القسْمُ الثّالِث مَواضِيعٌ وَنصُوص مِن الكِتَاب الفصل الثالث والثلاثون العالم اليهوديّ وانتظاره

الفصل الثالث والثلاثون
العالم اليهوديّ وانتظاره
بالنسبة إلى الخطيئة

في مرحلة أولى، توقّفنا عند الخطيئة في الحقبة القديمة. وفي مرحلة ثانية، ترافقنا مع الأنبياء. وها نحن نصل إلى مرحلة تمتدّ من المنفى حتى مجيء المسيح.
ورث العالم اليهودي بعد المنفى هاتين المرحلتين السابقتين، فعاش ممّا وصلتا إليه. لهذا، لا نعجب إن نحن وجدنا آثار اللاهوت العتيق، من خلال ممارسة لطقوس التكفير عن الخطيئة التي اقتُرفت عن جهل. ولكن بدلاً من أن نتوقّف عند هذه الوجهات البدائيّة في العقيدة، نفضّل أن نتفحّص النصوص التي فيها تظهر روحانيّة سامية، ولاسيّما في الأسفار الحكميّة، في المزامير، وفي نصوص لابيبليّة (أو منحولة) تعرّفنا معرفة أفضل إلى الوسط الذي فيه وُلد العهد الجديد.

1- التعليم عن الخطيئة في النصوص الملهمة
نلاحظ أول ما نلاحظ أن الحكماء وأصحاب المزامير في حقبة ما بعد المنفى، كانوا امتدادًا للأنبياء، فتوسّعوا في فكرهم وأبرزوا الوجهات الدينيّة والاخلاقيّة في خطيئة الانسان. فغابت العناصر القانونيّة والعباديّة التي وجدناها في أسفار موسى. فالشريعة التي يُنشدونها ويسعون إلى ممارستها بكل قلوبهم (مز 119) تتركّز على الأمانة الدينيّة، على الوصايا العشر، على النتائج الاجتماعيّة لتصرّفات الانسان (مز 15؛ 24: 3-4؛ 5). وهكذا دلّوا على نوع الخطايا التي يجب على الانسان أن يتجنّبها قبل كل شيء ليكون بارًا ويُرضي الله.
ورغم هذا النداء إلى إرادة الانسان لتتوافق مع أهداف الله، وعى هؤلاء الكتّاب وعيًا عميقًا النجاسة الباطنيّة التي تؤثّر على قلب كل انسان. فالفساد ظاهرة عامّة جدًا (مز 12: 1-5؛ 14: 1-4؛ 140: 2-6)، والأتقياء أنفسهم يشاركون فيه رغم إرادتهم. وهذا ما يذكره سفر أيّوب ويشدّد عليه: "أيكون المائت بارًا أمام الله؟ أيكون الانسان نقيًا أمام صانعه؟ ها إنه لا يأتمن عبيده، وإلى ملائكته ينسب نقيصة. فماذا نقول عن الذين يأوون بيوتًا من طين تأسّست في التراب" (أي 14: 17-19؛ رج 14: 4؛ 15: 14-16؛ 24: 4-6)؟ ويقرّ المرتّل بخطأه، ولا يتردّد في أن يعلن أنه خاطئ منذ ولادته (مز 51: 4-7). فإن لم نجد هنا تعليمًا واضحًا عن الخطيئة الاصليّة كما يفهمها اللاهوت المسيحيّ، فهناك أقلّه وعي عميق لشرّ خلقيّ تجذّر في قلب الانسان: فالقرارات الشرِّيرة في القلب البشريّ تتجسّد في عمق أعماق الانسان.
تجاه سرّ الخطيئة هذا الذي يُثقل حرِّيتنا، فنشارك فيه بدورنا، نكتشف موقفين متكاملين وضروريين. من جهة، هناك مكان للتوبة (سي 17: 25- 32)، لأن الحريّة البشريّة أمر واقعيّ (سي 16: 11-20). فالانسان يحدّد مصيره الشخصيّ بقرارات قلبه. ومن جهة ثانية، هذا الارتداد هو عمل النعمة. لهذا يستند مز 51 إلى المواعيد النبويّة (رج حز 36) فيطلب من الله الطهارة الباطنيّة (3:51-4، 9)، يطلب تبدّل القلب، وعطيّة روح الله (51: 12- 13). وهذا ما يمنحه فرحَ الخلاصة (51: 14-17). لسنا فقط أمام غفران ناله الخاطئ التائب (مز 32: 2-5؛ 130)، بل أمام خلق جديد يجعل الانسان أمينًا للرب (51: 12). وهكذا تستبق النعمة المطلوبة عطايا ارتبطت في أمكنة أخرى بالتدبير الاسكاتولوجيّ.

2- التعليم عن الخطيئة في العالم اليهوديّ المتأخّر
وإذا انتقلنا إلى النصوص الرابينيّة (المنحولة) نلاحظ أن هذا اللاهوت الرفيع يبقى هنا في كل نقاوته. لاشكّ في أن بعض النصوص القمرانيّة تدلّ على حسّ دقيق لفساد الانسان وللنعمة المنقِّية. ويتيح لنا التعليم عن الروحين أن نعرف كيف تنقسم البشريّة اليوم قسمين: أرواح الامانة والشرّ التي تتصارع في قلب الانسان. والنداء إلى التوبة والالتزام الذي اتّخذه أعضاء الجماعة يفترضان افتراضًا واضحًا أن الانسان حرّ في الدخول إلى حزب الخير. وهناك دلالة واضحة على النظرة الاسكاتولوجيّة إلى هذا الارتداد. ولكننا نجد أيضًا أن الانتماء إلى الجماعة والحفاظ على فرائضها يكفيان ليؤمّنا الخلاص. ومثل هذا الموقف فيه الكثير من الالتباس.
لهذا لا ندهش حين نرى التقوى الفريسيّة تعطي مكانة واسعة لصلوات التوبة، فتصل بها الأمور إلى انحرافات ملموسة: شريعانيّة سطحيّة تحدّد الخطيئة بمادّتها (فريضة نحفظها أولاً حفاظًا خارجيًا)، لا بنيّة الانسان الذي يقوم بعمل من الأعمال. عودة إلى طقوس التكفير في روح طقسانيّة تضرّ بالبحث عن ارتداد باطنيّ. ثقة بسلطة الارادة البشريّة وكأن هذه الارادة تستطيع أن تبرّر الانسان الذي يحفظ الشريعة.
مثل هذا النقص يقابل تجربة مستمرّة في وجدان الانسان. فوحي العهد القديم فتح لنفسه طريقًا وسط هذه التجارب. ولكن المسيحيين قد يقيمون فيها، فيتشبّهون بالفريسيّين. ومهما يكن من أمر، سيُبنى التعليمُ الانجيليّ على هذه الخلفيّة، ولكنه سوف يتجاوزها. هذا لا يعني أنه يريد أن يعارض العهد القديم، بل أن يكمّله، أن يقوده إلى كماله مبعدًا كل لافهم عند المعلّمين اليهود.

خاتمة
وجاء العهد الجديد فأكمل الوحي حول خطيئة الانسان، وحول الفداء الذي يحمله يسوع المسيح. في وجهة نظريّة نميّز في هذا الوحي مرحلتين: مرحلة يسوع المسيح ومرحلة الكنيسة الرسوليّة. غير أن المرحلة الأولى لا توجد في مضمونها الخام حتّى في الاناجيل: فأقوال يسوع وأعماله تصل إلينا عبر شهادة تتضمّن تفكيرًا لاهوتيًا توسّع قليلاً أو كثيرًا. والأمر واضح جدًا في انجيل يوحنا كما في الأناجيل الازائيّة (متّى، مرقس، لوقا): اختار الانجيليّون التذكّرات، وقدّموا أقوال يسوع وأعماله في إطار أدبيّ، وبالنظر إلى فكرة توجّه هؤلاء الكتّاب الذين شدّدوا على هذا العنصر أو ذاك. أما جوهر الأمور، فهو أن هذا الفكر يمثّل تمثيلاً فكر يسوع نفسه وقد فُهم على ضوء سرّ الصليب والقيامة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM