الفصل الخامس والعشرون: ليتك أخ لي

الفصل الخامس والعشرون
ليتك أخ لي
8: 1- 4

ولكن العبور إلى الملكوت والاتحاد التام مع العريس في كيان واحد، وهذا ما تتوق إليه الحبيبة، بكل رغبتها كل قدراتها، لا يتمّان إلا بعد تبدّل جذريّ من قبلها. لا يكفي أن يذهب الحبيب إلى تلك التي يحبّ (وهذا ما فعله مرارًا)، وينضمّ إليها في مشيتها. بل يجب عليه أيضاً أن يأخذ فيه بشريّتنا فيصبح بعد ذلك واحدًا معنا في بيت أبيه. وهكذا تدلّ الكلمات التي تتلفّظ بها العروس الآن، على أنها في تواصل عميق مع اندفاع الانبياء وما فيه من عظمة: "ليتك لي أخ راضع ثدي أمي، فألقاك في خارج الدار وأقبّلك فلا يحتقرني أحد".
(آ 1) "م ي. ي ت ن ". هي عبارة تستعمل مرارًا لتدلّ على اقني: من يعطيني اياك. يا ليتك. بعد "كأخ لي "، زادت البسيطة: "أرضع ثدياي حملاني". نجد حرف الكاف (كاف التشبيه) في "كأخ " وهو يتضمّن دلالة على الاحترام. وقد نكون أمام ما يسمّى "كتابة الحرف مرّتين " لهذا يحذف واحد منهما فتصبح العبارة: "ليتك لي أخ " (بدون كاف التشبيه). هذا ما فعلته السبعينيّة والشعبيّة.
"رضع ثدي أمي ". تمنّت العروس أن يكون حبيبها "أخاها" لا عريسها، لكي تستطيع أن تعبّر له عن حبّها دون الخوف ممّا يقوله الناس. ولكن في الواقع، لم تهتمّ الحبيبة حتى الآن للناس. أما ذهبت في الليل تبحث عن حبيبها، بل سألت الحرّاس (3: 1- 4؛ 5: 6- 8)؟ أما خرجت معه في الكروم (7: 12- 13)؟ وعاد بعض الشرّاح إلى عادات قديمة مثل الزواج داخل البيت. قد نستطيع القول إننا أمام نوع من العفّة يعيشها العروسان، فيسمّي الرجل امرأته "شقيقتي " والمرأة تسمّي زوجها "شقيقي ".
ولكن يجب أن نعود إلى ما يقوله لنا نش عن اندفاع العروس في حبّها تجاه حبيبها (2: 3- 6؛ 3: 1- 4؛ 5: 2- 8)، وعن دعواتها الملحّة التي توجّهها إليه (4: 16؛ 6: 2- 3؛ 7: 10- 14). فهي تعتبره عريسها، ولا تريد أن يكون حاجز بينه وبينها. فننطلق من هنا لنطلب شرحًا من التأويل الاستعاريّ. وإليك شرحًا أول: شعرت أمّة اسرائيل شعورًا عميقًا بأنها أدنى من الرب عريسها. فانحنى هو بدوره إليها بحنانه ولامها بقساوة على زناها مع الأصنام وعودتها إلى أصولها الوثنيّة (حز 16: 3). فهي تتمنّى الآن أن لا يأخذ الحياء من وضعها، ولهذا ترغب باتحاد تصوّفي يكون بشكل اتحاد على مستوى الطبيعة، اتحاد بين الاخ واخته. ولكن التقليد البيبليّ يبيّن لنا كيف أن الأمّة تعي خطيئتها المستمرّة. انتظر منها التوبة، وظلّ بعيدًا بحيث لم يبدُ الخلاص في الأفق (أش 58-59). أو أن الأمّة عادت إلى الربّ فتحقّق الخلاص. حينئذ أعطى ذاته بدون تحفّظ وأعلن أنه لا يتذكّر ماضيها (أش 54: 4- 10 ؛ 62: 1ي).
فهل نستطيع أن نجد هنا تلميحًا مسيحانيًا؟ أرادت العروس أن يصبح عريسها الالهيّ شبيهًا بها، أن يكون من طبيعتها، أن يكون مثلها انسانًا حقيقيًا، مولودًا مثلها من ذات البشريّة. إذن، هناك بعض التماهي بين يهوه، عريس اسرائيل، والمسيح. مثل هذه الفرضيّة معقولة حين نتذكّر الطابع الاسكاتولوجي البارز في نش، وحين نعرف أن موضوع 3: 6- 11 هو تصوير الحدث المسيحانيّ.
ولكن يُطرح السؤال الكبير: أيّة علاقة يجعل الشاعر بين المسيح ويهوه؟ للوهلة الأولى، هناك التماهي، لأن العروس تتمنّى أن يكون عريسها (أي: يهوه) أخاها. غير أن الأمر ليس كذلك، لأن تسمية سليمان تتوجّه إلى المسيح، لا إلى الله (رج 3: 7). ثم، إنه يستحيل علينا أن نماهي المسيح مع العريس: لا نستطيع أن نتصوّر أنه يظهر لكي يختفي في ما بعد (3: 1ي، 5: 2 ي)، وأنه رُسم على مثال الهيكل (5: 10- 15). إذن، يتميّز المسيح تميّزًا واضحًا عن الحبيب.
ومع ذلك، استعمل الشاعر لغة تبدو وكأنها تمزج بين المسيح والعريس. وفي ذلك، موقفه معروف. ففي أش 7: 14؛ 8: 8. يسمّى المسيح "عمانوئيل " أي الله معنا. وفي 9: 5 ب، يسمى "الاله القدير". ينتج من كل هذا أن نبيّ القرن الثامن رأى أن المسيح يكون في ملكوت الأزمنة الجديدة، ظهورًا نراه للبهاء الإلهيّ الذي لا نراه. وفي الأدب اللاحق، ولاسيّمَا أدب ما بعد المنفى، تعبّر النصوص عن عمل الله "في الخارج "، بواسطة تشخيص الصفات الالهيّة (مز 43: 3؛ 59: 11 ؛ 78: 49؛ 85: 10- 14). تصبح يد الله "شخصاً حيًّا" يفعل (مز 98: 1؛ أش 51: 5). وكذلك وجهه، وكلمته (أش 55: 9- 11 ؛ زك 9: 1ي؛ مز 147: 15- 20). وأعطي الدور الكبير لملاك الله، للروح، للحكمة. كل هذا يلقي ضوءًا على نش 8: 1 ب.
في أم 1: 10- 33، نرى الحكمة في صورة نبيّ وفي صورة قاضٍ . وتلعب في 9: 1-6 دورًا شبه مسيحاني. ولكنّها لم تشخّص بعد. أما في 8: 1ي، فانتقلنا من "الشخص" إلى "الأقنوم ". وهكذا نصبح على مستوى الله كما في آ 22- 30. إن هذا المقطع من سفر الامثال يستعمل المعطيات المسيحانيّة في أش 11: 1ي؛ 42: 1- 9؛ 49: 1- 7 ؛ 50: 4 ي، ويتعمّق فيها. إذن، تأخذ الحكمة هنا مكان المسيح التقليديّ. وإذ يتوسعّ دورها على مدى الكون، يحدّد طابعُها الاقنومي الطبيعة الدقيقة لعلاقتها مع الخالق.
ونجد أيضاً استعارة النبيّ، الراعي كما يرويها زك 10: 2- 3 ؛ 11: 4- 17 ؛ 13: 7- 9. فالراعي يمثّل يهوه. نوايا يهوه نواياه، وشعور يهوه شعوره. هو يعمل أعماله، ويتكلّم لغته، يتكلّم في صيغة المتكلّم المفرد (رعيت أنا الغنم...) وهو في الوقت عينه النبيّ نفسه، فيتدخّل هكذا في الأحداث الفائتة. في هذا المجال، يذكّرنا بملاك الرب أكثر منه بالمسيح. ولكن يبقى أن رنّة هذه النصوص رنّة مسيحانيّة. فإذا قرأنا 12: 8 ب (يسير بيت داود أمامهم مثل ملاك الرب، مثل الله نفسه) يتوازى ملاك الرب مع بيت داود ويعلن أن هذا الشخص المسمّى سيقود اسرائيل. إذن، العلاقة بين المسيح والرب، بين الملاك والرب هي هي.
وهكذا، يرى التقليد الذي بعد المنفى أن المسيح والحكمة وملاك الرب هي ظهور لله غير المنظور. هي صورة أقنوميّة. ويأتي نش 8: 1 في هذا الإطار الفكريّ عينه. فالعريس الذي هو يهوه، بعيد عن متناول العروس. إذن، تتمنّى عليه أن يأخذ وضع أخ لكي تستطيع أن تراه وتسمعه وتنعم بحضوره الملموس وبحسناته. وسيكون حقًا أخ العروس الذي وُلد من أمّها، أي من شعبها الآتي من الزمن القديم، من ابراهيم.
ويأتي فعل "م ص ا" (لقي) فيذكّرنا بما في 3: 1-4 و 5 :6-8، وما فيهما من خيبة أمل مسيحانيّة. ولماذا تجده خارجًا لا في البيت؟ فالشعب لا ينتظر من مسيحه أن يظهر أولاً في الهيكل. يجدونه أولاً في الخارج، وبعد ذلك يقودونه إلى الهيكل ليجلسوه على عرشه (آ 2 ؛ رج 3: 9- 11). حتى الآن، لا تمتلك العروس بعد ما تطلب ولكن ساعة النهاية صارت قريبة.
"ا ش ق ك" أي "أقبلك". لو كان الحديث عن يهوه، لما كانت العبارة مقبولة. ولكنه عن المسيح. هنا نعود إلى المقابلة مع أم 7: 13 (فأمسكته وأخذت تقبّله): فالفتاة التي تقبّل شخصاً مجهولاً تُحتقر. لهذا، ترغب في أن يكون لها "أخًا".
حين لمّح النصّ إلى الاحتقار الذي يهدّد العروس إذا خابت آمالها، بدا وكأنه يشير إلى كلام معروف في اسرائيل: "أين إلهك "؟ هذا السؤال الساخر قد طرحه الوثنيّون على الشعب غداة الكوارث الكبرى، أو أعداء شخصيون على المؤمن الذي تحطّمه المحنة (يوء 17:2، ميِ 7: 10؛ مز 42: 4، 11 ؛ 79: 9- 10؛ 115: 2). بدا يهوه في تلك الساعة ضعيفَا لا يستطيع أن يفعل أو لا مباليًا لا يهمّه أمر شعبه ومؤمنيه. في الواقع، دلّ أشعيا الثاني وحزقيال، انه إن كان الرب عزم على وضع حدّ للمنفى، فلأن اسمه يجدّف عليه وسط الأمم. وعروس نش لا تخاف إلا من الاحتقار الذي قد يسقط عليها. ولكن الوجهتين تلتقيان في قول مشترك وهو أن تدخّل الله يفرض الصمت على الخصوم في مجيئه. ومهما يكن من أمر، نكتشف هنا الاحباط الذي يسيطر على فلسطين ساعة دوّن نش في نسخته الأخيرة.
(آ 2) نجد هنا فعلين: "ان هـ ج ك " (أي جعله يسلك الطريق)، "اب ي ا ك " أي أدخله. الفعل الأول يدلي على نبرة احتفاليّة (أش 60: 11). ولكن، في العادة، الرب هو الذي يقود شعبه ليخرجه من مصر (أش 63: 14؛ مز 78: 52) أو من المنفى (أش 49: 10). أما هنا فالشعب يقود مسيحه. هذا ما يجعلنا نفكّر في احتفالات الأعياد الكبرى في بابلونية ومصر وقد عرف شعب اسرائيل هذه التظاهرات الدينيّة (مز 7:44- 10؛ 25:68-28؛ 118: 1ي؛ نح 12: 31- 41).
أما اليوم فالاحتفال يتعدّى كل احتفال. ليس تابوت العهد هو الذي يدخل إلى الهيكل، بل المسيح في يوم جلوسه على العرش (رج 3: 6- 11). في هذه الحالة، لا يكون الفعلان المستعملان في هذه الآية مترادفين. فعل "ن هـ ج " يدل على مسيرة التطواف و"هـ ب ي ا" على الدخول إلى الهيكل. وقد نستطيع أن نقول: "في مسيرة احتفالية أدخلك ".
"أدخلك بيت أمي ". هي عبارة قرأناها في 3: 4. أوضاع متشابهة، إذن، عبارات متشابهة. قلنا في 3: 4 إن عبارة "بيت أمي" تعني الهيكل القديم، الهيكل الأول الذي منه خرج الجيل الحاضر هنا نتذكّر النصوص العديدة التي تصوّر تدشين ملك الله في صهيون (أش 2: 2- 4 ؛ حج 2: 6- 9 ؛ مز 47: 1ي؛ 93: 1ي). وهنا أيضاً يجلس الملك المسيح الذي من نسل داود (أش 11: 10؛ مي 4: 9؛ زك 6: 9- 15؛ 9: 9- 10؛ مز 6:2؛ 2:110).
"ت ل م د ن ي " (رج تلمذ في العربية، علّم، لقّن). من سيعلّم؟ قالوا: سليمان يعلّم بنت الحقول حياة البيت وحتى شؤون المملكة. وقالوا: علّم العروس العائشة في الحقل اختباراته... وراح بعضهم في خط السبعينيّة والشعبيّة والسريانيّة فقال: "تلدني". فيقرأون كما في 3: 4: "إلى خدر التي ولدتني". لن نتوقّف هنا عند الأمم في المعنى الطبيعيّ، بل نتحدّث عن تعليم مباشر يعطيه الله للمؤمن: "بحقّك أهدني وعلّمني، أنت الله مخلّصي " (مز 25: 5). "هنيئًا لمن تؤدّبه يا ربّ، وتعلّمه أحكام شريعتك " (94: 12). "مبارك أنت يا ربّ، علّمني رسومك " (119: 12، 26: حقوقك). وهذه النعمة تميّز الحقبة الاسكاتولوجيّة. كما يقول أش 2: 3: "يعلّمنا أن نسلك طرقه ". وإر 31: 33- 34: "فلا يعلّم بعد واحدهم الآخر... فجميعهم سيعرفونني ".
والمسيح الذي يُرسم بملامح عبد يهوه، تكون وظيفته الأساسيّة إعطاء تعليمِ للكون كله (أش 42: 1- 4 ؛ 49: 6؛ 50: 4- 5؛ 53: 11). وهذا ما نقوله أيضاً عن الحكمة الالهيّة التي تلعب دورًا شبه مسيحانيّ في أم 1- 9. ففي 1: 20- 33 و8: 1- 11، تعلن الحكمة أقوالاً نبويّة أو تقدّم تحريضاً. وفي 9: 1- 6، تقدّم ذبيحة وتعطي تعليمًا هو غذاء حياة. وتقف هذه الآية من نش في هذا الخط التقليديّ: حين يتوّج المسيح في الهيكل، يكشف لشعبه أسرار الحكمة الالهيّة.
"ش ق ه" أي سقى. من خمر ممزوج بالطيوب، مطيّب (أش 5: 22؛ مز 75: 9؛ أم 10: 2- 5). ويقال "رقيح الخمر" أي أطيبه بعد أن أصلِح. ومع الخمر، عصير الرمّان الذي نجده وافرًا في فلسطين (4: 13). أما عظمة هذا الشراب الذي تقدّمه العروس، فهي لأنها صنعته بأيديها. عصير رماني، أو العصير الذي صنعته أنا من الرمّان. ونستطيع القول إن هذا العطاء يدلّ على عطاء الذات للحبيب والاستسلام له.
(آ 3) "شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني" (أو تحضنني. "ح ب ق" رج حبّق المتاع: جمعه). هذه العبارة تستعيد 2: 6. ولسنا في صيغة التمنّي (يا ليت شماله). بل في صيغة الاعلان: في الواقع، شماله تحت رأسي. نحن في واخذ كما في 7: 10- 14. نلاحظ أهميّة التكرار في نش: هنا في آ 3، ثم في آ 4: "استحلفكنّ يا بنات أورشليم" (2: 7؛ 3: 5. نجد هذا القرار بعد عاطفة تدفع العروس نحو العريس). أفهمتنا العروس في 7: 11- 14 أنها "امتلكت " حبيبها. وهذه آ 3 تصوّر اتحادها التام.
(آ 4) إن هذه الآية تستعيد 2: 7 و3: 5 مع بعض الاختلافات. ترك النص الماسوري "بالغزلان ووعول البرية". ولكن احتفظ بالعبارة أربعة مخطوطات يونانيّة.

* ليتك لي كأخ رضع من ثدي أمّي
هذا ما قالت العروس للعريس وزادت: "فألقاك في خارج الدار وأقبّلك فلا أُحتَقَر". أول ردّة فعل على هذه الكلمات هي الدهشة. نتعجّب بعد أن نسمع إعلان الحبّ الذي لا تخفيه الحبيبة (5: 10- 16)، أن تتمنّى الآن أن يكون ذاك الذي تحبّ "أخًا" لا "عريسًا". قالت: حينذاك أستطيع أن أقبّله دون أن أسمع أقاويل الناس...
هنا نتذكّر أن الحبيب سمّى العروس "أختي " خس مرات (4: 9، 10، 12؛ 5: 1، 2). ولكن العروس من جهتها لم تجسر أن تعطيه اسم "الأخ ". فهي واعية أنها أدنى منه. هو يحبّها، وهذا أمر لا يصدّق. ولكن حبّه لها يدلّ على تنازل جنونيّ. ولكن ما ترغب فيه اليوم بجرأة كبيرة، وما لا تستطيع أن تقاومه بسبب حبّها، ليس أن تتحوّل علاقتها كعروس مع عريسها إلى علاقتها كأخت مع أخيها. بل أن يكون عريسها في الوقت ذاته أخاها، فتحدّثه حديث الندّ للندّ (متساوية معه)، أو أقلّه تصبح شبيهة بعض الشيء به.
فمنذ أيام خطوبتها (3: 4) قد تمنّت أن تجتذبه إلى خدر أمها ليكون لها حياته ويكون له حياتها. وهي تحلم الآن حلمًا يتعدّى حدود العقل: أن يصبح حبيبها أيضاً شبيهًا بها في كل شيء. لا أن تصبح فقط مثله، بل أن يصبح هو مثلها. لا أن تولد من جديد إلى حياته هو (يو 3:3) وحسب. بل أن يولد هو في بشريّتها. وهكذا يكون من طبيعتها، من نسلها، من بشريّتها. أن يكون ذاك الذي رضع معها حليب أمها، رضع حليب الحنان البشريّ. أن يصير أخاها بالرضاعة. مع أنه ربّها بشكل لا يُفهم ولا يحدّ، أن يقاسمها وضعها ومصيرها في كل شيء. هكذا يكون أخاها الذي رضع ثدي أمها.
نجد في هذه الآيات من نش أعمق تعبير وأجمله عن انتظار المسيح بما في هذا الانتظار من حرارة لا تُقاوَم. فكل تحرّك نش يقودنا في الواقع إلى هذه القمّة النبويّة حيث تخضع الحبيبة لإلهام الروح، فتتوسّل إلى الله القدوس، إلى عريسها بالنعمة (لا بالطبيعة) أن يصبح أخاها بالطبيعة، أن يكون مساويًا لها في كل شيء ومطابقًا معها كل المطابقة: فالله ربّها في الخلق وعريسها بالعهد، قد صار منذ الآن أخاها فشاركها في اللحم والدم. وسيستطيع أن يقول لها بحقّ حين يرسلها إلى سائر البشر: "إذهبي إلى إخوتي " (يو 20: 17)، وهكذا ترى تلك التي خُلقت في البدء على صورة الله ومثاله (تك 1: 26) أن الله قد صار الانسان على صورتها ومثالها هي.
لا بدّ في أننا نجد في هذا المقطع تلميحًا إلى الكلمة المتجسّد. فالحبّ هو رغبة في التماهي المطلق، والحبيبة تتعرف إلى قمّة عطاء ذاتها، إلى وحدة جوهريّة تجعلها لا الصديقة والحبيبة والعروس فقط، بل والأخت أيضاً. هي تتمنّى أن تتجاوز كل ثنائيّة، فتصبح مع المحبوب واحدًا... وفي نهاية حياة الحبّ هذه، انبهرت العروس بوجه الحبّ الذي شاهدته وجهًا إلى وجه، فأحسّت بتحوّل عميق جعلها ترغب في التجرّد من كل غيرّية (ما يجعلها غير الحبيب، ما يجعلها تختلف عن الحبيب)... أخ وأخت متّحدان في اضمامة الحبّ والتبادل التصوّفي. طلبت العروس عوّلاً تامًّا في كيانها ووحدة مطلقة في التماهي مع حبيبها وذلك في مطلق حبّها. وهنا نتذكّر كلمة القديس ايريناوس: "صار الله إلى ما نحن عليه، ليجعل منا ما هو في الحقيقة".
وهكذا هتفت العروس: "ألقاك في الخارج وأقبّلك فلا أُحتَقَر". ففي الاحتفال بحبّ الحبيب، لن يكون للعروس أن تخاف هزء الوثنيّين الوقح، والأسئلة الساخرة من التي يقولون لها اليوم: "أين إلهك "؟ بأيّ شيء نشبّه هذا الإله؟ كيف يفهم عبّاد الأوثان والصور المرسومة أو المنحوتة، كيف يفهم هؤلاء جمال الذي جماله يتفوّق على كل جمال، جمال ذاك الذي لا يستطيع العالم أن يتصوّره لأنه يتعدّى كل تصوّر؟
بدأت العروس بخطب سمعناها حول أميرها الغائب (5: 10- 16) فلم نفهم منها الشيء الكثير (5: 10- 16). وقد تشكّت مرارًا فدلّت على حزن قلبها وقالت مع صاحب المزامير: "إلى متى يا ألله يعيّرنا المضايقون، ويستهين العدوّ باسمك على الدوام " (مز 74: 10)؟ "لماذا تترك الوثنيّين يقولون: "أين إلههم" (79: 10)؟
وبعد اليوم، وفي وضح النهار، تستطيع العروس بعد أن رأت في عريسها أخًا "على صورتها ومثالها"، أن تدلّ عليه بعزّة وافتخار في وجه متّهميها. قلتم لي: "أي إلهك"؟ ها هو بينكم. هذا هو إلهي، هذا هو عريسي، هذا هو أخي. اسمه عمانوئيل، إلهنا معنا.
إذن، أستطيع أن أقبّلك دون أن يحتقرني أحد. فوجهك صار مثل وجهي. وإذ أقول "أقبّلك "، لا أتوقّف عند عاطفة غامضة أو عبارة سطحيّة، بل أتحدّث عن فعل ضمّ وثيق بحيث "يصير الاثنان جسدًا واحدًا" كما كُتب في تك 2: 24. وهكذا، إذ أولد منك من جديد في اتحادنا، أتألّه بك. وأنت بدورك تلد مني فتتأنّس (تصبح إنسانًا) بي.
بأيّ اعتزاز وبأيّ سعادة تُدخل ذلك الذي تحبّ إلى بيتها الذي صار بيتهما معًا. لم نصل بعد إلى البيت العظيم المصنوع من الأرز والسرو الذي حلمت به في أيام الخطوبة. ولكن في البداية، هو بيت وضيع صغير، بيت كبيوت الناس، بيتها هي، سرير الخضرة والنرجس والسوسن في الوادي (1: 16؛ 2: 1).

* أسير بك وأدخلك بيت أمّي
قالت ببساطة الأطفال وبراءتهم: أسير بك، أدخلك. والحبيب لا يعارض ولا يجادل، بل هو لا يقطع عليها كلامها. فنحزر أنه يوافق بكل قلبه. هو الذي اقتادها حتى الآن أفضل قيادة، فأدخلها "في أخداره " وإلى "بيت خمره "، ها هو يتركها الآن تقوده، فيجعل نفسه صغيرًا لكي يدخل إلى بيتها. أجل سيأتي يوم تدخله فيه بفرح ووقار معًا إلى بيت أمها، في قلب شعبها، في قلب الكنيسة، في قلب البشريّة كلها: حين تصبح الحبيبة بين جميع حبيبات العالم، فذاك الذي تدعوه اليوم عريسها وأخاها والذي تعرف أنها خادمة لها، سيكون طفلاً صغيرًا في حشاها. هذا ما نقرأ في يو 1: 14: "والكلمة صار بشرًا (من لحم ودم، أخذ جسدًا) وسكن بيننا".

* هناك تعلّمني فأكون تلميذة لك
تأخذنا الدهشة بعد هذه النبوءة التي هي أعجب النبوءات، نبوءة التجسّد، حين نرى الحبيب يتكرّس لنشاط سيكون مهمته الأساسيّة على هذه الأرض. وهذه المهنة هي مهنة التعليم. "تعلّمني، تلقّنني". هنا نفهم أن الذين لا يرون في نش إلا احتفالاً بالحبّ البشريّ، يحذفون هذه الكلمة. فما معنى هذا التعليم الذي تطلبه العروس من عروسها وهي تشتعل حبًا له؟
العروس تطلب أن تتعلّم طرق الرب وتسير في حقيقته (مز 25: 5). والحبيب سيكون وحده معلّم شعبه كما يقول إرميا. وكان "موسى" قد قال في تث 18: 15- 18: "يقيم لكم الرب الإله نبيًا من بينكم، من إخوتكم، مثلي، فاسمعوا له... أجعل كلامي في فمه ". هذه الكلمات سيطبّقها الآب نفسه على يسوع، فيقول في التجلّي على الجبل: "هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا" (مر 7:9). وسيصوّر مرقس يسوع في إنجيله 13 مرّة وهو يقوم بمهمّة تلقّاها من الآب، وهي أن يعلّم البشر.
لهذا، ستكتفي مريم، بنت بيت عنيا، في يوم من الأيام، بأن تدلّ على محبّتها للمعلّم، فتجلس عند قدميه وتسمع كلمته لكي تصل إلى ملء السعادة (لو 10: 39- 42). وسيكون كلام إحدى المتصوّفات اللواتي أردن أن يكرّسن حياتهن ليسمعن في الداخل كلمة الله. "أيها الكلمة الأزليّ، يا كلمة إلهي، أريد أن أقضي حياتي في السماع لك. أريد أن أكون بكليّتي في التعليم، لكي أتعلّم منك كل شيء".
وعروس نش لا تتعرّف إلى شيء آخر إلا هذا. وإن كانت لم تحدّد شكل وطبيعة التعليم التي تودّ أن تتقبّله من حبيبها، فلأن هذا التعليم يكمن في درس واحد هو الحبّ. لهذا قالت بعض الترجمات: "هناك تعلّمني الحبّ ". "فالحبّ هو نختصر اللاهوت كله" كما قال فرنسيس السالسي. وهذا أيضاً هو تعليم يسوع الوحيد الذي سلّمه إلى تلاميذه: "عليكم أن تحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم. فإذا كنتم تحبّون بعضكم بعضًا يعرف الجميع أنكم تلاميذي " (يو 13: 34- 35).
إن هذا التعليم لا نأخذه في المدارس ولا في الكتب، وهو أمر اختبره اوريجانس نفسه، فغطس في أعماق قلب الحبيب. "إن العروس- الكنيسة يعلّمها عريسها كلمة الله عن كل تدبير خفي عليها في القصر الملكي وفي خدر الملك ".
وقد كانت مريم العذراء أول من دخل إلى مدرسة القلب هذه. كانت أول المتعلّمين، أول الصاغين، أول المتنبّهين، أولا المتقبّلين. فعند الجلجلة وخلال ثلاث ساعات طويلة، حلّت عند الصليب محلّ الكنيسة فتعلّمت من ابنها التعليم النهائيّ، هذا التعليم الذي ليس بكلام فقط، بل عمل وممارسة. لم تكن مهتمّة بالبكاء عند الصليب، بل كانت هنا باسم الكنيسة كلها التي ستخرج من جنب المصلوب مع الدم (الافخارستيا) والماء (المعموديّة)، أول درس في الفقاهة المسيحيّة.
تلك هي الصفحة الكبيرة التي تفصل بين العهدين. فكل ما تعلّمته مريم على ركبة أمّها، كل أسفار موسى والأنبياء التي ترتّبت في ذاكرتها، كل الأجيال التي حملتها في حشاها منذ آدم، الوعد لابراهيم وداود، حكمة سليمان ودانيال، غيرة إيليا ويوحنا المعمدان، كل هذه الشعوب التي تنتظر الخلاص وهي غارقة في سبات مميت. كل هؤلاء بدأوا يفهمون، ينظرون، يتعلّمون في ظلال النعمة المسيحيّة في قلبها.
تعليم الحبيب الذي يدفع تلك التي يحبّ لتسلّم أثمن ما لها، لتقدّم أعمق ما في أعماقها. لهذا قالت: "أسقيك من الخمر المطيّب، من عصير رمّاني ".
ظنّت للوهلة الأولى أنها أعطت كل شيء. ولكن هناك جزءًا منها، ما زالت تجهله، لا تستطيع أن تقدّمه: إنه هذا الملحق الأخير فينا الذي يتطّلب منا الوقت الطويل لكي نكتشفه، وبالتالي أن نقدّمه. فنحن بحاجة إلى سنوات من النضوج والتعلّم في مدرسة الحبيب. قال يسوع: "تتلمذوا لي، وتعلّموا مني" (مت 11: 29). فالذي تعلّمته العروس في تلك المدرسة هو مدى لم تكن تتوقّعه في قلب العريس. وفي داخل الخبرة عينها انكشف لها سرّ نفسها، جوهرها الحميم. وهو ما سمّته "الخمر المطيّب" و"عصير الرّمان ". هو قلب قلبها الذي لا يصدر عنها ما لم تتقبّل "التعليم الجديد" (مر 1: 27). وهي لا تستطيع أن تسلّمه إلا في ذلك الوقت. وإذ يكشف لها سرّ قلبه العميق، يكشف في الوقت عينه سرّ قلبها في أخفى خفاياه.

* شماله تحت رأسي
بعد أن رفعتها النفحة النبويّة وحملتها إلى البعيد، خارت كل قواها، فما استطاعت إلاّ أن تستسلم، أن ترتمي بين ذراعي الحبيب، فاكتفت بأن تُتمتم: "شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني".
ما عادت تشعر إلا بقدرة ذراعه تحت رأسها، وبحنان يمينه تعانقها وتضمّها. راحة لا كما في الماضي. لا راحة نفس حزينة. بل راحة السعادة والغبطة. ليست راحة العروس الطفل كما ستظلّ مدة طويلة (2: 6) بل راحة العروس في اضمامة الحب التي لا تنتهي.

* أستحلفكنّ يا بنات أورشليم
فإن كان الحبيب يستحلف بنات أورشليم للمرّة الثالثة بأن لا يوقظن تلك التي يحبّها قبل أن تشاء. إن كان ردّد القرار للمرة الثالثة، فهو لا يردّده كما في المرّتين السابقتين. لم يذكر الحبيب "الغزلان ووعول البر"، لأن الاستحلاف لم يعد في محله بعد أن صار امتلاك العريس للعروس تامًا.
نستطيع القول إن النوم الذي تستسلم له العروس الآن يختلف عن النوم السابق. فهو، شأنه شأن القصيدة الخامسة في صعودها المتواصل، راحة نفس تخلّت عن ذاتها واستسلمت لتلك الساعة التي فيها صارت مسرّتها مسرّته هو. ما يريده هو تريده هي. وما يرضيه يرضيها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM