الفصل الرابع والعشرون: الغريب في التقليد الكتابي

الفصل الرابع والعشرون
الغريب في التقليد الكتابي

يعلن أحد البنود القديمة في الشريعة: "لا تضايق الغريب. أنتم تعلمون ما يشعر به الغريب، فإنّكم كنتم غرباء في أرض مصر" (خر 9:23). هذا منطق بعيد عن الطبيعة البشريّة، لأنّ ردة الفعل الطوعيّة عند شعب عرف الضيق، هي أن يثأر من الضحايا التي تصل اليها يده. إذن، ما الذي جعل التوراة تهتمّ بالوضع الصعب الذي يعرفه الغريب؟ كرازة الأنبياء وخبرة حياتهم مع الله.

1- شعب من الغرباء
نلاحظ أنّ وضع الغريب يعود إلى الخبرات الأساسيّة التي عرفها الشعب: قال الله لابراهيم: "أترك أرضك وأهلك وبيت أبيك إلى الأرض التي أدلّك عليها" (تك 12: 1). حين قال الله له هذا الكلام جعله انسانًا بلا وطن دون أن يجعله يستشفّ، يرى من بعيد، الأرض التي سيقيم فيها. لاشكّ في أنّ ابراهيم ينتمي إلى احدى هذه القبائل الرحّل الذين يقودون قطعانهم في الأطراف التي تفصل المناطق المروية والمزروعة عن المناطق الصحراوية في سورية والجزيرة العربية. إذن، لم يكن لابراهيم أن يبدّل حياته. ولكن يبقى أن عليه أن يترك منطقة تربطه بها رباطات وعادات. وأخبار سفر التكوين تعرف وقائع يبدو فيها الآباء ابراهيم واسحاق ويعقوب، كغرباء يخضعون لارادة السكان ورؤسائهم المقيمين في البلاد.
وإليك واقعة نموذجيّة: حين تفاوض ابراهيم مع عفرون الحثي ليحصل في حبرون على موضع يدفن فيه سارة امرأته، قال: "أنا غريب أقيم فيما بينكم. أعطوني ملك قبر عندكم فأدفن ميتي فيه" (تك 23: 4). ودفع ابراهيم أربع مئة مثقال ثمن مدفن له ولأبنائه. هل سيثبت ابراهيم في هذا المكان؟ كلا. بل سيترك هو ونسله هذه المراعي التي اعتادوا إليه، بسبب الجوع، وسينزلون إلى مصر تلك الأرض الغنيّة والدولة القويّة ذات الحضارة المشرقة. ولكن العبرانيين لن يحسّوا يومًا أنهم منها، فلهذا سيطلبون الخروج منها. وكان الرب قد أعلن لابراهيم بعد أن اختبر الاقامة في مصر قبل أن يخرج منها مذلولاً (تك 12: 20): "إعلم يقينا أن نسلك سيكونون غرباء في أرض ليست لهم. هناك يستعبدونهم ويذلّونهم أربع مئة سنة" (تك 15: 13).
ولن ينسى الشعب العبراني يومًا سنوات العبوديّة في مصر "بيت الاستعباد والتنّور المهيّأ للحديد". وسيبقى المصريون أجيالاً وأجيالاً رمز الظلم والضيق. ونلاحظ في قلب الشريعة وصيّة تتكرّر أربع مرّات بصورة احتفاليّة: "لا تظلم الغريب ولا تضايقه، فإنكم كنتم غرباء في أرض مصر" (خر 20:22، 23: 9). ونقرأ في لا 19: 33-34: "وإذا نزل عليكم غريب في أرضكم، فلا تظلموه. وليكن عندكم الغريب المقيم فيما بينكم كابن بلدكم، تحبّه حبك لنفسك. تذكّروا أنّكم كنتم غرباء في أرض مصر: أنا الرب إلهكم آمركم بهذا". ويقدّم لنا تث 18:10-19 مثال الله في تصرّفه مع الغرباء، ويدعو المؤمنين إلى التشبه به: "الله ينصف اليتيم والأرملة ويحب الغريب النازل بينكم، فيعطيه قوتًا وكسوة. إذن أحبّوا الغرباء الذين بينكم، فإنّكم كنتم غرباء في أرض مصر".
الغريب يعيش خارج أسرته وخارج قبيلته، وهو بالتالي يحتاج إلى حماية الفرد أو الجماعة. لا أرض له يقيم بها، ولا شريعة تحميه إلاّ شريعة الجيرة والضيافة. فأحبَّه أيّها المؤمن، ولا تستغلَّه ولا تحرمه أجرًا يستحقّه.
هذا التشديد يدعونا إلى التفكير في تصرفاتنا. لا يكتفي المؤمن بأن يكرّر وصيّة لا يمارسها الانسان بسهولة، بل يؤسّسها على خبرة حيّة ومؤلمة، يؤسّسها على تصرّف الله نفسه الذي يهتمّ بالغريب كما يهتمّ باليتيم والأرملة.
حين يتذكّر العبرانيون مصر، يتذكّرون من جهة زمن شقاء عميق وضيق قاس. ومن جهة ثانية عمل الله العجيب الذي جاء ليحرّر شعبه. وتأتي الشريعة فتدمج هذين التذكّرين في تعبير واحد: تألمتم كثيرًا، ولكنّكم رأيتم الله الآتي ليحرّركم. فكونوا الآن شعب الله الذي يحمل الخلاص. نحن هنا أمام مثَل تقدّمه التوراة عن التقابل بين اختبار الله الذي ما زال حيًا، وبين شعور حقيقيّ تجاه الانسان وألمه.
ولقد احتفظ الشعب العبراني بوعي لجذوره على مر الأجيال. هذا ما يقوله نص ليتورجي قديم يرافق تقديم البواكير (أول ثمار الأرض والحيوان)، نص هو شهادة إيمان: "كان أبي أراميًا تائهًا، فنزل إلى مصر... فأساء إلينا المصريون وأذلّونا وفرضوا علينا الأعمال الشاقة... فسمع الرب صوتنا ورأى شقاءنا... وأخرجنا من مصر وأعطانا هذه الأرض". ويتابع المؤمن الحامل التقدمة صلاته: "والآن، هاءنذا آت ببواكير ثمار الأرض التي أعطيتني إياها يا رب" (تث 5:26-10).
ويتابع كتيّب العيد تعليماته: "بعد هذا، تضعها (التقدمة) أمام الرب إلهك. وتفرح بكل الخيرات التي أعطاك الرب إلهك لك ولبيتك". تفرح أنت واللاوي الذي لا يملك شيئًا بعد أن جعل الربَّ قسمته وميراثه. تفرح أنت والغريب الذي يقيم بينكم (تث 26: 11).
إنطلق المؤمن مع ابراهيم من موطنه الارامي، فأقام على أرض أعطاه الله إياها. فعليه أن يجعل الغريب يفرح معه بالفرح الذي يعطيه الله اياه.


2- تشريع من أجل الغريب
إن الاحساس بوضع الغريب وشقائه موضوع هام في كرازة الأنبياء. ونحن نجده متواترًا عند إرميا في كلام معبّر: الغريب واليتيم والأرملة. قال الرب: "ان لم تظلموا الغريب واليتيم والأرملة، فأنا..." (إر 7: 6). وقال أيضًا: "أحكموا بالعدل، أنقذوا من المستغلين هؤلاء الذين يسلبونهم. لا تستفيدوا من ضعف الغريب واليتيم والأرملة (لا تتحاملوا عليهم) لتأخذوا منهم ما يملكون" (إر 3:22).
ويطلب سفر التثنية من المؤمن أن يجعل عشر غلَّته بتصرّف اللاوي "الذي ليس له نصيب وميراث معك"، وبتصرّف الغريب واليتيم والأرملة، فيأكلون ويشربون. إن فعلت هذا، باركك الله في كل ما تقوم به من عمل (تث 28:14-29).
ويتابع سفر التثنية: "إذا حصدت حصادك في حقلك، فنسيت حزمة في الحقل، فلا ترجع لتأخذها: أتركها للغريب واليتيم والأرملة. إن فعلت هذا باركك الله في كل ما تقوم به من عمل. وإذا خبطت (فرطت) زيتونك، فلا تراجع (ترجع وتلتقط) ما بقي في الأغصان: أتركها للغريب واليتيم والأرملة" (تث 19:24-21).
إنّ سفر التثنية يتجاوز هذه الاجراءات الإداريّة، ويهتمّ بادخال الغريب في قلب شعب الله، يهتم باشراكه في إيمانه وفي التعبير عن هذا الايمان عبر شعائر العبادة.
نجد في أساس هذا الاجراء تأكيدًا ينبع من الايمان: "الله يحبّ الغريب" (تث 10: 18). فاذا أردنا أن نفهم أهميّة هذا القول ووزنه، نتذكّر أنّ التاريخ العبراني وُلد في حب الله لشعب اختاره. قال موسى: "أنما الله آباءك واختار نسلهم من بعدهم، وأخرجك من مصر، فدل على حضوره بقدرته العظيمة" (تث 4: 37). وقال أيضًا: "تعلّق الرب بكم واختاركم، لأنّه أحبّكم وأراد المحافظة على القسَم الذي أقسمه لآبائكم" (تث 7: 7-8).
الله يحب أبناء شعبه. ولكنّه يحب أيضًا الغريب المقيم وسط هذا الشعب. إذن، على العبرانيين أيضًا أن "يحبّوا الغريب" (تث 10: 19).
وندلّ على هذا الحب بممارسات عملية: سخاء اعتدنا عليه تجاه اليتيم والأرملة، يمنعنا من أن نأخذ ثوب الغريب رهنًا: "لا تحرّف حق الغريب واليتيم، ولا تأخذ ثوب الأرملة رهنًا" (تث 24: 17). وأترك لهم ما بقي من قمح في حقل حصَدته، ومن عنب في كرم قطفته (تث 24: 19-22). واجعل الغريب يشاركك في ثمر أرضك، وفي فرحك حين تحتفل بأعياد ربّك.
وحين جاءت أيام التهجير والمنفى، اكتشف الشعب العبراني أبعاد العالم والعدد الكبير من الغرباء، فما عاد يستطيع أن يرذلهم من أفقه وتطلّعاته. فالصلاة الكبيرة التي بها كرّس سليمان الملك الهيكل الذي بناه لله، هذه الصلاة التي دُوّنت بصيغتها النهائيّة في وقت متأخّر، لم تنسَ الغريب، بل تركت له مكانًا في وسط شعب الله: "وكذلك الغريب الذي ليس من شعبك، والآتي من أرض بعيدة من أجل اسمك... حين يأتي ويصلي في هذا الهيكل، فاسمع أنت من السماء حيث تقيم، واستجب طلبات الغريب ليعرف (ويعترف) جميع شعوب الأرض اسمك ويتّقوك مثل شعبك" (1 مل 8: 41-43).
تعبرّ التوراة هنا عن شموليّة حقيقيّة، سنرى مثلها حين يشفي اليشاع النبي نعمان، رئيس الجيش الأرامي (2 مل 5: 1-19). وحين يتوجّه يونان ليدعو مدينة نينوى إلى التوبة. وحين تصبح راعوت، الموآبية الغريبة، جدَّة الملك داود ومثال المرأة الأمينة.
ولقد قال أش 56: 6-7: "وبنو الغرباء الذين ينضمّون إلى الرب ليخدموه ويحبوه ويتعبّدوا له، كل من حافظ على السبت ولم ينتهكه وتمسّك بعهدي، آتي بهم إلي جبلي المقدّس وأفرّحهم في بيت صلاتي، وتكون محرقاتهم وذبائحهم مرضيّة على مذبحي، لأن بيتي يدعى بيت صلاة لجميع الشعوب".
يتحدّث النصّ هنا عن الغرباء المجهولين، الغرباء العابرين، لا أولئك المقيمين وسط شعب الله. هؤلاء يتجنّبهم الناس (أش 43: 12؛ 61: 5) ولا يسمحون لهم بأن يتنعَّموا بأي حق من الحقوق. كانوا يُمنعون من المشاركة في شعائر العبادة (خر 43:12)، ويُحرمون من عدة منافع. بل كانوا يُحتقرون: لا تأكل شيئًا من الجيف وإنما تعطيها للغريب الذي في مدنك (تث 14: 21). ولا يُعاملون كما يعامل القريب وابن القبيلة: "لا تطالب قريبك في سنة الإبراء أو الاعفاء من الديون في السنة السابعة. أما الغريب، فطالبه" (تث 15: 5). "لا تقرض أخاك بفائدة، أما الغريب فاقرضه بفائدة" (تث 23: 21). وسيذهب حزقيال بعيدًا في هذا التمييز فيمنع الغرباء من الدخول إلى الهيكل: "لا يدخل معبدي أي غريب (غير مختون)، لا يدخله غريب يقيم وسط شعبي" (حز 9:44).
تلك كانت ردّة فعل ضيقة، ذلك كان تصرّف الخائفين. أما نصّ أشعيا الذي قرأناه فقد فتح باب بيت الله أمام جميع الشعوب. وقد قال النبيّ زكريا (8: 20-22) في هذا المعنى: ستأتي شعوب أيضًا، سيأتي سكان مدن كبيرة، ويسير سكان الواحدة إلى الأخرى قائلين: "لنذهب لاسترضاء الرب، والتماس الرب القدير". فيجيبونهم: "ونحن أيضًا نذهب". وهكذا تأتي شعوب كثيرة وأمم قوية، تأتي إلى أورشليم لالتماس الرب القدير واسترضائه.
لا نجد مركزًا تتجمّع فيه الشعوب إلاّ أورشليم، ولا مكانًا يكون فيه الله حاضرًا إلاّ الهيكل. ولكن أورشليم لا ترفض أحدًا، والهيكل يجمع كل شعوب الأرض. وفي أسلوب مختلف يصوّر حزقيال الأرض الجديدة المعدّة للقبائل الاثنتي عشرة، ويعطي الغرباء موضعًا في أرض الرب فيقول: "تقسمون الأرض لكم وللغرباء الذين يقيمون في وسطكم، والذين ولدوا بنين فيما بينكم، فتعاملونهم كابن البلد" (حز 47: 22). لاشكّ في أننا أمام رؤية لا أمام تصوير واقع، ولكن هذه الرؤية اتّخذت شكل شريعة، اتّخذت سلطة كلام الله.
3- آلهة غريبة، نساء غريبات
ولكن الواقع لم يتجاوب دومًا مع الأحلام. ولهذا سنجد عددًا من النصوص تعبّر عن التخوّف من الغرباء. هذا هو الوجه البشري الذي نكتشفه في التوراة، والذي لابدّ له أن يستنير بنداء الله كما أطلقه الأنبياء. هذا هو نقص العهد القديم، ونقصنا نحن أيضًا. الذي سيكمّله العهد الجديد فيقول لنا: لم يعد هناك بعيد ولا غريب، بل صرنا كلّنا قريبين بدم المسيح. هدم يسوع الحاجز الذي يفصل بين شعب وشعب، فصرنا كلّنا أبناء وطن القديسين ومن أهل بيت الله (أف 2: 12-19).
عاش الشعب العبراني وسط شعوب أخرى، تارة في علاقات سلام، وطورًا في علاقات متوتّرة. والغريب الذي يستقبلونه ويساعدونه هو أسر أو مجموعات صغير من المهاجرين الفقراء الذين جاؤوا يطلبون ملجأ وقوتًا. هذا الغريب لا يخاف منه المؤمن، بل يعامله كأهل البلد.
ولكن هناك غريبًا من نوع آخر، هو جموع تحافظ على ممارستها الدينيّة، وبالتالي تؤثّر على نقاوة إيمان شعب الله. تشكّل خطرًا على شعب الله. لقد عرف العبرانيون هذه التجربة وهذا التهديد، وهذا ما نكتشفه في الأسفار المقدّسة. مثلاً يتحدّث سفر القضاة (2:14؛ 5:16، 18) عن "بنات الفلسطيين" (جماعة جاءت من الجزر اليونانية وأقامت في خمس مدن على شاطئ ما يسمّى اليوم فلسطين) اللواتي ملن بقلب سليمان نحو آلهة أخرى، نحو آلهة غريبة (1مل 11: 1-4؛ 2 مل 17: 35-38). فلن ندهش بعد ذلك إن رأينا حركة اصلاح ديني يلهمها الأنبياء، ويعبّر عنها سفر التثنية. هذا الاصلاح حرّم الزواج بين العبرانيين والغرباء: "لا تصاهر أحدًا من الحثيين والجرجاشيين... لا تعط ابنتك لابنه، ولا تأخذ ابنته لابنك، لأنه يبعد ابنك عن السير ورائي (وراء موسى وشريعة الله، وبالتالي الله) فيعبد آلهة أخرى" (تث 3:7-4).
وعلى أساس سفر التثنية تصرّف عزرا الكاهن بعد العودة من المنفى حوالي سنة 400 ق م. قال أحد الشيوخ: "خالفنا إلهنا وأخذنا نساء غريبات. لنقطع الآن عهدًا على تسريح جميع النساء وأولادهنّ" (عز 10: 2-3). كان إجراء قاس ولا انساني تصرّفت به الجماعة الخائفة على دينها ولغتها وعوائدها. ولهذا كُتب سفر راعوت وحدّثنا عن تلك المرأة الغريبة التي رفعت اسم الملوك في شعب الله.
وجاء المنفى سنة 587 ق م، فقلب الأمور رأسًا على عقب بصورة مأساويّة: هُجِّر العبرانيون فصاروا غرباء. قال مز 137: 4: "كيف ننشد نشيد الرب ونحن في أرض غريبة"؟ وبا 3: 10: "لماذا يا شعبي، تشيخ في أرض الغربة".
وتتشعّب ردّات الفعل. تارة يثير مشهد الأوثان والآلهة الغريبة القرف والازدراء، وطورًا تبرز الاتصالات المتعدّدة مع عالم موسع، عالم العظمة الفريدة التي يتمتع بها الله الواحد كما يبرز إيمانًا نقّته المحنة فانتظر تجديدًا وإعادة بناء سيشارك فيه "بنو الغرباء". قال أش 60: 10: "يا أورشليم، بنو الغرباء يبنون أسوارك". يتكرّس الشعب لخدمة الرب. ويكون الغرباء الحراثين والكرامين (أش 61: 5).
ولكن الواقع اليومي لم يتجاوب دومًا مع هذه الآمال. فالعائدون من المنفى عادوا وسقطوا في التجارب القديمة. وجدوا شعبًا هو مزيج من شعوب وثنية، فعادت بهم الزوجات الوثنيات إلى عبادة الأوثان. ولهذا تدخل عزرا ونحميا والشيوخ فأعلنوا الشريعة والغوا الزواجات مع النساء الغريبات. واجهت اليهوديّة عالمًا يتحدّاها، فانعزلت على ذاتها لتدافع عن هويتها. وستبقى ممهورة بهذين الميلين العميقين: من جهة، الحاجة بأن يؤكّد الشعب، بكل أعماله، انتماءه إلى الله الواحد. ومن جهة ثانية، النداء بأن يتلاقى والبشريّة جمعاء في نشاطاتها الحيّة. ماذا سيختار؟ الانفلات أم الانفتاح؟

4- جدَّات يسوع الغريبات
تتضمّن بداية انجيل متى سلسلة نسب المسيح وفيها بالاضافة إلى مريم أربعة أسماء نساء: تامار، راحاب، راعوت، امرأة أوريا (مت 1: 3-6). كانت راحاب من أريحا وراعوت من موآب، وكانتا امرأتين وثنيتين وبالتالي غريبتين عن شعب الله. وكانت تامار، كنّة يهوذا، وثنيّة هي أيضًا. كان موطنها عدلاّم فلم تكن من قبيلة الآباء (تك 38: 1-14). والرابعة التي نجهل مولدها، تزوجت أوريا الحثي. السمة المشتركة بين هذه النساء الأربع هي أنهن كنّ غريبات. وفي لائحة أجداد المسيح هذه، لا يذكر الانجيل إلاّ اسمهنّ وما عملن في حياتهنّ. لماذا؟ لأنّ الأسفار المقدّسة احتفظت عنهنّ وعن أمومتهنّ ذكرًا حيًا وأخبارًا أثَّرت في شعب الله. ولكن ما الذي حدا بالتقليد الكتابي فاحتفظ بهذه النسوة في ذاكرته؟ الأمر واضح عند راحاب وراعوت، ويعبّر عنه النصّ بوضوح: أرادتا أن تربطا مصيرهما بمصير شعب الله. وإذا كانت تامار قد أرادت أن يكون لها ولد من نسل حميها يهوذا، فلأنّها آمنت بالمواعيد المعطاة للآباء (تك 38: 1-27).
لبست تامار ثوب الزانية وتصرّفت تصرّفاتها. أما راحاب فهي زانية معروفة في أريحا، وإن مبادرتها تدلّ على لباقتها في محيط تعيش فيه (يش 2: 1-24). ولكن الخبر البيبلي الذي يتوسّع مرتاحًا في حيلها، يُبرز الدافع الذي يجعل راحاب تقوم بهذه المغامرة: إنه ايمانها. إيمان حقيقي يجعلها تدرك من خلال الوقائع يد الله وتعترف أن "يهوه إلهكم هو إله في السماء من فوق وعلى الأرض من أسفل" (يش 2: 11). وحين يقول سفر يشوع إن بيت راحاب ظلّ في شعب الله إلى اليوم (يش 6: 25)، فهو يريد أن يبيّن فكرة هامّة: إذا كان لهذه الغريبة مكان في شعب الله، فلأنّها آمنت. وهذا ما تقوله الرسالة إلى العبرانيين مسجِّلة في لائحة المؤمنين العظام "راحاب الزانية" (عب 11: 31).
أما راعوت فلا نجدها في لائحة الرسالة إلى العبرانيين. ولكن التقليد لم ينسها، وهو الذي كرَّس سفرًا كاملاً ليروي خبرها. خبر كله حنان وعاطفة. خبر فيه يتبارى الأشخاص (نعمى، بوعز، راعوت) في الاستقامة والسخاء. ولكن بطلة الخبر هي غريبة، هي "راعوت الموآبية" كما يسميها النص مرارًا (را 1: 22؛ 3: 2- 21؛ 4: 5-10) على خطى الرواة الذين رووا الخبر. فهذه الموآبية تعلّقت بإله نعمى عبر حماتها التي أحبَّتها. قالت نعمى لكنتها: "عودي إلى شعبك وإلهك". فما أرادت راعوت، بل قالت لحماتها: "حيث تذهبين أذهب وحيث تقيمين أقيم. شعبك يكون شعبي وإلهك الهي" (را 1: 15-16). هذه هي كلمات العهد، وهذه هي عباراته الاحتفاليّة: "أكون إلهكم وتكونون شعبي" (خر 19: 5؛ تث 26: 17-18؛ إر 31: 31-33؛ 32: 38). إن أمانة راعوت لنعمى ولعائلتها جعلتها تدخل في قلب إيمان شعب الله. والله من جهته سيتجاوب مع هذا السخاء، فيعطي راعوت الموآبية أن تكون جدّة داود الذي سيكون جدَّ المسيح.
وحين هتف أهل بيت لحم لراعوت ساعة اتّخذها بوعز زوجة له أمامهم، لم يكونوا يعرفون بعد مجدها المقبل. ولكن يمكننا أن نتساءل: حين أشار كاتب الخبر إلى تامار، جدّة بوعز، قرّب بين هاتين المرأتين اللتين انضمتا في إيمانهما إلى مصير شعب الله. قال الحاضرون لبوعز: "ليكن بيتك مثل بيت فارص (جدك) الذي ولدته تامار ليهوذا، بفضل النسل الذي يرزقك الرب من هزه المرأة (راعوت)" (را 4: 12).
وهكذا فهذه النسوة الأربع اللواتي سجّلهن الانجيلي في سلسلة نسب المسيح، لم يعدن غريبات. ولكن بفضل عناد إيمانهنّ، وهو إيمان كان واحدًا في أساسه ومتنوِّعًا في تعابيره، بفضل هذا الايمان، وجدن مكانهنّ في قلب شعب الله. والعبرة الكبرى في هذه الاحداث ليست شجاعة هذه النسوة وحسب، بل قوّة الايمان الذي دخل في حياتهنّ فحرّكهن. إنه إيمان الآباء عينه الذي قاد تامار إلى يهوذا فأعلن مُقرًا بخطأه: "إنها أبرُّ مني، إنّها أقرب إلى إرادة الله مني" (تك 38: 26). فكأنه يقول بلسان القديس بولس: "إنّها أكثر إيمانًا مني". فالايمان بإله موسى أملى على راحاب الموقف الذي اتّخذته. وقد اعتنقت راعوت إيمان نعمى حين ظلّت مرتبطة بحماتها فلم تنصرف عنها. فالإيمان يستطيع أن يدركنا رجالاً ونساء، والنص لا يذكر هنا إلاّ النساء، يدرك الغرباء فيجعلهم يسيرون في طريق توصلهم إلى الله وتضمّهم إلى شعبه.

5- الغريب في الانجيل
أ- فهم ناقص
إذا توقّفنا عند الظواهر، شعرنا أنّ الغريب لا يمثّل في الانجيل إلاّ حيِّزًا محدودًا. فالنصّ لا يتحدّث عنه، بل نظن وكأنّ يسوع لا يهتمّ به. فحين خرج الرب من فلسطين بدا وكأنّه ينقطع عن الرسالة، وكأنّه توقّف عند حدود شعبه. جاءت إليه امرأة فينيقيّة تتوسّل إليه لكي يشفي ابنتها، فأجابها بقساوة وكأنّ الأمر لا يعنيه: "لم أرسل إلاّ إلى الخراف الضالة من بيت اسرائيل" (مت 15: 24). ويرسم خطًا يسلكه تلاميذه الذاهبون إلى الرسالة: "لا تسلكوا طريقًا إلى الوثنيين، ولا تدخلوا مدينة للسامريين، بل اذهبوا نحو الخراف الضالّة من آل اسرائيل" (مت 10: 5-6). قد نندهش من هذه القيود البعيدة كل البعد عن الأفق الشامل الذي سيكون طابع الرسالة المسيحيّة منذ بدايتها: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (مت 29: 19). "إذهبوا إلى الأرض كلّها، وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين" (مر 16: 15). "يدعى باسم المسيح في جميع الأمم إلى التوبة لغفران الخطايا" (لو 24: 47).
كيف نفسّر هذا الواقع؟ هناك أسباب عديدة وأولها الرسالة التي اهتمّ بها يسوع: "بيت اسرائيل" و"الخراف الضالة". هذه الرسالة مطبوعة بطابع الشمول: عليها أن "تجمع" شعبًا مشتّتًا فتعيده إلى وحدته وتذكّره بدعوته. عمل يسوعُ كالأنبياء الذين قبله، ولكن بقوة لا مثيل لها وبحماس فريد: وجّه نظره إلى شعبه، إلى المصير الذي يدعوه الله إليه. فتركّز قلبه البشري عند هذا الأمر، بل تركّزت انسانيته كابن شعبه ورسالته الالهيّة كابن الله.
أراد يسوع أن يجمع شعبه في طريق الانجيل ليكون شاهدًا لله حتى أقاصي الأرض. ولكن القلّة لبّت هذا النداء، ولكن البقيّة الباقية آمنت، أما الآخرون فظلّوا خارج الملكوت، وقد قال لهم يسوع: "الويل لكم أيّها الكتبة والفريسيون المراؤون، تغلقون ملكوت السماوات في وجوه الناس، فلا أنتم تدخلون، ولا الذين يريدون الدخول تدَعونهم يدخلون" (مت 23: 12).
بعد هذا، أين صار الغريب؟ هل نظنّ أن يسوع اهتمّ بشعبه إلى حدّ نسي معه الغريب؟ هل يصح القول بأن الغريب يحتلّ حيِّزًا ضئيلاً في تعليم الأناجيل؟ نحن لا نجد في أقوال يسوع ما يقابل أوامر واضحة أوردتها الشريعة: "لا تظلم الغريب". فهل صارت هذه الوصيّة عديمة الجدوى؟ هل وجد الغريب مكانه في العالم اليهودي في زمان يسوع؟ لا وألف لا. فمن منا لا يتذكر ردّة الفعل التي يشارك فيها اليهود تجاه السامريين، هؤلاء المنشقّين والمبتعدين عن إيمان الآباء وعن الهيكل، وتجاه العشّارين الذين يجمعون الضرائب ويؤدّونها للحاكم الأجنبي؟
إذا أردنا أن نتجنّب فهمًا خاطئًا للانجيل، نتذكّر أنّ يسوع لم يأت ليحلّ محل الشريعة، ولا ليبدّل وصايا قديمة بفرائض جديدة. قال: "ما جئت لأحلّ، لألغي، بل لأكمّل" (مت 5: 17). هو يكمّل، لا حين يزيد بنودًا جديدة، ولكن حين يذهب إلى نهاية ما تطلبه مشيئة الله، حين يعطي الوصايا كل أبعادها. وفيما يخصّ الغريب، لا يقدّم الانجيل أوامر جديدة. فالأوامر القديمة واسعة بما فيه الكفاية وواضحة لترسم خطًا يسير عليه شعب الله الجديد.
هنا تبدو العودة إلى العهد القديم ضرورية للمسيحي. فالانجيل المركَّز على يسوع المسيح لا يعطينا الأجوبة على مختلف الحالات التي يعرفها البشر. فالعهد القديم يساعدنا على اكتشاف البشريّة في وضعها المتعدّد، ويذكرنا ما ينتظره الله منها ومنا. فالمسيحيون الذين تُسوِّل لهم نفوسهم بأن ينسوا من هو الغريب، تذكرهم التوراة بابراهيم ويوسف، بطوبيا ودانيال. ويذكّرنا الانجيل بهرب يوسف إلى مصر وهو يحمل مسؤولية مريم ويسوع.
ب- أما يوجد إلاّ هذا الغريب
إذا كان يسوع لم يزد شيئًا على تعاليم الشريعة عن الغرباء، إذا كان يسوع لم يتجاوز حدود اسرائيل ليبشّر بالانجيل، إلاّ أن الغرباء جاؤوا إليه أكثر من مرّة. فالعشّارون الذين يستقبلهم بكل محبّته هم يهود أخذوا بالروح الوثنيّة فبانوا وكأنّهم غرباء وسط شعبهم. وجاء إليه السامريون، أو بالأحرى، هو دخل قرية للسامريين الذين تمنّوا أن يبقى عندهم (لو 9: 52-53). كما التقى تلك السامرية عند بئر يعقوب وأعلن لها عن اسمه. تحدّثت عن المسيح، فقال لها يسوع: "أنا هو، أنا الذي يكلمك" (يو 4: 25-6).
سيسمع له السامريون ويقولون: "علمنا أنه مخلّص العالم حقًا" (يو 4: 42). السامري هو أفضل من الكاهن واللاوي اللذين رأيا الجريح على الطريق ومضيا دون أن يمدّا له يد المساعدة (لو 10: 25-37). وحين يشفي يسوع البرص العشرة لن يجد إلاّ السامري الذي عاد يمجّد الله ويشكر ليسوع فعله (لو 17: 11-19).
ويتابع يسوع كلامه: "أما كان فيهم (البرص العشرة) من يرجع ويمجّد الله سوى هذا الغريب" (لو 17: 18)؟ مديح لسامري، بل لشخص غريب! ولن يكون المديح الوحيد للوثنيين، للغرباء عن شعب الله.
سيتعجّب يسوع من إيمان الضابط الروماني فيعلن للذين يتبعونه: "الحق أقول لكم. لم أجد مثل هذا الايمان في أحد من اسرائيل. أقول لكم: سوف يأتي كثيرون من الشرق والغرب، فيجالسون ابراهيم واسحاق ويعقوب على المائدة في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيلقون في الظلمة البرانيّة" (مت 8: 10-12). لقد انقلب الوضع. من حسب نفسه ابن البيت صار في الخارج، ومن حُسب غريبًا صار قريبًا. ونقول الشيء عينه عن المرأة الفينيقيّة. أعلن لها يسوع: "ما أعظم إيمانك أيّتها المرأة! فليكن لك ما تريدين" (مت 28:15). أجل، إن هذه الغريبة فرضت نفسها فلم تعد غريبة. أجل، ذاك السامري الغريب، ذاك الضابط الروماني، وتلك المرأة التي شفيت ابنتها، صاروا من أهل البيت، ولهم مكانهم في وليمة الملكوت "مع ابراهيم واسحاق ويعقوب" (مت 8: 11). ولا ننسى الابن الأصغر في مثَل الابن الشاطر: كان الغريبَ فصار له مكان الصدارة وذُبح له العجل المسمّن.
لا نستطيع أن نتكلّم هنا عن معاملة خاصّة يحظى بها هؤلاء، ولا عن سخاء إلهي يجازي موقفًا غير عادي. فإيمان الضابط هو بالضبط ما ينتظره يسوع من معاصريه، وهو ما ينتظره من شعبه. ولكن الوثنيين صاروا من أهل البيت بعد أن أعطاهم الايمان حقًا مكتسبًا.
في هذا الشعب حيث أتمّ الله أخيرًا مخطّطًا يلاحقه منذ خلق العالم، لم يعد موضوع الغريب يطرح: "لا يهودي ولا يوناني، لا عبد ولا حر، لا رجل ولا امرأة، لأنّكم واحد في يسوع المسيح" (غل 28:3). "كنتم فيما مضى غرباء وأعداء بأفكاركم وأعمالكم السيّئة" (كو 1: 21). أما اليوم "فلم تعودوا غرباء... أنتم من بيت الله" (أف 2: 19). "الآن قد أزال المسيح بجسده العداوة. جعل من الشعبين واحدًا، ودمّر الحاجز الذي يفصل بينهما" (أف 2: 14).
هذا الشعب ليس واقعًا مثاليًا وحلمًا من نتاج المخيلة. إن له وجودًا ملموسًا. إنه الكنيسة. ولكن بشرط أن نعطيها كل أبعادها، أبعاد شعب الله: ولد مع دعوة ابراهيم الذي فيه يكون كل المؤمنين إخوة. فما دام هذا العالم قائمًا فشعب الله لا يتطابق بعدُ مطابقة تامة مع تجمّع كل البشر، وستظل الشعوب المختلفة قائمة إذ يحتفظ كل واحد منّا بشخصيته وحدودها. إذن، سيبقى هناك غرباء. سيبقى أشخاص مختلفون يتكلّمون لغات أخرى ويتغذّون بحضارات غير حضاراتنا. وسيكون دومًا للكنيسة وصايا تحفظها هي التي أعطاها الله لشعبه في القديم.
ج- كنت غريبًا
إن مثَل "الدينونة الأخيرة" الذي هو آخر تعاليم يسوع في انجيل متّى (25: 31-46) يفترض حتى نهاية الأزمنة حدودًا بين الشعوب. هذه الحدود هي في الوقت عينه فُرص نتمسّك بها وحواجز نتجاوزها. إنها كالاختلافات بين الأغنياء والفقراء، بين أناس في السجن وأناس يتمتّعون بحريّتهم. ولكن الانجيل يذهب هنا أبعد من الشريعة. إنه لا يفرض أكثر من الشريعة لأنه لا يفرض وصايا جديدة. ولكن ما يكشفه سيبدّل نظرة المؤمن ويدعوه إلى أن يحيا بحسب الانجيل.
قال يسوع: "كنت غريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني... كلما صنعتم شيئًا من ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار فلي صنعتموه". فالمسيح حاضر هنا في الغريب كما في البائس والسجين والجائع والعطشان. هو الذي يتألّم، هو الذي ينتظر. هو الذي يتوسّل. حين كان العبراني يقف أمام الغريب، كان عليه أن يتذكّر أيام الشقاء فيفتح قلبه على الحنان والشفقة. فكان بذلك يتجاوز الحدود ويولد اختبارًا مشتركًا وعاطفة واحدة. ولكن، إذا كان ذاك البائس هو يسوع، حينئذ يصبح كل ما نعطيه له موهبة سبق ونلناها منه. حينئذ لن يعود الغريب مجهولاً (ونكرة) تربطنا به الأخوّة في مصير مشترك (كل غريب للقريب نسيب). الغريب هو حضور يقدَّم إلينا. إنه سر ينفتح أمامنا. إنه شعب يولد، شعب الله وكنيسة يسوع المسيح.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM