الفصل السادس والثلاثون: السلام والقداسة

 

الفصل السادس والثلاثون

السلام والقداسة
12: 14 - 13: 19

حين بدأ الكاتب القسم الخامس، حدّد معنى الاعلان منذ البداية: حين يطلب المسيحيون السلام والقداسة (12: 14) يصنعون لنفوسهم مسالك مستقيمة (12: 13). بهذه الطريقة، بيّن كيف يكون سلوك المسيحيّ في الحياة اليوميّة: العلاقة الصحيحة مع الله ومع القريب.

1 - المقطع الأول (12: 14 - 29): تحذير من العقاب
جاءت التعابير في الأصل واسعة، ثم أخذت تضيق حين ذكرت خبرًا معروفًا، خبر عيسو. وهكذا نكون في هذا المقطع أمام ثلاث قسمات. المقدمة (12: 14 - 17). بين سيناء والعهد الجديد (آ 18 - 24). سمعوا فمالوا بأسماعهم (آ 25 - 29).

أ - القسمة الأولى (آ 14 - 17)
لعبت هذه القسمة دور المقدمة، فجاءت كما يلي:
12: 14 اقتفوا السلام مع الجميع، والقداسة
التي بدونها لا يعاين الربّ أحد.
12: 25 إحرصوا أن لا يُحرم أحد من نعمة الله،
وأن لا يثبُت جذر مرارة يُحدث بلبالاً
ويُفسد الجماعة
12: 16 وأن لا يكون فاجر ولا مبتذل
كعيسو الذي باع بكريته بأكلة واحدة
12: 17 وتعلمون جيّدًا أنه من بعد أيضًا
لما رام أن يرث البركة
رُذل،
ولم يجد سبيلاً للتوبة
وإن يكن التمس ذلك بالدموع.
نلاحظ تقابلاً بين بداية هذه القسمة ونهايتها. ولكن على مستوى الأفكار، لا على مستوى الشكل الأدبي: يشير 12: 14 إلى خطر يقوم بأن لا نُقبل في حضرة الله، بأن لا نقدر أن نعاين الله. وتلاحظ آ 17، في الواقع، أن عيسو رُذل (استُبعد) من البركة. جاء اسم هذا الشخص بارزًا، لأن عليه يتركّز الانتباه. ولكنّنا لا نفهم للوهلة الأولى، لماذا أورد الكاتب هذا المثل.

ب - القسمة الثانية (آ 18 - 24)
في هذه القسمة، أشار الكاتب إلى تجلّي الله في سيناء، وكأن موقف عيسو يرتبط بهذا التجلّي (آ ،18 غار، الفاء). فما هو واضح، هو تعارض بين مناخين روحيين: مناخ سيناء بما فيه من ظلمة وضيق، ومناخ العهد الجديد بما فيه من نور وراحة. ذلك هو موضوع القسمة الثانية:
12: 18 فإنكم لم تدنوا (تقتربوا)
من حقيقة ملموسة،
من نار مضطرمة،
ولا من ظلمة وديجور وزوبعة
12: 19 ولا من هتاف بوق ولا من صلصلة كلام،
قد استعفى الذين سمعوها
أن يُزادوا كلامًا.
12: 20 فإنهم لم يطيقوا احتمال هذه الوصيّة:
كل من مسّ الجبل، حتّى وإن كان بهيمة يُرجم
12: 21 وكان المنظر هائلاً
فقال موسى: أنا خائف ومرتعد!
12: 22 بل دنوتم (اقتربتم)
إلى صهيون الجبل،
وإلى مدينة الله الحي، أورشليم السماوية،
وإلى ربوات ملائكة في عيد
12: 23 وإلى جماعة الأبكار المسجَّلين في السماوات
وإلى الله ديّان الجميع
وإلى أرواح الصديقين الذين أبلغوا إلى الكمال
12: 24 وإلى وسيط عهد جديد، يسوع
وإلى دم مطهّر أبلغ منطقًا من دم هابيل.
عارض الكاتب بين نظامين اثنين منذ عبارة المقدمة: لم تدنوا (آ 18). بل دنوتم (آ 22). هما حقيقتان. من جهة كما من أخرى، ارتبطت عناصر الوصف بحرف العطف (كاي) الذي تكرّر أكثر من مرّة. وفي نهاية اللوحة الاولى، جاء اسم موسى يزيل كل شكّ ممكن حول التعرّف إلى الموضوع. وقابله في نهاية اللوحة الثانية اسمُ يسوع. هو التوازي الوحيد في هذه القسمة على مستوى التفاصيل: بين موسى ويسوع. أما التعارض الذي يلي فيبدو بشكل إجماليّ. نلاحظ أن وصف سيناء لا يذكر سوى ظواهر مادية ولا شخصيّة (صلصلة كلام. لا يقال من تكلّم)، بل ظواهر تنزع الوجه الشخصيّ فتجعل الخوف يسيطر. أما في اللوحة الثانية، فكل شيء سماويّ، وهو يشير إلى علاقة بين الأشخاص (الملائكة، الأبكار...). هناك لفظة تذكّرنا بالقسمة السابقة، في معرض وصف الحياة المسيحية: جماعة الأبكار في آ 23 تذكّرنا بامتيازات البكريّة التي باعها عيسو لقاء أكلة (آ 16).
ج - القسمة الثالثة (آ 25 - 29)
تبدأ القسمة الثالثة بكلمة عاكفة قرأناها في آ 24: دم ينطق، يتكلّم. فنقرأ في آ 25: ((الذي يتكلّم)). هنا يستغلّ الكاتب إحدى معطيات لوحة سيناء: استعفى الذين سمعوها (آ 19). إذن، لا تستعفوا (لا تميلوا بأسماعكم) في آ 25. هو برهان بالحري، برهان ينطلق من الأقل (العهد القديم) إلى الأكثر (العهد الجديد).
12: 25 فاحذروا أن تستعفوا (تميلوا بأسماعكم) عن الذي يتكلّم.
فإن كان هؤلاء لم يُفلتوا من المتكلّم على الأرض،
فكم بالأحرى نحن
إن أعرضنا عن التكلّم من السماوات
12: 26 الذي زعزع الأرضَ صوته آنفًا،
ويعد الآن قائلاً:
إني مرة بعدُ، أزلزل
لا الأرض فقط
بل السماء أيضًا.
12: 27 فقوله مرة بعد يدلّ
على تحوّل الأشياء المتزعزة إذ إنها مخلوقة،
لكي يبقى ما لا يتزعزع.
12: 28 لذلك، إذ قد حصلنا على ملكوت لا يتزعزع،
فلنتمسَّك بالنعمة
التي بها نعبد الله عبادة مرضيّة،
في ورع وتقوى.
12: 29 فإن إلهنا نار آكلة.
في الواقع، لسنا أمام برهان واحد مع ((بالحري))، بل أمام برهانين، في هذه القسمة. البرهان الأول يستعيد فعل ((استعفى)) (آ 25؛ رج آ 19 ب)، ويتأسّس على التعارض بين الأرض والسماوات، وهو يعارض فيطبّق على وحيين متعاقبين: وسيط الوحي الأول كان انسانًا من الأرض. أما وسيط الوحي الآن، فيفرض نفسه آتيًا من السماء. من استعفى (تهرّب) منه نال أقسى عقاب.
والبرهان الثاني مع بالحري، يستعمل ذات التعارض بين الأرض والسماء، ولكن بشكل آخر: يستعيد لفظة ((صوت)) (آ 26؛ رج آ 19أ) فيعود إلى القسمة السابقة. ويكون التعارض هنا بين زعزعتين كونيّتين، واحدة مضت والثانية آتية. في سيناء، تزعزعت الأرض فقط. في نهاية الأزمنة، تتزعزع السماء هي أيضًا. من الواضح أن ديانة سيناء لا تستطيع أن تواجه مثل هذه الكارثة. فهي تقف على مستوى الاشياء التي تتزعزع، على مستوى الأشياء المخلوقة (آ 27)، أي على مستوى الخليقة الأولى كما في 9: 11. لهذا، قدَّم الكاتب في القول النبويّ الذي أورده، اعلان تبدّل اسكاتولوجيّ (تحوّل في نهاية الأزمنة) حيث تترك الخليقة الاولى المكان للحقائق النهائية.
بدأ الكاتب هذه القسمة بتقابل (آ 25) وأنهاها في فكرة التحوّل (آ 27)، فجمع في هذه الآيات وجهتين متكاملتين اكتشفناهما أكثر من مرّة. فبين الوضع المسيحي والوضع الديني القديم، نلاحظ من جهة تواصلاً حقيقيًا: هناك تشابه بين العمل وصورته (آ 25). ومن جهة ثانية، نلاحظ قطيعة: يُلغى العهد القديم لأنه غير كاف (آ 26 - 27). ترتبط هاتان الوجهتان هنا بفضل انخفات: ننتقل مثلاً من الأرض إلى السماء. وهكذا نبقى في إحساس من الغموض.
ومهما يكن من أمر، يصل الكاتب إلى الخاتمة: دخل المسيحيون منذ الآن في نظام الحقائق الدائمة، فوجب عليهم أن يستمرّوا فيها. وإن 12: 28 - 29 ،يعبّر عن هذه الفكرة بشكل متناسق، فيميّز في الموقف المسيحيّ وجهتين: وجهة الفرح: لنتمسّك بالنعمة. ووجهة الانقباض: بخوف ورعدة. قبل الوجهة الأولى جاء باعثها: لأننا حصلنا على ملكوت لا يتزعزع. وباعث الوجهة الثانية جاء بعدها: فإن إلهنا نار آكلة. وقلبُ البنية يحدّد الاتجاه الأساسي الذي يُشرف على هذا الموقف: نعبد الله عبادة مرضيّة.
إذا قابلنا هذه الخاتمة ببداية القسمة الأولى (آ 14) نستطيع أن نعتبر أن الوجهة الأولى (نتمسّك بالنعمة) تقابل فكرة السلام. والوجهة الثانية التي تتحدّث عن الورع والتقوى، تقابل فكرة القداسة. ولكن يُطرح سؤال حول العلاقة بين استعمالين للفظة ((نعمة)) في آ 15 وآ 28. هل مدلولها هو هو في هاتين الآيتين؟ وهل نستطيع أن نتحدّث عن تضمين في آ 15 - 28؟ يبدو أن لا تشابه بين هذين الاستعمالين للفظة ((النعمة)). في آ 15، يسبق اللفظة التعريفُ، ويكمّلها المضاف إليه: نعمة (النعمة) الله. أما في آ 28 ،فلا نجد أل التعريف وتبدو اللفظة جزءًا من عبارة. لتكن لنا نعمة. ما معنى هذه العبارة التي لا تبدو واضحة؟ إذا حدّدها مجرور عنت: أقرّ بالجميل، امتنّ (لو 17: 9؛ 1تم 1: 2؛ 2تم 1: 3). وبدون المجرور تعني ((نال حظوة)) (أع 2: 47). توقّف مجمل الشرّاح عند المعنى الأول، والعبارة تنطبق هنا على موقف من ((حصل)) (آ 28) على شيء. هكذا نكون أمام عرفان الجميل. ولكن هذا الموقف يُلغي العلاقة بين آ 28 وآ 25 بحيث لن تتحدّث عن تضمين.
لهذا، نبحث عن حلّ ثالث يحافظ على مفهوم الامتنان للفظة ((نعمة))، وينسب لها أيضًا دور التضمين مع آ 15. يقوم هذا الحلّ بأن لا نحصر ((نال نعمة)) في مدلول واحد محدّد. فالكتاب ((يتلاعب)) بمعاني لفظة ((خاريس)). نحن نشكر الله. ولكن كيف نشكره؟ حين نكون أمناء لنعمته. بل نسأل: لماذا لا تستطيع المشورة المعطاة أن تصل إلى موقفنا تجاه الآخرين؟ هنا أيضًا،إن أردنا أن نؤدّي عبادة مرضيّة لله (آ 28)، يجب علينا أن تكون لنا النعمة، أي أن ندلّ على سخائنا. وحين يعود الكاتب إلى الذبائح التي ترضي الله في 13: 15 - 16 ،فهو يؤكّد هذين المنظورين ويميّز بينهما. أما هنا فيميّزهما في عبارة واحدة تفرض نفسها. فإن حافظنا على رنّة هذه العبارة نقرّ أنها وإن كانت أوسع من عبارة 12: 15 (يحرم، يستبعد من نعمة الله)، فهي ترتبط بها. وهكذا نقول بتضمين بين آ 28 وآ15.
وضمّ الكاتب إلى تضمين عام حول ((نعمة)) (آ 15 - 28)، تضمينًا خاصًا حول ((نار)) (12: 29 و12: 18 ،أي بداية القسمة الثانية). وهكذا ينتهي التقابل بين سيناء والعهد الجديد. هاتان الاشارتان تؤكّدان وتحدّدان الدور الذي لعبته هاتان الآيتان (آ 28 - 29): بدأتا مع ((ديو)) (لذلك)، فشكّلتا خاتمة القسمة الثالثة (12: 25 - 29)، بل خاتمة المقطع كله (12: 14 - 29).
2 - المقطع الثاني (13: 1 - 6): مواقف مسيحيّة
بدت الآيات الأولى في ف 13 (آ 1 - 6) مختلفة عمّا في هذا القسم، في ترتيبها وفي مضمونها. فهي بشكل وصايا وأوامر لا يربطها رابط، وبعضها يتألّف من مبتدأ وخبر فيغيب الفعل (آ 4 - 5). ومع ذلك فهذا المقطع مرتّب ترتيبًا دقيقًَا باستعمال التوازي كما في سفر الأمثال:
13: 1 اثبتوا على (لتبقَ ) المحبّة الأخويّة (أ)
13: 2 ولا تنسوا (لا تُنسى) ضيافة (الغرباء) (أأ)
إذ بها أضاف أناسٌ ملائكة وهم لا يعلمون (ص)
13: 3 أذكروا الاسرى كأنكم مأسورون معهم (ب)
والمجهودين كما أنكم أنتم أيضًا في جسد (ب ب)
13: 4 (ليكن) الزواج مكرّمًا عند الجميع (ج)
والمضجع بلادنس (ج ج)
فالفسّاق والزناة يدينهم الله (ص ص)
13: 5 نزّهوا سيرتكم عن حبّ المال، (د)
قانعين بما عندكم، (دد)
فان (الله) نفسه قد قال: (ص ص ص)
لا أخذلك، (هـ)
ولا أهملك (هـ هـ)
13: 6 نستطيع إذن أن نقول في ثقة: (و)
الرب عوني (ز)
فلن أخشى (وو)
وماذا يصنع بي الانسان (زز).
هناك تقاربات ألفاظيّة بين هذا المقطع (13: 1 - 6) والذي سبقه (12: 14 - 29): في 13: 1 نقرأ ((ثبت)) كما في 12: 27 (يبقى، يثبت). يرد لفظ ((الملائكة)) في 13: 2 وفي 12: 22. ولفظ ((زناة)) في 13: 4 و12: 16. أشير إلى دينونة الله في 13: 4 كما في 12: 23، وإلى المخافة في 13: 6 و12: 21. ولكن بما أن السياق يختلف بين مقطع وآخر، لا نستطبع أن نستخرج الكثير من هذه التقابلات الألفاظيّة.
تبقى التقابلات على مستوى الأفكار. فالطريقة التي بها وُجّهت هذه النصائح تقابل ما في الجملة الأؤلى (12: 14): فالمحبّة الأخويّة واستقبال الضيوف وكرامة الزواج والتجرّد من المال، كل هذا يمكن أن يكون مجهودًا لطلب السلام مع الجميع (12: 14). وحين نقرأ التحذير المركزيّ في 13: 4 (يدينهم الله)، نفهم أن الكلام يدور على قداسة لا يرى أحد الله بدونها (12: 14). في هذا المنظار يقود إلى ((نتمسّك بالنعمة)) (12: 28): إن 13: 1 - 6 هي تطبيق لها: بالنعمة يعيش الانسان الأخوّة والضيافة والأمانة الزوجية (13: 1 - 4). بالنعمة نثق بالرب (13: 6) بحيث لا يدخل الخوف إلى قلوبنا.

3 - المقطع الثالث (13: 7 - 19): نظرة دينيّة صحيحة ونظرة خاطئة
مع 13: 7 يبدأ مقطع طويل تدلّ على وحدته بعضُ سمات أدبيّة. تحيط به تلميحات إلى المدبّرين، إلى المسؤولين في الجماعة: في 13: 7 يدعو الكاتب المؤمنين لأن يتذكّروا المسؤولين الأولين ويقتدوا بإيمانهم. في 13: 17 يطلب الطاعة للمسؤولين الحاليين. وهناك تضمين ألفاظيّ آخر بين 13: 7 و 13: 18: سيرتهم، سلوكهم والتصرّف. أو سلك، سار.
13: 7 اذكروا (تذكّروا، احتفظوا بذكرى) مدبّريكم
الذين كلّموكم بكلمة الله،
تأمّلوا في عاقبة سيرتهم.
واقتدوا بإيمانهم.
13: 8 إن يسوع المسيح هو هو أمس واليوم
وإلى الدهور:
13: 9 فلا تنخدعوا بتعاليم متنوّعة وغريبة.
إذ بالنعمة يجدر بالقلب أن يثبت،
لا بأطعمة
لم تجد الذين استعملوها نفعًا.
13: 10 إن لنا مذبحًا
لا يحقّ للذين يخدمون المسكن أن يأكلوا منه.
13: 11 لأن الحيوانات التي يدخل الحبرُ المعبد بدمها، عن الخطيئة،
تُحرق أجسادها خارج المحلّة.
13: 12 لذلك، يسوع أيضًا،
ليقدّس الشعب بدمه الخاص
تألّم خارج الباب
13: 13 ومن ثمّ، فلنخرج لنجيء إليه خارج المحلّة
حاملين عاره.
13: 14 إذ ليس لنا هنا مدينة باقية.
بل إنما نطلب الآتية.
13: 15 ولنقرّب به لله ذبيحة الحمد في كل حين،
ثمرة شفاه تعترف باسمه
13: 16 أما الاحسان والتعاون فلا تنسوهما،
لأن الله يرتضي مثل هذه الذبائح.
13: 17 أطيعوا مدبّريكم واخضعوا لهم
لأنهم يسهرون على نفوسكم سهر من سيؤدّي حسابًا
حتّى يفعلوا ذلك بسرور لا بكرب
لأن هذا غير نافع لكم.
13: 18 صلّوا لأجلنا،
فإنّا نثق بأن لنا ضميرًا صالحًا،
إذ نريد أن نحسن التصرّف في كل شيء.
13: 19 وأطلب إليكم في إلحاح أشدّ،
هكذا لأردّ إليكم عاجلاً.
كيف تبدو الوحدة الداخليّة في هذا المقطع؟ نحسّ للوهلة الأولى أن القلب يمتلك وحده تماسكًا حقيقيًا: فيه يتكلّم الكاتب عن ذبيحة يسوع ويستخرج من هذا الكلام نتائج من أجل الحياة المسيحيّة (آ 10 - 14). وقبل هذا القلب وبعده، نجد المواضيع المتفرّقة: تذكّرُ القدماء، الايمان، التعاليم الجديدة، الطقوس الطعامية من جهة. ومن جهة ثانية، الحمد، الاحسان، الطاعة، طلب الصلاة. ولكن نظرة متفحّصة تفهمنا أن الكاتب جعل كل هذا في خطّ رسمه أمامه.
وننطلق من قلب النصّ (آ 10 - 14) حيث نجد اسم يسوع. تتقابل آ 11 مع آ 12 حسب تواز بسيط: 11أ: لأن الحيوانات التي يدخل الحبر المعبد بدمها، عن الخطيئة. تعاد في آ 12أ: لذلك، يسوع أيضًا، تألّم خارج الباب ليقدّس الشعب بدمه الخاص... نجد في هذه السطور مقابلة بين الحبر القديم ويسوع، بين دم الحيوانات ودم يسوع الخاص. وهناك علاقة على مستوى الألفاظ والأفكار بين ((في المعبد عن الخطيئة)) و((قدّس الشعب)). ثم إن آ 11 ب (تحرق أجسادها خارج المحلة) تعاد في آ 12ب: تألّم خارج الباب. وفي النهاية، يصبح التوازي متداورًا بين آ 11ب وآ 12ب: ((خارج)) هي في نهاية آ 11ب. فصارت في بداية آ 12 ب.
تلك هي النواة المركزية. هي تتميّز عن الباقي تمييزًا واضحًا. ولكنها لا تنفصل عنه، بل تبدو كشرح له (رج 13: 11 مع ((غار)) لأن) ومقدّمة لما يلي (13: ،13 من ثمّ، إذن). العلاقة وثيقة بين 13: 13 و13: 11 - 12. فإن آ 13 تستعيد تعبير آ 11ب (خارج المحلّة) الذي تحوّل في آ 12 ب فصار: خارج الباب. واستعاد الترتيب (فعل ثم مفعول) الذي عكسته آ 12ب. والعلاقة مع آ 12 بارزة بالاداة ((اذن)) وتسمية يسوع (إليه) والتذكير بما تألّم يسوع (آ 12): عاره (وآ 13). قال الكاتب إن المشاركة في ذبيحة يسوع (آ 12) تفرض على المسيحي أن يخرج من المحلّة (آ 13). فما معنى هذه العبارة الأخيرة داخل المقطع كله؟
إذ ترتبط آ 15 - 16 بقلب المقطع (آ 12) بإشارة جديدة إلى يسوع (نقرّب به)، فهما تعودان إلى آ 10 مع تقارب في الألفاظ. تحدّثت آ 10 عن المذبح والعبادة (الخدمة، الليتورجيا). وتحدّثت آ 15 - 16 عن تقريب الذبائح وعن إرضاء الله (نحن في إطار شعائر العبادة، رج 12: 28: لنعبد). فمن الواضح، في الحالين، أن الكاتب لا يهتمّ بأن يشجّع المؤمنين على تقديم العبادة، بل يشدّد على أفضل الطرق لتقديم العبادة. من هذا القبيل، لا تفترق آ 10 عمّا سبق. وترتبط آ 15 - 16 ببداية المقطع. فإن أوردت آ 10 فعل ((أكل))، فلأن آ 9 تحدّثت عن الأطعمة: هي مسألة ترتبط من جهة ارتباطًا مباشرًا بالايمان (ق 13: ،9 تعاليم و13: ،7 إيمان)، ومن جهة ثانية بالعبادة الحقّة. ولقد أوجز الكاتب موقفه بكل وضوح في آ 9: ما يجدر بنا، هو تقوية القلب بالنعمة، لا بالاطعمة. ذاك هو مفتاح المقطع كله.
أخذت آ 10 - 14 هذه العبارة فحاولت أن تبرّر وجهتها السلبيّة: لا بالأطعمة. شدّد الكاتب على انفصال بين المسيحيين والذين يخدمون المذبح (آ 10) حول الأطعمة. والسبب نجده في ذبيحة يسوع (آ 11 - 12) التي ينبغي على المسيحيين أن يشاركوا فيها (آ 10، 13). كما نجده أيضًا في غاية هذه الذبيحة التي تعطي المسيحيّين توجّهًا اسكاتولوجيًا (آ 14). عندئذ توسّعت آ 15 - 16 في الوجهة الايجابيّة للموقف المسيحيّ: تثبيت القلب بالنعمة (آ 9). فالعبادة الحقيقيّة تقوم في حمد الله (آ 15) وعيش المحبّة (آ 16). وبما أن النظرة الصحيحة للعبادة المسيحيّة جزء لا يتجزّأ من الايمان، نفهم أن يكون الكاتب قد بدأها بتذكير بالبشارة وبالذين قاموا بها (13: 5). يجب أن يبقى الانسان أمينًا ليسوع المسيح الذي لا يتبدّل. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، بما أن العبادة الحقّة تقوم في عيش حياة مسيحيّة تتّسم بالسخاء داخل الجماعة (آ 16)، كان من الطبيعيّ أن ينتهي هذا التوسّع بنداء للخضوع تجاه المسؤولين الحاليين في الجماعة. هكذا دلّ الكاتب بشكل ضمنيّ أنه من ((المدبّرين))، فطلب لنفسه الصلاة من قرّائه.
هناك تفاصيل عن الوضع الذي تعرفه عب ما زلنا نجهلها. وهذا ما يحيّرنا في توسّع يبدو رغم كل شيء متماسكًا. من أجل هذا، نعود إلى نتيجة التحليل فيستنير بعضَ الشيء هذا القسمُ الأخير من الرسالة. نلاحظ أولاً أن قلب هذا المقطع (13: 12، ليقدّس) استعاد فكرة التقديس (أو القداسة) التي كانت هدف كلامه منذ الآية الأولى (12: 14). ونلاحظ أيضًا أن التوصية المعطاة في 13: 9 (تثبيت القلب بالنعمة، لا بالأطعمة، بروماسين) تشبه توصية البداية: لا نستعفي من نعة الله... مثل عيسو الذي بأكلة واحدة (بروسايوس، 12: 15 - 16). تعجّبنا حين رأينا الكاتب ينتقل بسرعة من تحريض عام إلى وضع عيسو الخاص ويتوقّف عند هذا الواقع. في 13: 9 يقدّم لنا مفتاح اللغز: منذ الآن كان الكاتب يتطلّع إلى مسألة الآطعمة. لهذا نظنّ أن ((جذر مرارة)) (12: 15) يهدّد النموّ في الجماعة، ويفسدها ويبلبلها. هو اجتياح هذه التعاليم المتنوّعة والغريبة (13: 9) التي تهتمّ اهتمامًا كبيرًا بالأطعمة، ولا تتوافق مع ايمان المرسلين الأولين (13: 7 - 8)، ولا مع قداسة يحملها المسيح (13: 12 - 13)، ولا مع خضوع للمدبّرين الحاليين في الكنيسة (13: 17). وبما أن هذه التعاليم ترتبط بالذين يخدمون الخيمة (13: 10، المسكن)، نفهم بسهولة أن يكون الكاتب ضمّ إلى خبر عيسو (12: 16 - 17) حدث سيناء (12: 918. فالمسيحي الذي يأخذ بمسألة ((الأطعمة)) ويقف مع أهل العهد القديم، يكون تابعًا مثَل عيسو الذي بأكلة باع امتيازاته كبكر تسجّل اسمه في السماء (12: 16 و12: 23).
عارض الكاتب هذا الانحراف بكلام عن العبادة الحقّة قرأناه في 12: 28، وجاء واضحًا في المقطع الأخير: ((لتكن لنا نعمة بها نعبد الله عبادة ترضيه)) (12: 29). إن عبارة ((لتكن لنا نعمة...)) (نتمسّك بالنعمة) تهيّئ: ((ثبّت القلب بالنعمة)) (13: 9). وعبارة ((نعبد الله عبادة ترضيه)) تجد صدى لها في ((الله يرتضي مثل هذه الذبائح)) (13: 16: اوارستوس واوارستايتاي). إن الذبائح المذكورة في 13: 15 - 16، فتقابل مفهومي ((النعمة)). (1) نشكر الله بالحمد (13: 15). (2) ننال حظوة لدى البشر بالمحبة (3: 16). كما تعارض (في بنية المقطع) ليتورجية الذين يخدمون الخيمة (13: 10). كل هذه نقاط تلاق تدعو القارئ لأن يفسّر المقطع الأول بالمقطع الثالث. والمقطع الثالث بالمقطع الأوّل.
وليس من قبيل الصدف أن يبدأ المقطع المركزي (3: 1 - 6) بتوصيات عن المحبّة تجاه الناس، وينتهي في نشيد ثقة بالربّ (13: 6). هو ثمر الشفاه التي تعترف باسمه (31: 5). وهكذا يدلّ هذا المقطع على وجهَتي العبادة المسيحيّة. وفي النهاية، نكتشف من خلال الاشارات الأدبيّة، على مستوى البنية، وحدةَ حقيقيّة في القسم الخامس: أراد الكاتب أن يؤكّد ضرورة التمييز بين نظرة صحيحة ونظرة خاطئة إلى الممارسة الروحيّة. النظرة الخاطئة تقف عند الكلمات والحركات الخارجيّة، فتتركّز على مسألة الأطعمة: هي تهدّد الايمان وتدمّر وحدة المسيحيين. أما النظرة الصحيحة فتتوخّى جعل الحياة كلها، في عمقها الشخصي وفي امتدادها الاجتماعي، في إطار النعمة.

4 - خاتمة الرسالة (13: 20 - 25)
نقرأ هنا نهاية الخطبة (آ 20 - 21)، ثم السلامات والاخبار (آ 22 - 25).

أ - نهاية الخطبة (آ 20 - 21)
تبدأ الجملة بدعاء، وتتواصل بتمنّ، وتنتهي بمجدلة. إنها في الواقع نهاية الخطبة أو نهاية العظة. أما ما تبقّى، أي آ 22 - 25، فيعطي عب طابع الرسالة.
13: 20 وإله السلام
الذي بعث من بين الأموات
راعي الخراف، العظيم
بدم عهد أبديّ،
ربنا يسوع
13: 21 يؤتيكم في كل عمل صالح
أن تتمّوا مشيئته
مُجريًا فينا ما حسن لديه
بيسوع المسيح
الذي له المجد إلى دهر الدهور. آمين.
جملة ذات طابع احتفاليّ. تنتهي آ 20 بـ ((ربنا يسوع)) وآ 21 بـ ((يسوع المسيح)). الأولى تحدّثت عن عمل الله الذي سبق وتحقّق في ربنا. والثانية عن عمل الله الذي سيتحقّق في المسيحيين. هما حركتان يحيط بهما دعاء في البداية (إله السلام) ومجدلة في النهاية (اله المجد). نستطيع أن نحسب معترضة كبيرة ما يبدأ مع ((الذي بعث...))، وينتهي مع ((يسوع المسيح)). عندئذ يتوجّه ((المجد)) إلى ((إله السلام)). تلك نظرة. وهناك نظرة أخرى تجعل علامة القطع قبل ((بيسوع المسيح)) في آ 21، فنصل إلى قسمة مثلّثة في شكل متداور: إن التمنّي المركزي الذي يعني المسيحيين يسبقه اسم يسوع ويتبعه اسم يسوع.
(أ) ليؤتيكم كل عمل صالح
(ب) لتتمّوا مشيئته
(أأ) مجريًا فينا ما حسن لديه.
جاءت عبارة ((أتمّ مشيئته)) بين عبارتين متقاربتين فكوّنت قلب الخاتمة. أما المجدلة فترتبط باسم يسوع المسيح. نحن أمام موقفين ممكنين. وسنختار الثاني في معرض الشرح.
ويُطرح سؤال آخر حول العلاقات بين هذه الجملة الطويلة (13: 20 - 21) وجسم الرسالة. للوهلة الأولى نجد فرقًا. هناك الطابع المختلف. وهناك عبارة تستلهم أش 63: 11: ((الذي بعث (أصعد) من بين الأموات راعي الخراف)). غير أننا نلاحظ سمات أخرى بها ترتبط هذه الجملة، بالقسم الخامس، وبالتالي بمجمل الرسالة. (1) الاشارة إلى السلام يذكّرنا ببداية القسم تضمينًا مع 12: 14. ونقول الشيء عينه عن ((الربّ)). (2) أن يتمنّى الكاتب تحقيق ما يرضي (اوارستون) الله، يقابل الاهتمام المركزيّ في القسم الخامس الذي عبّر عنه بضمير (12: 28، اوارستوس، بطريقة ترضيه) وبفعل (13: 16، اوارستايتاي، يرتضي). أما هنا فيبدو الاهتمام في وجه جديد: الله هو الذي يحقّق رضاه (ما حسن لديه) في المسيحيين. (3) إن عبارة ((تتمّوا مشيئته)) تستعيد 10: 36 الذي أمّن الانتقال من القسم الثالث إلى القسمين الأخيرين، فأسّس متطلّبات الحياة المسيحيّة على الكرستولوجيا، على يسوع المسيح (10: 7 ،9 ،10). (4) ويعود بنا ((دم العهد)) أيضًا إلى القسم الخامس (العهد والدم في 12: 24؛ الدم في 13: 11 - 12)، وبه إلى القسم الثالث (دم العهد في 10: 29 و 9: 20) الذي أضاف صفة ((أبدي)) فأعطى تحديدًا نهائيًا وحاسمًا. وهكذا تبدو آ 20 - 21 خاتمة خطبة (أو عظة) قسمناها خمسة أقسام.

ب - سلامات وأخبار (آ 22 - 25)
بعد ((أمين)) الذي ينهي الخطبة، تتبدّل اللهجة تبدّلاً كليًا. ننتقل من الاسلوب الخطابي الاحتفالي إلى بساطة الاسلوب الرسائلي.
13: 22 وأسألكم، أيها الإخوة، أن تقبلوا كلام الموعظة هذا،
إذ أرسلت إليكم بإيجاز.
13: 23 واعلموا أن تيموتاوس أخانا قد أطلق. فإن جاء سريعًا (بعجل)، جئت معه لأراكم.
13: 24 سلّموا على جميع مدبّريكم وعلى القديسين جميعًا.
يسلّم عليكم الذين من ايطالية.
13: 25 النعمة معكم أجمعين.
نقرّب هذه الآيات الأربع من آية تسبق مباشرة خاتمة الرسالة (13: 20 - 25). هي آ 19 التي أوردناها في نهاية القسم الخامس: ((وأطلب إليكم في إلحاح أشدَّ (صلّوا، رج آ 18) لأردّ إليكم عاجلاً)). وُضعت آ 19 قرب آ 22 - 25 لتبرر العلاقات بينهما: استعمال المتكلّم المفرد (أطلب أن... أسألكم أنا). أطلب أو أسأل (باراكالو) في آ 19 وآ 22. عاجلاً في آ 19 و آ 23. ثم إن آ 19 و آ22 - 23 تبدو وكأنها لا ترتبط بمجمل الخطبة. ولكن تبقى بعض العلاقة. فالطلب في آ 19 يعود إلى طلب آ 18 الذي هو طلب من الجماعة حتّى تصلّي. ثم إن آ 24 تذكر المدبّرين كما في آ 7 و17. وتشير آ 22 بوضوح إلى كلام الموعظة.
ولكن يبقى أن الخطبة تامة بدون هذه الآيات (آ 19، 22 - 25) التي ظلّت مستقلة عنها. إن آ 19 تختلف عن آ 18 في تبدّل غير منتظر: استعملت آ 18 صيغة المتكلّم الجمع (نثق، نحن، أن لنا ضميرًا صالحًا). وآ 19، المتكلّم المفرد (اسأل بأن أردّ). غير أن هناك من قال بأن الانتقال من المتكلّم المفرد إلى المتكلّم الجمع أمر معروف في الرسائل البولسيّة (2 كور 8: 1، 3). ولكن عب لم تتبع بولس في هذا المجال. فنحن لا نجد مثلاً آخر في عب، ننتقل فيه من صيغة إلى صيغة. فكاتب عب حين يستعمل المتكلّم، هو يستعمل المتكلّم الجمع فيجعل نفسه مع القرّاء.
وهكذا نكون في عب أمام فنين أدبيين. الأول، هو كلام الموعظة (آ 22) والارشاد (رج أع 13: 15). والثاني، هو بطاقة قصيرة. أما الفعل ((أبوستالو)) فيعني أرسل، لا كتب. إذ أراد ((المدبّر)) أن يرسل العظة، كتب بضعة أسطر ترافقها.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM