الفصل السادس والعشرون :موسى، الحياة في البريّة ..

 

الفصل السادس والعشرون
موسى، الحياة في البريّة
والاقامة في سيناء

بعد أن نجا شعب الله من المياه، وجد نفسه حرًا. بعد أن تحرّر من العبوديّة، أحسّ أنه وحده في هذه الصحراء، وليس له حماية ماديّة. وبدأ العبور عبر الصحراء، عبورًا طويلاً مؤلمًا. مليئًا بالفخاخ والمآسي. وهكذا كانت مرحلة أولى من هذه الحياة الصعبة. بانتظار الوصول إلى سيناء وتقبّل وصايا العهد من الله. عرف الشعب الجوع والعطش. عرف الحروب. ولكنه بلغ مبتغاه، بلغ إلى الجبل الذي عليه ظهر الله بشكل مهيب. وقُطع العهد. ولكن الشعب خطئ حين عبد العجل الذهبيّ. فعاد الرب وجدّد العهد.
وهكذا يتوزّع هذا الفصل في درفتين: المراحل الأولى في البريّة، الاقامة في سيناء.

1- المراحل الأولى في الصحراء
ترك بنو اسرائيل أخطار مصر والبحر. وها هم يجابهون أخطارًا أخرى لا تقلّ هولاً عن سابقتها: لا طعام ولا شراب. وعدوّ يتربّص بهم. ثم اليأس وعدم التنظيم. سيقدّم لنا الراوي في خمسة أحداث لها معناها، هذه الصعوبات، ويبرز دور موسى المهمّ، وهو الوسيط الحقيقيّ بين الله وشعبه.
أ- نقص في المياه
لا حياة ممكنة في الصحراء بدون مياه. وإن توقّف هذا الحدث الأول عند هذه المسألة الحياتيّة (15: 22-27)، شدّد على المعنى الذي يقدّمه للقارئ. ففي مارة المياة مرّة. نصح الله موسى، فنقّاها بعود من حطب وضعه فيها. لم تكن المياه صالحة للشرب، فصارت محيية. إن المياه علامة ملتبسة. فهي بشكل "بحر" تمثّل الشرّ وخطر الموت. قهرها الله، وشقّها خلال الخروج من مصر. وهي أيضًا عنصر حياة لئلاّ يموت الشعب في البريّة. في مارّة قلب موسى معنى الرمز: فالمياه المرّة التي لا تشرب، التي تشبه مياه البحر، صارت ينبوعًا يروي العطاش.
ورأى آباء الكنيسة في هذا النصّ استعارة. شبّه أوريجانس عود الحطب الذي ألقاه موسى في الماء، بصليب المسيح الذي صار شجرة الحياة الجديدة. ونتذكّر أيضًا حوار يسوع مع السامريّة: "من يشرب من الماء الذي أنا أعطيه، لن يعطش أبدًا. فالماء الذي أعطيه يصبح فيه ينبوعًا يجري حياة أبديّة" (يو 14:4).
ونلاحظ هنا عنصرين. الأول، موقف الشعب الذي يتذمّر على موسى، كما سبق له ففعل حين وصل جيش مصر، وكما سيفعل بعد ذلك. الثاني، عدد العيون والنخلات في واحة إيليم: 12 عينًا، على عدد أسباط اسرائيل، ثم عدد الرسل. 70 نخلة على عدد سلالة يعقوب، الذين جاؤوا يقيمون في مصر، وعدد تلاميذ يسوع الذين أطلقهم من أجل الرسالة (لو 10: 1).
ب- خبز الحياة
يبدأ هذا الحدث، شأنه شأن الحدث السابق، بتذمّر الشعب الذي يتأسّف على قدور اللحم وخبز مصر (خر 16). فأطعمه الله المنّ والسلوى. لا معجزة في هاتين الظاهرتين اللتين نجدهما أيضًا في أيامنا. ففي أوقات من السنة، تعبر سحابة من السلوى بريّة سيناء. وحين تصل الطيور إلى الأرض، فهي منهكة بسبب المسافة الطويلة التي قطعتها، بحيث يستطيع الانسان أن يمسكها بسهولة. "والمن" هو عطيّة الله، وهو "صمغ" تحدثه حشرة حين تقيم على شجيرة وتنقف الغصن. عند ذاك تسقط ماويّة الشجيرة على الأرض بشكل نقاط صغيرة تتجمّد بسرعة ويكون طعمها طعم السكّر.
إن ظللنا على مستوى هذين التفسيرين، لا ندخل في قلب النصّ. فالاهتمام يكمن في إيمان الكاتب الذي حوّل هذين الحدثين من الحياة في البريّة، إلى خبر مثاليّ وعجيب. إن الكاتب يدعونا لكي نقرأ عن عناية الله التي سقت الشعب ماء، ثم أعطته اللحم والخبز، وهذا جلّ ما يصبو إليه البدو الذين قلّما يأكلون لحمًا، بل يكتفون بالالبان والاجبان.
قرأت الجماعة اليهوديّة هذا النصّ وأعادت قراءته. ومثلها فعلت الجماعة المسيحيّة. فهذا الخبر يحمل في ذاته خواص تفوق الطبيعة. إنه خبز الملائكة. نقرأ في حك 16: 20- 21 ما يلي: "وزّعت على شعبك خبز الملائكة، منحته من السماء طعامًا معدًا للأكل. لم يتعبوا فيه، يستطيبه الجميع على اختلاف أذواقهم. فأقمت الدليل على أنك حنون على أبنائك، وإلاّ لما كان ذلك الطعام يُشبع شهوة كل من تناوله، ويتحوّل طعمه ليلائم مختلف الأذواق".
وبالنسبة إلى المسيحيين، هذا الطعام هو صورة الافخارستيا. فالمسيح هو الخبز الحقيقيّ النازل من السماء والذي يعطي الحياة. قال يسوع: "أنا خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المنّ في البريّة وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء. فمن يأكل منه لا يموت. أنا الخبز الحيّ النازل من السماء. من يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أعطيه هو جسدي (لحمي، ساركس، بسر في العبريّة) المعطى ليحيا العالم... هذا هو الخبز النازل من السماء، وهو غير الخبز الذي أكله آباؤكم وماتوا. أما من يأكل من هذا الخبز فيحيا إلى الأبد" (يو 48:6-58).
ج- صخرة العطش
مع مياه مسّة ومريبة (17: 1-7)، أنهى الراوي هذه السلسلة من الأحداث التي تدور حول ذات الموضوع: تذمّرُ الشعب واهتمام الله بشعبه. تصاعدت اللهجة ضدّ موسى فخاف: "عمّا قليل سوف يرجمونني". خاف من أجل نفسه. وخاف من أجل الشعب الذي يمتحن الرب ويقول: هل الرب بيننا أم لا؟ هو سؤال أساسيّ. ليس سؤالاً نظريًا يشير إلى طبيعة الله. بل هو سؤال حول امكانيّة الله بأن يخلّص شعبه، وهل يريد هذا الخلاص. لقد طرح شعب اسرائيل هذا السؤال في كل الأوقات الصعبة من وجوده. حين دمّر الهيكل مرّة أولى (587 ق م) ومرّة ثانيّة، حين التهجير والمنفى. هذا السؤال هو سؤال أيوب في وجه الألم الذي يجتاحه. وهو صراخ المرتّل الذي قال: "إلهي إلهي لماذا تركتني وامتنعت عن نجدتي وسماع أنيني؟ إلهي، في النهار أدعو فلا تجيب، وفي الليل فلا تحرّك ساكنًا" (مز 22: 2-3).
ولكن الرب هو هو ولم يتبدّل. وهو يقرّر على الدوام أن يتدخّل. ويفعل هنا بواسطة عصا موسى. هذه العصا التي تدخّلت أمام فرعون وساعة عبور البحر، تمثّلُ قدرة يمارسها الله بواسطة ممثّله. أما الصخر فيرمز إلى الصلابة والقوّة. وسيتوسّع تقليد اسرائيل فيقول إن هذا الصخر تبع الشعب في تنقلاته عبر البريّة، وكأنه خزان ماء يسير معهم.
في هذا المجال كتب بولس إلى الكورنثيين: "فلا أريد أن تجهلوا، أيها الإخوة، أن آباءنا كانوا كلهم تحت الغمام، وكلّهم عبروا البحر، وكلّهم تعمّدوا لموسى في الغمام وفي البحر. وكلّهم أكلوا طعامًا روحيًا واحدًا، وكلّهم كانوا يشربون شرابًا روحيًا واحدًا من صخرة روحيّة ترافقهم، وهذه الصخرة هي المسيح" (1 كور 10: 1- 4).
د- حرب مع بني عماليق
ما يربط هذا الحدث (8:17-16) بسابقه هو موسى الذي يرفع العصا على رأس الجبل. ما دامت يداه مرفوعتين، ينتصر يشوع في السهل. وحين نزلت اليدان من التعب، تراجع يشوع.
حارب الشعب بقيادة يشوع، ولكن الربّ هو الذي يسير على رأس جيوش اسرائيل، الذين يربحون ما زالت يدا موسى مرفوعتين. نحن هنا أمام صورة عن أمانة الله لشعبه، وعن قوّة الصلاة. فحين يضع الشعب ثقته في الله، يعطيه الله القوّة لكي يتغلّب على الشرّ.
بعد ذلك، سوف يرى حكماء اسرائيل في عماليق، العدوّ الذي يأتي جيلاً بعد جيل. إنه يرمز إلى القوى الشيطانيّة.
هـ- بداية تنظيم الشعب
سار موسى برفقة جمع كبير، فوصل إلى الموضع الذي منه انطلق. جاء إلى يترو المدياني حيث وجد امرأته وولديه.
لماذا رُوي هذا الحدث؟ بسبب النصائح الصائبة التي أعطاها يترو لموسى. وستبدأ الليتورجيا الكبيرة على سيناء مع عطيّة الشريعة. وسيلعب موسى دورًا كبيرًا جدًا كمحاور مميّز مع الله. فإذا أراد أن يقوم بمهمّته الجوهريّة خير قيام، يجب أن لا يغرق في مختلف هموم الادارة اليوميّة المرتبطة بالحياة في المخيّم. فعلّمه يترو كيف يفوّض أشخاصًا يثق بهم من أجل أعمال دنيا.

2- الإقامة في سيناء والعهد
ونصل الآن إلى القسم المركزيّ في حياة موسى. كان قد رأى في حوريب، في عزلة البريّة "الخربة"، نار العلّيقة. وكان قد سمع صوت الله فسجد. وسيتجدّد الشيء عينه على سيناء ولكن بشكل ضخم جدًا.
بعد مقدّمة تعطي المناخ والمعنى اللاهوتي لهذه المتتالية (19: 1- 34: 35)، يروي النصّ خبر الاحتفال بالعهد، ثم نقض العهد وتجديده. بعد هذا جاء قسم كبير يصوّر النظم العباديّة. وهكذا تتداخل الأخبار التاريخيّة والنصوص القانونيّة والتفاصيل الليتورجيّة تداخلاً حميمًا.
أ- الاحتفال بالعهد
أشار النصّ في بضعة سطور (19: 1-9) إلى جوهر العهد. استلهم عهودًا أقامها الملوك بين بعضهم بعضًا، بين ملك كبير وملك صغير. فالمتعاقدان ليسا متساويين. فالمبادرة كلها لله وحده. وهو يذكّر شعبه بما فعل له: حرّره وجاء به إليه. وها هو يعرض عليه أن يكون شعبه المختار من بين سائر الشعوب، وأن يظلّ أمينًا لهذا العهد. قبلَ الشعب ووافقَ. تلك هي الرسمة التي نقرأها هنا.
* ظهور الله
استعدّ الشعب كما يستعدّ كل انسان لحفلة مهمّة. استعدّ لتقبّل ظهور الرب والبنود الرئيسيّة في العهد (19: 20- 20: 21). وسوف نرى مفاهيم دينيّة قديمة لم تتخلّص كل التخلّص من "عالم السحر". لهذا يجب أن نحدّد ما هو طاهر وما ليس بطاهر. انفصل الجبل كله عن سائر الأرض بحاجز رمزيّ. إنه الموضع الذي فيه سيكشف الله عن ذاته. والثياب أيضًا تكون نظيفة والأشخاص.
وإذ أراد الكاتب أن يصوّر ظهور الله، عاد إلى ظواهر الطبيعة الخارقة: عاصفة على جبل أو اشتعال بركان. فالله ذاته لا يُرى. وهو يتحدّث بصوته مع موسى. يُروى المشهد وكأننا في معبد أورشليم حيث يبقى الشعب بعيدًا ساعة يدخل عظيم الكهنة وحده إلى المعبد وسط البخور المتصاعد.
* الأقوال العشرة
يورد هذا النصّ (20: 1-17) الذي هو من أشهر نصوص التوراة، الكلمات العشر، "الوصايا العشر". هناك عبارة في المقدّمة تعطي الباقي معناه: "أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبوديّة". قدّم نفسه لشعبه من أجل عهد معه، وبدأ يذكّره بحسناته. ثم أعلن البند الرئيسيّ في هذا التعاهد. تلك هي الأصالة الكبرى في إيمان اسرائيل. فالرب يطلب حبًا محصورًا فيه. فلا يريد عددًا من الآلهة "تصوَّر" بجانبه في المعبد. قال: "أنا الرب إلهك. إله غيور". والاصالة الثانية: لا يريد الرب أن يصوّر في صورة ولا أن يُنحت في تمثال. الله هو الآخر الآخر. ذاك الذي لا يُدرك. ذاك الذي يفاجئنا دائمًا. ذاك الذي لا نستطيع الولوج في سرّه. ذاك الذي يكشف عن نفسه فقط بكلمته. ليس صنمًا نركع أمامه. فالصورة الوحيدة التي "تستطيع" أن تشير إليه، هي الانسان الذي جعله الله في قلب خليقته (تك 1: 26). وهي بشكل خاص آدم الجديد، يسوع المسيح وكلمة الله.
وقدّمت سائر الأقوال (أو: الوصايا) القواعد الأولى من أجل الحياة المشتركة. نلاحظ تشديدًا على تكريم السبت، كما في نشيد الخلق (تك 1: 1- 4:2): "أذكر يوم السبت وكرّسه لي. في ستة أيام تعمل وتنجز جميع أعمالك. واليوم السابع سبت للرب إلهك. لا تَقُم فيه بعمل ما، أنت وابنك وابنتك وعبدك وجاريتك وبهيمتك ونزيلك الذي في داخل أبوابك (أبواب مدينتك أو بيتك)، لأن الرب الاله في ستّة أيام خلق السماوات والأرض والبحر وجميع ما فيها، وفي اليوم السابع استراح. ولذلك بارك الرب يوم السبت وكرّسه (وقدّسه، جعله مقدّسًا) له" (20: 8- 11).
وبعد عطيّة الوصايا العشر (أو: الكلمات العشر) استعاد الراوي الصور التي وردت فيما قبل: النار، الصوت، البوق. فارتجف الشعب. هو لا يريد أن يرى الله. بل لا يريد حتّى أن يسمعه. فجلالته عظيمة جدًا. ودخل موسى وحده في "الليل الدامس حيث يقيم الله".
* البنود اللاحقة
بعد بنود رئيسيّة يعبّر عنها بعبارات عامّة، تتضمّن المعاهدةُ بين ملكين اثنين (وهنا بين الله وشعبه) بنودًا لاحقة تتطرّق إلى أمور تفصيليّة. تلك هي الرسمة التي نجدها هنا (20: 22-23: 33).
هناك مجموعة تشريعيّة صغيرة تسمّى "شرعة العهد"، وهي تحدّد ما يجب عمله في حالات خاصّة. نلاحظ بشكل خاص متطلّبات البساطة في شعائر العبادة (20: 24-25)، واحترام الغرباء والفقراء (22: 20-26). قلّما يقرأ المسيحيون هذه النصوص التي تبدو لهم مملّة بسبب المناخ القانونيّ الذي يسيطر عليها. ولكننا هنا أمام أولى المحاولات لتطبيق المبدأ المركزي في الشريعة على واقع الحياة اليوميّة. وهذا المبدأ هو: "تحبّ الرب إلهك من كل قلبك وكل نفسك وكل فكرك. هذه هي الوصيّة العظمى والأولى. والثانية مهمّة مثلها: تحبّ قريبك كنفسك" (مت 22: 37-38).
* "التوقيع" على العهد
نجد هنا (24: 1- 11) خبرين متداخلين يتحدّثان عن "قطع العهد"، عن "التوقيع" على العهد: طقس أول على رأس الجبل. وطقس ثان عند أسفله. في الأول التزم الشعب بأن يضع موضع العمل كلمات الرب. فدوّن موسى أقوال الرب، ثم بنى مذبحًا يحيط به 12 حجرًا منصوبًا (نصبًا) تمثِّل الاسباط الاثني عشر. وذبح الشبّانُ الثيران، فرُشَّ نصف دمها على المذبح والنصف الآخر على الشعب الذين سمعوا قراءة كتاب العهد ووافقوا مرّة أخرى على العهد. لا يجري الاحتفال في هيكل، وليس هناك أشخاص مخصّصون لشعائر العبادة. فموسى هو الكاهن، والشعب يحيط به.
هنا نتذكّر عيد الفصح الذي احتفل به يسوع مع الاثني عشر الذين اجتمعوا حوله. ونتذكّر الخبز والخمر اللذين يشيران إلى الجسد المبذول والدم المراق لأجلنا. ففي العشاء الأخير، جدّد يسوع العهد الذي عقده الله مع شعبه. وسلّم نفسه ذبيحة. ثم أخذ خبزًا وشكر وكسر وأعطاهم قائلاً: "هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم. إصنعوا هذا لذكري". وصنع كذلك على الكأس بعد العشاء قائلاً: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي المراق عنكم" (لو 22: 19- 20).
في الطقس الثاني، صعد موسى إلى قمّة الجبل مع هارون وابنيه وسبعين شيخًا من شيوخ بني اسرائيل. يذكّرنا هذا المشهد بصعود جبل والوصول إلى قمّة تغمرها الغيوم والضباب. أكلوا وشربوا أمام الله. هي مأدبة السلام والاتحاد مع "توقيع عهد" مع الله. هذه المجموعة المنظّمة التي نجد فيها هارون وابنيه والسبعين (صاروا القسس في اليونانية أو الكهنة، برسبيتاروس)، تعلن تكوين جسم يتوسّط الله والبشر: هم الكهنة.
ب- تعليمات من أجل شعائر العبادة
* تعليمات الرب
يبدأ هذا القسم (24: 12- 31: 18) بصعود جديد لموسى الذي أقام على الجبل أربعين يومًا. ونجد هنا أيضًا صورًا تعوّدنا عليها: الغمام، النار. والخطبة الطويلة التي يجعلها الكاتب في فم الله تتوخّى أن تجعل الشعب يشارك في ليتورجيّة الهيكل. يجب أن تُجمع أولاً المواد الضروريّة لصنع المعبد المتنقّل.
لا نبحث هنا عن "الحقيقة التاريخيّة" لمثل هذه الخطبة. فحتّى لو قبلنا بالواقع الذي قال إن بني اسرائيل سلبوا المصريين حين الخروج، يصعب علينا أن نتصوّر أنهم وجدوا الذهب والفضة وخشب الاكاسيا وزيت الزيتون... لكي "يبنوا" هذا المعبد ويقوموا فيه بشعائر العبادة.
ما هو واضح، هو أن الراوي يتطلّع إلى الهيكل. أو هو ينطلق من الهيكل ويعود إلى الوراء لكي يتحدّث عن المسكن الالهي الذي رافق الشعب في الصحراء. أطال الكاتب الحديث، وقدّم التفاصيل. وبعد حدث العجل الذهبي، سيروي بواسطة الألفاظ عينها تحقيق هذا الهيكل. قال الرب لموسى: إصنع. فصنع موسى. دوّن هذا النص كاتب انتمى إلى جماعة كهنة أورشليم، فبيّن لنا أن الهيكل قد أراده الله منذ البداية.
* تنظيم شعائر العبادة
بعد نزول موسى الأخير من جبل سيناء، يتركّز النصّ على صنع مسكن لله (خر 40:35؛ سفر اللاويين؛ عد 1-9). كل ما أعلن في خر 25- 31، قد نُفِّذ هنا. بعد هذا، لابدّ من وجود أشخاص مخصّصين (الكهنة واللاويين) من أجل خدمة هذا الهيكل. وهكذا يضع الكاتب هنا كل التشريع المتعلّق بشعائر العبادة.
هذا القسم الذي يبدأ بالخروج فيمرّ باللاويين وينتهي في سفر العدد، لا يقرأه المسيحيون، لأن قراءته مملّة. ولكنه يفهمنا كيف كان يتمّ العمل في الهيكل، كما يقدّم لنا الخلفيّة لعدد من الجدالات بين يسوع واليهود الاتقياء.
نتوقّف بشكل خاص عند المقطع الأخير (على 9: 15-23) حيث نجد صورتين تعودان إلى بداية سفر الخروج: النار والغمام. فالغمام الذي يغطّي المسكن يذكّرنا بذلك الذي ملأ هيكل سليمان. إن هذه الصورة تدلّ على أن الله يأتي ليضع يده على هيكل يخصّه. وهكذا نفهم الاهتمام الزائد بهذه الفرائض التفصيليّة: هي طريقة تدلّ على مراعاة قداسة الله.
عارض الأنبياء مثل هذا التشديد المفرط على الطقوس، ربّما على حساب الحياة الاخلاقيّة، بحيث اعتبر بعضهم أن الأنبياء كانوا معارضين للعبادات الليتورجيّة. ولكنهم كانوا بالأحرى ضد الرياء في عبادة لا تصل بنا إلى ممارسة المحبّة في الحياة اليوميّة. مثلاً، قال أشعيا: "ما فائدتي من كثرة ذبائحكم؟ شبعتُ من محرقات الكباش وشحم المسمّنات... صارت ثقلاً عليّ... إذا بسطتم أيديكم للصلاة أحجب عينيّ عنكم، وإن أكثرتم من الدعاء، لا استمع لكم، لأن أيديكم مملوءة من الدماء. تعلّموا الاحسان، أطلبوا العدل" (1: 11-17).
وسار يسوع في هذا الخطّ عينه فقال في مت 23:5-24: "إذا كنت تقدّم قربانك إلى المذبح، وتذكّرت هناك أن لأخيك شيئًا عليك، فاترك قربانك عند المذبح هناك، واذهب أولاً وصالح أخاك. ثم تعال وقدّم قربانك". هكذا تكون العبادة الحقيقيّة مرتبطة بالمحبّة الاخوية، فتصبح مقبولة لدى الله.
ج- من عهد نُقض إلى عهد تجدّد
قطع الشعب العهد مع الله، ولكنه سوف ينقضه. هل يعاقب الله كما يفعل الملك الكبير مع الملك الصغير؟ بل هو يغفر وينطلق من جديد.
* العجل الذهبي
صنع الشعب العجل الذهبيّ فنقضوا العهد. هذا ما نقرأه في خر 32. ولكن حين نقرأ النصّ نحسّ أننا أمام خبرين. في الأول، تأخّر موسى من النزول عن الجبل حيث أقام أربعين يومًا. سنجد هذا الرقم مرارًا فيما بعد: 40 سنة لعبور الصحراء. 40 يومًا يجرّب فيها يسوع. 40 يومًا بين القيامة والصعود. يدلّ هذا العدد على مدى الانتظار والمحنة. إن الشعب يريد قائدًا يسير أمامه. لم يعد يرى عمود الغمام، وموسى غائب منذ بعض الوقت. حلّ هارون محلّ موسى وصنع تمثال عجل من الذهب. عند ذاك غضب الرب، وأعلم موسى بما حصل. وأعلن أنه يُفني الشعب كله، ويبدأ من جديد كما فعل في الماضي مع ابراهيم. ولكن كما دافع ابراهيم عن سدوم وعمورة، هكذا سيفعل موسى من أجل خلاص الشعب، وسيربح الدعوى.
في الخبر الثاني، نزل موسى عن الجبل برفقة يشوع، وما كان يعرف ما حصل. وحين رأى المشهد، غضب وحطّم لوحَيْ الوصايا. كما أحرق العجل الذهبيّ، وصيّره رمادًا مزجه بمياه سقى منها الشعب. وأعطى أوامره لبني لاوي فهجموا على المخيّم وقتلوا ثلاثة آلاف. ثم صعد موسى من جديد إلى الجبل ليكلّم الربّ.
أسئلة عديدة تُطرح علينا هنا: كيف استطاع هارون أن يصنع عجلاً من مجوهرات ذهبيّة؟ كيف استطاع موسى أن يسحق تمثالاً من ذهب، ويجعله رمادًا في الماء ويسقي منه الشعب؟ ما هو معنى تدخّل اللاويين الذين قتلوا ثلاثة آلاف؟ لن نجد الأجوبة التي ترضينا. لهذا نبحث عن التعليم الذي يريد الراوي أن يوصله إلينا.
عرض الرب عهدًا، فقبل به الشعب، ولكنه ما استطاع أن يعيش بحسبه في مدى طويل من الزمن. هي خطيئة كبيرة جدًا، لأنها تمسّ وصيّة رئيسية: منعُ كل صورة لله. ودلّ الله على "غيرته" حين "غضب" على شعبه. ولعب موسى مرّة أخرى دور الوسيط والمتشفّع. وقد نجد هنا أيضًا نقدًا لطريقة ممارسة الكهنوت: هذا ما يحصل حين نمارس شعائر عبادة ولا نسمع كلام الله.
وقد يكون الكاتب أيضًا أورد تقاليد قديمة لكي يصوّر وضعًا يعرفه عصره. ونقرأ على سبيل المثال ما يقول لنا كتاب الملوك عمّا حدث بعد موت الملك سليمان، ساعة الانفصال بين مملكة الشمال (اسرائيل بعاصمتها الأخيرة السامرة) ومملكة الجنوب (يهوذا بعاصمتها أورشليم). استلهم كاتب سفرَي الملوك هذا المقطع من سفر الخروج فكتب: "صنع الملك يربعام عجلين ذهبيين وقال للشعب: صعدتم كثيرًا إلى أورشليم. ها هي آلهتك يا اسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر". وجعل عجلاً في بيت إيل، والآخر في دان (على حدود المملكة من الجنوب والشمال). تلك كانت خطيئة عظيمة. وسار الشعب في تطواف وراء العجل حتى دان. وبنى يربعام بيوتًا (أو: معابد) على التلال المشرفة، و"رسم" كهنة، أخذهم من الشعب لا من قبيلة لاوي (1 مل 12: 18- 31).
نجد ذات العبارات في نص خر وفي نص 1 مل. فالكاتب البيبليّ يروي دومًا أخبارًا من الماضي لكي يلقي ضوءًا على الحاضر. وحين رُوي خبر العجل الذهبي في أيام يربعام، توخّى شجب عجلَيْ بيت إيل ودان (في الواقع كانا ثورين يستعملان كموطئ قدم للاله)، وشجب الكهنة الذين يخدمون في هذه المعابد. قال: أخطأ آباؤنا. فلا نسير في ضلالهم لئلاّ يغضب الله كما فعل في الماضي. في سفر الخروج توسّل موسى، واليوم من يرفع الدعاء لأجلنا؟

* تجديد العهد
بعد حدث العجل الذهبيّ، يرينا الراوي قلق موسى واضطرابه (ف 33- 34). أما يضجر الله من شعب قاسي الرقاب؟ هل سيظلّ يسير في رأس موكبنا؟ هل سيقيم بعدُ في وسطنا؟ هل نستطيع العيش مع إله لا نستطيع أن نجعله في صورة أو تمثال. قال موسى: "أرني مجدك". أجاب الرب: "هذا مستحيل". فالانسان لا يستطيع أن يرى الله وجهًا لوجه ويبقى على قيد الحياة. هو لا يستطيع أن يرى وجه الله، بل قفاه. صورة جميلة. نحن لا نستطيع أن نرى الله إلاّ بعد مروره: نكتشف آثار عمله في الخليقة وفي التاريخ. ثم صنع موسى لوحين جديدين من حجر، وصعد إلى الجبل، فدوّن مرّة ثانية كلمات الله العشر. لم يكن ظهور الله "لامعًا" كما في المرّة الأولى. ولم تعد الوصايا كما كانت من قبل. كان للوصايا العشر بُعدٌ مسكوني يتجاوز إطار اسرائيل الضيّق، فيصل إلى جميع البشر. أما الوصايا التي أعطيت الآن فهي تتعلّق بشعائر العبادة، وهي لا تهمّنا اليوم كثيرًا.

خاتمة
تلك محطة ثانية في التعرّف إلى وجه موسى من خلال سفر الخروج. فمسيرة الشعب هي مسيرة موسى. وما يحدث للشعب يحسّ به موسى، الذي بدا وسيطًا بين الله والشعب، ومتشفِّعًا أمام الله من أجل الشعب. وقد يعاقب إذا لزم الأمر فيعمل "عمل الله" الذي يؤدّب البنين الذين يرضى عنهم. فما يدفعه إلى العمل هو "وجه" الله القدوس الذي ظهر له وحده في العليقة الملتهبة، وظهر للشعب على الجبل من خلال البروق والرعود. هذا الوجه يدفعه إلى أن يكون مع الله إذا استحقّ الشعب عقابًا ولاسيّما في عبادة الأوثان. سواء مع هارون أو الملك بريعام. وأن يكون مع الشعب من أجل الصلاة والتشفّع. وسيأتي يوم يتضامن فيه موسى كليًا مع شعبه فيرفض عرض الله بأن يبدأ مع "شعب جديد". بل هو يستعدّ أن يموت مع شعبه. وسيكون نصيبه نصيب شعب البريّة، فيموت دون أن يحظى برؤية أرض الميعاد.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM