مشاركة في الجسد والدم
10: 14- 17
اعتاد أهل كورنتوس أن يشاركوا في ولائم تُقام في ظل المعابد الوثنية، ولا سيّما إذا كانوا أعضاء في إحدى نقابات المدينة. فهل سيستمرّون في هذه المشاركة، بعد أن تعمّدوا في يسوع، وأكلوا جسده وشربوا دمه؟ أما يجب عليهم أن يتركوا عادات الانسان القديم ليأخذوا بعادات الانسان الجديد، في البرّ والقداسة؟ إلى هذا يدعو بولس الرسول الكورنثيّين، فينتقلوا من عالم وثني إلى عالم مسيحيّ، كما سبق له وطلب منهم أن ينتقلوا من قيادة موسى والعيش في البرية، إلى قيادة المسيح الذي جعل منّا، نحن الكثيرين، جسداً واحداً. ونقرأ النصّ:
(14) فلذلك اهربوا، يا أحبّائي، من عبادة الأوثان. (15) أكلّمكم كما أكلّم العقلاء، فاحكموا أنتم في ما أقول. (16) كأس البركة التي نباركها، أما هي مشاركة في دم المسيح؟ والخبز الذي تكسره، أما هو مشاركة في جسد المسيح؟ (17) فنحن على كثرتنا جسد واحد لأن هناك خبزاً واحداً، ونحن كلنا نشترك في هذا الخبز الواحد.
هذه الآيات تفتحنا على عمق الافخارستيا، على عشاء الربّ حيث نشارك في كأس البركة، في دم المسيح، وفي الخبز الذي نكسره الذي هو جسد المسيح. أما النتيجة فنصبح نحن كلنا جسدَ المسيح، فنتميّز بالوحدة التي صلّى من أجلها يسوع ليلة آلامه.
1- المشكلة المطروحة
هل يقدر المسيحي أن يشارك في ذبائح الوثنيين؟ ماذا كان يحدث في جماعة كورنتوس؟ كانت تُنحَر الحيوانات إكراماً لهذا الاله أو ذاك. فيُباع ما يفضل عن الكهنة، في السوق بأسعار رخيصة فيشتريها الفقراء بشكل خاص، لأن اللحم كان غالياً. ويوضع هذا اللحمُ على المائدة ويقدّم للضيوف. ما كان الناس يعرفون مصدر هذا اللحم. ولكن بعض المرات، كانوا يقولون للضيوف إن هذا اللحم جاء من عند هذا الاله أو ذاك. فماذا يفعل المؤمن؟ هل يطرح كلَّ مرة الأسئلة؟
نحن هنا في الواقع أمام مسألة عمليّة جداً، وكان بالامكان أن نحصل على جواب على مستوى الحكمة العمليّة. ولكن هذا بعيدٌ عن ممارسة بولس الرسول، الذي ينطلق من الأمور البسيطة ليرفعنا إلى السامية. فما نعيشُه في الحياة اليوميّة يدخل في سرّ عميق، هو سرّ محبّة الله التي تجلّت في يسوع المسيح. فهل ينسى المسيحيّ أنه نور العالم، وأنَّ عليه أن يكشف هذا النور الذي جاء إلى العالم؟
ميّز الرسول موقعين في جوابه. الأول يشجّع عبادة الأوثان، والثاني يتجاهله تماماً. فإن قلنا للمسيحيين هذا اللحم جاء من ذبائح للآلهة فأكلوا، قد يفهمون أنه يحقّ لهم أن يشاركوا في مثل هذه الذبائح، مع أنهم مسيحيّون. وهكذا يُضلّون الوثنيين. والثاني، من اشترى أو أكل مثلَ هذه اللحوم دون أن يعرف أو ينتبه، عليه أن لا يهتمّ. فاللحم صالح في ذاته. والآلهة التي قُدِّم لها، لا وجود لها، وبالتالي لا يمكن أن تؤثّر على اللحم.
يفترض هذا البرهان مبدأ أساسياً: لا نستطيع أن نشارك في ذبائح الأوثان. هنا لا مساومة. الاله الوثني غير موجود، واللحم المقدّم له لم يتبدّل، وبالتالي لا يمكن أن يضرّني. ولكن الذبيحة نفسها، هذه العبادة الكاذبة، هي التي تُفسد المؤمن، لأن الشياطين هم في أساسها. لهذا، فمن أراد أن يتّصل بالآلهة عبر مثلٍ هذه الذبائح، يقترف إثماً. هنا يقوم الكذب الذي يشارك فيه المؤمن فيشارك الشياطين. "يعني أن ذبائح الوثنيين هي ذبائح للشياطين، لا لله. وأنا لا أريد أن تكونوا شركاء الشياطين" (10: 19).
وكانت مسألة الذبائح مناسبة لبولس لكي يتحدّث عن غيرة الرب (10: 22). فالمسيح يريدنا كلَّنا. يريد التقدمة كلَّها، ولا يقبل أن يقاسمه أحد. فمن لا يعطيه كلَّ شيء كان وكأنه لم يُعطِ شيئاً. وحين وصل بولس إلى هذه النقطة من البرهان، تذكّر سرَّ الشكر، الافخارستيا، فرأى فيه أننا لا نستطيع أن نمزج المشاركة في ذبائح الأوثان، وخدمة يسوع المسيح. وهذه الخدمة تتضمّن مشاركة ذبائحيّة، فيها يتّحد المؤمن اتحاداً سرياً مع الربّ. يتماثل معه. ينتمي إليه. إذن، نحن لا نخصّ الله ونخصّ الشياطين في الوقت عينه. فنحن نختار. والمساومة تعني أننا تركنا الله وأثرنا غيرته.
2- الكأس والخبز مشاركة (آ 16)
قدّم بولس كلامَه بشكل سؤال. هذا يعني أن المؤمن يفكّر قبل أن يجيب. فجوابُه يُشرف على أعماله وكل حياته. فهناك رباط بين الاعتقاد وبين الممارسة. وإذ يفكّر المؤمن يؤكّد: كأسُ البركة هي مشاركة. والخبزُ الذي نكسره هو مشاركة.
أ- كأس البركة
في العبادة اليهوديّة، كانوا يباركون الله قبل أن يشربوا الكاس في عيد الفصح.
أخذ المسيحيون بهذه العادة، وأعطوها معنى جديداً، وصل بهم إلى الافخارستيا التي هي عشاء الربّ. لا يحصر بولس كلامه، بلا شكّ، في تكريس الخمر في القداس الالهي، بل يذهب أبعد من ذلك، وهذا ما نلاحظه في "تعليم الرسل" أو "الديداكيه". سُمّي فيه عشاء الربّ "الشكر" أو البركة. ونحن نقرأ في ف 9 عبارة مباركة على الكأس: "في ما يخصّ الافخارستيا، أشكروا هكذا: أولاً من أجل الكأس: نشكرك، يا أبانا، على كرمة داود المقدّسة. عرّفتنا بها بيسوع فتاك، المجد لك في الدهور". مثلُ هذا النصّ يحيلنا إلى العشاء الأخير الذي أخذه يسوع مع تلاميذه، ليلةَ آلامه. في ذلك العشاء، أخذ يسوع الكأس، وبارك... ولما شرب التلاميذ معه، دلّوا على اتّحادهم به، وبعضهم مع بعض.
ب- الخبز الذي نكسر
ونعود أيضاً إلى "تعليم الرسل" الذي يقدّم لنا واقعين آخرين. أولاً، تحدّث بولس عن الكأس ثم عن الخبز، وهكذا قلبَ الترتيبَ الذي نجده في احتفالاتنا، الخبز ثم الخمر. وذاك هو الواقع في الديداكيه. ثانياً، استعملت الديداكيه عبارة "الخبز المكسور". وهذا ما فعله بولس أيضاً. كل هذا يربطنا بما فعله يسوع يوم كثّر الأرغفة: أخذ الخبز وكسر.
ما تحدّث بولس عن عشاء الربّ كما قال في 11: 20، ولا عن سرّ القربان كما نقول في ممارساتنا. بل أشار إلى الكأس التي تقابل الكأسَ في العالم الوثني، فتحملُنا من ممارسة نشارك فيها الآلهة، أو الشياطين، إلى ممارسة نشارك في دم المسيح. كما تقابل هذه الكأسُ ما كان يُفعل في العالم اليهوديّ حيث يمكن أن تدلّ الكأس على مرارة الحياة والشرب يترافق مع الأعشاب المرّة. أما الكلام عن الخبز الذي نكسره فيتوزّع، فسيصل بنا إلى حياة مع يسوع تتجمّع فيه هذه الكسر وتُوضع في اثنتي عشرة قفّة، لتدلّ على جسد المسيح الواحد، الذي يكوّنه المؤمنون.
ج- مشاركة في الدم، في الجسد
أكّد بولس هنا أن "الافخارستيا" مشاركة، اتحاد. اللفظ اليوناني (كوينونيا) غنيّ جداً. في المشاركة، نتّصل بعضُنا ببعض (لا يبقى كل واحد في زاويته، على موقفه)، نتضامن (نهتمّ بالآخرين ونبتعد عن اللامبالاة)، نصير رفقة الدرب على مثال ما كان يسوع مع تلميذي عماوس (لو 24: 13 ي)، نكون واحداً. هذا الرباط يتضمّن عنصراً سلبياً، فيه نتخلّى عن ذاتنا لننتمي إلى المسيح، نخصُّه، نتماهى معه. وهناك عنصر إيجابي يشير إلى التضامن والالتزام والتجاوب مع عطاء المسيح ذاته لأجلنا. من شارك الآخرين، تماهى معهم، شارك في مصيرهم والتزم قضاياهم وما تهرّب. هذا ما يتمّ بين المسيح الذي ما استحى أن يدعونا أخوتَه، وبين المسيحيّين الذين ينعمون بهذا التضامن، ويحاولون العيشَ حسب روحه.
دم المسيح وجسد المسيح يشيران إلى ذبيحة الصليب. هو الدم المسفوك على الجلجلة، والجسد المسمَّر على الصليب. تلك هي الذبيحة التي يشارك فيها المؤمنون حين يأكلون الجسد ويشربون الدم. فالمسيحيّون لهم ذبيحتهم، فكيف يشاركون في ذبيحة أخرى؟ هنا تأتي الكأس والخبز المكسور. فهناك علاقة بين الخمر والخبز من جهة، ودم المسيح وجسده من جهة أخرى. وبوساطة الكأس والخبز، يشارك المسيحيون في ذبيحة المسيح. فلا ذبيحة سوى ذبيحة الصليب. ونحن نشارك فيها حين نشارك في عشاء الربّ، في الافخارستيا.
3- خبز واحد، جسد واحد (10: 17)
وسعى بولس في آ 17 إلى إسناد ما قاله في ما سبق. عاد إلى إيمان الكورنثيين، الذين يعرفون أن الافخارستيا تقيم مشاركة ذبائحيّة، تكوِّن جماعة من نمط ذبائحيّ، بين المسيح والمسيحيّين. ولكن هل هم واعون لهذا الأمر؟ فلا بدّ من توعيتهم.
بما أن هناك خبزاً واحداً، هناك جسد واحد. هنا نتذكّر أن عشاء الربّ كان يتمّ حول «رغيف» واحد يتقاسمونه، وليس كما في ممارستنا اليوميّة. في الماضي كانت الجماعة صغيرة، فيكفيها رغيفٌ واحد. أما اليوم، فالمؤمنون يكونون مئاتٍ بل آلافاً. هذا يعني أنه إن كانت الجماعة الصغيرة، نستطيع أن نأخذ خبزة واحدة نقسمها بين المشاركين، فندلّ على وحدة الخبز لكي نعيش وحدة الجسد.
هنا نتذكّر كلام أوغسطينس: حين تأكل طعاماً، يتحوّل هذا الطعام إليك. يُصبح أنت. ولكن حين تأكل جسد المسيح، تتحوّل أنت إليه. تصبح أنت المسيح. وبما أن الجماعة تأكل الخبزَ الواحد، فهي تصبح الجسد الواحد. تصبح كلها المسيح. كما يصبح كلُّ واحد منا المسيح.
لسنا هنا على مستوى اللاهوت، بل على مستوى التربية المسيحيّة والممارسة اليوميّة. كما لسنا على مستوى المنطق. فقد يكون هناك أكثر من خبزة. فإذا أردنا أن نفهم الإطار، نعود أيضاً إلى الديداكيه: "كما توزّع هذا الخبزُ المكسور، في الماضي، على الجبال، وجُمع لكي يكون واحداً، هكذا إجمع (يا ربّ) كنيستك من أقاصي الأرض، في ملكوتك".
إن صورة الحبّات المجموعة، التي تكوّن خبزة واحدة، ترمز إلى تجمّع المسيحيين. وهي تعبّر، بالنسبة إلى الكورنثيين، عن واقع يعيشونه أو يجب أن يعيشوه. هم رعيّة. جماعة الله في كورنتوس. هم هذه الكنيسة التي تجتمع لتكون واحداً مع المسيح مثل حبّات القمح. وما الذي يجمعها؟ المشاركة في عشاء الربّ، في الكأس التي هي دم المسيح، والخبز الذي هو جسد المسيح. ففي الافخارستيا اتّحدنا في الجسد الواحد، جسد المسيح. وحين شاركنا في الخبز الواحد، انطلقنا من هذه الصورة لنفهم أن وحدتنا مع المسيح هي في النهاية وحدتنا بعضنا مع بعض. وهكذا نصل إلى الكلام عن وحدة في المسيح وبالمسيح.
وعبارة «جسد واحد» تلمّح إلى ما كان اليونان يقولونه عن الجسد الاجتماعي، أي تجمّع مختلف أعضاء الجماعة في الوحدة. ولكن الفكرة الأولى تعود إلى الافخارستيا. منها انطلق بولس لكي يتكلّم عن «الجسد الواحد» الذي نكوّنه مع المسيح، واستعان في كلامه، بصورة عرفها الكورنثيون. فجسدُ المسيح هو ذاك الذي أخذه من مريم العذراء، الذي صُلب وقام. وجسد المسيح هذا ذُبح من أجلنا. ونحن نشاركه كلَّ مرة نأكل هذا الخبز ونشرب هذه الكأس.
خاتمة
نودّ أن نختتم هذا التأمل بكلام من القديس كيرلس الأورشليمي في العظات التعليمية: بعد أن تتناول جسد المسيح، اقترب أيضاً من كأس الدم. لا تمدّ يدك، بل انحنِ، وفي حركة سجود واحترام قل "آمين"، وتقدّس حين تأخذ أيضاً دم المسيح. وساعة تكون شفتاك بعدُ رطبتينن المسهما بيديك، وقدّس يمينك وجبينك وسائر حواسك. وبانتظار الصلاة، أشكر الله لأنه حسبك أهلاً لهذه الأسرار السامية