الله لا يحابي الوجوه

4
الله لا يحابي الوجوه
2: 1- 11

بعد أن تحدّث بولس عن موقف الوثنيين وعلاقتهم بالخطيئة، عاد يحلّل وضع اليهود الذين ليسوا أفضل من الوثنيين. قابل بين الاثنين، واليهودي يعتبر نفسه أكبر من الوثني، لأنه يمتلك الشريعة، فجعل بولس اليهودي بجانب الوثنيّ أمام منبر الله. كلاهما يحتاجان إلى الخلاص. ولكن ليس الانسان هو الذي يحكم على نفسه أنه بار أو لا. فالدينونة هي التي تقيّم الانسان بالنظر إلى الشريعة. فالله لا يحابي الوجوه، أي لا يميّز شخصاً عن آخر، لا يفضّل أحداً على أحد لأسباب خارجيّة. بل يجازي كل واحد بحسب أعماله. لا الشريعة تجعل اليهودي أفضل من الوثنيّ ولا الختان. فالبارّ أمام الله هو من يعمل بالشريعة. وهذا ما يفعله الوثنيّ دون أن يكون مختوناً. ونقرأ النصّ:
(1) لذلك لا عذر لك أيا كنتَ، يا من يدين الآخرين ويعمل أعمالهم، لأنك حين تدينهم تدين نفسك. (2) ونحن نعلم أن الله يدين بالعدل من يعمل مثل هذه الأعمال. (3) وأنت، يا من يدين الذين يعملونها ويفعل مثلهم، أتظنّ أنك تنجو من دينونة الله؟ (4) أم أنك تستهين بعظيم رأفته وصبره واحتماله، غير عارف أن الله يريد برأفته أن يقودك إلى التوبة؟ (5) ولكنك بقساوة قلبك وعنادك تجمع لنفسك غضباً ليوم الغضب، حين تنكشف دينونة الله العادلة، (6) فيجازي كل واحد بأعماله، (7) إمّا بالحياة الأبدية لمن يواظبون على العمل الصالح ويسعون إلى المجد والكرامة والبقاء، (8) وإمّا بالغضب والسخط على المتمرّدين والذين يرفضون الحقّ وينقادون للباطل. (9) والويل والعذاب لكل انسان يعمل الشرّ من اليهود أولاً ثم من اليونانيين، (10) والمجد والكرامة والسلام لكل من يعمل الخير من اليهود أولاً ثم من اليونانيين، (11) لأن الله لا يحابي أحداً.

1- بنية النصّ
ما نقرأ في روم 2، يبدأ بكلام يوجَّه إلى شخص لا تحدَّد هويته. قد يكون أنت! قد أكون أنا. فحين نحكم على الآخرين انطلاقاً ممّا يميّزنا عنهم، نصبح ذاك الشخص الذي يشير إليه بولس، فنرى فيما بعد أنه اليهودي. هو يدين الآخرين ولا يدين نفسه، مع أنه يفعل ما يفعله الآخرون. يرى القشة في عين القريب ولا يرى في عينه القشّة، بل الخشبة (مت 7: 3- 4). وإذ يفعل ما يفعل، يظنّ نفسه بمنأى عن غضب الله وعقابه. ولكنه مهدّد هو أيضاً، إن لم يتُب، بغضب الله عليه في اليوم الأخير. فمن هو هذا الشخص؟
حين نقرأ 1: 18- 3: 20 ونرى هنا وضعاً للشقاء البشريّ، قبل المسيح، على مستوى الأخلاق، نظنّ أن هذا ينطبق على الوثنيين أو على اليهود الذين لا يعرفون الانجيل أو لا يقبلون به. فلو كان هذا الشخص من الوثنيين، لفكّرنا بأحد الفلافسة أو «الوعّاظ» المتجوّلين، الذين يعظون بأخلاقية رفيعة، ولكنهم يبتعدون عنها مراراً في سلوكهم الخاص. ولكن نظنّ بالأحرى أن هذا الشخص هو من اليهود على ما نقرأ في 2: 17: «وأنت، يا من تسمّي نفسك يهودياً». وهكذا نكون هنا أمام خطبة يُطلقها يهوديّ أُرسل لكي يبشّر الوثنيّين ويهديهم.
توجّه بولس إلى قارئ (أو سامع) ابتدعه وجعله أمامه، كما اعتاد أن يفعل في أكثر من موضع، في خط الجدال الذي عرفه عصره. غير أن هذا القارئ يمثّل أشخاصاً عرفهم بولس يوم كان يهودياً، أو يوم صار مسيحياً، ومبشّراً في كنيسة كورنتوس. فالرسول يسألهم ويطلب منهم الجواب العمليّ، لئلاّ يكونوا كالفريسيّين الذين يقولون ولا يفعلون، فيدلّون على ريائهم. أن تكون فيلسوفاً ومعلّماً، فهذا لا يعفيك من دينونة الله. أن تكون يهودياً أو مسيحياً، لا تنجو من دينونة الله، إن لم تفعل حسب الشريعة الالهيّة. وحدهم العاملون بالناموس يبرَّرون أمام الله.

2- وضع الانسان الذي يدين
انطلق بولس من الطريقة التي بها يقف اليهوديّ تجاه الوثنيّ: يجعل نفسه ديّاناً له ومراقباً ناقداً. وبعد أن يُنزله من عليائه، يحكم عليه. ولكن موقف الحكم هذا ينقلب عليه في النهاية (لا عذر لك)، لأنه يقترف الخطيئة التي يقترفها الوثنيّ، فيصيبه غضبُ الله كما يصيب الأشرار. وها نحن نتحدّث عن وضع ذاك الذي نَصّب نفسه دياناً للآخرين، مع أن الربّ قال: «لا تدينوا لئلاه تدانوا» (مت 7: 1- 2).
ما نقرأه في آ 1- 11 لا يتوخّى أولاً أن يعرض التعليم حول دينونة الآخرين وما فيها من استباق لحكم الله، بل أن يبيّن لذاك الشخص الذي يدين أنه مذنب هو أيضاً، وأن عليه أن يعتبر نفسه تحت حكم يُصدره على قريبه ويدينه.
أما برهان بولس فيفترض قبل كل شيء أن الذي يدين الآخرين يعمل الأعمال التي يعتبرها رديئة لدى الآخرين. وإلاّ فلا معنى لبرهانه. كما يفترض أن لحكمه على الآخرين قيمة الشموليّة. هذا يعني أنه يصيبه قبل أن يصيب غيره.
في الفرضية الأولى يكتفي الرسول بأن يؤكّد أن من يدين خاطئاً يخطأ هو أيضاً بحيث لا يختلف عمّن يدينه. وهكذا يجعل نفسه شاهداً ينسى أن أعماله تكذّبه بل تشهد عليه. وفي 2: 21- 22، سيفصّل بولس بعض هذه الأعمال الخارجيّة من سرقة وزنى ومتاجرة بالأصنام. «بسببكم يستهين الناس باسم الله بين الأمم» (آ 24).
في الفرضيّة الثانية، يرى بولس أن من يدين القريب يدينه بطريقة موضوعيّة. فهذه الموضوعية في الحكم تصيب ذاك الذي يدين، لأنه هو أيضاً يقترف الشرّ. أن يكون الشرّ موضوع شجب أينما كان، وأن يكون للحكم الذي يُصدره من يدين بُعدٌ شاملٌ بالنظر إلى موضوعيّته، كل هذا نجد تأكيداً عنه حين نقول إن الله وحده هو الديّان. فمن يدين يأخذ دور الله حين يدين الجميع، ويدينهم بدون محاباة للوجوه. وهذه المشاركة في دينونة الله تصبح ممكنة لأن «يهوديّ» يعرف الشريعة. فالانسان الذي يدين يبلغ إلى الموضوعيّة لأنه يعود إلى الشريعة التي هي التعبير عن مشيئة الله.
ولكن هذا الانسان الذي يدين الآخرين، ويتصرّف الآن مثل الآخرين الذين يحكم عليهم، يدلّ على عمى متأصّل فيه: هو لا يعي أنه هو أيضاً موضوع حكم الله، وأنه لا يستطيع أن يُفلت من حكم سوف يُنفّذ فيه. وهذا العمى يرافقه حين يعتبر أنه يقدر أن يدين الآخرين دون أن يبدّل شيئاً في حياته وفي تصرّفه. هنا نتذكّر ما قاله سفر الحكمة عن البار: هو يحكم على الأشرار بحياته، لا بكلامه. هو يقاوم أعمال الكافرين بما يقوم به من أعمال صالحة. أما في روم، فموقف «الديّان» البشريّ يستند إلى يقين يعتبر بموجبه أنه فوق الدينونة. لهذا أراد بولس أن ينتزعه من هذا العمى، ويجعله يكتشف أنه خاضع لدينونة الله، شأنه شأن كل انسان.
وأول شكل من أشكال العمى عند من يدين، هو أن لا مرآة لديه لكي ينظر إلى نفسه بموضوعيّة تامّة، ويفهم أنه سيُدان هو أيضاً. وإذ أراد بولس أن يضعه أمام هذه المرآة، ذكّره أنه موضوع دينونة من قِبَل الديّان الوحيد الذي لا يسمح للانسان أن يدين أخاه، من قَبِل الله بالذات. فحين ينظر «الديّان» إلى الله يُدرك أن الحكم الذي يُصدره على الشرّ الذي يراه في الآخرين، يصيبه هو أيضاً. فالشرّ هو الشرّ أينما وُجد، ويُدان على أنه شرّ بفم الله الذي هو الصدق والبرّ بالذات.
وهناك شكل آخر من العمى لدى من يدين دون أن يُصلح سلوكه. هو يعتبر أن حكم الله لا يُنفَّذ فيه، حتى إن أقرّ بخطأه. وإن يُنفّذ فتنفيذه سيتأخّر. فكأني به ينسى، أو يحتقر المهلة التي يمنحها الله له في صبره، ويتجاهل مدلول هذه المهلة المعطاة له لكي يتوب. إنه يرى في هذا التأخّر علامة بأن الله لا يدينه ولا يحكم عليه، بعد أن دان هو الآخرين وحكم عليهم. هو لا يريد أن يفهم صلاح الله الذي يؤخّر العقاب محبّة بالخاطئ. هنا نقرأ حك 11: 23: «لكنك يا ربّ ترحم الجميع لأنك قادر على كل شيء، وتتغاضى عن خطايا الناس لتمهلهم حتى يتوبوا». وتقول 2 بط 3: 9: «والربّ لا يؤخّر إتمام وعده، كما يتّهمه بعضهم، ولكنه يصبر عليكم لأنه لا يريد أن يهلك أحد، بل أن يتوب الجميع». فما يكون الجواب؟ يقول بطرس: «يجب أن تسلكوا طريق القداسة والتقوى» (آ 11).
غير أن هذا «الديّان» يستفيد من هذه المهلة لكي يستمرّ في عناده وقساوة قلبه: فرفضُه للتوبة يدلّ على أنه ينسى العقاب الآتي، ويحتقر صلاح الله الذي يدعوه إلى التوبة. وهكذا يذكّره بولس أن الحكم سينفَّذ فيه، وأن المهلة الحاضرة هي نعمة تتيح له أن يبدّل حياته. وقساوةُ قلبه تعدّه لضربات غضب الله على ما يقول ابن سيراخ: لا تؤخّر التوبة... ولا تؤجّلها... فغضب الربّ ينزل بغتة ويُفنيك يوم الانتقام (سي 5: 4- 7).

3- موقف الله
في هذه الدينونة، يجازي الله كلّ واحد بحسب أعماله. هذه العبارة تعود إلى سفر المزامير كما في السبعينية (62: 13). وهي تذكّرنا بكلام إرميا وحزقيال حول المسؤوليّة الشخصيّة (إر 31: 29- 30؛ حز 18: 1 ي؛ 33: 10- 20: رج سي 16: 14). وقال الانجيل: «سيجيء ابن الانسان في مجد أبيه مع ملائكته، فيجازي كل واحد حسب أعماله» (مت 16: 27؛ رج يو 5: 29). وقال بولس في 14: 10: «لأننا لا بدّ أن نظهر جميعاً لدى محكمة المسيح لينال كل واحد جزاء ما عمله وهو في الجسد، أخيراً كان أم شراً» (رج غل 6: 7- 8؛ فل 3: 12- 15).
وإذ تحدّث بولس عن «يوم الغضب» الذي يرى عقاب جميع (أياً كانوا) الذين فعلوا الشرّ، رأى فيه يوم دينونة الله العادلة، الذي يجازي كلَّ واحد حسب أعماله (آ 5- 6). ثم بيّن ما تكون هذه الدينونة للجميع، سواء حُكم عليهم الحكم النهائيّ أو نالوا الخلاص. وبعد أن عبّر عن فكره بشكل عام (آ 7- 8)، استعاد ما قاله في 1: 16، فأعلن أن هذا يسري على اليهوديّ كما على اليونانيّ (أي الوثنيّ). فالله لا يحابي الوجوه (آ 11). والخلاص لا يرتبط بمعرفة الشريعة، بل بممارستها.
وهكذا، بعد أن تكلّم بولس عن الذين يستجلبون غضب الله عليهم، بسبب تصرّفاتهم، ها هو يتكلّم عن الذين يخلصون: إن هم واظبوا على عمل الخير. إن هم ثبتوا في الأعمال الصالحة، أعمال الإيمان، التي هي إحدى العلامات الجوهريّة في حياة مسيحيّة حقيقيّة (1 تس 1: 3). فالإيمان يتجلّى في الحياة كلها، وإلاّ لا يكون إيماناً حقيقياً. والمواظبة على عمل الخير، هي صفة الذين يطلبون المجد والكرامة وعدم الفساد.
أما الذين يُحكم عليهم في اليوم الأخير، فهم الرافضون والمتمرّدون الذين «يحجبون الحقّ بمفاسدهم» (1: 18). هؤلاء رفضوا، فكان الهلاك نتيجة رفضهم. والجزاء يكون هو هو لليهودي واليوناني. وكذلك العقاب. ظنّ اليهود أن الله سيغفر لهم دائماً بالنظر إلى العهد والمواعيد، ظنّوا أنهم الشعب المختار (تث 10: 14- 15)، وأن لا عقاب يصيبهم. ولكنهم أخطأوا خطأ فادحاً فتلقّوا «الغضب والسخط» الذي يناله كل من يرفض العمل بمشيئة الله.
وهكذا بدا موقفُ الله موقفين. من جهة، هو لا يرضى عن سلوك الخاطئ. ومن جهة ثانية، هو يحتمل الخاطئ وبطيل أناته معه. أشار النصّ بشكل ضمنيّ إلى فكرة الدينونة والدعوة إلى التوبة. ثم أوضح منطلقاً من الشريعة التي هي الوسيلة التي بها يمنع الله الأعمال الشرّيرة ويحكم على الخاطئ. ولكن بولس أراد أن يصل بنا إلى الكلام عن غنى رأفة الله وصبره واحتماله، عن رأفة الله التي تقود إلى التوبة.
وسواء تحدّث الرسول عن غضب يصيب المتمرّدين أو مجد يحصل عليه من يعمل الخير، فهو يجعل اليهوديّ في الدرجة الأولى. فالدينونة تصيبه قبل أن تصيب اليونانيّ، وكذلك المجازاة، لأن لديه بدأ تاريخُ الخلاص يدخل في لحمة الأحداث البشريّة. من جهة، يمنح الله الحياة الأبديّة وعدم الفساد. ومن جهة ثانية، يرمي الانسان نفسه في الغضب والسخط، في الويل والعذاب. هنا نتذكر سفر الحكمة الذي يقول في الأبرار: «أما الأتقياء فيحيون إلى الأبد. يجازيهم الربّ خيراً، وبهم يهتمّ العليّ. ينالون من الربّ مجداً ملوكياً وتاجاً جميلاً من يده».

خاتمة
هذا الكلام يتوجّه إلينا اليوم نحن الذين ندين الآخرين ونحكم عليهم باسم إيماننا وما يتميّز به. هذا يعني أولاً أننا نعرف مشيئة الله. ولكن هل عشنا بحسب هذه المشيئة؟ وهذا يعني ثانياً أننا نمتلك قدرة التمييز بين الخير والشرّ. ولكن لماذا رأينا الشرّ عند الآخرين ولم نره في نفوسنا؟ فبعد أن تأخّرت المجازاة، كان الأولى بنا أن ننظر إلى سلوكنا ونفهم أن المهلة التي أعطيت لنا هي نعمة تدعونا إلى التوبة لننال الحياة الأبديّة وعدم الفساد. وإلاّ انتظرتنا دينونةُ الله القاسية التي لا تسمح لنا أن نختبئ وراء ما نلناه من نعم. فإن قلنا للربّ: «باسمك نطقنا بالنبوءات، وباسمك طردنا الشياطين، وباسمك عملنا العجائب الكثيرة»، سيقول لنا: «ما عرفتكم مرّة. ابتعدوا عنّي، يا أشرار» (مت 7: 22- 23)! فماذا نختار بعد أن عرفنا أن الله لا يحابي الوجوه؟!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM