من أجل رحمتك وأمانتك

من أجل رحمتك وأمانتك
المزمور المئة والخامس عشر

1. المزمور المئة والخامس عشر هو مزمور توسّل تنشده الجماعة في الهيكل لتعرض أمام الله وضعها الحالي: هي أمّة ضعيفة ومشتّتة بين الأمم الوثنية، رغم أن الهها قوي وآلهة الوثنيّين ضعف وعدم. هل يرضى الرب بسخرية الأمم التي تشكّك بحضور الله؟ هذا المزمور يصوّر احتفالاً ليتورجيًا ينتهي بالبركة يعطيها الكاهن باسم الرب (آ 12- 15)، بركة طلبها الشعب بإيمان وثقة، قبل أن يشكر لله عطيَّته بتسبحة لا تنتهي (آ 16- 18).

2. الله العظيم يبارك شعبه الضعيف.
آ 1- 2: البداية: صلاة الشعب إلى الله لكي يتدخّل من أجل اسمه المجيد، لا من أجل الشعب الخاطئ. ويتذكّر المرتّل ما قاله الناس لهم في هتافهم: أين الهكم؟ ويتساءل: أين مجد الله لا يظهر بمعجزة تشبه معجزة دخول أرض الميعاد في زمن الخروج؟
آ 3- 8: إعلان إيمان الشعب بإلهه. رأت الأمم ذلّ اسرائيل فشكّت بقدرة الله الخلاصية. أما اليهود فانطلقوا من إيمانهم ليقابلوا بين قدرة الله السامية في السماء، وضعف الآلهة التي يصنعها الناس الضعفاء. مهما أعطى الانسان هذه الاوثان من عيون وآذان وأنوف وأفواه، فآخرتها إلى العدم. أما إله اسرائيل فهو في السماء ويصنع ما يشاء. فليكن المتّكلون على هذه الآلهة إلى العدم، مثل آلهتهم.
آ 9- 15: حوار بين الشعب والكاهن. يبدأ الشعب (آ 9- 11): اسرائيل وهارون والمتقون للرب اتكلوا على الرب. فماذا تنتظرون أنتم؟ ويجيب الكاهن (آ 12- 15) الشعبَ مشددًا على البركة باسم الرب، تلك البركة الآتية من الهيكل، مكان حضور الرب. الرب لا ينسى شعبه. وكلُّ أبنائه صغارًا وكبارًا ينتظرون بركته. إن اتكال اسرائيل العميق على الرب هو غير اتكال الأمم على أصنامهم.
آ 16- 18: النهاية. أنزل الله بركته على شعبه. هو في أعلى سمائه وهو يوجّه الكون تاركًا الأرض لبني البشر، فيسودون عليها ويملأونها. وعندما يحسّ المؤمنون ببركة الرب، يعرفون، رغم شقائهم، أنهم ليسوا إلى الموت، كأتباع الآلهة الكاذبة المحكوم عليهم بصمت الموت وبالهبوط إلى الجحيم، حيث لا يصعد أي نشيد إلى الرب. فأحبّاء الرب لهم الحياة الدائمة فينشدون للرب ويباركونه من الآن وإلى الأبد.

3. إن الله يستطيع اكرامًا لاسمه أن ينهي مصير شعبه المشتَّت (36: 20 ي). يتذكّر المرتّل هذا الوعد الذي جاء على لسان الأنبياء (إر 14: 7) راجيًا الرب أن يحقّقه لشعبه. ولكن ما يزال الشعب في منفاه يسمع تعييرات وشتائم الأمم التي تنظر إلى حالة الشعب الزريّة، فتستخلص أن اله اسرائيل لا يسمع ولا يرى، وإن هو سمع ورأى فلا يقدر أن يفعل شيئًا من أجل شعبه.
تألّم الشعب أكثر ما تألّم في منفاه عندما سمع هزء الأمم واحتقارهم لأسم الله. لماذا لا يهتم الرب بمجد اسمه؟ إظهر يا رب، وأعلن أنك الرب القويّ تجاه هذه الآلهة الضعيفة. نحن لا نستطيع شيئًا، لأنك أنت وحدك تستطيع أن تستردّ مجدك. نحن لا نستحقّ شيئًا، ولكن رحمتك وأمانتك ستدفعانك إلى أن تفعل شيئًا، فتمجِّد اسمك، وتمجِّد معه شعبك، لأنك ربطت نفسك بشعبك، ومصيرك بمصير شعبك. إن الهنا في السماء، كل ما شاء صنع.

4. إذا كان المزمور المئة والرابع عشر يكلّمنا عن الخلاص الذي تمّ في الماضي، فالمزمور المئة والخامس عشر يوجّه عيوننا إلى الخلاص المنتظر. وشعب الله اليوم، مثله في الماضي، شعب ضعيف مشتّت بين الأمم الوثنية. ولكن الله الخفيّ هو أقوى من كل أوثان الأرض وقواها. ولهذا نحن نستطيع أن نتذكّر كلام الرب في إنجيل لوقا (12: 32): "لا تخف أيها القطيع الصغير. فقد سُرّ أبوكم أن يعطيكم الملكوت".

5. تأمل
نحن هنا أمام احتفال ليتورجيّ ينتهي في مباركة يتلفّظ بها الكاهن باسم الرب: "الرب يذكرنا ويباركنا". وما يهيّئ هذه المباركة طلب وصرخة مليئة بالثقة. وما ينهيها نشيد شكر: منح الرب للبشر الأرض. لهذا نحن نباركه من الآن إلى الأبد.
طلبٌ يرفعه المرتّل وليس بواضح ولا طويل. ماذا ينتظر من الرب؟ هذا ما لا يقوله. بل هو ينتظر من الرب أن يفعل إكرامًا لاسمه، لا إكرامًا للبشر. لا من أجل برّنا. فنحن خطأة ولا نستحقّ. وكل ما يقدّمه الله لنا إنما يقدّمه مجّانًا. إذن، ليفعل الرب فيُظهر رحمته وأمانته وحينئذ يتمجّد. فمجدُ الله خلاص الانسان.
ولكن يبدو أن الله يسكت. أن الله لا يفعل. كأني به غائب لا يُظهر قدرته الخلاصيّة. الآلهة نراها في صور وأصنام. ولكن أين الرب الاله؟ هو في المساء. لا يقع بين أيدي البشر. أو بالأحرى هو البعيد القريب. هو يفعل ما يشاء، ولكن لا يدَ له كما للأصنام. هو يتكلّم في أعماق القلب وإن لم يكن له فم. هو يسمع. هو يرى.
بما أن الله يهتمّ بنا ولا ينسانا، فنحن متأكّدون أن الجميع ينالون بركته من الصغار إلى الكبار. فالبركة هي عطيّة الحياة المتجدّدة. والله خالق السماء والأرض وحده يعطيها على مستوى المادة مع المطر المحيي. بركة من أجل أحبائه فيحيون معه ولا يموتون، لأن الأموات لا يهلّلون للرب ولا الهابطون إلى أرض السكوت.

6. بعد أن ذكر المرتّل حسنات الأزمنة القديمة، المعجزات والعجائب التي أجراها الله، كيف خلّص شعبه من عبوديّة مصر وأعاد له الحريّة، كيف قلب نظام العناصر وملأ جميع القلوب بهجة، بعد كل هذا طلب عون الله في وسط الضرورات الحاضرة والتجأ إليه كما إلى مرفأ أمين. فهذه المعجزات لم يكن سببها استحقاقات الذين نعموا بها، بل صلاح الله ومجد اسمه، كما يعلنه هو بوضوح: "لئلا يستهان باسمه" (حز 20: 9). وهكذا حين يرى الجميع هذه المعجزات يقرّون بقدرة اسمه وقوّته ويجدون في ذلك عبرة ودرسًا. لهذا يقدّم المرتّل هذا السبب الجديد ويقول لله: حتى وإن غابت حياتنا. حتى وإن لم نعد نثق بأعمالنا، فأنت إفعل من أجل اسمك كما طلب منك موسى.
والملك النبي نفسه تلا صلاة مماثلة: "لا لنا يا رب يا لنا، لكن من أجل اسمك أعط المجد". لا من أجل منفعتنا، لا من أجل شهرتنا واكرام يعود الينا. بل لكي تسطع في كل مكان أعمال قدرتك. ولكن إن تمجّد اسم الله، وإن اهتمّ بالدفاع عنه، وإن جاء لحمايتنا، فهو يتمجّد أيضًا بالفضائل التي نمارس وبجمال حياتنا. قال لنا يسوع المسيح: "ليضئ نوركم أمام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات" (مت 5: 16).
كما أن فضائلنا تمجّده، فحياتنا الشقيّة تجدّف عليه. هذا ما لام به الله شعبه بواسطة نبيّه: "بسببكم يجدّف على اسمي وسط الأمم" (مز 52: 5). (يوحنا فم الذهب).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM