الفصل الثاني عشر :عرش من شجر لبنان

الفصل الثاني عشر
عرش من شجر لبنان
3: 9-11

ها قد وصل سليمان وهو يجلس على عرشه المصنوع من خشب الأرز. هو الحبيب يعود إلى أرضه، إلى حيث تقيم حبيبته. هنا يجب أن تفسّر كل التفاصيل المادّية بطريقة رمزيّة: خشب لبنان، العواميد، التاج، المقعد، المسند، بنات أورشليم، أم سليمان.
(آ 9) ما معنى "ا ف ري و ن "؟ كلمة لا ترد إلاّ هنا في التوراة كلّها. قد تعني "محمل، هودج ". فقالت المشناة: سرير العروس المحمولة إلى موكب العرس. أما السبعينيّة فقالت: سرير أو كرسي يحملون عليه شخصًا وجيهًا. والبسيطة: العرش، الكرسي (كورسيا)
إن هذه الآية تلمّح إلى 1 مل 10: 18- 20. يصوّر هذا المقطعُ العرش الرائع الذي صنعه سليمان فوضعه في رواق العرش أو القضاء. تذكّر نش عظمة سليمان حين أراد أن يتحدّث عن الملك المسيحاني، وتطلعّ إلى آ 11 حيث يتوّج ابن داود ملكًا.
(آ 10) اختلفت الترجمات فتحدّثت عن سرير أو عرش، ولهذا قالوا: قوائم أو أعمدة (ع م و د ي و). وترد لفظة "ر ف ي د ت و" هنا ولا ترد في أي مكان آخر من التوراة. تعني "الروافد" أو "متّكأ" العرش. رج فعل "رفد" في العربيّة أي أسند (الحائط). وقالت السريانيّة: تشويته أي السرير الذي عليه نستلقي. وهكذا تكون العواميد من فضة والمتّكأ من ذهب. هذا لا يعني أنها كلها مصنوعة بالفضة والذهب، بل مغشّاة (عد 17: 3- 4؛ 1 مل 6: 20- 22، 32، 35).
"م ر ك ب و" (مقعد). قد تكون البسيطة قرأت "م ك س ي ه و" (تكسيته) الذي يعني اللباس أو الستار. وعادت الشعبيّة والسبعينيّة إلى الجذر "ركب " فتحدّثت عن المطيّة أو المركبة (1 مل 5: 6؛ لا 15: 9). هنا نفهم أننا أمام عرش ينتصب على منصّة وفوقه قبّة.
والعرش مغطّى بالأرجوان (ا ر ج م ن، كما في راس شمرا والعالم الأشوريّ) الغالي الثمن. وقد صار رمزًا إلى الملك. ولقد تحدّث إر 10: 9 وبا 6: 71 عن ثياب من الأرجوان تُوضع على الأصنام. وتتحدّث النصوص الكهنوتيّة في أسفار موسى عن قماش الأرجوان (قد يكون أحمر أو بنفسجيًّا) الذي يستعمل في زينة المعبد ولباس عظيم الكهنة (خر 26: 21- 36؛ 27: 16؛ 28: 5، 6، 8، 15، 33). ويروي 2 أخ 3: 14 أن حجاب قدس الأقدس في هيكل سليمان صُنع هو أيضاً من الأرجوان.
ينتج عن هذه النصوص أن الأرجوان يرمز إلى السلطة الملكيّة التي تخصّ الألوهة بشكل خاصّ. فإن كان سليمان نش يمتلك الكرامة المسيحانيّة (رج 8: 1)، فيجب أن نذكر الأرجوان حين نتحدّث عنه.
ونتوقّف عند نهاية الآية بما فيها من صعوبات: "ومسنده رصفته بمحبّة بنات أورشليم ". هناك "ت و ك و" التي قرأها بعضهم: الأرجوان البنفسجيّ (ت ك د ت). نطرح السؤال: بماذا يرتبط الضمير "و" (الذي يقابل الهاء في العربية، ت و ك ه)؟ هل يرتبط بالمقعد فيدلّ على داخل السرير أو المقعد؟ هناك من يربطه مع "ا رج م ن " (أرجوان) ويعود إلى خر 39: 3. هذا المقطع الذي يصوّر أفود (لباس) عظيم الكهنة، يتحدّث عن خيوط من الذهب في وسط الارجوان (ب ت و ك. ا رج م ن). وهكذا تدلّ "ت و ك و" على القماش الثمين نفسه الذي فيه يدخل التطريز الذي سوف نتحدّث عنه. وهكذا نقول: وسطه. أي المدى الواقع بين العمودين والقبّة والمقعد.
ويأتي اسم المفعول "ر ص و ف " الذي لا يرد إلاّ هذه المرّة في التوراة. يعني الفعل رتّب العناصر المختلفة. رج فعل "رصف " في العربيّة. ضمّ (الحجارة) بعضها إلى بعض. نحن هنا أمام صورة الحجارة المرصوفة أو الفسيفساء. نحن أمام نسيج خاص في مقعد العرش.
وترد لفظة "ا ه ب ه" (المحبّة). اعتبر بعضهم أن لا معنى لهذه الكلمة هنا. فقال "هـ ب ن ي م " (حز 27: 15): الابنوس. اذن، مرصوفة بالابنوس. ولكن لماذا نلغي لفظة "المحبّة" من نشيد يحدّثنا عن الحبيب والحبيبة. عن الله الذي يختار عروسه، والعروس التي تريد مع ضعفها أن تتعلّق بعريسها، تتعلّق بربّها.
(آ 11) أخرجن يا بنات صهيون. بمعنى تقدّمن إلى هنا. انظرن، شاهدن. "بنات صهيون ". عبارة لا تترجمها السبعينيّة ولا نجدها في مكان آخر من نش الذي يستعمل "بنات أورشليم ". لهذا يُلغي عدد من الشرّاح "بنات صهيون " ويربطون آ 10 مع آ 11 فيقولون: "بالحبّ رصّع وسطه. أخرجن يا بنات أورشليم ". ولكن العبارة تأتي بشكل طبيعي في قلم الشاعر الذي يصوّر لنا المشهد على جبل صهيون، على القمّة المقدّسة في أورشليم. نجد "رآه " (رأى) مع حرف الباء، فنفهم: شاهد بنشوة وباندفاع. ليس هذا المشهد مشهدًا عاديًّا، ولهذا ستكون نظرتنا إليه نظرة فوق العادة.
هناك حديث عن التاج. أي تاج يعني؟ يرى بعض الشرّاح فيه إكليل الزواج الذي يوضع على رأس العريس (والعروس أيضاً). ويرى آخرون تدشين الملك. في الواقع حين نتحدّث عن التاج (أو: الاكليل)، فنحن لا نرى فيه زينة من الزينات، بل رمزًا إلى السلطة العليا (2 صم 1: 10 ؛ 2 مل 11: 12؛ أش 62: 3 (إكليل عزّ في يد الربّ، وتاج ملك في كفّ إلهك)؛ إر 13: 18، حز 16: 12. وهذا هو هدف نش: أرانا المسيح في صورة الملك سليمان، وحدّثنا عن العرش الذي من هناك يراه شعبه. ثم، لا شكّ في أن صورة الزواج سوف تجد مكانها في المشهد، ولكن بطريقة لا نتوقّعها.
"ح ت و ن ه" تقابل "ح ت ن " أي صار صهر شخص من الاشخاص، تزوّج. رج ختنه في العربيّة: تزوّج إليه وصاهره (الختن: زوج الابنة). لا ترد " ت و ن ه" إلاّ في هذا المكان من التوراة وتعني "العرس ". هنا يجب أن نفهم أي عرس يعني الكاتب في عبارة "يوم عرسه ". نحن هنا أمام اتحاد أول على مستوى الواقع أو الاستعارة. فمنذ آ 6، يصوّر الشاعر في بعض اللمسات أعياد هذا الزواج الملكيّ. وإليك بعض النماذج من الشروح المطروحة.
(1) توجّهت بنات أورشليم إلى رفيقاتهنّ ودعوتهنّ إلى رؤية الملك الذي يعتمر تاجًا وضعته أمه على رأسه خلال زواج سابق. هذا ما يلمّح إلى الدور الذي لعبته بتشابع في مجيء ابنها سليمان إلى الملك (1 مل 1). (2) دخل العريس والعروس دخولاً احتفاليًا إلى أورشليم. فكانت آ 6- 10 كلمات الجوقة التي تكوّنت من رجال أورشليم الذين توجّهوا إلى نساء أورشليم المختبئات في بيوتهنَّ. حين تحدّث الشاعر عن أمّ الملك، فكّر في بتشابع التي ظلّت سلطتها كبيرة على ابنها. (3) تكلمت الشولميّة فصوّرت أعياد الزواج، وشدّدت ساخرة على بذخ الملك وميوعته وضعف شخصيّته. (4) العريس والعروس هما ملك وملكة. جاؤوا بهما ووضعوهما على عرش صُنع في المناسبة. والنساء اللواتي تحلّمن هنا هنّ أولئك اللواتي دعين إلى العيد. فكيف يعقل أن يتوّج رجل بيد أمّه في يوم عرسه؟ (5) ذهب سليمان إلى مقرّه في الشمال، على سفح جبال لبنان. هناك كانت العروس. وأرادت نساء "الحريم " أن يؤثّرن عليها فأبرزن بهاء الموكب. اعتمر الملك التاج الذي قدّمته له أمّه في الماضي، وهذه الأم كانت قد لعبت دورًا بارزًا في تنظيم زواجه.
(6) نحن أمام زواج رمزي بين الربّ وشعبه، والموكب يرافق تابوت العهد الصاعد إلى أورشليم. فمع أن الزواج قد احتُفل به في سيناء، فالكاتب يتمثّله مكرّرًا باحتفال في الهيكل الذي يتكيّف مع رونق العيد. فتاج سليمان (أي تاج الله)، زوج اسرائيل، هو جناح العرس أي الهيكل. أما التوسّع حول أمّ سليمان، فهو زينة أدبيّة. فإذا كان هناك من واقع، فنحن أمام المجمع. ونستطيع أن نقول عن طريق الاستعارة أنها توّجت يهوه لأنها بنت الهيكل إكرامًا له.
الصعوبة الوحيدة في هذا التفسير هي تنوّع الرمز. كانت الأمّة "عروسًا" فصارت "والدة". غير أن آ 6- 11 لا تتحدّث عن العروس. وهكذا يتجنّب الكاتب الصورة التي قد تصدمنا. يوم الأعراس هو الاحتفال العظيم بتدشين الهيكل الذي يرويه 1 مل 8 و 2 أخ 5-6.
(7) يتحدّث النصّ عن الرب الذي هو سليمان الحقيقيّ الذي يضع يده على الهيكل فيدلّ على سلطته عليه. ولكن عبر المشهد الذي يحصل في أورشليم، ما زال الكاتب يلمّح إلى الحياة في البرّية، إلى المحرقات وتابوت العهد والقبائل التي هي بنات أورشليم. أما ذكر الأم فخدعة أدبيّة وتلميح إلى بتشابع (1 مل 1) وإلى أش 61: 10 حيث نقرأ: "فرحًا أفرح يا رب، وتبتهج نفسي بإلهي. ألبسني ثياب الخلاص (أو الثياب الموشّاة، ثياب العيد) وكساني رداء البرّ كعريس يتوّج بتاج "
(8) صعد تموز الذي تماهى مع مردوك، إلى أورشليم بعد أن خرج من الجحيم. حُمل في مركبة رائعة تشبه القوارب المقدّسة التي فيها تقيم آلهة مصر الاحتفال هو احتفال بزواج. هو عيد الجلوس على العرش. والالاهة عشتار التي هي أم الاله تموز وزوجته، تضع على رأسه التاج الملكيّ. تلك هي بعض الآراء.
ولكننا لا نستطِيع أن نكتشف فكرة الكاتب إلا إذا عدنا إلى التقليد البيبليّ الذي يستلهمه. هناك أولاً نصّان نجد فيهما معًا صورة التاج (الاكليل) وصورة الزواج. قرأنا أش 61: 10: العريس يعتمر التاج والعروس تتزيّن بالحلي. هي جماعة العائدين من المنفى تتكلّم بفم النبيّ. هي تشكر الله على الخلاص الذي تمّ لها في إعادة بناء فلسطين التي دمّرتها الحرب. لقد تحقّق هذا البناء بشكل تام فشبِّه رونقه بزينة العرس. وهكذا كانت مقابلة بين الاعراس وحلول الأزمنة الجديدة، أي استعادة العلاقات التي كانت بين الله وشعبه.
ويبدو النصّ الثاني أكثر وضوحًا. توجّه النبيّ إلى أورشليم فقال: "تكونين إكليل عزّ في يد الربّ وتاج ملك في كفّ إلهك. لا يقال لك من بعد "مهجورة" (هجرها زوجها. هجرها السكّان). ولا تُدعى أرضك من بعد "خربة" بل تدعين (يقال لك): سروري فيها وأرض "مزوّجة"، لأن الرب يُسرّ بك وأرضك تكون زوجًا. فكما يتزوّج الشابّ بكرًا، يتزوجك بانيك (الذي بناك)، وكسرور العريس بالعروس يفرح بك إلهك " (أش 62: 3-5).
نرى هنا بوضوح أن البناء الاسكاتولوجيّ يشبّه بعودة الزوجة الخائنة إلى نعمة الله. ولكن هذا النصّ يدلّ على أن شقاء الماضي كان وكأنه لم يكن، بفيض لا يُفهم من رحمة الله. لقد استعاد الرب "الخائنة" دون أية خلفيّة، دون تحفّظ بفرح طوعي وغامر، بفرح حبّه الأوّل. إذن، حصل كل شيء وكأننا أمام بداية مطلقة واتّحاد أوّل.
هذان النصّان ليسا وحدهما في التوراة. إنهما منتهى تعليم تقليدي نجد نقطة انطلاقه في هو 2. فالأمّة المختارة زنت مع البعل. فعاقبها الرب عقابًا يتوخّى أن يعيدها إلى ذاتها. وفي النهاية، وبعد أن اقتادها إلى البرّية أعاد إليها كرومها، أي أصعدها من جديد إلى فلسطين. حينئذ (آ 17، 18) استنكرت ضلالها وتجاوبت مع نداء الله. وهتفت في عاطفة حبّ وأمانة لا تحفظ فيها: "زوجي ". قالتها كما كانت تقولها في أيام صباها، أي ساعة الخروج وسيناء. وتحدّثت آ 21- 22 عن أعراس جديدة وأبديّة. هذا لا يعني أن الاتّحاد السابق قد انقطع، بل على أن عودة العروس كلها صدق واندفاع، وأننا أمام حالة نهائيّة تتوّجها بركة هي نتيجة لها.
واستعاد إرميا هنا كعادته فكر هوشع وتوسّع فيه. في 3: 1- 8، لمّح إلى نقطة من الشرع حدّدها تث 24: 1- 4. بحسب هذا النصّ، لا يستعيد الزوج الأوّل زوجته التي طلّقها طلاقًا شرعيًّا بكتاب، إن لم يكن قد تزوّجها في ذلك الوقت شخص آخر. وطرح إرميا السؤال محاولاً أن يعرف إن كان العفو يصل إلى الأمّة التي طلّقها الرب بعد اتحاد زنائي مع البعل. وبدا الجواب سلبيًّا (لا يستطيع أن يعفو ويستعيد زوجته) بالقياس مع تث وما يفهم من إر 3: 1، 8. ولكن لم يحصل شيء من قبل الربّ يدلّ على أنه أعطى كتاب طلاق، على أنه رذل شعبه بشكل نهائيّ. فمن جهة الزوجة، هي لم تتزوّج بآخر فهي قد واصلت علاقات الزنى.
إذن، انحصر كل شيء في مسألة أخلاقيّة: ابتعاد الأمّة هو عمل ضعف تُسأل عنه وحدها، وتجعل الله ينتظر. لا شكّ في أن المنفى هو طلاق حقيقي ورذْل للأمة الخاطئة، ولكننا لسنا أمام شيء نهائيّ. المنفى هو تأديب يصيب الخائنة ويدعوها لكي تعترف بخطأها. وحين تفهم الدرس، لن يقف شيء أمام عودة الزواج إلى سابق عهده. هذا ما حصل في إر 31: 31- 33: كان العهد الجديد امتدادًا لعهد سيناء وتجاوزًا له.
ونجد تعبيرًا عن هذا التعليم عينه في أشعيا الثاني مع تحديد دقيق جدًا. يؤكّد 50: 1 بوضوح أنه لم يكن هناك كتاب طلاق، وأن سبب الانفصال هو خطيئة اسرائيل. وأعلن 54: 1 أن وضع الزوجة الجديد سيكون أفضل من القديم. وتبدو آ 4- 8 واضحة جدًا: أكّد النبيّ أن خطايا الزواج الأول والعقاب الذي كان نتيجتها، قد نُسيت إلى الأبد. وها يهوه يستعدّ لكي يتزوّج باسرائيل مرّة ثانية (آ 5). سيدعو من جديد الزوجة المهجورة والحزينة، سيدعو زوجة صباه التي طلّقها (آ 6). وهذا العمل سيكون نتيجة رحمته، ولن يستطيع شيء أن يدمّره، لأن العهد الجديد سيكون أبديًّا (آ 7- 10).
لقد حزن يهوه ورذل زوجة صباه بحيث صارت شبيهة بامرأة مطلّقة. وها هو يستعدّ أن ينسيها عار ذنوبها وخزي العقاب الذي فُرض عليها، فيدعوها من جديد ويتزوّجها. ولن يستطيع شيء أن يحطّم هذا الزواج.
هذا هو التيّار التعليميّ الذي يرتبط به نش 3: 11 بواسطة هذين النصّين الاساسيّين، أش 61: 10؛ 62: 3- 5. على ضوء هذا الكلام، يتوضّح لنا أن يوم أعراس الملك سليمان، يوم فرح قلبه، هو يوم مجيء المسيح الاسكاتولوجيّ الذي يشبه الزواج، لأنه يجدّد (ويكرّس إلى الأبد) عهد سيناء الذي يبلغ إلى ملء كماله.
والتاج (أو الاكليل) هو رمز السلطة الملكيّة، كما هو في معنى ثانٍ ، زينة العريس التقليديّة. وأم العروس هي الأمّة. هذه الصورة التي لم نكن لنقبل بها في فرضيّة تجعل يهوه "على المسرح "، لا تجد أي اعتراض حين يكون الموضوع المسيح. إنه ابن شعب اسرائيل. ونستطيع أن نسمّيه أيضاً العريس لأنه يمثّل يهوه. وأم الملك، أي الأمّة، تتوّجُهُ في يوم أعراسه.
يبدو أننا نجد هنا تلميحًا إلى ممارسة معروفة في اسرائيل. فالملك، وإن خلف بطريقة شرعيّة سلفه، وإن دلّ عليه الله وكرّسه نبيّ من الأنبياء، لا يبدأ مهمّته الملكيّة بدون موافقة الشعب. وتدخّل الشعب واضح في قض 9: 6- 16، 18 (أبيمالك) ؛ 1 صم 11: 15 (شاول) ؛ 2 صم 5: 1-3؛ 1 أخ 11: 1-3، 10 ؛ 12: 24، 32، 39 (داود) ؛ 29: 22 (سليمان) ؛ 2 أخ 10: 1 (رحبعام) ؛ 1 مل 12: 20؛ 2 أخ 17: 21 (يربعام)، 1 مل 16: 16 (عمري) ؛ 16: 21 (تبني) ؛ 2 أخ 22: 1 (أحزيا) ؛ 2 مل 11: 12 ؛ 2 أخ 23: 11 (يوآش) ؛ 2 مل 23: 30؛ 2 أخ 36: 1 (يوآحاز) ؛ 2 مل 14: 21؛ 2 أخ 26: 1 (عزريا- عزيا) ؛ 2 مل 21: 24؛ 2 أخ 33: 25 (يوشيا).
لهذا، كان من الطبيعيّ أن تتوّج (أي تعلنه ملكًا) الأمّة الملك المسيحانيّ فتدلّ بذلك على كرامته وتخضع لسلطته بحريّة تامة.
في النهاية نقول إن نش 3: 6- 8 ليس فقط صورة عن موكب عرس، بل تعبيرًا عن الآمال الاسكاتولوجيّة والمسيحانيّة. في آ 6، نرى المسبيّين يعودون كما كان الأمر في سفر الخروج. وتصوّر آ 7- 8 الملك في سريره يحيط به حرسه. وهو يصعد إلى صهيون من أجل حفلة التتويج. وتصوّر آ 9- 10 عرش غرفة المقابلات، حيث يقدّم نفسه للشعب. وأجلس الملك (آ 11) بأبّهة وجلال، واعتمر التاج الملكيّ علامة عن سلطته السامية التي يوافق عليها شعبه.
حين رأى الشاعر هذا المشهد، عبّر عن دهشته واعجابه، ودعا بنات صهيون ليأتين ويشاهدن ذاك الذي يدلّ مجيئه على نهاية المحنة التي تصيب الأمّة. فهذه ساعة البناء التامّ والنهائيّ، ساعة العهد الجديد الذي أنبأ به الأنبياء.

* سليمان صنع عرشًا
نحن أمام مقعد من أرجوان، وعواميد من فضة، وقبّة من ذهب. هناك سيجلس "الملك سليمان ". ولكنه عرش من نوع خاصّ، عرش إلهي. عرش أزليّ كما يقوله مز 45: 7 ؛ لأن الملك المذكور هنا ليس ملكًا محدّدًا: إنه الملك المسيحانيّ. وهكذا نكون أمام تعارض مقصود بين سرير يحيط به الجبابرة الستّون، والمعبد المتواضع الذي يدلّ على حضور الله خلال مسيرة البريّة، والمقعد الملكيّ الذي يجلس فيه الآن.
هذا العرش يلفت كل انتباه نش. فلا يصوّر من كل قصر الملك إلا هذا الرمز الذي يدلّ على عظمته غير المحدودة وبهائه مجده. قال أش 6: 1- 4: "رأيت الربّ جالسًا على عرش رفيع ". هذا كل ما تميّزه أشعيا حين "رأى الملك " في هيكل أورشليم حيث الذهب والفضة والخشب الثمين الآتي من لبنان، والأرجوان الذي صُنع منه قدس الأقداس، تؤلّف لعرش ملك نش مديحًا لقدرة عريس اسرائيل ولبهائه الملكيّ. قال 1 مل 10: 18- 20 إن "الملك سليمان صنع عرشًا كبيرًا من العاج وطعّمه بالذهب المصفّى، فلم يُر مثله في مملكة من الممالك ". أما عرش ملك نش فليس له ما يضاهي به عرش سليمان الذي يتحدّث عنه التاريخ. ولكن سيوعد ابن داود الحقيقيّ، في يوم البشارة، بأن "الرب يعطيه عرش داود أبيه " (لو 1: 32). هذا هو التفصيل الوحيد الذي يرتبط بسلطان يسوع في خبر لوقا.
لقد نال سليمان الجديد عرشه من الله نفسه، كما كتب: "قال الربّ لربّي أجلس عن يميني " (مز 110: 1). "عرشك يا ربّ من الأزل إلى الأبد" (مز 45: 7). لهذا يعلن نش أنه صنع لنفسه عرشًا، وليس مديونًا به لأحد آخر. ولكن في الواقع، عمل فيه بفرح وتواضع شعبٌ كامل بل البشريّة كلها، لأن "مقعد الارجوان هو عمل حبّ بنات أورشليم ". أي: عمل كل الأمم التي هي بنات "أورشليم" (الصغيرات، كما يقول حز 16: 46). هكذا أعطي للانسان أن يعمل مع الله من أجل ملكوت الملك المسيح.

* أخرجن يا بنات صهيون
ونسمع أيضاً البشريّة كلها في صوت بنات أورشليم، وهنّ يدعين شعب صهيون "ليخرج " من مدينته فيتعرّف إلى السيادة الشاملة التي ينعم بها الملك الآتي. فيقلن: "أخرجن يا بنات صهيون وانظرن الملك سليمان، يعتمر تاجًا توّجته به أمّه في يوم عرسه، في يوم فرح قلبه ".
انتظر الحبيب القصيدة الثالثة أي قلب نش، ليكشف عن ملء بهائه. ففي المطلع (1: 2- 4) وفي القصيدة الأولى (1: 5- 2: 7)، لم يبدُ ملكًا إلاّ بسلطانه على قلب حبيبته (أدخلني الملك إلى خدره، 1: 4، إذ كان الملك في مجلسه، 1: 12). ولكنه في هذه القصيدة الثالثة ملك تعترف به وتهتف له وتتوّجه مدينة أورشليم المقدّسة، مدينة الله ومدينة البشر، التي تسمّى هنا ولا تسمّى إلا هنا في نش باسم صهيون، وذلك في إطار مجيء ملكيّ يُشبه كل الشبه الإطار الذي رسمه أشعيا: "قولوا لابنة صهيون: ها خلاصك آتٍ " (أش 62: 11). ونقرأ في مز 147: 12: "مجّدي الربّ يا أورشليم، إمدحي إلهك يا صهيون ". ونجد في زك 9:9 نصًا قريبًا جدًا ممّا في نش: "ابتهجي يا ابنة صهيون، وارفعي الهتاف يا بنت أورشليم، فها ملكك يأتي إليك عادلاً ظافرًا".
كيف لا نقابل بين هتافات الشعب حين وصل ملك نش إلى مدينته، وكلمات زكريا النبويّة التي رآها يوحنا بوضوح وقد تمّت في الاستقبال الذي أقيم ليسوع في عيد الشعانين؟ "فالجمع الكبير الذي جاء الى العيد، خرج للقاء يسوع ". فيسوع، بعد مسيرة طويلة، دخل دخولاً احتفاليًا إلى مدينة أورشليم، وكانت المرة الأولى التي أعلن فيها ملكًا. "مبارك الآتي ملك اسرائيل... لا تخافي يا ابنة صهيون، ها هو ملكك يأتي " (يو 12: 13-14).
ولا نجد تفككًا عند كاتب نش حين يكتب أن "الملك سليمان يعتمر التاج الذي توّجته به أمه في يوم عرسه ". فقد يقول الشرّاح إن أم الملك لا تتوّج الملك، وإن الاحتفال بالتتويج لا علاقة له بيوم العرس.
فسليمان الجديد، ابن داود الحقيقيّ، سيكون حقًا ابن جنسنا. قال امبروسيوس: "إن لم يكن هناك إلا أم واحدة للمسيح بحسب الجسد، فكلّهم يلدون المسيح بحسب الايمان. إنه الولد الذي وُلد لنا، الابن الذي أعطي لنا" (أش 9: 5). وفي الوقت عينه سيكون بالعهد الجديد عريس بشريّتنا التي ترى فيه رئيسها ورأس جسدها كله (أف 1: 22)، فتتوّجه كملكها. وإن مز 45 المعروف بطابعه المسيحانيّ ينشد أيضاً تتويج ملك يخرج من نسلنا و"أجمل أبناء البشر"، كما ينشد في الوقت عينه أعراسه (آ 3، 7- 8، 13- 16).
وقد فسّر اكلمنضوس الاسكندرانيّ هذه الآيات من نش كما يلي: "إذن، هكذا توّجته أمّه. وهو يسمي "أمًا" اليهوديّة في ما يتعلّق بناسوته، وهي التي أعطته هذا التاج رغمًا عنها. فقد توّجته بالشوك وهي تتوخّى أن تطبعه بالعار، ولكنه تقبّل بواسطة الشوك اكليل المحبّة. فقد تحمّل العار بإرادته وتقدّم نحو الآلام بحريّته وقبوله. لهذا دعا هذا اليوم "يوم عرسه "، و"يوم فرح قلبه ". ففي ذلك اليوم تحقّق الاتحاد الزواجيّ. "بعد العشاء أخذ خبزًا... ". فالذين يأكلون جسد العريس ويشربون دمه بقانونه اتحاده الزواجيّ. لهذا يحثّ خدّامُ العريس بنات صهيون وأورشليم: "أخرجن وانظرن تاج حبّه الذي به توّجته اليهوديّة، عكس ما كانت تنتظره، وهي التي ولدته وكفلته في يوم عرسه ".
لقد دخل الملك سليمان إلى مدينته، وولج قصره. جُعل على عرشه واعتمر التاج الملكيّ. هذا هو فرح قلبه، فرحه كملك معترف به كعريس محبوب. ونحن لا ننتظر الآن خطبة الجلوس الملكيّ. ننتظر خطبة فيها يؤكّد الملك سلطانه المطلق على شعبه. ولكن دهشتنا ستكون كبيرة، لأن خطبته لن تكون عملاً يدلّ على أنه الحاكم والسلطان، بل ستكون إعلان حبّ واحتفالاً لا نهاية الله بحبيبته العزيزة. ستكون نشيد إعجاب موله لتلك التي هي دومًا حاضرة في قلبه.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM