مدخل إلى انجيل لوقا

الفصل الأول
مدخل إلى انجيل لوقا

ينبّهنا لوقا منذ مَطْلع إنجيله (3:1) أنه "تحقّق بدقّة جميعَ الأشياء، من البدء". قام ببحث مُثابر وكامل. عمِل عمَلَ المؤرّخ فذهب إلى الينابيع. ففي مدينة أنطاكية حيث ارتدّ إلى المسيحية، على ما يبدو، التقى مسيحيّين اعتنقوا الإِيمان باكرًا فكانوا له من أفضل المُخْبرين. قد يكون تحدّث مع "مناين رفيق طفولة هيرودس التترارخس" (أع 13: 1) الذي أطلعه على مثول يسوع للمحاكمة أمام هذا الأمير (7:23- 12). وأمضى لوقا سنتين في فلسطين (59 - 60) خلال سجن بولس في قيصرية، فقُيِّض له أن يقوم ببحثه وتفتيشه. إتّصل بفيلبّس أحدِ السبعة (أع 21: 8) ورسولِ السامرة (أع 8: 5- 13)، فأخذ منه ما دوّنه في إنجيله من أحداث ارتبطت بهذه المدينة: يوم كان يسوع صاعداً إلى أورشليم أرسل قدّامه رسلاً فمضوا ودخلوا قرية للسامريّين (9: 52- 57). ويوم جاز بين السامرة والجليل، دخل إحدى القرى فاستقبله عشرة رجال بُرص (11:17-19).
وتحدّث لوقا مع تلاميذ يوحنا المعمدان، ربّما مع كليوبّا (18:24)، مع يوحنا الرسول أو مسيحيّين من محيطه، وهذا ما يفسّر نقاط الاتّصال بين الإِنجيل الثالث والإِنجيل الرابع. ويبدو أن لوقا عاش مع مجموعة النسوة اللواتي تبعن يسوع (8: 1- 3) فتحدّث عنهن بين مجموعة الرسل (12:6- 16) ومجموعة التلاميذ السبعين (10: 1 ي). وهنّ: مريم التي تدعى المجدلية التي خرج منها سبعة شياطين (سيطر عليها الشيطان سيطرة كاملة)، يونة إمرأة خوزي قيّم هيرودس، سوسنّة، والخاطئة التي لم يعلن عن هويّتها فطنةً ولُطفاً (37:7). وهناك نساء أُخَر مثلُ مرتا ومريم (38:10- 40) وبعض "بنات اورشليم" اللواتي رافقن يسوع على طريق الصليب (27:23- 31). واتّصل لوقا خصوصًا بمريم أمَ يسوع، فأسري إليه بما حفظته في قلبها من أقوال وأحداث كانت تتأمْل فيها (19:2، 51؛ 16:4-30).
وإلى هذه المعلومات التي استقاها لوقا من "شهود عِيان" (2:1)، نزيد المراجع المدوَّنة التي وصلت إليه. عرف لوقا إنجيل مرقس وتبعه في خطوطه الكبرى على مستوى الأخبار ومرّات على مستوى التفاصيل. وعرف أيضًا محاولات إنجيليّة أخرى يشير إليها في 1: 1. لا شك في أنه عرف متّى الآراميّ أو متى اليونانيّ أو على الأقل المَعين الذي استقى منه متّى لتدوين إنجيله.

1- مقابلة بين لوقا ومرقس
إذا قابلنا لوقا بمرقُس اكتشفنا الطريقة التي بها حوّل الإِنجيليّ الثالث مراجعه ليقدّم لنا نظرته ونظرة كنيسته إلى شخص يسوع وأعماله وأقواله. فأغفل أمورًا وزاد غيرها وأشار إلى أمور أخرى قد يكون اكتشفها في مرجع خاصّ به.
أوّلا: أغفل لوقا ما يثقّل على النصّ ولا يفيد الخبر، كما أسقط ما اعتبره تكرارًا (تكثير الأرغفة يرِد مرّتين عند متى ومرقس ومرّة واحدة عند لوقا). وترك جانبًا ما لا يهتّم قرَّاءه (مثلاً، الجدال حول تقاليد الشيوخ، مر 7: 1- 23)، أو ما يصدمهم. فكيف نريده أن يورد كلمة يسوع عن البنين والكلاب وفيها ما فيها من تحقير "يهوديّ" تجاه هذه الوثنيّة (مر 7: 24- 30)؟
وأغفل لوقا كلّ ما يعارض التصميم الذي وضعه نُصْب عينيه. فالإنجيل الثالث يبدو منذ 9: 51 (وإذ كان زمن ارتفاعه قد اقترب، صمّم أن ينطلق إلى أورشليم) بشكل سَفَر يقود يسوع من الجليل، حيث بدأ كلّ شيء، إلى أورشليم حيث سينتهي كلّ شيء. ولهذا، أغفل لوقا كلّ ما يحوِّل نظر القارئ عن هذا الإِطار؛ مثلا، أغفل الذهابَ إلى شماليّ فلسطين (مر 8: 27- 30)، واسمَ قيصرية فيلبس الذي لا يمكن أن يجهله (مر 27:8)، والموعدَ الذي أعطاه يسوع للرسل بأن يلاقوه في الجليل (مر 28:14).
وأغفل لوقا كلَّ ما فيه قساوة وعنف، فلم يتحدّث عن موت يوحنا المعمدان (مر 6: 17- 29)، ولا عن آلام يسوع بالتفصيل (الصفع، البُصاق، الجلد، التكليل بالشوك). يتوقّف مرقس عند موضوع عزيز على قلبه هو عدم فهم التلاميذ لأقوال يسوع وتصرّفاته (مر 38:4؛ 5: 31؛ 9: 10). أمّا لوقا ففسر موقفهم داخل مخطّط العناية الإلهيّة (9: 45).
ثانيًا: وزاد لوقا على مرقس أمورًا عديدة: تحديداتٍ جغرافيّة (4: 31؛ 5: 1...)، تفسيرَ كلمات آراميّة (6: 15). تحدّث متى (24: 15) ومرقس (13: 14) عن نجاسة الخراب؛ أمّا لوقا فقال بوضوح: "وإذا ما رأيتم أورشليم قد أحاطت بها الجنود، فاعلموا عندئذٍ أن خرابها قد اقترب" (21: 20). وسيمول فيما بعد في المعنى ذاته: "وتدوس الأمم أورشليم إلى أن تتمّ أزمنة الأمم" (21: 24). لم يكن مرقس راضيًا عن الرسل الذين ناموا ولم يقدروا أن يسهروا مع الربّ ساعة واحدة (مر 37:14). اما لوقا فقال:" كانوا نائمين من الحزن" (45:22). وقال عن يهوذا: "دنا الى يسوع ليقبّله". فقال له الرب: "يا يهوذا، أبقبلة تسلّم ابن البشر" (48:22)؟ واذ يتحدّث عن يسوع في بستان الزيتون، لا يقول: سقط على الأرض من الخوف والكآبة والحزن (مر 14: 32- 35)، بل خرَّ على ركبتيه وأخذ يُصلي ككلّ مؤمن يدخل في تجربة (22: 41). وعند الصليب ستكون صلاته صلاة المؤمن قبل الرقاد الذي يتبعه الصباح: "يا أبتاه، في يديك أستودع روحي" (23: 46).
وأهمُّ الزيادات عند لوقا هي التي ترتبط بمواضيعه المفضَّلة: المديح: إنطلق المخلّع الى بيته وهو يمجِّد الله (6: 25؛ رج مر 2: 12). وإذ أبصر أعمى أريحا، تبع يسوع مشيدًا بمجد الله (43:18؛ رج مر 52:10). ودخل الرسل مع يسوع إلى أُورشليم "وطفقوا يسبّحون الله بصوت جهير" (37:19؛ رج مر 11: 7- 9). "ولما رأى قائد المئة ما جرى، مجّد الله" (47:23؛ رج مر 25: 39).
والموضوع الثاني هو النَظرةُ الشاملة إلى الرسالة. قال مرقس (3:1): "أعِدًّوا طريق الرب، مهِّدوا سبله"؛ أمّا لوقا فزاد: "فيعاين كل إنسان خلاص الله" (6:3). ويشدّد لوقا على الصلاة. صلَّى يسوع ساعة اعتمد (3: 21)، وساعة اختار رسله (6: 12)، ووقت التجلّي على الجبل (28:9- 29). وذكر الانجيل الثالث الروحَ القدس (4: 14؛ 10: 21؛ 11: 13) فكان قريبًا من إنجيل يوحنا. وأظهر سروره في الحديث عن الفقر والتجرّد: ترك الرسل كلّ شيء وتبعوا يسوع (5: 11، 28). وقال يسوع: "إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمّه وامرأته وبنيه وإخوته وأخواته، بل نفسَه أيضًا، فلا يستطيع أن يكون لي تلميذًا" (14: 26). وقال على أثَر ذهاب الشابّ الغني: كما من أحد ترك بيتًا، أو امرأة أو إخوةً او والدين او بنين من أجل الملكوت، إلاَّ نال أضعافًا في هذا الزمان، والحياة الأبديّة في الدهر الآتي" (18: 29- 30).
ثالثًا: وأشار لوقا الى أمور كثيرة دلّت على لطفه وتحفّظه في إنجيله. وها نحن نعطي بعض الأمثلة: جعل مرقس (35:4) حدَث تهدئة العاصفة مساء اليوم الذي فيه قال يسوع الأمثال، فقال: "وفي ذلك اليوم، عند المساء". أمّا لوقا فأفهمنا أن هذه المعجزة التي جعلها متى في إطار اتّباع يسوع (مت 23:8: وركب يسوع القارب وتبعه تلاميذه)، قد جُعلت في وقت آخر: (وفي ذات يوم ركب القارِب هو وتلاميذه" (22:8). أمّا التجلّي فحصل في الليل بحسب لوقا. صعد يسوع الى الجبل ليصلّي (28:9- 29)، وقد اعتاد أن يصلّي خلال الليل (6: 12؛ 39:22- 40). ثم إن الرسل غلب عليهم النعاس فما استطاعوا السهر إلاَّ بمشقّة النفس (9: 32). وفي النهاية، نزل يسوع وتلاميذه من الجبل في اليوم التالي، "في الغد" (37:9).
وفي خبر الصعود إلى أورشليم (9: 51- 19: 45)، أشار لوقا إلى انطلاق يسوع (9: 51)، ثم ذكّرنا مرّتين بهذا السفر: 12:13: "قاصدًا في طريقه إلى أورشليم"، 17: 11: "وفيما هو شاخص إلى أورشليم . وهذا ما دفع بعض الشُرَّاح إلى أن يقولوا إنّ يسوع زار أورشليم لا مرّة واحدة قبل موته وآلامه (كما قال متى ومرقس) بل مرّاتٍ عديدة (كما قال يوحنا).
وفي مثَل التينة (6:13- 9) يتحدث النصّ عن وثلاث سنين. إذًا، امتدّت حياة يسوع العلنيّة لا سنةً واحدة، كما يُظنّ عند قراءة متى ومرقس، بل ثلاثَ سنوات كما يظهر عند يوحنا. أجل، لقد اعتنى يسوع بشعبه ثلاث سنوات، وأعطاه مُهلةً كافية: إن لم يثمر فسوف يُقطَع.

2- تصميم إنجيل لوقا
أعلن لوقا في مطلع إنجيله (3:1) أنه نوى أن يكتب رواية متتابعة للأحداث. ماذا عنى بكلامه هذا؛ إنطلق من الموادّ التي بين يديه، فدوّنَ إنجيلاً لاهوتيًّا. دلّ انطلاقًا من كلمة سمعان الشيخ (35:2) أن ظهور يسوع أجبر الناس على اتّخاذ موقف وكشف أفكار قلوبهم. إن آمنوا نهضوا، وان رفضوا الإِيمان سقطوا.
ووضع لوقا الأحداث في إطارها التاريخيّ، فنظّم الخُطَب والعجائب على حِقبات حياة يسوع. ولكن همّه الأوّل كان تقديمَ تصميم كرازة يساعد المؤمن على حمل البشارة. ما أراد لوقا أن يكون مجدِّدًا ولا ثوريًّا، فقدَّم الخبر التقليديّ وجعله في تصميم خاصّ به.
تصميم لوقا مربّع الأقسام: يوحنا المعمدان، الجليل، الصعود إلى أورشليم، أورشليم. إكتفى بأن يُسقط ما لا يهمّه (رج مر 6: 45- 8: 26)، وأن يزيد ما اكتشفه بنوع خاصّ. زاد في البداية الطفولة (ف 1-2)، وخلال الخبر المجموعة الصغيرة (6: 20- 8: 3) والمجموعة الكبيرة (9: 51- 18: 14)، وفي النهاية "حدث" تلميذَي عمّاوس بصورة خاصّة.
بينّ أنّ كل أحداث حياة الربّ تحملها قوة سرّية إلى أورشليم، مسرَح آلامه وانتصاره. هذا هو الرباط الحيّ بين أقسام الإِنجيل الثالث: كل شيء يبدأَ في أورشليم وينتهي في أورشليم. يبدأ ف 1-2 في أورشليم (1: 5- 23) وينتهيان في أورشليم (22:2 ي: التقدمة في الهيكل، الصعود إلى الهيكل مع الحُجّاج). وفي خبر التجربة، صارت أورشليم مسرح التجربة الثالثة (لا التجربة الثانية، كما عند متى)، فيكون انتصار يسوع النهائيّ فيها بصورة رمزية، كما سيكون بصورة عمليّة ونهائيّة خلال آلامه وموته وقيامته. في 17:5، سنرى الفريسيّين ومعلّمي الناموس الذين جاؤوا من أورشليم. وبعد 9: 51 سنرى أن أورشليم تُشرف على كلّ شيء وتجتذب إليها الأحداث. وبدخلنا لوقا في هذا الصعود وكأننا في احتفال دينيّ: "وإذ كان زمن ارتفاعه (من هذا العالم) قد اقترب، صمّم أن ينطلق إلى أورشليم" (9: 51). ثمّ يدلّنا الإِنجيليّ على يسوع السائر إلى المدينة المقدّسة. وتبقى أورشليم محطَّ أنظار القارئين: تظهر في 18: 31 ("ها نحن صاعدون إلى أورشليم"). ثم في 19: 11 ("كان قد اقترب من أورشليم"). وفي 19: 41 يقول النصّ: "لما قرب من المدينة وأبصرها بكى عليها". ووصل إلى أورشليم، بل دخل الهيكل الذي هو قلب المدينة المقدّسة (19: 45). دخل أورشليم وسيبقى فيها أو في جوارها (جبل الزيتون 21: 37) حتى النهاية. لن يترك الرسل أورشليم بعد القيامة (رج مر 14: 28؛ 16: 7)، بل سيمكثون فيها "إلى أن يكسبوا قوّة من العُلى"، إلى أن ينالوا الروح القدس (24: 49). وذهب الرسل إلى بيت عنيا، ثم عادوا إلى أورشليم بفرح عظيم. "وكانوا بلا انقطاع في الهيكل يباركون الله" (52:24).
لا شكّ في أن لوقا عرف ظهورات الجليل، وسيتحدّث في أع عن حِقبة الأربعين يومًا التي تفصل الصعود عن القيامة (أع 1: 3). وعرف أيضًا أنّ الرسل، حين عادوا من جبل الزيتون، أقاموا في العليّة حيث واظبوا على الصلاة (أع 1: 12- 14). ومع ذلك، لم يدوّن لوقا هذه التفاصيل في إنجيله تاركًا أمامنا لوحة الرسل الذين لا ينقطعون عن الصلاة في الهيكل. بدأ إنجيل لوقا في الصلاة مع زكريّا (1: 8 ي) وانتهى بالمديح والمباركة مع الرسل (53:24).
كيف تصرّف لوقا بالنسبة إلى موادّه؟ جمع أقوال يسوع بطريقة منظّمة أو منطقيّة حسب الموضوع. مثلاً، نجد في 57:9- 62 ثلاثة أخبار دعوات. وفي 11: 1- 13 ضمّ في باقة واحدة عدّة تعليمات عن الصلاة. تطرّق ف 15 إلى امتياز الخاطئ ومكانته في قلب الله، وف 16 إلى خطر الغنى وطريقة استعمال المال في الطريق السويّ. ولكنه سيعود في 18: 1- 5 إلى الصلاة، وفي 13:12 - 21، 33- 34 إلى الغنى.
ونلاحظ من جهة ثانية أن لوقا وزّع عَبْرَ إنجيله كلّه أقوالا جمعها متى في عظة الجبل، أو بالأحرى رآها موزَّعة فلم يضمَّها في إطار واحد. يبدو أنه اهتمّ بوضع كلمات يسوع، إن لم يكن في إطارها الزمانيّ والمكانيّ، فعلى الأقلّ في الإِطار السيكولوجيّ. وهذا ما نكتشفه عندما نقرأ المقاطع التالية: "وإذ كان الشعب على انتظار، والجميع يتساءلون عن يوحنا هل يكون المسيح" (15:3). فهذه الآية تهيّئ الدرب لتصريح يوحنا عمّا يفعل. إن لم يكن المسيح فكيف يعمّد؟ وفي 43:9 "كانوا متعجّبين من كلّ ما صنع" فقال يسوع لهم: واجعلوا هذه الكلمات في آذانكم". ونتساءل: ما هي المناسبة التي فيها علّم يسوع تلاميذه الصلاة الربيّة؟ يجيب لوقا: "كان ذات يوم يصلّي في موضع ما. فلما فرغ قال له واحد من تلاميذه: يا رب، علّمنا أن نصلّي كما علّم يوحنا تلاميذه (1:11).
ونتوقّف أخيرًا عند ترتيبين ساعدا لوقا على إظهار التماسك في إنجيله. الأوّل: إنباء بأحداث آتية؛ والثاني: تدرّج في موقف العِداء الذي يتّخذه خصوم يسوع.
نقرأ في 1: 80 أن يوحنا المعمدان "أقام في القِفار إِلى يوم اعتلانه لإسرائيل". وهكذا تهيّأت الطريق لما سنقرأه في 3: 2: وكانت كلمة الله إلى يوحنا بن زكريّا في القفر". ويقول لوقا في 13:4: "ولمّا أنجز إبليس جميع تجاربه، انصرف عنه إلى الوقت المعيّن". والوقت المعيّن هو يوم الآلام: "دخل الشيطان في يهوذا الملقّب بالإسخريوطيّ" (3:22). هو يوم التجربة الأخيرة التي انتصر عليها يسوع في بستان الزيتون ودعا التلاميذ إلى الصلاة لئلاّ يقعوا في التجربة (46:22).
تحدّث الناس عن يسوع وحسبوه يوحنا المعمدان الناهض من بين الأموات. فقال هيرودس: "أمّا يوحنا فقد قطعت أنا رأسه. فمن هذا الذي أسمع عنه مثل هذه الأخبار؟ وكان يطلب أن يراه" (9:9). ولكنه سيرى يسوع، ويصادق بيلاطس على حساب هذا النبيّ. "أمل أن يعاين منه آية يصنعها"، فلم ينل شيئًا (8:23- 12). ويحدّثنا لوقا عن عادة يسوع "أن يخرج في الليل ويبيت في الجبل المدعوّ جبل الزيتون" (37:21)، فيوجّه أنظارنا إلى تلك الليلة الأخيرة التي فيها "مضى كعادته إلى جبل الزيتون" (22: 39).
وتجنّب لوقا القول من البداية إن الفريسيّين والهيرودسيّين تشاوروا كيف يهلكون يسوع، كما قال مر 6:3. ولكنه لاحظ التدرّج في العداوة ضدّ يسوع بلقطات سريعة. بعد شفاء صاحب اليد اليابسة: "استشاطوا غيظًا وائتمروا في ما يقدرون أن يفعلوا بيسوع" (6: 11). وستشتدّ هذه العدواة بعد كلام يسوع في رئاء الفريسيّين وكبريائهم: "أخذ الكتبة والفريسيّون يوغرون صدورهم عليه (ازدادت نقمتهم عليه) ويتفنّنون بالأسئلة عن شتّى الأمور، وهم يكيدون له ليصطادوا من فمه كلمة يتّهمونه بها" (53:11- 54). وبعد الدخول إلى أورشليم، "كان رؤساء الكهنة والكتبة ووجوه الشعب يطلبون أن يهلكوه. بيد أنّهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً لأن الشعب كلّه كان يستمع إليه في شغف" (47:19- 48). وسيحاول الكتبة "أن يلقوا الأيديَ عليه" (20: 19)، بانتظار أن "يلتمسوا وسيلة ليميتوه" (3:22). وتمّ لهم ذلك في بستان الزيتون: "ألقوا القبض عليه وقادوه" (22: 54).

3- إنجيل لوقا إنجيل الخلاص والرحمة
يسوع هو المخلّص، ومخلّص العالم كلّه. هو آدم الثاني (38:3) الذي يربط البشريّة بالله. ولقد شدّد لوقا على لطف هذا المخلص وحنانه تجاه الخطأة. فالربّ جاء "ليطلب ما قد هلك ويخلّصه" (10:19). وهو يفضّل الخطأة على غيرهم، فيهتف: "هكذا يكون في السماء فرح بخاطئ يتوب، أكثر ممّا يكون بتسعة وتسعين صدّيقًا لا يحتاجون إلى توبة" (7:15). ويكرّر القول عينه في مثل الدرهم المفقود: "هكذا يكون الفرح عند ملائكة الله بخاطئ يتوب" (15: 10). وينهي مقطعَيْ مثل الابن الشاطر بردّة تتكرّر: "لنأكل ونفرح لأن ابني هذا كان مَيْتًا فعاش، وضالا فوجد" (24:15). "لا بدّ أن نتنعّم ونفرح لأن اخاك هذا كان مَيْتًا وعاش وضالا فوجد" (32:15).
إن يسوع يقبل الخطأة ويأكل معهم، وهذا ما لا يفعله يهوديّ متزمّت. ولهذا تذمّر عليه الكتبة والفريسيّون (15: 1- 2). أمّا هو فاهتمّ بعودة الخاطئ كما يهتمّ الراعي بخروفه الضالّ، والأبُ بابنه الشارد. لهذا استقبل الخاطئة وغفر لها فعلّمها طريق الحبّ. قال لها: "إيمانك خلّصك، فاذهبي بسلام" (7: 50). وقَبِل دعوة زكّا وهو العشّار المعروف (19: 1- 10): مضى وأقام في بيت رجل خاطئ، فتذمّر الجميع. أمّا زكّا فرحّب بيسوع واعترف بخطاياه أمام الربّ الذي أعلن: "اليوم قد حصل الخلاص لهذا البيت، فإنه هو أيضًا ابن لإبراهيم"، هو ابن جدير بأبي المؤمنين بعد أن أظهر كلّ هذا السخاء في ارتداده إلى الربّ. وغفر يسوع لجلاديه (34:23)، كما غفر للصّ (39:23- 43) ووعده بالملكوت.
ولكن رحمة الله ليست ضعفًا. فان استقبل بترحاب الخطأة المستعدّين لقبول غفرانه، فهو قاسٍ بالنسبة إلى المتكبّرين المتسلّطين (1: 51- 52)، بالنسبة إلى الأغنياء المتخمًين بخيرات هذا العالم (24:6- 25)، هو قاس بالنسبة الى الذين لا يشعرون بشقاء إخوتهم، إلى الذين يتنعّمون تجاه إخوتهم المطروحين على بابهم (16: 19- 25)، بالنسبة الى أناس يعتبرون نفوسهم صدّيقين: وأنتم توهمون الناس أنكم صدّيقون، لكن الله عالم بقلوبكم. فإن الرفيع عند الناس رجسٌ عند الله" (16: 15). ويقسو يسوع على الفريسيّ الذي تَحكُم عليه صلاتُه، لانه ترفّع على الله فمنّنه لِما يقوم به من اصوام وتقديم عشور، وترفّع على القريب فاحتقره لانه لا يمارس الشريعة (9:18- 14). وقسا يسوع على الكاهن واللاوي صاحبَي القلب القاسي أمام آلام الناس (10: 31- 33): أبصر الكاهن الجريح وتجاوزه. ووافى اللاوي المكانَ فأبصر الجريح وتجاوزه.
مقابلَ هذا، ينفتح ملكوت السماء واسعًا أمام الذين احتقرهم اليهود. فُتح باب السماء أمام زكّا العشّار، وتبرّر العشار في صلاته بعد أن هتف: "اللّهمّ، اكفر لي أنا الخاطئ" (13:18). وما لم يفعله الكاهن واللاوي فعله ذاك السامريّ: "تحنَّن على الجريح. فدنا إليه وضمّد جروحه وصبّ عليها زيتًا وخمرًا. ثم حمله على دابّته الخاصّة وأتى به الفندق واعتنى به" (33:10- 34). إن السامريّ علَّم اليهوديّ كيف يكون الإنسان قريبًا لأخيه، والغريبُ أعطى الشعب درسًا في الشكر وعرفان الجميل (18:17: "أوَ لم يوجد من يرجع ليمجّد الله إلاَّ هذا الغريب"؟). والمرأة الخاطئة علّمت سمعان الفريسيّ كيف تنفتح على حبّ الله فتنال غفرانه (47:7).
تحدّث مرقس عن التينة العقيمة التي استحقّت اللعنة: "لا يأكلَنَّ أحد ثمرة منك إلى الأبد" (مر 14:11). ولكنّ لوقا عاملَ التينة المغروسة في كَرْم الرب بأناة وصبر. قال: "دَعْها هذه السنة أيضًا حتى أعزِق حولها وألقي سمادًا... لعلّها تثمر، وإلاّ فتقطعها" (6:13- 9).
إن موقف الرحمة والغفران هذا هو علامة مخلِّص يطلب الخروف الضائع، ويرغب في أن يضحّي بنفسه من أجل أحبّائه. حدَّث تلاميذه بالألغاز: "لي معمودية أعتمد بها وما أشدّ رغبتي بأن تتمّ" (12: 50). أجل يسوع يتطلّع إلى موته المقبل، وكم يودّ أن يصل إلى نهاية حياته العلنية فيعبّر التعبير الكامل عن رسالته الخلاصيّة (رج 22: 15).
ونرى يسوع يحدِّث تلاميذه بلغة الحنان: "أقول لكم أنتم أصدقائي" (12: 4). "لا تخف أيّها القطيع الصغير" (12: 32). إنه يهتمّ بهم كما يهتمّ الراعي بخرافه. كلَّم يهوذا بلطف ورقّة حين سلَّمه. سمّاه باسمه وقال له: "أبقبلة تسلّم ابن البشر" (48:22). ونظر إلى بطرس بعطف ومحبّة داعيًا إيّاه إلى التوبة. "فمضى إلى الخارج وبكى بمرارة" (22: 61).
غير أن يسوع لا يغفر للنفوس إلا ليقيمها من عثرتها ويدخلها إلى حياة أسمى. وهذا الصعود يتطلّب جُهدًا وتضحية. فإن كان إنجيل لوقا إنجيل الرحمة فهو أيضًا إنجيل المتطلّبات. فيسوع يطلب من الذين يريدون أن يتبعوه تجرّدًا كاملا: "من لم يزهد في جميع أمواله لا يستطيع أن يكون لي تلميذًا" (33:14). أو: "بيعوا ما تملكُ أيديكم وتصدّقوا" (12: 33؛ رج 34:6- 35؛ 12: 13- 21؛ 12:14- 14؛ 9:16-13). لا شكّ في أن لوقا لا يشجب الغنى في حدّ ذاته. فهو يعرف أغنياء أمثال يونة امرأة خوزي (3:8) وزكّا (19: 2، 8) ويوسف الرامي (23: 50- 51). ولكنه يعرف أن الغنى الذي لا نعرف كيف نمتلكه يكون "مال الظلم" (16: 11) ويعرّض صاحبه للتكبّر وقساوة القلب. ولن يكتفي التلميذ بأن يتخلى عمّا يملك، بل يتخلّى حتى عن المرأة والبنين والبنات. إنه كذلك الخصيّ "الذي صان نفسه من أجل ملكوت السماوات" (مت 12:19). إن التجرّد مع القديس لوقا يذهب بنا حتى التجرّد عن نفوسنا (14: 26) إذا أردنا أن نكون تلاميذ المسيح.
وحياة التجرّد هذه هي غير ممكنة من دون الصلاة التي سبقنا إليها يسوع خلال حياته على الأرض. فعلى التلميذ أن يقتدي بمعلّمه، أن يصلي بدون انقطاع (18: 1) متّكلاً على عمل الروح في حياته.
هذا هو إنجيل لوقا الذي دوَّنه كاتبه إلى مُحبّ الله تاوفيلس، وكتبه إلينا "لنعرف جيّدًا قوة التعليم الذي وعظنا به" (4:1). أمّا موضوع كتابه فهو أحداث حياة يسوع وأقواله. من أجل هذا سُمِّي هذا الكتاب إنجيلاَ يدعونا إلى السعادة كما دعا الفقراءَ والمرضى الخطأة، لأنه يحمل إلينا بُشرى الخلاص التي حملها الملائكة إلى الرعاة فملأوا قلوبَهم مسرّة: "أبشّركم بفرح عظيم. ولد لكم مخلّص هو المسيح الرب" (2: 10- 11). إلى هذا المخلّص سنتعرّف في أقوال دوّنها لوقا بترتيب، فكان امتدادًا لمتّى ومرقس وطريقًا إلى يوحنا الذي حدّثنا عن الحَمل الآتي ليرفع خطيئة العالم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM