إليك رفعت عينيّ
المزمور المئة والثالث والعشرون
1. المزمور المئة والثالث والعشرون هو مزمور توسّل تنشده الجماعة لتعبّر عن ألمها في المنفى الذي طالت أيامه. يبدأ بصلاة يقولها أحد أفراد الشعب باسم الجماعة فيعلن ثقة الشعب بالرب، وانتظاره أن يتدخّل فيرحم الملتجئين إليه.
2. المساكين يرفعون عيونهم إلى الله كالعبيد إلى مواليهم.
آ 1: يبدأ المرتّل باسم الجماعة: إليك رفعت عينيّ.
آ 2- 4: جواب الجماعة: تعرض حالتها وتطلب الرحمة.
في هذا المزمور الذي يتلوه الحجّاج، لا نجد الفرحة والطمأنينة كما في المزمور السابق. فالشعب يحتفل بالعيد، والبلاد تمرّ في ضيق الاحتلال والذلّ. ولكنهم رغم ذلك يحجون إلى أورشليم، وإن كان مسكن الله في السماوات. ففي الهيكل، في بيته، يستطيع المؤمن أن يرفع عينيه إلى ربه، ويفتح يديه ليتقبّل عطاءه. ونجد نفوسنا أمام صورة العبد، وعينه على يد مولاه يشير إليه فيعمل، وصورة أمة عينها على يد مولاتها تنتظر منها عطاء. أن يكون المؤمن عبد الله، أن يكون اسرائيل عبد الله، فهذه أعظم نعمة من الرب، وعلامة رضاه أن نكون قريبين منه. وعمل عبد الله هو العبادة له والسكن في هيكله ليل نهار.
3. إن كلمة "عبد" التي يستعملها المرتّل كتشبيه عن شعب الله المنتظر الخلاص من مولاه تأخذ في هذا المزمور معنى عميقًا. الرب إله العهد هو السب الذي يأمر، والشعب هم عبيده. وككل سيّد، يهتمّ الرب بعبيده، فيؤمّن لهم الطعام والشراب، وككل سيّدة يعطف الرب على إمائه. ولهذا يثقون بالرب ويتوسلون إلى رحمته. وعندما يتأكّدون من نظره الحنون، يشكون إليه حالتهم وقد صاروا موضوع هزء لجيرانهم (حز 36: 4).
4. هذا المزمور هو صلاة نستطيع نحن شعب العهد الجديد أن نتلوها كل يوم. والآية الاولى منه تذكرنا ببداية الأبانا: "فالله الساكن في السماوات سيتحنن علينا ونحن نتألم في الضيق". ثقتنا عظيمة، لأننا نلنا النصر بيسوع المسيح، ولم يبق لنا إلاّ أن نكتشف بالعيان ما نعرفه بالايمان.
5. 1- عنوان المزمور (نشيد المراقي) يتحقّق في الوقائع: يصعدنا النشيد درجات من انطلاق متواضع إلى الأعالي. أول مزمور من مزامير المراقي هو صرخة من الضيق نحو الرب. ثم يرفع المرتّل عينيه ويبحث في الجبل ليرى من أين يأتيه العون. فالذي يرفع عينيه هكذا ويفتش من أين يأتيه العون يعرف تعليم الأنبياء فتملأه هذه الكلمات فرحًا.
يتعرّف الآن إلى مبادئ التعليم، ونشيدُ النبي يرافق صعودَه. نحوك رفعت عيني، نحوك يا جالسًا في السماوات.
ورؤية الله المتدرجة التي تنكشف للذين يفتّشون عنه، تشبه نورًا متواضعًا ومحدودًا خضع من وقت إلى آخر لعمى طويل ويهيئنا لنرى النور في كل بهائه. ندعو الله في المحنة، نفتش عنه بواسطة الأنبياء، بواسطة كلام الأنبياء، فيأتينا الفرح. فعلينا الآن أن نتأمّل بثقة وبعين الايمان ذلك الساكن في السماوات.
2- فالسماء التي نراها بعيوننا، هذا الاثير الثابت الذي نسميه الجلد، سيزول ولن يبقى في الوجود. أما عرش الله فيبقى إلى الأبد. فمن الضروري أن يليق المسكن بمن يقوم فيه. والاله اللامحدود واللافاسد لا يسكن في موضع يزول. نحن نؤمن أن الله يسكن في السماوات.
ولكن ما هو هذا المسكن؟ هو الذي قال فيه: "الآب في وأنا في الآب" (يو 10: 10) وعنه قال الرسول: "لقد صالح الله العالم في المسيح" (2 كور 5: 19). نحن أمام ابنه الحقيقي الذي فيه يسكن الآب بفعل الطبيعة عينها. فلا اختلاف في الطبيعة يميّز الابن عن الآب الذي منه وُلد. ولكننا لا نتكلم اليوم عن قدرة الآب والابن التي لا تحلّ. نعترف أن الله المولود من الله لا ينفصل بالطبيعة عن الذي ولده. والاله اللامولود الذي يلد الله الذي هو ابنه الوحيد، يسكن فيه بفعل ولادته. عليه يستند كل رجائنا في أن نعرف الله في ابنه الوحيد. أما بالنسبة إلى الاله اللامخلوق، فمن الجهل أن ننظر السماء ولا نعرف أن الله موجود. أجل، يسكن الله في السماء التي هي المسكن اللائق بالعظمة الالهية.
3- ويوجد مسكن آخر اختاره الله وبه يرضى. عنه قيل: "أسكن فيهم وأسير معهم، أنتم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم" (2 كور 6: 16). ويقول الرسول نفسه أيضًا: "كما يكون الأرضي كذلك يكون الارضيون، وكما يكون السماوي كذلك يكون السماويون أيضًا" (1 كور 15: 48). فالسماوي يدلّ على آدم الثاني. وهو سماويّ، لأن الكلمة تأنّس ووُلد ناسوته من الروح والله. إنه الكلمة. لا كلمة بسيطة وفارغة، بل الله الكلمة. وجوهره لا يفترق ولا يختلف عن جوهر الله. إنه الله في كلمة الله عينه. والسماء التي يسكنها الله هي التي هي منه وله. فيها يسكن في الكائنات السماوية كما قال هو لأبيه: "ليكونوا واحدًا، أنا فيهم وأنت فيّ" (يو 17: 21، 23). فإن كنا "طينًا" في آدم، نحن الآن "سماء" في المسيح، والمسيح يسكن فينا. وبحضور المسيح فينا يسكن الله أيضًا فينا، ويسكن المسيح الله فينا.
4- يتخيّل الناس أن السماء التي يسكن فيها الله هي فوق الجلد. لا نرفض هذا الرأي المتعلّق بمقام الله، الذي يتخيّل السماء كعرش الله. ولكننا نؤمن أن السماء تعني أيضًا المقام اللائق بالله الذي أسّسه في المسيح، آدم السماوي. فلنعرف أن الله يسكن هذه السماء، وأن آدم السماوي يسكن في كل الذين هم فيه والذين جعلهم سماويين.
5- يجب إذن على الذين رفعوا عيونهم نحو الله أن لا يخفضوها وأن لا يميلوا بها، لأنه كُتب في الانجيل: "كل من وضع يده على المحراث ونظر إلى الوراء ليس أهلاً لملكوت الله" (لو 9: 62).
علينا أن نترك الهياكل والمذابح، ونرذل حب المال واغراءات الجسد والرذائل الخفيّة لنتأمل الرب دون انقطاع ولا تعب. فالوثنيون الذين أعماهم ضلالهم صاروا سجناء ديانتهم الخاطئة بحيث لا يقدرون أن ينتزعوا نفوسهم من الخرافات بواسطة نور الحقيقة وحده، وعبدوا مجموعة من الأصنام سمّوها آلهة. وإذا غرقت نفس الخاطئين في وحل الرذائل وخدمت بغيرة عمياء الجسد وسمّته سيدها، فكم يجب علينا نحن الذين نعرف الله خالق السماء والأرض ونعرف أنه يقدر أن يخرج الانسان حيًا من الطين الجامد وأنه يقدر أن يجعله يقاسمه الابدية بعد الموت، كم يجب علينا أن نكرمه دون أن نميل بعيوننا عنه ودون أن يميل إيماننا، بل نسهر باندفاع لئلا نبتعد عن هذا الايمان.
6- علّمنا النبي أن نُثبت دومًا عيونَ روحنا على الله حين قال: "ها إن عيون العبيد على يد مولاهم. وكما أن عيني الخادمة على يد مولاتها، هكذا عيوننا إلى الرب الهنا إلى أن يرحمنا".
يعود النبي إلى مقابلة. تثبت عيون الايمان على الله، كما تثبت عيون العبيد على يد سيدهم. فالخادم الامين يهتم أن يتم في كل شيء إرادة سيده ويثبت عينيه عليه. لو كنا أمام عبيد وأسياد بشريين لقلنا إن عيون الخدم ثابتة على نظر وكلمة وحضور الأسياد والذين يأمرون باشارة أو بكلمة. ولكن "اليد" تعبّر مرارًا عن العمل في الكتاب المقدس. فمن الناس من ليسوا عبيد البشر ولا عبيد الله، بل عبيد الخطيئة كما قال الرب: "كل الذين يصنعون الخطيئة هم عبيد الخطيئة" (يو 8: 34). هؤلاء هم أيضًا عبيد آثام روحية وتجديف على الكائنات السماوية. تثبت عيونهم على ملذات الرذائل وسرابها التي هي يد أسيادهم. فالايدي تدلّ هنا على الاعمال الشيطانية المرتبطة بالاصنام الوثنية: الشراهة والكسل والفجور والترفه والتكبر والبخل والطموح البشري. هؤلاء يثبتون عيونهم على أعمال تستعبد إرادتهم. والآلهة المتعددة هي كأسياد متعددة وكل يبحث عن ديانة على مستواه وذوقه.
7- أما نحن فلنا فقط إله واحد. ولكننا لا ننكر وحدته مع ربنا يسوع المسيح الذي هو الله. نتبع الشريعة والأنبياء والأناجيل والرسل ونعترف بإيمان حقيقي بوحدة الله اللامولود والله المولود. في الواقع، لا يتكلّم الأنبياء عن الله والرب في صيغة الجمع، بل عن كل واحد فيميّزونه عن الآخر.
كتب سفر التكوين. "والرب أمطر من عند الربّ الكبريت والنار" (تك 19: 24). وقال النبي: "الرب ربك مسحك" (مز 45: 8). وأيضًا: "قال الرب لربي" (مز 110: 1). والانجيل يقول: "كان الكلمة مع الله، وكان الكلمة الله" (يو 1: 1). وقال الرسول: "ليس إلاّ اله واحد منه يأتي كل شيء ورب واحد يسوع المسيح به يوجد كل شيء" (1 كور 8: 6). ويقول في مكان آخر: "المسيح خرج منه الذي هو إله فوق الجميع" (روم 9: 5).
تشير هذه الكلمات إلى الرب. ويجب أن نفهم أنه إله لامولود وأنه لا يمكن أن ننكر أن ابنه الوحيد هو أيضًا الله. فكلاهما اله واحد ولكنهما ليسا الهًا مقسومًا قسمين... الله واحد، ولا يوجد لامولودان ومولودان، بل إله واحد مولود من الاله الواحد. كلاهما واحد ولا اختلاف بينهما كما أنه لا انقسام في الطبيعة الالهية. (هيلاريوس).