الفصل التاسع والثلاثون: رحمة الله تجاه الخطأة

الفصل التاسع والثلاثون
رحمة الله تجاه الخطأة

من العبارات التي تتردّد مرارًا في التوراة، تلك التي تعلن الله ذاك الرحيم الحنون الذي يغفر الإثم والمعصية والخطيئة. أجل، الله هو الذي يغفر خطايا شعبه، يغفر خطايا الأمم الوثنيّة، يغفر خطيئة الشعوب كما يغفر خطيئة الأفراد. إنه إله الرحمة.

1- الله وخطيئة شعبه
الخطيئة الكبرى التي عرفها الشعب العبرانيّ في البريّة هي عبادة العجل الذهبيّ. يروي كاتب سفر الخروج أنَّ موسى أبطأ على الجبل، فاشتاق الشعب إلى آلهة يرونها بعيونهم، فصنع لهم هارون ذاك العجل، أو بالأحرى هو الثور "أبيس" الذي عرفوه في مصر، بانتظار أن يعرفوه في كنعان مع الاله بعل. بكّروا في الصباح وأصعدوا محرقات وقدّموا ذبائح سلامة وجلسوا يأكلون ويشربون، ثمّ قاموا يمرحون (32: 6). هكذا فسد الشعب وترك إلهه. ومن ترك الوصيّة الأولى اعتُبر وكأنَّه ترك سائر الوصايا.
كانت ردّة الفعل الأولى لدى الربّ الغضب. "دع غضبي يشتدّ عليهم فأفنيهم وأجعلك أنت أمّة عظيمة. هم شعب قساة الرقاب" (32: 9-10). الله الكليّ القداسة يرفض الخطيئة. هذا هو معنى الغضب. الله الكليّ الأمانة لا يتحمّل خيانة شعبه الذي يرفض "نير" الوصايا. فالنير يوجّه الحيوان في خطّ رسمَه له صاحبُه. والوصايا هي طريق العيش بحسب وصايا الله. ولكنّ الشعب يعاند ويرفض نير الوصايا.
أراد الربّ أن يرذل شعبه ويبدأ مع موسى من جديد مغامرة أخرى: أراد أن يختار له شعبًا آخر. فتضرّع موسى إلى الربّ وذكّره بالأسباب التي تدعوه إلى عدم التراجع عن مشروعه. الأول: أنت أخرجتهم وأظهرت قدرتك العظيمة. الثاني: ماذا سوف يقول المصريون إنّ تراجع الله؟ أخرجهم ليفنيهم! إله خيّر! السبب الثالث: أين وعدُ الله لابراهيم واسحاق ويعقوب بنسل كبير وأرض جميلة؟ "إرجع عن شدّة غضبك، وعُدْ عن الاساءة إلى شعبك" (32: 12). فعاد الربّ عن السوء الذي قال إنّه سينزله بشعبه. وكان ظهور آخر للربّ أعلن فيه أنّه بطيء عن الغضب، يحفظ الرحمة لألوف الأجيال ويغفر الاثم والمعصية والخطيئة (34: 6-7).
وستتكرّر عبادة العجل الذهبيّ خلال الدخول إلى كنعان، ولاسيّما مع الملك يربعام الذي فصل الشمال عن الجنوب وصنع لشعبه عجلين، واحدًا في دان وآخر في بيت إيل (1 مل 12: 30). وستكون نهاية مملكته الدمار على يد الأشوريين سنة 721. وسيقول الكاتب إنّ سبب هذا العقاب هو عبادة الآلهة الأخرى والسلوك في الطرق الرديئة التي رسمها ملوك اسرائيل (2 مل 17: 7-8). أنذر الربّ شعبه... فلم يسمعوا، بل عاندوا ورفضوا وتركوا وصايا الربّ... وفي النهاية كان المنفى. فيا ليت مملكة الجنوب تتعلّم (13:17-20)!
وسقطت أورشليم هي أيضًا في يد البابليين (587 ق م) عقابًا لها على خطيئتها. ولكنَّ الربّ عاد فرحمها. في هذا المجال نقرأ صلاة عزرا الكاهن باسم شعبه: "تجبّروا هم وآباؤنا وعاندوك ولم يطيعوا أوامرك... ولكنك إله غفور حنون، بطيء الغضب، كثير الرحمة، فما أهملتهم" (نح 9: 17). ويتابع صلاته: صنعوا عجلاً... "ولكنك بمراحمك الكثيرة لم تُهملهم في البرّية" (آ 19).
وذكر عزرا حقبة القضاة والملوك، حيث كانت مراحم الله هي التي تخلّص الشعب. "تابوا وصرخوا إليك، فاستجبت لهم من السماء ونجيّتهم مرارًا لكثرة رحمتك" (آ 28). وفي النهاية، وبعد الذهاب إلى المنفى الذي اعتُبر العقاب الأخير بالنسبة إلى شعب الله، قال عزرا: "ولكنّك لكثرة مراحمك لم تقتلهم ولم تهملهم لأنّك إله حنون رجم" (آ 31).
رحمة الله حاضرة دومًا، ولكنها تطلب جوابًا من الانسان في التوبة والعودة عن الشرّ الذي يفعله الانسان، جوابًا يكون في الاقرار بالخطايا. والخلاص الماديّ الذي يمنحه الله هو صورة عن خلاص آخر. كما أنَّ العقاب الماديّ هو صورة عن عقاب الله الذي هو الموت. ولكنَّ الله ليس إله الموت بل إله الحياة، لهذا أعاد خلق شعبه بعد أن كاد يموت. هذا هو معنى الصورة التي رسمها حزقيال: شعب الله هو مثل العظام اليابسة. "قال السيّد الربّ لهذه العظام: سأدخل فيك روحًا فتحيين. أجعل عليك عصبًا وأكسيك لحمًا وأبسط عليك جلدًا وأنفخ فيك روحًا، فتحيين وتعلمين أني أنا هو الربّ" (37: 5-6).
مسيرة الشعب هذه مع الله الذي يبقى الاله الأمين، الذي يغفر ويعود إلى شعبه، نقرأها بشكل خاصّ في المزامير. ففي مز 78 يبدأ المرنّم فيقابل بين أعمال الله العظيمة وممارسة الشريعة، ويدعو المؤمنين أن لا يتشبّهوا بآبائهم حين عاندوا الربّ. في القسم الأول، يشدّد على خبرة الاقامة في البريّة. "عادوا يخطأون إليه، ويتمرّدون على العليّ في القفر" (آ 17). غضبَ الربّ، ولكنَّ غضبه كان يتحوّل عطاء وبركة: المياه والمن والسلوى. "هو رحوم يكفّر عن الاثم ولا يريد هلاك أحد. يكثر من ردّ غضبه ولا يثير كلّ سخطه. يذكر أنّهم بشر، ريح عابرة لا تعود" (آ 38-39). لو أراد الربّ أن يقسو لفَني شعبه. ولكنَّه يعرف ضعفهم، ولا يترك مجالاً لكلّ غضبه وإن كان يعاقب ساعة يجب العقاب.
وفي القسم الثاني من مز 78، نسمع مقاومة الشعب بعد أن أقام في أرض كنعان. لقد نسوا أيضًا أعمال الله العظيمة. نسوا أنّهم امتلكوا الارض بفعل مجّانيّ من قبل الله. فوجب عليهم أن يردّوا جميله، أن يطيعوه ويخضعوا لوصاياه. فهل تتغلّب خيانتهم على أمانة الله؟ كلا.
ويعود المرنّم فيتذكّر من جهة، الله الأمين لميثاقه مع ابراهيم. نزل شعبه إلى مصر فكان معه. وصعد الشعب من مصر فصعد الله معه، وكلّ ما طلبه هو أن يكون أمينًا لشريعته (مز 105). كما يتذكّر من جهة ثانية خطايا الشعب كردّ على عطايا الربّ. ها هو تائب وهو يقرّ بخطيئته رغم عناده وعصيانه المتكرّر. لهذا ينتهي مز 106 بما يلي: "كثيرًا ما أنقذهم فاستمرّوا على عصيانهم وهلكوا في ذنوبهم. لكنَّه رأى ضيقهم عند سماعه صراخهم. فذكر عهده وندم لكثرة رحمته. أبدى لهم رأفته أمام الذين سبوهم" (آ 43-46). هذا هو الله بالنسبة إلى شعب اسرائيل: إله الرحمة، إله الرأفة. فماذا يكون بالنسبة إلى الأمم الوثنية؟

2- الله والأمم الوثنيّة
إعتبر الشعب العبراني أن الشعوب الوثنيّة تستحقّ عقاب الله، لا رحمته، لأنّها تعبد الأصنام. وأعظم مثال على هذا الوضع هو سفر الحكمة الذي أعاد قراءة سفر الخروج وأظهر أنّ كلّ خير هو للشعب العبراني لأنّه عبدَ الاله الواحد. أمّا المصريون فلا ينالون إلاّ عقاب الله. "عذّبت يا رب أولئك الكافرين بك والجاحدين معرفتك، بقوّة ذراعك. فأنزلت عليهم سيولاً وبرَدًا، وأمطارًا لا عهد لهم بها، ونارًا آكلة" (16: 16). "أمّا شعبك أيُّها الرب، فبدلاً من ذلك أعطيتهم طعام الملائكة" (آ 20).
ولكنَّ الكتاب المقدَّس سوف يبدّل هذه النظرة، فيطلب من العبرانيّ أن يحترم العمونيّ والموآبيّ بعد أنّ اعتبرهما أولاد زنى. نقرأ في سفر التثنية (23: 8): "لا تمقتوا الأدوميّين لأنّهم إخوتكم... ومن يُولد من ذرّيتهم يدخل في جماعة الربّ". هذا ما طلبه الربّ من شعبه، وهو الذي أراد أن يدافع عن أدوم ضدّ مضايقات بني موآب: "بما أنّهم أحرقوا عظام ملك أدوم حتّى صارت كلسًا، حكمتُ عليهم حكمًا لا رجوع عنه" (عا 2: 1).
وهناك المصريّ الذي عنده عرف شعب الله العبوديّة، كما عرف تهديدًا بالفناء حين أمر الفرعون بقتل جميع الذكور المولودين حديثًا (خر 1: 16). قال سفر التثنية: "لا تكرهوا المصريّين لأنّكم كنتم ضيوفًا في ديارهم" (8:23).
هذا الاله عاقب ولاشكّ المصريين لأنّهم اضطهدوا شعبه. إلاّ أنّه عاقبهم لكي يدعوهم إلى التوبة. ففي ضربات مصر العشر الشهيرة، كان الربّ يعود مرارًا عن الضربة، علّ الفرعون يعود عن خطأه ويعرف الربّ. مثلاً، بعد ضربة الضفادع (خر 8: 1-16)، طلب فرعون من موسى وهارون أن يتشفّعا إلى الله من أجله. وعدَ موسى بذلك "ليعرف أنَّ الربّ الإله لا نظير له" (آ 6). ولكن ما إن جاء الفرج وتوقّفت الضربة حتى عاد فرعون "وقسَّى قلبه ولم يسمع لهما" (آ 11). وسيطيل الله روحه مع فرعون حتى الضربة العاشرة، قبل أن يترك الشعب يذهب إلى البريّة لعبادة الله (خر 12: 31).
وهناك نصّ ثورويّ يبدّل الأمور كليًّا، لا بالنسبة إلى مصر فقط، بل بالنسبة إلى أشور أيضًا. والمرحلة التي مرّ فيها الشعب العبرانيّ سيمرُّ فيها الشعب المصريّ. قال أشعيا (19: 16): "في ذلك اليوم يرتعد المصريون ويرتجفون من يد الربّ المرفوعة عليهم". تلك كانت خبرة شعب الله في سيناء، بحيث قالوا لموسى: "كلّمنا أنت بنفسك فنسمع، لئلا نموت إذا ظلَّ الله يخاطبنا" (خر 20: 19). على أنّه يكون للمصريّين مذبح لله. وإذا صرخوا إليه كما صرخ إليه العبرانيون، فإنّه يستجيب لهم (أش 19: 19-23). "الربّ يشفي المصريّيِن حين يرجعون إليه ويستجيب لهم". يكفي أن تظهر التوبة، لكي تسطع مفاعيل رحمة الله تجاه المصريّين، بل تجاه الأشوريّين الذين عُرفوا بشرورهم في الشرق. لهذا يقول أش 19: 25 بلسان الله: "مبارك شعبي مصر (مصر هي شعب الله). أشور صنعة يدي (الله كوّن أشور بيديه بمحبّة كما جبل الانسان في بدء الخليقة). وبنو اسرائيل ميراثي".
هل استحقّت مصر هذه النعمة، هل استحقّت أشور هذه اللفتة؟ كلا. يكفي أنَّ المصريّين "صرخوا إلى الربّ في ضيقهم، فأرسل إليهم مخلّصًا ومحاميًا فينقذهم" (أش 19: 20). كما أنّ الله هو أبو اسرائيل، فهو أيضًا أبو مصر وأشور وسائر الشعوب، وهو يدافع عن كلّ ضعيف تجاه الأقوياء الظالمين.
غير أنّ التعليم الأعمق نجده في سفر يونان الذي هو قصّة تقويّة دوِّنت ساعة انغلق العبرانيون على نفوسهم واعتبروا أنَّهم وحدهم الشعب المقدَّس. وحدهم أرسل الله إليهم أنبياء. فكانت قصّة يونان ذاك النبيّ المتزمّت الذي أرسله الله إلى شعب وثنيّ وشرّير، فرفض وتوجَّه في الجهة المعاكسة. ذهب إلى أقصى الغرب، إلى ترشيش. ولكنَّ الربّ أعاده وأرسله إلى الشرق. هو ما أراد أن يذهب، لأنّه علم أنَّ الله يغفر. فلماذا يُتعب نفسه؟ هذا ما قاله للربّ بعد أن صفح عن نينوى، المدينة الخاطئة. "قلتُ وأنا بعد في بلادي إنَّك تفعل مثل هذا" (يون 4: 2).
تأكّد يونان أنَّ الله كثير الرحمة ونادم على فعل الشّر. ولكنّه تردّد: ربّما سيعاقب هذه المدينة التي زرعت الأرض قتلاً ودمارًا! ولكنّ الله لم يتبدَّل: هو الاله "الحنون والرحوم والطويل البال". هدّد يونان بأن المدينة ستدمَّر، واعتبر أنّ عليه أن ينتظر فقط أربعين يومًا. ولكن مضت الأربعون يومًا، ولم يحدث شيء لنينوى، والسبب هو أنّ سكان المدينة تابوا إلى الربّ: نادوا بصوم، ولبسوا مسوحًا، وصرخوا إلى الله بشدّة. وترجّوا أن يرجع الله ويندم. فرجع الربّ وندم ولم يفعل، لم يدمِّر المدينة. فيا ليت أورشليم تعلّمت من نينوى وتابت. لو فعلت لما كان لحقها الدمار الذي لحقها سنة 587 ق م.
الله يرحم شعبه ويرحب الأمم الوثنيّة. خلقَ الأكوان والشعوب، وهو يهتمّ بالجميع ويهمّه أمر الجميع. ولكن أتراه لا يهتمّ بالأفراد أيضًا؟ بلى. إذا كان قد جبل الانسان، كلّ إنسان بيديه، فهو يريد حياة كلّ إنسان. وإذا كان يونان تأسّف على موت يقطينة لم يتعب فيها ولا ربّاها، أترى الله لا يهتمّ بسكان نينوى الكثيرين، أتراه لا يهتمّ حتى بالبهائم؟ بل هو يهتمّ بكلِّ إنسان ويعامله برحمته وحنانه.

3- رحمة الله تجاه الأفراد
في فصل مهمّ من سفر حزقيال، يشدّد النبيّ على أنّ كلّ واحد مسؤول عن أعماله. البارّ يستحقّ الحياة، والخاطئ يستحقّ الموت. هنا نشير أنّنا على مستوى الموت الجسديّ، لا على مستوى الهلاك الأبديّ المحفوظ للخاطئين. ولكن هذه القاعدة تشذّ إذا تاب الانسان إلى ربِّه وبدَّل حياته: إنَّه يحيا ولا يموت (28:18). وينتهي الفصل بهذا الكلام المشجّع: "أنبذوا جميع معاصيكم واتَّخذوا قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا. فلماذا تريدون الموت، يا شعب اسرائيل؟ فأنا لا أسرّ بموت من يموت (بموت الخاطئ حين يموت)، يقول السيّد الربّ، فارجعوا إليّ واحيوا" (آ 31-32). ويتابع ملاخي (7:3): "إرجعوا إليَّ فأرجع إليكم".
في الماضي، كان الانسان عضوًا في المجتمع ولا دور خاصًا به. إنّ جاء عقاب (مرضَ، مات، لم يكن له أولاد، إفتقر) عرف أنّه مذنب أو أنّه يكفّر عن خطيئة أجداده وآبائه. ولهذا كان القول المأثور: "الآباء أكلوا الحصرم وأسنان البنين ضرست" (حز 18: 1). ولكن مع إرميا وحزقيال تبدّل الوضع، وعرف الانسان أنّه يستطيع أن يعود إلى الربّ إذا شاء، وهو يجد لدى الربّ أذنًا حنونةً وقلبًا رحيمًا.
هذا ما وجده داود بعد خطيئته المضاعفة: قتل أوريا الحثّي، أحد ضبّاط جيشه، وأخذ له امرأته بعد أن زنى بها. جاءه النبي ناتان موبّخًا من خلاله مَثل ضربه له. فقال الملك: "الرجل الذي صنع هذا يستوجب الموت". قال له ناتان: "أنت هو الرجل". فقال داود: "خطئت إلى الربّ". فقالت له ناتان: "الربّ غفر خطيئتك" (2 صم 12). وجاء في خطّ هذا الموقف مزمور شهير يُنسب إلى داود: "تحنّن عليّ يا الله في رأفتك، وبكثرة مراحمك امحُ معاصيّ. إغسلني كثيرًا من إثمي، ومن خطيئتي طهّرني" (3:51-4). إلتجأ داود إلى الربّ، فوجد ذاك الذي يخلق فيه قلبًا طاهرًا، ويكوّن فيه روحًا جديدًا. ذاك الذي يحمل إليه الخلاص فيردّ له السرور (آ 13-14).
فرحمة الربّ تصل إلى الجماعات، وتصل أيضًا إلى الأفراد، لأنَّ كلّ إنسان كريم في عينَي الرب وهو يهتمّ به اهتمامه بحدقة عينه. وهذا الايمان برحمة الله يجعل المؤمن يرفع صلاته حين يحسّ بثقل خطيئته. هذا ما نجده بشكل خاصّ في المزامير. "في الضيق وسّعت لي، فتحنّن واسمع صلاتي" (4: 2). "تحنّن يا رب لأني عليل، إشفني فعظامي تبلى" (3:6). المرض هو علامة الخطيئة. فالربّ يرحم ويغفر، يشفي من الخطايا ومن أوجاع الجسد. "تحنّن يا رب، وانظر إلى شقائي على أيدي الذين يبغضونني، أبعدني عن أبواب الموت" (9: 14). إن مات الانسان (ولاسيّما الشاب)، فهذا يعني أنَّ الله يعاقبه على خطاياه. ولكنّه يطلب الحياة لأنّه متأكّد من رحمة الله وحنانه. وفي مز 26 يهتف المرتّل: "رحمتك أمام عينيّ... فافتقدني وتحنّن عليّ".
نستطيع أن نطيل هذه اللائحة من الصلوات التي تتوجّه إلى إله الرحمة. ولكنّنا نتوقّف عند هذا القدر ونتذكّر بعض الحالات. أوّلها أخاب كان ملك السامرة وعمل الشرّ في عيني الربّ، ولاسيّما على مستوى عبادة البعل، على مستوى العدالة (قتل نابوت وأخذ له كرمه). هو لا يستحقّ أن يسمع كلام الله. هكذا يفكّر البشر. ولكنّ أفكار الله غير أفكار البشر. إنّه ينتظر عودة الخاطئ إليه. لهذا أرسل إليه إيليا يوبّخه وسيقول لنبيّه: "أرأيت كيف اتَّضع أخاب أمامي، لذلك لا أجلب الشّر على نسله في حياته" (1 مل 29:21). الشّر هو عقاب الخطيئة، وها هو الربّ يتراجع. ما الذي دفعه إلى ذلك؟ قلبه الحنون.
هذا في العالم اليهودي. وفي العالم الوثني، نجد رحمة الله تصل إلى أرملة مسكينة في صرفت صيدا. هي خاطئة ولا تستحقّ بركة الله في ساعات الجوع العصيبة. هي خاطئة، ولهذا اعتبرت أنَّ ابنها الصغير مات. فقالت لإيليا: "جئتني لتذكّرني بذنوبي وتُميت ابني" (1 مل 18:17). ولكنَّ الربّ لا يربط عطاياه بسلوكنا. فهو الذي يعطي دائمًا لمن يعرف أن يفتح كفَّه. فهو الذي يغفر دائمًا لمن يستعدّ لأن يفتح قلبه. وهكذا بارك هذه الأرملة ومنحها طعامًا حتى أوان المطر. كما أقام لها ابنًا بواسطة نبيّه إيليا. ووصلت رحمة الله إلى نعمان السرياني (2 مل 5). هو قائد جيش ملك أرام، وهو وثنيّ. ومع ذلك نال رحمة الله. مرض بالبرص، وكان البُرص كثيرين في تلك الأيام. فتحنّن عليه الربّ بعد أن أرسله أليشاع النبيّ يغتسل في الاردن. البَرص مرض ونجاسة ودلالة على الخطيئة. وبنعمة الله تعافى نعمان وصار لحمه كلحم طفل وطهر (5: 14). فكأنّه خُلق من جديد. أجل، لا حدود لرحمة الله. يكفي أن نلجأ إليه. وهذا ما فعل نعمان حين ذهب إلى السامرة يطلب نبيّ الله أليشاع. وهذا ما فعله عزرا الكاهن باسم شعبه. وهذا ما كان يفعله صاحب المزامير حين كان ينشد باسم المؤمنين رحمة الله من الآن وإلى الأبد.

خاتمة
هذا هو وجه إله الرحمة كما تعرّفنا إليه في الكتاب المقدَّس، في العهد القديم. فرافقنا موسى وأسفاره الخمسة، وكلام الأنبياء، وصلوات المزامير. توقّفنا عند رحمة الله. فهو أب يحبّ بقلبه، وأم ترتبط من خلال الرحم بأولادها. وهو الذي يحنّ ويحنو على خلائقه فيغفر للخاطئين. وهو الرؤوف والمحبّ والاله الأمين الذي يثبت على مواعيده. هو يهتمّ بالصغار في شعبه، يهتمّ بالفقير والغريب واليتيم والأرملة. ويهتمّ بالخاطئين وينتظر عودتهم، فيكتفي بعلامة بسيطة من التوبة ليغفر لهم. هو إله البركة الذي لا ندامة في عطاياه. يده مبسوطة للعطاء، وذراعه ممدودة للمساعدة. هذا الاله الذي اكتشفنا تدخّلاته لدى شعبه وكلّ مؤمن من مؤمنيه، الذي اكتشفنا أعماله العظيمة في الكون وفي التاريخ، قد جاء إلينا واتخذت رحمته جسدًا في شخص ابنه. الكلمة صار بشرًا وسكن بيننا فأبصرنا مجده، مجد ابن وحيد ملؤه النعمة والحقّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM