حكمة الله الخفيّة

حكمة الله الخفيّة
2: 6- 10

يدخل هذا المقطع البولسيّ ( 1كور 2: 6 - 10) في سياقٍ أوسع، مُركَّزٍ على العلاقات بين حكمة البشر وحكمة الله (1 كور 1: 18- 2: 16)، وهما واقعان يتعارضان كل التعارض في الحالات العاديّة. "اختار الله ما يعتبره العالم حماقة ليُخزي الحكماء" (1: 27). والبرهان على ذلك نجده في جماعة كورنتوس: فالذين دعاهم الله إليه هم بأكثريّتهم من الوضعاء: فلا هم من الأقوياء، ولا من الوجهاء (1: 26). وكرازةُ بولس قد تبعتْ من جهتها هذه الطريقَ، طريقَ البساطة والفقر: لم تستند إلى "الأساليب البشريّة في الإقناع" (2: 4)، بل إلى قوّة الروح التي لا تقاوَم "حتى يستند إيمانُكم إلى قدرة الله، لا إلى حكمة البشر" (2: 5).
ففي نظر الرسول، لا يقدر الإيمان أن يستند إلى أسس بشريّة، وبراهين عاطفيّة وسيكولوجيّة وعقليّة. إنه "ظهور الروح والقوّة" (2: 4)، قوّة التصاق يستطيع الله وحده أن يحرّكها. فحين ينيرنا اللهُ بنوره الساطع، تصبح جميعُ البراهين العقليّة المعدّة لإقناعنا في الداخل، تصبح ضعيفة، بل كلا شيء: فإيماننا لا يعتمد على كل هذا، بل على الله وحده. فهو وحده كافل ما لا نقدر أن نراه ولا نقدر أن نتحقّق منه. كافل ما يتجاوز بلا حدود فكرَنا مهما علا، ومخيّلتنا مهما سمَتْ. ونقرأ النصّ:
(6) ولكنّ هناك حكمةً نتكلّم عليها بين الناضجين في الروح، وهي غير حكمة هذا العالم ولا رؤساء هذا العالم، وسلطانهم إلى زوال، (7) بل هي حكمة الله السرّية الخفيّة التي أعدّها الله قبل الدهور في سبيل مجدنا، (8) وما عرفها أحدٌ من رؤساء هذا العالم، ولو عرفوها لما صلبوا ربّ المجد. (9) لكن كما يقول الكتاب: "الذي ما رأته عين ولا سمعتْ به أذن، ولا خطر على قلب بشر، أعدّه الله للذين يحبّونه". (10) وكشفه الله لنا بالروح، لأن الروح يفحص كلَّ شيء حتى أعماق الله.

1- الإيمان هو "الحكمة" السامية
حين نقرأ هذا الكلام نظنّ أن الإيمانَ فعلٌ حتميّ من النوع "اللاعقلانيّ"، دون مضمون محدّد، ودون تماسك داخليّ يعطي الفكر والتصرّفات التي تصدر عنها، هيكليّتها وبنيتَها. ولكن بولس الرسول يرفض مثل هذا الظنّ: فالبلاغ الانجيليّ "حكمة" سامية لا يدركها إلا الذين يقبلونها بروح متواضعة وقلب مستعدّ. هذه الفكرة تشكّل الموضوعَ المركزيّ في النص الذي نتأمّله.
يبدو، للوهلة الأولى، أن بولس يُدخل في آ 6 تمييزاً بين مسيحيّين "كاملين" ومسيحيّين "بشريّين" (لحميّين، من لحم ودم. ضعفاء يميلون إلى الشرّ) (رج 3: 1- 3). يسمّيهم في موضع آخر "بسيخيين" (في النصّ: بشريّين أيضاً، من بسيخي، النفس، 2: 14)، لأن ما يقودهم هو العقل البشريّ، لا روح الله. كما يسمّيهم "أطفالاً"، لأنهم لم يبلغوا بعدُ سنَّ النضوج المسيحيّ. هذا النوع من التمييز استُعمل في الديانات السّرانيّة وفي الحركات الغنوصيّة: فالأسرار وقمّة معرفة الله محفوظة فقط لبعض المميّزين. أما المسيحيّةُ فبعيدة كلّ البعد عن هذه النظرة، وجميعُ المؤمنين مدعوّون إلى الكمال.

2- كونوا كاملين
في الواقع، لا تمييز إطلاقاً عند القديس بولس، سوى ذاك الذي يختاره المسيحيّ في طريقة تمسّكه بالبلاغ الانجيلي وعيشه في حياته اليوميّة. فيسوعُ نفسه قد علّم أن "ملكوت السماوات" يشبه حبّة خردل تنمو نمواً بطيئاً إلى أن تصبح شجرة كبيرة (مت 13: 32). إذن، نحن أمام قاعدة ملتصقة بالمسيحيّة: هي لا تصل إلى ملئها، ولا تعبّر عن كامل مدلولها، ولا تبلغ غايتَها إلاّ في نضوجها. فإن لم تبلغ إلى هذا "الكمال"، فهذا يعني أنها تخلّت عن ممارسة وصيّة المسيح: "تكونون كاملين كما أن أباكم السماويّ كامل هو" (مت 5: 48)
في هذا الإطار، يصف الرسولُ "بالكاملين"، المسيحيّين (مهما كانوا بسطاء) الذين بلغوا بفضل إيمان عميق ومحبّة ناشطة، إلى ملء توسّع الحياة المسيحيّة وفكرها، حسب مختلف "المواهب" التي يمنحها الله لكل واحد منّا.
ولكن للأسف، لم يبلغ جميعُ المسيحيّين في كورنتوس إلى هذه المرحلة: فما استطاع بولس أن يكلّمهم بلغة "الحكمة"، لأنهم ما كانوا ليقدروا أن يدركوا معناها ويتذوّقوا طعمَها. هذا ما يؤكّده الرسول بصريح العبارة في 3: 1- 3: "ولكني، أيها الإخوة، ما تمكَّنتُ أن أكلّمكم مثلما أكلّم أناساً روحانيّين، بل مثلما أكلّم أناساً جسديّين (بشريّين، من لحم ودم) هم أطفال بعدُ في المسيح. غذّيتكم باللبن الحليب لا بالطعام، لأنكم كنتم لا تطيقونه...".
إذن، لا اختلاف بين فئة وفئة بين المسيحيّين، كما بين طبقات عرقيّة أو مجتمعيّة: «فالحكمة» معطاة للجميع، والجميعُ يمكنهم أن يصلوا إليها بشكل أو بآخر، وينقادوا بقيادتها. غير أن الجميع لا يقبلون أن يجعلوا نفوسهم في الاستعدادات الروحيّة المطلوبة، كي تدخل هذه الحكمة في عقولهم وتحوّل لهم حياتهم. "فالحكمة" الانجيليّة لا تُقتنى بمجرّد البحث العقلاني. بل تأتي من وحي لقصد الله "السرّي"، الذي يرتبط الله به، بالإيمان. فبقدر ما يترك الانسان الحكمة تدركُه وتمسكُه، يصبح "كاملاً" في المعنى الذي يعنيه بولس الرسول.

3- حكمة الله السرّية
إذ أراد بولس أن يُفهمنا ما هي الحكمة، قام بحركتين: حركة سلبيّة وحركة إيجابيّة. سلبياً: لسنا أمام حكمة هذا العالم ولا رؤساء هذا العالم، وسلطانُهم إلى الدمار (آ 6). إيجابياً: بل هي حكمة الله السريّة الخفيّة التي أعدّها الله قبل الدهور في سبيل مجدنا (آ 7).
إذن، هي فوق متناول العقل البشريّ مهما كان سامياً ودقيقاً: "فرؤساء هذا العالم" لم يعرفوها (آ 8). "حكمة الله". هي وُجهة من وَجهه، ولا تتماهى مع أي من الصفات الالهيّة التي يمكن أن يعرفَها العقلُ البشريّ (روم 1: 20). إنها بالأحرى مشروع الله، و"المخطّط" الذي كوّنه الربّ من أجلنا، ولكن ارتبط حصراً به الزمن الذي فيه يتحقّق والأشكال. هو شيء لا يقدر إنسان أن يتوقّعه، لأنه يتجاوز كلَّ الامكانيّات البشريّة.
وحين عبّر الرسول عن طابع "مخطّط" الله الذي يفوق تصوّر البشر، عاد إلى النبيّ أشعيا، فأخذ نصّين دمجهما الواحد مع الآخر (64: 3؛ 65: 17): "ما لم تره عين، ما لم تسمعه أذن، ما لم يخطر على قلب بشر، قد أعدّه الله للذين يحبّونه". يُبرز القسم الأخير من هذا الإيراد وجهة هامّة من "حكمة" الله السريّة هذه: وحدهم أولئك الذين "يحبّونه" يستطيعون أن يعرفوا مضمون هذا "القصد الالهيّ"، قصد الحبّ. فحتّى بعد الفداء على الصليب، بقي المسيح لُغزاً لا يُفهم لدى عدد كبير من الناس، لأننا لا نستطيع أن نعرفه إلاّ في المحبّة والإيمان. فمن لم يستسلم له، يبقى خارج سرّ الخلاص، وكأنه أغلق عينيه على النور: كيف يقدر أن يرى إن هو ترك النور وأقام في الظلام؟

4- حكمة الله "وسرّ" المسيح
هذا يعني أن "حكمة الله السرّية الخفيّة التي أعدّها الله قبل الدهور في سبيل مجدنا" (آ 7) تتضمّن بشكل ملموس "سرّ المسيح". تتضمّن مخطّطَ الفداء الالهي هذا الذي يتمّ بموت المسيح على الصليب، بقيامته المجيدة، بانضمامنا إليه في الإيمان والعماد. كل هذا يحقّق "مجدَنا".
هذا التعبير يذكّرنا بمقاطع أخرى من رسائل بولس تتحدّث عن "سرّ المسيح" الذي أعِدّ منذ الأزل لأجل خلاصنا. فنقرأ في روم 16: 25-27: "المجد لله القادر أن يثبٌّتكم في الإنجيل الذي أُعلِنه منادياً بيسوع المسيح وفقاً للسرّ المعلن الذي بقي مكتوماً لدى الأزل وظهر الآن...". ونقرأ في أف 3: 8- 12: "لي أنا أصغر القدّيسين جميعاً أعطاني الله هذه النعمة لأبشّر غير اليهود بما في المسيح من غنى لا حدّ له، ولأبيّن لجميع الناس تدبيرَ ذلك السرّ الذي بقي مكتوماً طوال العصور في الله خالق كل شيء...".
نجد هنا ما نقرأ في 1 كور 2: 7: "حكمة الله". "السرّ". "بقي مكتوماً طوال العصور في الله". وهكذا يتحرّك الفكرُ دوماً على المستوى ذاته: إن "حكمة الله" تصبح ملموسة في «سرّ» المسيح، الذي يتواصل في الكنيسة التي هي سرّ الخلاص. هنا نتابع قراءة أف 3: 10- 11: "ليكون للكنيسة الآن فضلُ إطلاع أهل الرئاسة والسلطة في العالم السماويّ على حكمة الله في جميع وجوهها. وكان هذا حسب التدبير الأزليّ الذي حقّقه الله في ربّنا المسيح يسوع".

5- حكمة جهلها رؤساء هذا العالم
إن "حكمة الله" في وجهتها "الخلاصيّة"، من حيث إنها تُحرّرنا من الشرّ وعبوديّة إبليس، تتعارض مع حكمة العالم "ورؤساء هذا العالم" (آ 6). فعبارةُ "هذا العالم" (حرفيا: هذا الدهر) تدلّ، في النظرة اليهوديّة، على حقبة سابقة للمسيح. وهي تقابل عبارة "العالم (أو الدهر) الآتي" الذي يتماهى، في شكل ملموس، مع المرحلة الأخيرة في "ملكوت الله". "فالدهر" الحاضر والذي لم يفتَدِه المسيح بعدُ افتداء كاملاً، ما زال خاضعاً لابليس الذي هو "سيّده" (2 كور 4: 4؛ روم 12: 2؛ كو 1: 13). ففي مجيء المسيح الثاني، حين "يُخضع كلَّ شيء لله" (1كور5: 24- 28)، يزول سلطانُ إبليس بشكل نهائي، ويكون الله "كلاً في الكل" (15: 28).
هل نستطيع أن نعرف من هم "رؤساء هذا العالم"؟ رأى عددٌ من الشرّاح القدامى (الذهبيّ الفم، تيودوريتس) والمعاصرين في هؤلاء "الرؤساء"، جميعَ الذين يتمتّعون بالسلطان والكرامات والشهرة والعلم في المجتمع (1: 26): الرؤساء السياسيون، الفلاسفة، رجال العلم والأدب. نحن هنا في الواقع أمام هيردوس وبيلاطس وعظماء الكهنة وأعضاء المجلس الأعلى الذين "صلبوا ربّ المجد" (آ8). وهناك شرّاح آخرون (اوريجانس) يرون في هؤلاء "الرؤساء" القوى الشيطانيّة المعادية للمسيح التي غلبها بموته على الصليب.
هذا التفسير الثاني لا يستبعد التفسير الأول، لأن إبليس اعتاد أن يستعمل البشر ليحقّق مقاصده (نتذكّر هنا سفر الرؤيا مع التنين والوحشين). يسمّيه بولس "رئيسَ القوّات الشريرة في الفضاء" (أف 2: 2). ويتحدّث يوحنا عن إبليس على أنه "أركون العالم" الذي طُرح أرضاً في موت يسوع (يو 12: 31)، وقد حُكم عليه (يو 16: 11؛ رج 14: 30). وربط بولسُ ربطاً مباشراً بين هزيمة إبليس وموت المسيح حين قال هنا: "لم يعرف رؤساء هذا العالم حكمة الله. فلو عرفوها لما صلبوا ربّ المجد" (آ 8).
فحيث أمل "رؤساء" الشرّ بالنصر، هناك وجدوا الهزيمة. لهذا تحدّثت آ 6 عن "رؤساء هذا العالم المعدّين للدمار". وقد بدأ هذا الدمار مع موت المسيح وقيامته، وهو سينتهي عند عودته في النهاية، حين يسلّم المسيحُ المُلكَ لله الآب بعد أن يدمّر كل رئاسة وكل سلطة وقوّة (15: 24).

6- الحكماء ودهاؤهم
إذن، خزي إبليسُ وحلفاؤه عبر «حكمتهم»، لأنهم ظنّوا أن "قصد الله" يخضع لمعايير الحكمة البشريّة أو الملائكيّة. ليس من المعقول، على المستوى البشري، أن ينتصر الله ويخسر في الوقت عينه، وأن يبذل حياته في الموت! كان بولس قد تكلّم عن "حماقة لغة الصليب" (1: 18)، حماقة "مسيحٍ مصلوب، عقبة لليهود وحماقة للأمم" (1: 22). ومع ذلك، "فقصدُ" الله الخلاصيّ يمرّ عبر "حماقة" الصليب: فذلُّ المسيح وامّحاؤه اللذان لا يمكن أن يتصوّرهما بشر، يدلاّن على عظمة حبّ مميَّز، وعن "قدرة" الله الخلاصيّة.
لو سعى إبليس أن يكتشف بعضاً من مقاصد الله، لكان عمل في خطّ انتصاريّة سهلة وعظيمة تنتظر المديح. ففي هذا الاتّجاه غامر حين جرّب يسوع في بداية حياته العلنيّة (لو 4: 5- 7).
وقتلُ المسيح الذي شارك فيه إبليس مثيراً بُغض البشر (لو 4: 13؛ 22: 53) كان البرهانَ الذي لا يُردّ على ضعف المسيح وفشله كمسيح: حسب "حماقة" الحكمة البشريّة، لا يمكن أن يكون المسيح مسيحاً أرضياً يجاري عواطف الوطنيّين ويجعل حياة البشر "نزهة" سهلة. مثلُ هذا المسيح، لو فعل، لكان عَمِل عمَل إبليس.
لهذا "فرؤساء هذا العالم" جاروا، من دون إرادتهم، قصدَ الله: اعتقدوا نفوسهم أكثر حكمة من الله، فأخذهم الله في فخّ دهائهم (3: 19؛ أي 5: 13). فلو استطاعوا أن يتوقّعوا ذلك "لما كانوا صلبوا ربّ المجد" (آ 8).
إنّ "ربّ المجد" هو المسيح. فالعبارة تدلّ على يهوه (الاله الذي هو) في العهد القديم (مز 29: 3؛ حز 24: 17)، وعلى الله الآب في العهد الجديد (أف 1؛ 17؛ أع 7: 2). إذن، يدلّ بولس هنا وبوضوح على ألوهيّة المسيح. كما يؤكّد، أن الربّ يسوع، بموته على الصليب، وصل إلى ذروة "مجده"، لأن فعلة التقدمة هذه عبّرت عن أرفع درجات حبّه. وهذا السرّ يوضح كلَّ الايضاح أن مقاصد الله تقلبُ مقاصدَ البشر: ففي "حماقة" تبدو غير مفهومة في طريقة تصرّفها، يدلّ الله على "حكمته" ويحقّقها مستفيداً من عون أعدائه اللاإرادي حين تدعو الحاجة.

7- كشفه الله بالروح
إن مقاصد الله التي تتميّز بسموّها الذي لا يتوقّعه أحد، لا يمكن أن تُعرف إلاّ بواسطة الوحي. ذاك ما تقوله الآيةُ الأخيرة في النصّ الذي ندرس: "وكشفه الله لنا بالروح، لأن الروحَ يفحص كل شيء حتّى أعماق الله" (آ 10).
فالفعل "كشف" يدلّ على وحي بدأ في الماضي، أي يوم قبل مسيحيّو كورنتوس الانجيلَ الذي نادى به بولس. وكان يمكن أن يكون لهذه الكرازة نجاح بسيط، لو لم يُنِر الروحُ من الداخل عقول السامعين: فالاعلان لا يصير "وحياً" إلاّ حين يجتاحُ نورُ الروح نفس المؤمن، ويجعلها تطيع نداءات الله. وهكذا يصبح الروح القدس "المعلّم" الداخليّ لكل مسيحيّ، لأنه يعرف كلَّ شيء، ويسبر كلَّ شيء حتّى أعماق الله (آ 10، رج آ 11).

خاتمة
وهكذا لا يتوقّف تعليمُ الروح أبداً، وهو يرافقنا طوال حياتنا، بقدر ما "أعماق الله" لا تنكشف إلاّ تدريجياً، وبقدر ما ننمو في الإيمان والمحبّة. فالله ليس «شيئاً» غريباً نضع يدنا عليه (كما على صنم)، أو نُدخله في رسمات معرفتنا. إنه "حياة" سرّية يجب أن تصير حياتَنا في عمليّة تبادل. لهذا «فالكاملون» الذين يتوقون إلى كمال الإيمان، ظلّوا قلّة قليلة بين مسيحيّي كورنتوس، وهذا أمرٌ يُؤسَف له. ومع ذلك، فهم وحدهم يفهمون "الحكمة" التي يتحدّث عنها الرسول (آ 6). ويتقبّلون من الروح استنارة روحيّة تنمو يوماً بعد يوم، ونداءات ملحّة للدخول في مخطّط حبّ الآب. وفي الوقت عينه يرون نفوسهم مدعوّين لأن يشاركوا في هذا المخطّط بحيث يتجسّدُ في الأوضاع الملموسة التي وضعتهم العنايةُ فيها. عند ذاك لا يحمل الروحُ إلى التلاميذ إنجيلاً جديداً، بل يعطيهم أن يفهموا حياةَ يسوع وتعاليمه، ويفتح فكر المسيحيّين وقلبهم على أسرار الحياة الالهيّة، وهذا يتيح لهم أن يكونوا شهداء أمناء للحقّ.
وهكذا نصل إلى قلب "الحكمة" المسيحيّة الحقّة. فروحُ الله هو الذي يكشفها ويولّدها فينا. وحين نستسلم لنوره وقوّته التي لا تقاوَم، نصير في الحقيقة "أبناء الحكمة" (لو 7: 35؛ مت 11: 19).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM