فيها ضرر (آ 22)؟ هكذا يبدو تفسير خر 23:21 مليئًا بالعقبات.
الصعوبة الثالثة: إن اللائحة التي تبدأ في نهاية آ 23 وتضم آ 24- 25، تشير إلى أضرار أخرى نقترفها على شخص في جسده. وترتيب العبارة يسير في خط متناقص: الحياة أوّلاً (نفس بنفس، آ 23). ثم عاهة دائمة (عين بعين). ونتبع ترتيب أعضاء الجسم المختلفة من أعلى إلى أسفل: العين، السن، اليد، الرجل (آ 24). ثم نصل إلى إصابة يمكن شفاؤها: حرق، جرح، رضّ (آ 25). هذا الترتيب العلمي يرتبط بالمرأة الحامل. ولكن نرى أننا أمام عبارة مقولبة وُضعت فيما بعد كامتداد للعنصر الأوّل: نفس بنفس أو حياة بحياة.
ب- التشريع الثاني: لا 19:24- 20
"أي انسان أحدث عيبًا (عاهة) في قريبه (ابن بلده وشعبه)، فليُصنع به كما صنع: الكسر بالكسر، والعين بالعين، والسن بالسن. يحدثون فيه العيب الذي أحدثه لدى الانسان" (لدى الآخر).
إن لا 24: 1 ي يبدو زيادة على دستور القداسة. أقحم كاتب عاش بعد المنفى (587 ق م) بعض الشرائع الناقصة. بالنسبة إلى بعضها، تستند الزيادة إلى خبر قصير: جدّف ابن رجل مصري وأم عبرانية. سئل موسى فقرّر باسم الرب أن المخطئ يرجم ولو كان غريبًا (لا 24: 10-16، 22-23). وزاد الكاتب على هذه الفريضة فرائض أخرى تتطرّق إلى الضرب والجرح (لا 17:24- 21): من قتل انسانًا استحق الموت. ومن قتل حيوانًا عوّض (لا 24: 17-18- 31). وأخيرًا نقرأ آ 19- 20 اللتين ذكرناهما أعلاه: من أحدث عيبًا (جرح) قريبه.
في هذا النص تنحصر التعابير الخاصّة بشريعة المعاملة بالمثل بضرب أو جرح لا يصل إلى قتل الضحية. وفي النهاية يمكننا أن نتساءل: هل هذه الشريعة تطبَّق على الغرباء؟ فإن لا 24: 22 الذي يستعيد 24: 6أ ب (من جدّف على اسم الرب ولو كان غريبًا) لا ينطبق إلاّ في حالة التجديف، لاسيّما وأن لا 24: 19 يعالج فقط المشاجرة بين أعضاء شعب الله: "إن جرح انسان واحدًا من بني قومه". أما الترتيب الداخلي في التعبير فهو لا يتضمّن التكلّف الذي وجدناه في خر 21: 23-25. سبق ذكرَ العين والسن ذكرُ الكسر الذي لا نجده في خر 21.
ويؤكّد النص مرتين في شكل تضمين، أنّ الانسان يتحمّل الأضرار التي أحدثها (لا 24: 19 ب، 20 ب: يصنع به كما يصنع، يُحدث فيه ما أحدث). اذن، نظنّ أن تطبيق المعاملة بالمثل كان حرفيًا! ربما. ولكننا لا نجد أي مثال على ذلك في التوراة كلّها. فهل نقول بتعويض مالي؟ يبدو الأمر ممكنًا. فتلك هي الممارسة في العالم اليهودي بعد المسيح. ثم إن عبارة "نفس بنفس" في لا 18:24 تنطبق على الابدال والتعويض حيث يقتل الانسان بهيمة تخص قريبه.
ج- التشريع الثالث: تث 19: 21
"لا تترك الشفقة تسيطر عليك: النفس بالنفس (الحياة بالحياة)، والعين بالعين، والسن بالسن، واليد باليد، والرجل بالرجل".
إن الدستور الاشتراعي الذي بدأ تدوينه قبل المنفى إلى بابل يقدّم هو أيضًا تعبيرًا عن المعاملة بالمثل، على أثر فريضة تتعلق بشهادة الزور: من اتّهم قريبه كذبًا، إن كشف القضاة كذبه عاقبوه بما تمنّى أن يعاقب قريبه البريء (تث 19: 16- 21 أ). الفريضة قديمة وقد أعيد تدوينها فيما بعد. نلاحظ بصورة عابرة أن الشيخين اللذين اتّهما سوسن النقية، عوقبا بحسب هذه الفريضة القديمة (دا 13: 62).
ويورد الدستور الاشتراعي الفريضة: نفس بنفس (تث 19: 21 ب). فالاصابات القابلة للشفاء (رج خر 25:21) غائبة من النص الاشتراعي. ونلاحظ أن الاداة "تحت" في خر 23:21-25 (أي بدل) صارت هنا حرف الجر "باء". النفس بالنفس أي تدفع النفس عن النفس.
ولا يرتبط هذا التعبير ارتباطًا ثابتًا بشهادة الزور. تذكّر الكاتب العقاب المهيَّأ لشاهد الزور الذي ينكشف أمره (تعامله كما نوى أن يعامل أخاه، تث 19:19)، فأورد المبدأ العام في شكل مقولب ولم يطبِّقه إلاّ في حالة شاهد الزور.

3- معنى هذه التعابير وبُعدها في العهد القديم
إنّ التعابير عن المعاملة بالمثل ليست محصورة في عالم الكتاب المقدّس. ولقد تبيّن لنا أن المبدأ أكثر وضوحًا نجده في دستور حمورابي أو في شرائع رومة القديمة.
فإذا أردنا أن ندرك معناها، وجب علينا أن نكتشف في أساسها مبدأ آخر وهو أن كل مجرم يجب أن يُعاقب عقابًا مناسبًا لجريمته. نشير هنا إلى أن المجازاة لا تتمّ في الآخرة بل في هذه الحياة.
وإذا أردنا أيضًا أن نحدّد مبدأ شريعة المعاملة بالمثل، يجب أن نميّزه عن مبادئ أخرى تعطي عنها التوراة في المناسبات بعض الامثلة. مثلاً، مبدأ العدالة الملازمة الذي نعبّر عنه بهذه العبارات أو ما شابهها: "إن أعمالنا تتبعنا". أو "من يلعب بالنار يحترق بها". أو: "من حفر حفرة لأخيه وقع فيها". أو "السهم يعود على صاحبه". وهذا المبدأ نقرأه في حك 11: 16: "ما خطئ به أحد، به يُعاقب". إن أداة الخطيئة صارت في يد الله أداة العقاب. وهناك مبدأ آخر: "بالكيل الذي تكيلون به يكال لكم". إنه مبدأ يتّخذ أشكالاً مختلفة ويقول إن الله يعاقب الخاطئين، سواء كانوا أعداء شعبه (عد 15؛ 2 مك 38:4) أم كانوا أبناء شعبه أنفسهم (تث 32: 31): خالقُهم باعهم، والرب أسلمهم عقابًا لهم.
غير أن شريعة المعاملة بالمثل تتميّز عن كل هذه المبادئ. كما تتميّز أيضًا عن شرائع الحرب المعمول بها لدى الأقدمين (قض 1: 6-6: قطعوا أباهيم يديه ورجليه؛ 1 صم 33:15: أحاج اثكل النساء فقُتل لتثكل أمه). كما تتميّز عن قطع يد السارق، وهذه شريعة لا تمتّ إلى التوراة بصلة.
إن هذه الشريعة تشدّد، شأنها شأن هذه المبادئ، على تناسب يفرض بين الخطأ والعقاب. وهي تهدف في هذا المعنى إلى وضع حد لثأر لا شيء يردعه، إلى ثأر لا يعرف حدودًا. مثلاً، هي ترفض كلمة لامك: "قتلت انسانًا بسبب جرح وولدًا بسبب خدش. انتُقم لقايين سبع مرّات أما للامك فسبعًا وسبعين مرة" (تك 23:4-24). وتقول الشيء عينه عمّن يجعل عشيرة كاملة أو أسرة تدفع ثمن أحد أعضائها (تك 34: 25- 31: انتقم شمعون ولاوي من كل المدينة؛ دا 6: 25: ألقوا في جب الأسود هم وبنوهم ونساؤهم).
وشريعة المثل تود أن تؤكّد المسؤوليّة الشخصيّة لدى المجرم: فهو وحده ينال العقوبة. ثم إنها تعترف بالمساواة بين الجميع. في هذا المجال قد يؤكّد لا 24: 1 ي المساواة بين أهل البلد والغرباء. ولا يخرج عن هذه القاعدة إلاّ العبيد (كانوا يعتبرون ملك أسيادهم) عندما يكونون ضحيّة أسيادهم. ولكنّهم قد يستعيدون حريتهم تعويضًا عن ضرر أصابهم (خر 21: 26-27).
ونستطيع أن نحدّد بُعد شريعة المثل. نحن أمام تدبير قانوني، ولا يُترك لحكم الشخص الحرّ. وتطبيق هذا التدبير يفترض تدخّل سلطة قضائيّة تستطيع أن تحكم بين الضحية والمجرم، كما تستطيع أن تنفّذ الحكم. إذن، لسنا هنا على مستوى المجال الشخصي الخاص حيث يفعل كل إنسان ما يحلو له. فالدولة أو الجماعة تتدخّل وتجعل الحقّ في نصابه.
ثم إن هذا التدخّل محدود. وإذا عدنا إلى التعابير الكتابية، لا تطبَّق شريعة المثل في كل الحالات، في كل الجرائم. أولاً، يفترض أن يكون الجرم قد اقترفه انسان فرد ضدّ انسان فرد. ثانيًا، يجب أن يصيب الشخص إصابة جسدية، تبدأ بالرضّ وتنتهي بالموت. ويبدو أن النص يريد أن يبرز المشاجرات والمنازعات والخلافات في المجال الشخصي. إنها لا تعتّم أن تتحوّل إلى تضارب يترك وراءه الجرحى بل القتلى.
إذن ما تحاول شريعة المثل أن تدافع عنه وتحافظ عليه، هو السلام بين المواطنين. وهي تقوم في الوقت عينه ضدّ كلّ تصفية حساب، ضد كل انتقام خاص مهما كان نوعه، أكان الجرم قتلاً أو اغتيالاً، أكان ضربًا أو جراحًا.
وإذا بحثنا في العهد القديم عن أمثلة محدّدة تُحدّثنا عن تطبيق شريعة المثل، نبقى حيارى أمام غياب كل نصّ واضح. فتعابير العهد القديم (عن المعاملة بالمثل) تبدو مقولبة، ولا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحالات يفترض أنها تحلّها. إن هذه التعابير هي مبادئ عامّة لا نملك عنها أي تطبيق دقيق وحرفي. وقد يشذّ عن القاعدة وضع قتل أو اغتيال. ولكن حين تنص الشرائع على قتل المجرم (خر 21: 12-14، عد 35: 30-40؛ تث 19: 11-13)، فهي تقول ما تقوله بوضوح دون أن تشير إلى تشريعة المعاملة بالمثل.
ثم إن عبارة "نفس بنفس" لا تنطبق بالضرورة على موت القاتل. فهي تدلّ في لا 18:24 على تعويض مالي أو ابدال حيوان مقتول بحيوان حي. وحين نتذكّر أن التقليد اليهودي الذي بعد التوراة لا يعرف إلاّ التعويض المالي كتطبيق لشريعة المثل، نستطيع أن نتساءل: أما كان الأمر كذلك في زمن العهد القديم؟
كل هذا يدعونا إلى التفكير بإقامة تمييز إضافي بين شرائع المثل عند الشعوب الوثنية القديمة والتعابير الكتابية التي أوردناها. إنها تؤكّد على مسؤوليّة كل انسان، على المساواة بين الجميع أمام القانون، على تناسب عادل بين جرم اقترفه انسان وعقاب ناله، على رفض كل انتقام أعمى لا يعرف لنفسه حدودًا.


4- شريعة المثل والعهد الجديد
بين النقائض الكبرى في خطبة الجبل، نقرأ ما قاله يسوع: قيل لكم: عين بعين وسن بسن (مت 38:5-42). لا يورد يسوع مبدأ قانونيًا ولا شريعة مدنيّة. إنه يتكلّم عن الموقف الشخصي الذي يلتقي مع أعمق وأفضل ما في الانسان. إن الموقف الذي يقدّمه لا ينكر المبدأ القانوني ولا الشريعة بل يتجاوزها. إن يسوع يدعو الانسان إلى الذهاب أبعد من حقوقه، أبعد ممّا هو مطلوب. وهو موقف ملموس يشير إليه يسوع وهو يقودنا إلى البعيد البعيد، لأنّه يتجاوز غفران الخطايا وعدم مقاومة الشرّ الذي يصيبنا أو يمكن أن يحدث لنا: يطلب منا يسوع أن نتغاضى عن الشتيمة أو الظلم، وأن نجعل نفوسنا دومًا في خدمة الإخوة، حتى ولو كانوا ظالمين أو أشرارًا. يطلب منا أن نردَّ على الشرّ بالخير، أن نتخلّى عن حقوقنا حبًا بهذا الانسان الذي هو أخي والذي يبدو الآن وكأنه خصمي.
بهذه الطريقة فهم القديس لوقا شروح يسوع. وقد أسبقها بهذه الجملة: "أحبّوا أعداءكم. أحسنوا إلى الذين يبغضونكم. باركوا الذين يلعنوكم، صلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم" (لو 6: 27-28). وقد أعطانا يسوع مثلاً نقتدي به حين كان على الصليب. قال: "اغفر لهم يا أبت، لأنّهم لا يدرون ماذا يعملون" (لو 23: 34).
ويختم لوقا كلامه بالقاعدة الذهبية: "ما تريدون أن يفعله الناس لكم، فافعلوه لهم" (لو 6: 31، مت 6: 12). وكان طربيت (طو 4: 15) قد قدّمها بصورة سلبية: "لا تفعل للناس شيئًا لا تحبّه أنت". ونقرأ في زيادة غريبة على أع 15: 29: "لا تفعل بالقريب ما لا تريد أن يفعله الغريب بك".
هذه القاعدة الذهبية ليست خاصة بالمسيحية. فنحن نجدها عند هلال الأكبر كما نجدها في العالم اليوناني، وهي على مستوى الأخلاقيّة الشخصية، على نقيض تام مع شريعة المعاملة بالمثل والأخذ بالثأر. أن يكون تطبيقها صعبًا لنا نحن المسيحيين، كما لكل انسان، هذا ما قاله البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته "الغني في المراحم": "إن موقفًا مؤسّسًا على شريعة المعاملة بالمثل والانتقام لا يمكن أن يقود إلى حضارة المحبة".
كان العهد القديم قد قال: "لا تنتقم، ولا تحقد على أبناء شعبك. أحبب قريبك كما تحبّ نفسك... أحبّ الغريب كما تحبّ نفسك" (لا 19: 18، 34). وزاد بولس الرسول: "من أحبّ القريب أتمّ العمل بالشريعة" (روم 13: 9).
قال لامك: نحن ننتقم لا سبع مرات بل سبعًا وسبعين مرّة. أما يسوع فأجاب بطرس الذي سأله عن عدد المرات التي فيها يغفر لأخيه. هل سبع مرّات؟ أجاب يسوع: لا سبع مرات بل سبعًا وسبعين مرة سبع مرات (مت 18: 21-22). كانت شريعة الناس تدعو إلى الانتقام من دون حساب، ولا تأخذ بشريعة المثل والتناسب. أما شريعة المحبة فعلّمتنا الغفران بلا حدود، ومنعتنا من مقاومة العنف بالعنف. قوة يسوع الكبرى كانت على الصليب. فالضعف عندما يمتزج بالحب يصبح أقوى من كل شر، أقوى من الموت.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM