الفصل الخامس والعشرون: موسى،من مولده إلى الخروج من مصر

الفصل الخامس والعشرون
موسى، من مولده إلى الخروج من مصر

موسى هو أهمّ شخص في العهد القديم. وقد نسب إليه التقليد اللاحق تأليف البنتاتوكس الذي سمّي لذلك: أسفار موسى الخمسة. ثم إنه ارتبط بما يشكّل قلب الايمان البيبليّ: فإله اسرائيل هو إله محرّر، إله مخلّص. وقد لعب موسى الدور الأول في مسيرة الخلاص هذه، فقاد "جماعة من الاوباش" إلى صحراء سيناء، وجعلهم الشعب، شعب الله السائر في طواف للقاء بالربّ.
نقسم مقالنا قسمين. في قسم أول نتوقّف عند مولد موسى وشبابه ودعوته. ونحاول أن نقرأ كل هذا قراءة إيمانيّة. ونكتشف علاقته بيسوع. كان الله قد وعد ابراهيم بأن يعطيه نسلاً كبيرًا، وبأنه يعطي هذا النسل أرض الموعد. حقّق يعقوب الوعد الأوّل. وسيحقّق موسى الوعد الثاني. بعد ذلك، نتعرّف إلى "القتال" المحرّر الذي يتجسّد عبر صعوبات كثيرة، في الخروج من مصر، عبور بحر القصب، والذهاب إلى سيناء.

1- مولد موسى وشبابه ودعوته
بدأ سفر الخروج يرى تحقيق وعد الله الأول: نسل كبير. وهو يورد أسماء القبائل الاثنتي عشرة التي ارتبطت بيعقوب واسرائيل. ويذكّرنا بإيجاز بخبر يوسف أحد الاثني عشر الذي باعه أخوته فصار مخلّص عائلته كلها. حين كان وزير الفرعون الأكبر، أتاح لأخصّائه أن يقيموا في أرض مصر، وأن يزدهروا ويتكاثروا. ولكن العبرانيين صاروا في النهاية عبيدًا للمصريين. إذن، كان الوضع صعبًا جدًا. وفي مثل هذا الوضع وُلد موسى.
أ- الولادة
نحنا هنا أمام ولادة "أسطوريّة"، ولادة عجيبة مدهشة (خر 2: 1-10). فحين يروي المؤرّخ القديم ولادة شخص عظيم يروي أولاً الظواهر الفائقة التي تحيط بهذه الولادة. مثلاً، حين ولد سرجون (الأوّل) الذي سيصبح ملك بلاد الرافدين، وضعته أمّه في سلّة طلتها بالقار وجعلتها على الفرات. هو خبر أسطوري. أما سرجون فكان ملكًا حقيقيًا وقد أسّس سلالة أكاد في القرن 23 ق م.
استعمل الكاتب البيبليّ النهج عينه حين روى ولادة موسى. فخبر المرضع الذي وُضع في سلّة من البرديّ على النيل، توخّى تنبيه القارئ إلى أهميّة هذا الشخص وإلى أنه موضوع عناية الله منذ ولادته. كان اسم الطفل اسمًا مصريًا (خادم رع، رع موسى): خلّصته ابنة فرعون وسمّته "موسى" أي الناجي من الماء حسب المعنى البيبليّ. نحن هنا أمام رمز: فالذي سيخرج شعبه من عبوديّة مصر عابرًا مياه البحر، أخرج هو نفسه من مياه النيل. هو المخلَّص قبل أن يصير "المخلِّص".
ب- حامل العقاب
بعد أحداث المولد المدهشة، ندخل حالاً في قلب الدراما (2: 11-22). ضرب موسى مصريًا كان يسيء معاملة رجل عبرانيّ. ترك الراوي تربية موسى في مصر، في بلاد الفرعون، ليدلّ حالاً على تضامن موسى مع شعبه المقهور.
قد يستاء القارئ أمام مثل هذا العنف. اقتصّ موسى لنفسه ولم يترك العدالة تأخذ مجراها. وهناك من يحذف هذا الخبر من التوراة، أو يجعل خبرًا آخر مكانه ليجعل "سيرة" موسى مقبولة لدى القارئ. وقد يكون هناك قصّة حبّ بين المصري، مراقب العمّال، وامرأة العبراني. اكتشف موسى الأمر بوحي إلهي، فطبّق على الزاني العقاب الذي نقرأ عنه في الشريعة، وهو القتل. هكذا يقولون.
ولكن لا حاجة إلى تجميل هذا النصّ ولا إلى إلغائه. بل، نوسّع نظرنا على المجموعة حيث يتجاوب خبرٌ مع آخر. قام موسى بعمل فرديّ من أجل فائدة فرد من الأفراد. وما سأل أحدًا. ولم يكلّفه أحد. عمل شيئًا بدون عون العبرانيين الذين لم يطلبوا منه شيئًا، وذلك من أجل عبراني. وفوق كل هذا، تصرّف بعيدًا عن إرادة الله. وكانت النتيجة الملموسة لعمله، واجب يدفعه إلى الهرب إلى الخارج.
وهناك دلّ أيضًا على حسّ العدالة الكامن في قلبه، من أجل بنات كاهن مديان. وانتهى كل شيء بزواج وولادة ابن اسمه جرشوم الذي يعني "هذا الغريب". قد تستطيع الرواية أن تتوقّف هنا. ولكنها لم تبدأ بعد. فالبطل الرئيسيّ والمحرّر الحقيقيّ لم يدخل بعد على المسرح.
ج- صوت في العلّيقة
إن دعوة موسى (خر 3: 1-12) تشكّل واحدًا من أشهر النصوص في التوراة. لا نحاول أن نبحث عن خارطة موقع حوريب. ولا نحاول أيضًا أن نشرح سرّ العلّيقة التي اشتعلت دون أن تحترق. فاهتمام الكاتب ليس هنا. فهو حين يروي هذا الخبر لا يتكلّم عن حدث "غريب" نحدّده في الزمان والمكان. بل يكلّمنا في الواقع عمّا يكوّن قلب الايمان في شعب اسرائيل.
هناك أولاً مبادرة من الله: "موسى، موسى، لا تقترب من هنا. أنا إله أبيك... نظرتُ شقاء شعبي، سمعته يصرخ، وجئت لكي أنقذه". ذاك هو قانون إيمان اسرائيل: إلهنا هو العليّ، ذاك الذي لا نستطيع أن ننظر إليه وجهًا لوجه، والذي أمامه نركع، ونسجد. ليس إله أرض خاصة ولا إله موضع محدّد. إنه إله الآباء. ليس كالأصنام التي لها عيون ولا ترى، وآذان ولا تسمع. هو إله يهتمّ بشعبه ويأتي إلى لقائه لكي يحرّره.
أمام مثل هذا الاكتشاف، انتظرنا أن يتصرّف موسى بحماس. ولكن لا. فقد فعل عكس ذلك. أخذ يجادل الله: "من أنا حتى أذهب إلى فرعون؟ ما هو اسمك؟ لن يصدّقوني. أنا لا أجيد الكلام. اختر من تشاء غيري". فتقبّلُ كلمة الله لا يتمّ في حماس كبير واندفاع. كما لا نجد نبرة الانتصار في هذا الخبر، خبر الدعوة. بل إن الله سوف "يغضب". وفي النهاية، طلب من موسى أن يصطحب أخاه معه.
د- اسم سريّ
وسأله موسى الله: "إن قالوا لي: ما اسمه، فماذا أقول لهم"؟ فأجاب الله: "أنا يهوه. الإله الذي هو" (3: 13-15). جواب مليء بالألغاز. فكيف نفسّره؟
"أنا من أنا". نحسّ هنا أن الله يرفض أن يعطي اسمه. فكأنه عند ذاك يسلّم شيئًا من ذاته ويتيح للانسان أن "يضع يده" عليه (كأنه صنم). فلا شخص ولا مجموعة ولا ديانة تستطيع أن "تضع يدها" على الله. فالله هو الآخر الآخر الذي لا يحصره تحديد من التحديدات. ولكن هذا التفسير يبتعد بعض الشيء عن النصّ. فالله يواصل خطابه لموسى فيقول له: "هكذا تكلّم بني اسرائيل: يهوه أرسلني إليكم. هذا هو اسمي إلى الأبد. هكذا يدعونني من جيل إلى جيل" (15:3). أجل، سلّم الله إلى الانسان شيئًا من ذاته، والاسم يدلّ على الشخص. وحين التزم في تاريخ البشر، مزج مصيره بمصيرهم. وكان المزج الأرفع حين أرسل لنا ابنه.
"أنا الذي هو". حسب هذا التفسير، أراد الله أن يقول إنه وحده الإله الحقيقيّ. أما سائر الآلهة فأشياء من خشب أو حجر أو معدن، وهي لا تخلّص. وسيقول أشعيا في هذا المجال: "إرجعوا إليّ واخلصوا، يا أقاصي الأرض. لأني أنا الله وليس إله غيري" (45: 22). ساعة عاش العبرانيون بين المصريين، عبدوا آلهة عديدة. وها هو موسى يدعوهم لعبادة الاله الواحد الحقّ.
"أنا الذي سيكون". حسب هذا التفسير، لا يرفض الله أن يعطي اسمه. بل يرفض أن يعطيه بشكل "عقيدة جامدة". يرفض أن يحصره في عبارة تحدّه. "سوف ترون من أنا، ولن تنتظروا طويلاً". وهكذا كشف الله عن نفسه كشفًا تدريجيًا في التاريخ. حضوره حضور ناشط، ولا نستطيع أن نتوقّعه أبدًا. قال النشيد: "شاهدنا في الكون آثار مجدك، ورأينا مآثرك التي تنير التاريخ".

2- حرب من أجل الحريّة
رافقنا موسى من مياه النيل إلى الجبل الذي عليه كشف الله اسمه. والآن، نرافق شعب اسرائيل من مياه البحر حتى جبل سيناء. أجل، سيخلّص موسى شعبه من قبضة المصريين، بمعونة الله. ورغم كل الصعوبات سيعبّره البحر الأحمر ويقوده إلى سيناء. أما الحرب التي سنشهدها فهي بين جبارين: الرب نفسه وفرعون. وقد نستطيع أن نعنون هذا القسم بما قاله النبيّ حزقيال (29: 3): "هذا ما قال الرب: أنا خصمك يا فرعون، ملك مصر، أيها التمساح العظيم الرابض في وسط روافد النيل".
أ- الاستعداد للحرب
قبل البدء بالقتال (خر 5) لابدّ من تهيئة السلاح وجمع الشعب الضائع. فالنداء في وسط العليقة، لم يشهده أحدٌ سوى موسى. "هم لا يصدّقونني". عند ذاك كشف الله له كيف يتغلّب على مصر. سيقف على مستوى خصومه، ويبدأ حربه في حلبة السحرة. تحوّلت العصا إلى حيّة، وظهر البرص على اليد وزال، وتحوّلت مياه النيل إلى دم، فدلّت على أن الله "سيضرب" الأشياء والأشخاص، يضرب الطبيعة كلها.
* موسى، العائق الأول
ولكن العائق الأول الذي يجب على الله أن يتغلّب عليه، هو موسى نفسه، وقلّة الحماس عنده. "أنا لا أجيد الكلام... أرسل شخصًا غيري". "غضب" الله، وأمر هارون أن يكون المتكلّم باسم موسى. وهكذا اجتمع الرئيس السياسي (موسى) مع الرئيس الديني (هارون) من أجل قيادة الشعب. وستكون المشاركة مثمرة. وقد بدأت بنجاح أول حين توجّها إلى بني اسرائيل: "آمن الشعب. وفهم أن الله تدخّل من أجل شعبه بعد أن رأى شقاءه، فركعوا له وسجدوا" (4: 31).
* المحاولة الأولى والفشل الأول
صوِّر اللقاء الأول مع فرعون بشكل موجز (5: 1-7: 7). فموسى وهارون لا يُحسبان شيئًا. كان الفشل تامًا. وأكثر من ذلك، فعلى أثر هذا التدخّل، ستفسد ظروفُ العمل لدى الشعب بشكل ظاهر. فانتقد موسى وهارونَ أولئك الذين جاؤوا لكي يحرّروهم. فتوجّه موسى في صلاة إلى الله و"لامه" لأنه لم يفعل.
نحتفظ بأمرين في تدخّل الله هذا. أولاً، هناك صورة "يد الله". إن التوراة تستعمل لغة الجسد. فالله له أذنان يسمع بهما صراخ شعبه في الضيق. وله فم به يكلّم موسى. وله رجلان تنقلانه إلى مقدّمة "الجيش". وله ذراع تقاتل. هذه اللغة الرمزيّة تتفوّق على العبارات الدوغماتيّة المجرّدة والناشفة، فتدلّ دلالة أفضل على عمل الله وعلاقته مع البشر: الله سيحرّر شعبه بقدرة يده.
والفكرة الثانية تقول إن عمل الله يتمّ في التاريخ. أقحم الكاتب في خبره سلسلة أنساب تربط موسى وهارون بالآباء الأقدمين. فالتاريخ المقدّس الواحد الذي بدأ مع ابراهيم واسحاق ويعقوب، ما زال يتواصل والله قد ذكر وعده.
* المناوشة الأولى
وذهب موسى وهارون إلى فرعون (7: 8-7، 13)، وتمّت الآيات التي أعلنت سابقًا. "تحوّلت عصا هارون إلى حيّة أو بالأحرى إلى تنين". وفعل سحرة مصر الشيء عينه. ولكن عصا هارون ابتلعت عصيَّهم.
لا نرى للوهلة الأولى فائدة من هذا المشهد الذي يشبه إلى حدّ ما مباراة في أعمال سحريّة. ولكنه بالنسبة إلى أناس ذلك الزمان، يشير إلى ميتولوجيّة شعوب الشرق الأوسط، الذين تصوّروا خلق الكون بشكل حرب الاله ضدّ الوحش الاولاني، وحش الفوضى. وقدر رمز الكاتب إلى مصر في موضع آخر بواسطة التمساح الذي هو وحش النيل.
كان هذا المشهد الأول مقدّمة لما سوف يتمّ فيما بعد. فالله يقاتل من جهة قوى الفوضى قبل أن يبدأ خلقًا جديدًا، هو خلق شعبه. ومن جهة ثانية، فهو سيتغلّب على وحش النيل. وهكذا نستعدّ نحن قرّاء هذا الخبر، أن ندخل في هذه المسيرة متأكّدين أن الله سوف ينتصر في النهاية.
ب- "ضربات" مصر
إن الحدث المشهور حول "ضربات" مصر (7: 14- 10: 29)، معروف جدًا. فالضربتان الأولى والثانية تصيبان المياه التي تتحوّل إلى دم، ثم تخرج الضفادع. والضربتان الثالثة والرابعة ترويان الخراب الذي تمّ بواسطة الحشرات من بعوض وذباب. والخامسة والسادسة تضربان البهائم بالوباء والقروح. والسابعة والثامنة تضربان النبات بالبرد والجراد. وتتمّ الضربتان الأخيرتان في الظلام حيث يُقتل أبكار المصريين.
نستطيع أن نفسّر هذه الضربات فنلاحظ أنها ليست معجزات بالمعنى الحصري للكلمة، بل ظواهر طبيعيّة معروفة في مصر: تفسير مياه النيل بواسطة الرمل الأحمر أو الحشائش. ثم الجراد والضفادع والذباب، وكسوف الشمس أو ريح الصحراء التي تجعل السماء مظلمة (رياح الخمسين)، والمرض الذي يميت الأطفال العديدين ومنهم بكر الفرعون... ولكن كل هذا لا يتيح لنا أن نفهم النصّ.
لهذا، فبدلاً من أن نتساءل عمّا حدث حقًا، يجب أن نطرح على نفوسنا السؤالين التاليين: "لماذا روى لنا الكاتب هذه القصّة"؟ و"كيف رواها لنا"؟
ما نلاحظه أولاً هو تصاعد في الضربات التي تصيب مصر. كانت الضربة الأولى خفيفة. أما الأخيرة فهائلة. ويتوافق تصاعد قوّة الضربات مع مقاومة الفرعون وعناده. وهكذا يتخبّط سيّد مصر ضد عدوّ يجعله ينحني شيئًا فشيئًا.
والله المحرّر الذي يعمل الآن، يذكّرنا بالله الخالق: فما فعله الخالق في تك 1، ها هو "يدمّره" الآن على حساب مصر. فما عاد الانسان يسود على الحيوان، بل قد اجتاحه كل ما يدبّ على الأرض، وما يتكاثر كالضفادع. المياه العليا تدمّر المصريين بحجارة من البَرَد. والظلمة لم تعد مفصولة عن النور. وهكذا عادت البلاد إلى الخواء والخلاء كما في البدء. ونلاحظ بشكل غابر أن هذه الظواهر لا تحدث حيث يقيم بنو اسرائيل: فإله الكون يلقي بكل ثقله ضد التنين الكبير القائم على شاطئ النيل، من أجل شعبه الذي يقف بعيدًا عن المعركة.
وأخيرًا، نجد قولاً يدهشنا: "ولكن الرب قسّى قلب فرعون، فما سمع لموسى وهارون، كما قال الله لموسى" (خر 9: 12). أكّد كاتب النصّ شيئين. من جهة، أبرز عمل الله الذي يراعي حرّية فرعون، ويكيّف ضرباته ليجعله يبدّل موقفه. ومن جهة ثانية، أعلن أن لا شيء يحصل من دون إرادة الله: إن كانت ردّة الفعل لدى الفرعون هكذا، فهي تدخل أيضًا في تصميم الله السرّي. وهكذا أبرز الكاتب الملهم بطريقته هذا الواقع السرّي: الله حاضر في كل شيء، وهو "يقسّي قلب فرعون" الذي يبقى رغم كل شيء مسؤولاً عن خياراته.
ج- عبوران لله
نتحدّث أولاً عن المحنة الحاسمة وعبور الله في الضربة العاشرة. ثم عن عبور البحر.
* عبور الله العظيم
أعلنت الضربة العاشرة على مصر على أثر سائر الضربات، ولكنها سوف تتحقّق فيما بعد. أمسك الراوي أنفاسه ليقول لنا إن تلك الضربة ستكون هائلة. ولكنه رواها بإيجاز كبير، في آية واحدة: "في نصف الليل ضرب الرب كل بكر في أرض مصر، من بكر فرعون الذي سيجلس على العرش حتى بكر السجين في السجن وبكر البهائم" (12: 29).
هذه المرّة، لم نعد أمام شيء طبيعيّ، بل أمام ظهور الله الحاسم. وقد جعل الراوي عمل الله هذا في إطار مقدّس، هو إطار عيد الفصح، ليشدّد فيما بعد على طابعه الخاص جدًا: جاءت إشارات ليتورجيّة طويلة تسبق الحديث عن عمل الله وتتبعه.
وأخيرًا، أمام هذه الكارثة المأساويّة، تراجع الفرعون وأطلق الشعب (17:13)
* عبور البحر الأحمر
بعد عبور الله على مصر، ها هو عبوره على البحر (17:13-14: 4). إن كانت مصر تمثّل الشرّ وهي تتماهى مع رهب، فالبحر يمثّل أيضًا قوّة الموت والشرّ. نجد في هذه المتتالية ثلاثة أقسام متميّزة: خبر في لغة نثريّة، ونشيدان شعريان، نشيد موسى ونشيد مريم.
حين نقرأ النصّ نرى أننا أمام فنّ أدبيّ خاص، هو الفنّ الملحميّ. كل شيء كبير مدهش وجليل. لهذا، لا نقرأ الخبر كما نقرأ تقريرًا صحافيًا. إن فعلنا كذلك نخطئ خطأ فادحًا.
بدأ الراوي فسمّى الأشخاص الأربعة في الحدث. هناك أوّلاً فرعون. قاوم مدة طويلة. وقد انتهت المقاومة عنده الآن، فتراجع وأطلق الشعب. وهناك ثانيًا الله الذي يقود. وهناك ثالثًا الشعب المنظّم مثل جيش مؤلّف من 600000 رجل أمروا بالسير، ما عدا النساء والأطفال والشيوخ. وهناك أخيرًا موسى في دوره المتواضع، وهو يحمل عظام يوسف.
إن هذه المقدّمة تعرض الوضع عرضًا واضحًا. بدأ الشخصان الاولان (الفرعون والله) القتال من أجل الثالث الذي هو الشعب. ودور موسى في امّحائه يدلّ على أنه ليس الشخص الرئيسيّ. هذا التاريخ ليس تاريخًا بشريًا محضًا. فهو يسير مساره بمبادرة الله وقيادته. غير أن موسى يربط بحركة يده الخروج من مصر بوعد الله للآباء.
الراوي يعرف كل شيء، وهو يدخلنا حتى إلى أفكار الله الذي حاك ستراتجيّته. فالطريق التي تصل توًا إلى كنعان تحمل الخطر الكبير. تحرسها الحصون المصريّة. وقد يقنط الشعب أمام الحروب التي تنتظره. لهذا، اختار الله طريقًا أخرى باتّجاه بحر القصب، وأخذ دفّة القيادة بشكل عمود من غمام في النهار، وعمود من نار في الليل. صورة معبّرة تشير إلى الشمس أو إلى البرق. هكذا أشار الكاتب إلى العليّ وقدرته. وأفهمنا أن الله هو ذاك الذي يختفي ويكشف في الوقت ذاته عن نفسه، في خليقته وفي قدرة خلاصه. وأعلن إيمانه بإله يقودنا في النور والظلام، في السعادة والشقاء. هو حاضر في كل ظروف حياتنا.
* الولادة الجديدة
ولكن أطلّ العدو على طريق النجاة (14: 5- 31): بدّل الفرعون رأيه. وكما قال الله، يئس الشعب وتطلّع إلى مصر: "خير لنا أن نخدم المصريين ولا نموت في الصحراء" (14: 2). عند ذاك تدخّل موسى، لا كذلك القائد الذي يشحذ همّة جيشه قبل المواجهة، بل كالنبيّ الذي يتكلّم باسم الله ويقول للشعب ما يجب عليه أن يعمله. ونداؤه إلى الثبات لا يعني نداء إلى المقاومة، بل ثقة بالله الذي هو المخلّص وحده: "الرب يحارب عنكم. وأنتم تبقون ساكتين".
وما سيحدث الآن هو المعركة الحاسمة التي يقودها الله ضدّ مصر. هي المعركة المؤسّسة (للشعب) التي تذكّرنا بالصفحة الأولى في التوراة حيث يرفرف روح الله على المياه، ويفصل الأرض عن المياه لكي تطلّ الحياة. فالمياه العظيمة هي رمز الشرّ وهي تدلّ على الوحش البحريّ، على الخواء الأوّلاني. وحين لا يمسك الله كل هذا كما برسن، فهو يغطّي الأرض ويغرق سكّانها كما فعل في الطوفان. فالمياه تخفي في حضنها وحوش البحر التي تُغرق السفن.
الرب يسيطر على المياه، فيجندلها ويقطعها إلى اثنين (كما يفعل الفارس مع آخر يبارزه). بهذا العمل، جعل الشعب يلد ولادة جديدة. لقد وصل الآن الشعب إلى الضفّة الأخرى، وهو مدعوّ ليسير بقيادة الله وموسى. نحن هنا أمام ولادة جديدة، أمام معموديّة يوافق عليها الشعب: "خاف الربَّ، جعل ثقته في الربّ وفي موسى عبده" (14: 31). وكانت مصر هي أيضًا في موضعها، في البحر. هي تمثّل عالم الشرّ، وقد عادت إليه. لقد قطع الله (بسيفه) وحش الغمر (المياه الكثيرة)، وطعن (بحربته) تنين مصر، ليفتح طريقًا لشعبه.
* نشيد موسى
جعل الكاتب في فم موسى واحدًا من أجمل الأناشيد التي نقرأها في التوراة (15: 1-18). فالحدث الذي أسّس شعب اسرائيل هو موضوع احتفال شعريّ. ونحن نجد توازيًا بين الجزء الأولى الذي يعظّم قتال الله وانتصاره على قوى الفرعون، وبين الجزء الثاني الذي يصوّر عبور الشعب للبحر كما على اليابسة. من جهة، كان دمار الشرّ. ومن جهة ثانية، كان الخلاص.
غير أن هناك تفاصيل تلفت نظرنا. تحدّث موسى عن الفلسطيين الذين ارتعبوا حين مرّ الشعب. ولكن الفلسطيين ليسوا هنا في زمن الخروج. سيصلون بعد ذلك الوقت بقرن أو قرنين من الزمن. ويتكلّم أيضًا عن الموضع الذي فيه يقيم الربّ، عن معبد أورشليم. ولكن هذا المعبد سيُبنى بعد ثلاثة قرون على الخروج من مصر، أي في القرن العاشر. هذا يعني أن النشيد دوّن بعد موسى بحوالي 300 سنة. عاد الكاتب إلى الماضي، وتذكّر الخروج من مصر، والعبور في البريّة، كما تذكّر المنفى سنة 587 ق م وعبورًا جديدًا للصحراء السوريّ للعودة إلى أورشليم وبناء الهيكل فيها. فالماضي ليس شيئًا ميتًا. يُذكر لكي يضيء على الحاضر. ووُضع هذا النشيد في فم موسى، فبدا تأمّلاً جماعيًا يقوم به شعب اسرائيل كله حول تاريخه وحول عمل الله الخلاصيّ من أجله.
* نشيد مريم
بدا نشيد مريم (15: 25- 21) صغيرًا جدًا، بحيث نكاد ننساه، لأنه استعادة لبداية نشيد موسى. ولكن يبدو أن نشيد مريم أقدم من نشيد موسى، وقد يكون أقدم أناشيد التوراة، والمنطلق لنشيد موسى. "أنشدوا للرب جلّ جلاله! الخيل وفرسانها رماهم في البحر" (15: 21).
لا يذكر هذا النشيد مآثر الله وحروبه. ولا يتحدّث عن جيوش كبيرة دحرها الله. كل ما تقوله النبيّة: "سقط الحصان وفارسه". ثم جاء نشيد موسى فضخمّ الأمور إلى أقصى حدود التضخيم. إذا كانت هذه الفرضيّة صحيحة، نستطيع القول إن بني اسرائيل خرجوا جماعة من مصر. قد نكون أمام مبارزة، أو سقوط الفارس وحصانه في البحر. فرأى الشعب في هذا الحدث ظهورًا للرب إلههم: لقد جاء الله من أجل خلاص شعبه. فأخذت مريم دفًا وبدأت ترقص مع رفيقاتها. وهكذا كان أول احتفال عباديّ، وأول نشيد أنشد إكرامًا لله المخلّص.
ما احتلّت مريم مكانًا واسعًا في الخبر. هذا لا يعني أنها لم تلعب دورًا مهمًا. فالنبيّ ميخا سوف يضمّها إلى أخويها في قيادة الشعب فيقول: "ماذا فعلتُ بك يا شعبي؟ هل كنت عالة عليكم؟ أجيبوا. أصعدتكم من أرض مصر. من دار العبوديّة افتديتكم. أرسلت أمامكم موسى وهارون ومريم" (6: 3- 4).

خاتمة
تلك كانت محطة أولى بدرفتين في تقديم "سيرة موسى". في الدرفة الأولى، ولادته وشبابه ودعوته. وفي الثانية، الخروج من مصر وتحرير الشعب. ودور موسى كبير جدًا، وهو يحمل إلى الشعب كلام الرب وأوامره. لاشكّ في أن الله هو الفاعل الأول في هذه المسيرة الخلاصيّة. ولكنّه يفعل بيد موسى، بعصا موسى. يتكلّم بفم موسى. يتحرّك بواسطة موسى. وفي هذا العمل الخلاصيّ، سيكون موسى صورة مسبقة عن يسوع الذي سيعيش مغامرة شعبه من ذهاب إلى مصر وعودة من هناك، بانتظار انتقاله إلى الآب في عمل خلاصيّ شامل يُتمّه على الصليب.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM