الفصل الثلاثون: من إيمان الأقدمين إلى ثبات المؤمنين

الفصل الثلاثون

من إيمان الأقدمين إلى ثبات المؤمنين
11: 1 - 12: 13

انتهى الموضوع العقائدي حول كهنوت المسيح، وبدأت التطبيقات العملية، لا في هذا القسم الرابع، وحسب، بل في نهاية القسم الثالث. هذه الرسالة التي تبغي الارشاد، وصلت بنا إلى الايمان الذي عاشه الآباء ونعيشه نحن دون أن نتراخى، بل نبقى ثابتين. وهكذا كان كلام عن الايمان وعن ديناميّته، فشكّل قمّة في الكتاب المقدس. كل هؤلاء القديسين والأبطال وأحبّاء الله، عاشوا الايمان والرجاء. وانتظروا حتّى في ساعة موتهم، تحقيق المواعيد. فكيف ينسى أبناء العهد الجديد هذه المواعيد ويعودوا إلى الوراء، إلى تدبير قديم وعابر؟ كانوا أغنياء ويريدون أن يكونوا فقراء؟ كانوا عظماء في ملكوت الله، فكيف يتخلّون عن هذه النعمة؟
ذاك هو موضوع القسم الرابع في عب. وموضوعه الايمان والثبات. وهو يتوزّع في اتجاهين. الأول (11: 1 - 40) يتحدّث عن ايمان الأقدمين، منذ هابيل وأخنوخ ونوح، حتى ابراهيم وموسى، وجميع الذين عاشوا البطولة، إمّا بما فعلوه من معجزات، وإمّا بما احتملوه من آلام. أما الاتجاه الثاني (12: 1 - 13) فعنوانه الثبات الضروري. في كل هذه المضايق، يقوم الله بتربيتنا. فإن نحن رفضنا تأديب الرب، لا نكون أبناء حقيقيين، بل أبناء زنى. إذا كنا نرضى تأديب والدينا، فكيف نرفض تأديب الرب؟

1 - الاتجاه الأول: ايمان الأقدمين (11: 1 - 40)
إن التوسّع حول الايمان، الذي به يبدأ القسم الرابع، يبدو واحدًا موحّدًا. هناك أولاً تضمين يبدأ في 11: 1 (الايمان هو قوام المرجوات)، وينتهي في 11: 39 (شُهد لهم بالايمان). ثانيًا، يتكرر لفظ ((بستيس)) (الايمان) في بداية كل جملة، فيشكّل حركة موسيقيّة تعلق في الذاكرة وفي القلب بانتظار أن تتجسّد في العمل. جعل الكاتب أمثاله الواحد بعد الآخر، كما في سبحة، وحسب التسلسل التاريخي، ففرض تفسيره في شكل واحد. تسير الخطبة بشكل ((رتيب)) ولكن الكاتب يوقفها في 11: 32 (وماذا أقول أيضًا) لئلاّ تطول إلى ما لا نهاية، فيتوقّف عن تعداد الأبطال القدماء ويوجز معطيات البيبليا في لوحة إجمالية واسعة. في البداية، يلفت نظرنا شخصان: ابراهيم (11: 8)، موسى (11: 23). من أجل هذا، نقسم هذه الاتجاه إلى أربعة مقاطع: آ 1 - 17؛ آ 18 - 22؛ آ 23 - 31؛ آ 32 - 40.
أ - المقطع الأول (11: 1 - 7): الآباء الأولون
بدأ الكاتب فحدّد الايمان، وقدّم الأبطال الاولين حتى نوح:
11: 1 أما الايمان فهو قوام المرجوّات،
وبرهان غير المرئيات.
11: 2 به شُهد للأقدمين.
11: 3 بالايمان نفهم أن العالم (= الدهور) قد أنشئ بكلمة الله،
بحيث إن المرئيات صدرت عمّا لا يُرى.
11: 4 بالايمان قرّب هابيل لله ذبيحة أكمل من ذبيحة قايين
وبه شُهد له أنه بار
إذ شهد الله نفسه لقرابينه.
وبه أيضًا، وإن مات، لم يزل بعدُ يتكلّم.
11: 5 بالايمان نُقل أخنوخ لكي لا يرى الموت
ولم يُوجد بعد لأن الله نقله
فقبل أن يُنقل، شُهد له أنه أرضى الله.
11: 6 وبدون إيمان يستحيل إرضاء (الله)،
إذ لا بدَّ، لمن يدنو إلى الله، أن يؤمن بأنه كائن،
وأنه يثيب الذين يتبعونه ( = يطلبونه).
11: 7 بالايمان نوح، إذ أنذر بوحي بما لم يكن بعد منظورًا،
تورّع فأعدّ تابوتًا لخلاص بيته،
وبه شجب العالم
وصار وارثًا للبرّ حسب الايمان.
هناك سمات تبيّن أن آ 1 - 7 تكوّن وحدة أدبيّة أولى. ويتكررلفظ ((بستيس)) في بداية كل آية. أما في آ 7 ،فهو في النهاية. (2) إن اسم الفاعل (بلابومانون، المرئيات) الذي يسبقه النفي (أو، لا، غير) يشكّل تضمينًا بين آ 1 وآ 7. (3) مع اسم الفاعل هذا، ينطبع المقطع بفعل ((مرتيراين)) شهد، الذي يتكرّر أربع مرات، ولا يعود يظهر قبل آ 39 ليشكّل تضمينًا عامًا. (4) يتردّد اسم الله (تيوس) ست مرات، في آ 2 - 6 ،بقدر ما يتردّد في آ 8 - 40.
في بداية هذا المقطع، تبدو آ 1 - 2 بشكل مقدمة. والجملة الأخيرة (11: 39) هي صدى لهما، مع ((بستيس)) (الايمان)، ((مرتيراين)) (شهد). وفي آ 3 تبدأ سلسلة ((الايمان)). مع العلم أن الفعل في هذه الآية هو في معطيات التاريخ المقدس، بل أمام قول عقائدي سيكون مبدأ تفسير لما يرد من وقائع فيما بعد. ذكّرنا الكاتب أن العالم المنظور صدر عن العالم اللامنظور: هو انعكاس له. من هنا قيمته، ومن هنا أيضًا حدوده. فالمرئيات (الأمور المنظورة) هي صور ولهذا ننظر إليها. وبما أنها صور لا نستطيع أن نتوقّف عندها، بل نتجاوزها. ذاك هو اسلوب عب: تأكيد، ثم نفي، ثم تأكيد.
وقدّم لنا هذا المقطع ثلاثة أمثلة: هابيل، أخنوخ، نوح. قيل عن هابيل أنه شُهد له بأنه بار. وعن نوح أنه صار وارث البرّ حسب الايمان. وهكذا يتقابل المثلان الأول والثالث. أما الرباط بين هابيل وأخنوخ فرباط التعارض: هابيل مات (نهاية آ 4). أخنوخ لم يرَ الموت (بداية آ 5). إن وضع هابيل يُبرز الوجهة الذبائحيّة في إيمانه. ووضعُ أخنوخ يُبرز هدفه السماوي (الله يثيب، يجازي، آ 6). وهكذا نكون أمام مثل أول من التعارض بين مرحلتين. مثلُ هذا التعارض ليس مطلقًا. فانتصار الموت على هابيل ليس تمامًا: فمع أنه مات، فهو لم يزل يتكلّم. وهابيل، شأنه شأن أخنوخ، نال شهادة حسنة من الله، وهذه الشهادة الالهيّة هي أساس المرحلة الايجابيّة التي يصوّر تحقيقها الكامل في ((انتقال)) أخنوخ السرّي.
وفي وضع نوح، نجد المرحلة السلبيّة (النفي) والمرحلة الايجابيّة (التأكيد). فالايمان بما لم يكن منظورًا (النفي) يصل إلى خلاص بيت نوح (تأكيد). وشجب العالم (السلبيّ) يتعارض مع هذا الخلاص، كما يتعارض مع ميراث البرّ (ايجابي).

ب - المقطع الثاني (11: 8 - 22): ابراهيم
أمّن لفظ ((ميراث)) (كليرونوميا) الاتصال مع المقطع الثاني الذي يتحدّث عن ((ميراث)) (11: 8) ومشاركة في الميراث (آ 9 ، سينكليرونومون). مقطع طويل. نجد فيه خمس قسمات متعاقبة ترتبط بعضها بعض بأكثر من رباط. نجد التلميح إلى الموعد في الأربع الأولى، مع امتداد في الخامس مع فكرة البركة.
أولاً: القسمة الأولى (11: 8 - 10)
تبدأ القسمة الأولى باسم ابراهيم وإشارة إلى ارتحاله. وتنتهي بانتظار وصوله وباسم الله.
11: 8 بالايمان ابراهيم، أذ دُعي، لبّى الخروج إلى موضع سيأخذه ميراثًا.
وخرج لا يدري أين يتوجّه.
11: 9 بالايمان نزل في أرض الميعاد ونزوله في أرض غربة،
وسكن في أخبية مع اسحاق ويعقوب
الوارثين معه الموعد نفسه.
11: 10 لأنه كان ينتظر المدينة ذات الأسس،
التي الله مهندسها وبانيها.
يتميّز النصّ بألفاظ تتحدّث عن ((المكان)): موضع، أخبية، مدينة، أسس. الخروج، خرج، نزل، سكن. وهو يصوّر حقبة سلبيّة: إيمان لا يمتلك شيئًا. لا يتعلّق بشيء. بل ينتظر تحقيق المواعيد.
ثانيًا: القسمة الثانية (11: 11 - 12)
بعد حقبة سلبية (النفي مع لا)، ها هي حقبة ايجابيّة (فيها تأكيد). نالت سارة الحبل، وظهر نسل كبير. في الوسط، يُذكر الوعد. ومن هنا وهناك الصعوبات: بالنسبة إلى سارة، تجاوزت السن. وبالنسبة إلى ابراهيم، صار ميتًا.
11: 11 بالايمان سارة أيضًا نالت قوّة للحمل،
مع أنها تجاوزت السن.
لاعتقادها أن الذي وعد صادق.
11: 12 من أجل ذلك وُلد من رجل واحد
يكاد يكون ميتًا،
نسل كنجوم السماء كثرة
وكالرمل الذي على شاطئ البحر، لا يُحصى.
ثالثًا: القسمة الثالثة (11: 13 - 16)
تجاه وُلد في 11: 12 نقرأ مات في 11: 13. وهكذا بدأت القسمة الثالثة التي تعود بنا إلى المرحلة السلبيّة، إلى الايمان الذي لا ينال (10: 13 النفي)، بل يصبو (11: 61).
11: 13 على الايمان مات أولئك جميعًا،
ولم ينالوا الموعد،
بل رأوه من بعيد وحيّوه،
معترفين أنهم كانوا
غرباء على الأرض ونزلاء.
11: 14 فالذين يتكلّمون هكذا،
يوضحون أنهم يطلبون وطنًا.
11: 15 ولو أنهم قصدوا بذلك، الوطن الذي خرجوا منه،
لكان لهم وقت للعودة إليه.
11: 16 ولكن، لا. فإن قلوبهم كانت تصبو
إلى (وطن) سماوي.
لذلك لا يستحي الله أن يُدعى إلههم.
فإنه قد أعدَّ لهم مدينة.
العلاقات بين هذه القسمة والأولى واضحة. نجد ذات الألفاظ حول السفَر والنزول في مكان ما: خرج، عاد، قصد. أرض، وطن، مدينة. أما 11: 16 فيذكّرنا ببداية القسمة الأولى (11: 8 ،ما يقابل دعوة لبّاها ابراهيم، هو قبول الله بأن يُدعى إلههم) ونهاية 11: 10 (تعبّر هذه الآية عن انتشار مدينة يبنيها الله؛ ويؤكّد 11: 16 أن هذا الانتظار قد تحقّق).
قدّم الكاتب في هذه الآيات الأربع (آ 13 - 16) تفاصيل هامّة حول موضوع المواعيد الحقيقيّ. حين نقرأ 11: 10 نستطيع أن نتوقّف عند انتظار أرضيّ: فالمدينة المؤسّسة والمبنيّة، هي أورشليم. أساسها على الجبال المقدسة (مز 87؛ رج مز 48). غير أن أورشليم جزء من العالم المنظور (المرئيات). إذن، هي صورة. لهذا، فالتجرّد المطلوب يجب أن يقود إلى حقيقة أسمى. وهذا ما تدلّ عليه هذه القسمة الثالثة حين تستعمل البرهان بواسطة اللاواقعيّ الذي اعتدنا عليه (رج 4: 8: ولو كان يشوع أنالهم... ولكنه ما أنالهم؛ 7: 11: ولو كان الكمال تحقّق... ولكنه لم يتحقّق؛ 8: 4؛ 8: 7؛ 10: 2). فالوطن الذي يصبو إليه الآباء، ليس وطنهم الأرضيّ الذي كان بإمكانهم أن يعودوا إليه. إذن، هو الوطن السماويّ. لهذا، قبلَ الله أن يتصل بهم. وهكذا توَّضح المعنى الدقيق للمرحلة السلبيّة التي صُوّرت في القسمة الأولى.
رابعًا: القسمة الرابعة (11: 17 - 19)
في آ 17 - 19 التي تشكّل القسمة الرابعة، يحمل الكاتب نورًا إضافيًا إلى المرحلة الايجابيّة التي اشار إليها في آ 11 - 12.
11: 17 بالايمان ابراهيم قرّب اسحاق،
حين امتُحن،
كان يقرّب وحيده،
هو الذي نال المواعد
11: 18 وهو الذي قيل له:
باسحاق يُدعى لك نسل.
11: 19 بما أنه كان يعتقد أن الله قادر أن يُنهض حتّى من بين الأموات،
عاد فحصل عليه (= ابنه)، على سبيل الرمز.
في آ 18، كما في آ 11، يدور الكلام على النسل، مع إشارة إلى قدرة (ديناميس، آ 11، ديناتوس، آ 19) تنتصر حتّى على الموت (كاي توتا ناناكرومانو، آ 12؛ كاي إك نكرون، آ 19). نحن هنا في مرحلة إيجابيّة، مرحلة تأكيد. فعل ((حصل)) في آ 19 (تأكيد) يقابل ((نال)) في آ 13 (نفي، لم ينالوا). غير أن هناك لفظة لا تترك التأكيد يأخذ كل بُعده: لسنا أمام تكملة حقيقيّة، بل فقط أمام مثل ورمز (بارابولي). فالنسل الذي ناله، لم يكن سماويًا إلاّ على سبيل الرمز: مثل نجوم السماء (آ 12). لهذا فالذبيحة تبقى ممكنة وضروريّة (آ 17، قرّب وحيده). فحياة اسحاق بعد هذه المحنة، ليست ((قيامة أفضل)) (11: 35). فقيمتها نسبيّة، شأنها شأن كل ما تحقّق على الأرض. هي راحة في مرحلة، لا الوصول إلى الهدف.
خامسًا: القسمة الخامسة (11: 20 - 22).
مع آ 19، ينتهي خبر ابراهيم. وكان بالامكان أن ننهي المقطع هنا. فقد لاحظنا أن القسمة توافق الأخرى. فبداية القسمة الأولى تجد صداها في نهاية القسمة الثالثة (دعوة، قبول). ونهاية القسمة الثالثة تجد ما يناقضها في نهاية الرابعة (لم ينالوا، نال أو حصل). أما التكملة فهي على سبيل الرمز. لهذا، نفهم أن الخبر يتواصل، فتأتي قسمة خامسة تضاف إلى أربع قسمات سابقة:
11: 20 بالايمان أيضًا، من جهة ما سيأتي،
بارك اسحاق يعقوب وعيسو.
11: 21 وبالايمان يعقوب، وقد حضره الموت،
بارك كل واحد من ابني يوسف
وسجد (متوكئًا) على طرف عصاه.
11: 22 بالايمان يوسف، لما دنا أجله،
ذكر خروج بني اسرائيل،
وأوصى بشأن عظامه (وفاته).
تنقلنا الألفاظ الأولى نحو المستقبل (ما سيأتي)، فتؤكّد هكذا الطابع العابر لما حصل هؤلاء عليه (11: 19). وتقدّم آ 21 - 22 تواليًا سريعًا بين البركة والموت، بين مرحلة ايجابيّة ومرحلة سلبيّة في المسيرة نحو الوعد. وهكذا اقتربت هذه القسمة الخامسة من الثالثة والأولى. فهي، شأنها شأن الثالثة، تحدّثنا عن موت الآباء (آ 21، حضره الموت؛ آ 22، دنا أجله؛ رج آ 13: مات أولئك جميعًا). وهي، شأنها شأن الأولى، تسمّي اسحاق ويعقوب. وتشير إلى ما سوف يأتي (مالونتون، أ 20، رج آ 8، إمالن، سوف). وطقس المباركة في ساعة الموت (آ 20، 21) يرتبط بالفكرة حول وراثة الموعد (آ 9). وأخيرًا، ذكرُ الخروج، قبل أن يتمّ (آ 22)، يقابل ذكر ارتحال ابراهيم في آ 8 (اكسالتاين).
تتحدّث القسمة الثانية والقسمة الرابعة عن النسل. هكذا نكون في خطّ نسب الآباء، ونجعل مع ذكر الخروج (آ 2، اكسودوس) تكاثر بني اسرائيل (آ 12). إذن، نحن في خاتمة كل ما سبق. وبالتالي فهمنا أن آ 8 - 22، تشكّل مجموعة تامّة، وأن التأكيد الاهمّ (الوجهة الايجابيّة) جُعل في قلب التوسّع الذي استضاء هكذا كله على مستوى الوعد والنسل.

ج - المقطع الثالث (11: 23 - 31): موسى
ذُكر الخروج في 11: 12، فهيّأ الطريق لدخول موسى على المسرح. وكان تعارض أمّن الانتقال: بعد يوسف الذي دنا أجله (آ 22)، جاء موسى الذي وُلد (آ 23). نستطيع أن نقسم هذا المقطع قسمتين.
أولاً: القسمة الأولى (11: 23 - 27)
وما يدلّ على حدود القسمة الأولى، تكرار بعض الألفاظ في آ 23 ،27: رهب (خاف).
11: 23 بالايمان، لما وُلد موسى،
أخفاه أبواه ثلاثة أشهر،
لأنهما رأيا أن الطفل جميل
ولم يرهبا أمر الملك.
11: 24 بالايمان موسى، لما كبر،
أبى أن يدعى ابنًا لابنة فرعون؛
11: 25 واختارالمشقّة مع شعب الله
على التمتّع الوثنيّ بلذّة الخطيئة.
11: 26 عادًّا عار المسيح ثروة أعظم من كنوز مصر،
لأنه كان ينظر إلى الثواب.
11: 27 بالايمان ترك مصر
ولم يرهب غضب الملك،
بل تجلّد كأنه يعاين الذي لا يُرى.
إن الإشارة إلى مقاومة الملك مرتين (آ 23 و آ 27)، وكان الدافع للأولى رؤية حسيّة (صورة) والثانية رؤية إيمانيّة، تحيط بتوسّع كبير حول التجرّد الذي مارسه موسى. في أ 24 - 26، التي تشكّل قلب القسمة، نجد تعارضًا واحدًا يتكرّر مرتين في ألفاظ مختلفة، وفي تواز متداور. (أ) المشقة. (ب) التمتّع (ب ب) كنوز (أأ) عار. ضمّ الكاتب التفسير إلى عرض الوقائع: اعتُبرت المعاملة السيّئة مع شعب الله (أ) كجزء من عار المسيح (أأ) الذي شارك موسى فيه. أما كنوز مصر (ب ب) فاعتُبرت تمتّعًا بالخطيئة (ب). إنها نقيضة جريئة تشرح موقف موسى وما فيه من مفارقة: عار المسيح هو غنى (سر المسيح حاضر في ذبيحة هابيل، وانتقال أخنوخ، وخلاص ناله نوح، ونسل ابراهيم، ونجاة اسحاق. ولكن لا يُذكر اسم المسيح سوى مرّة واحدة). لا شكّ في أن هذه النقيضة ستجد شرحًا لها فيما بعد: نظر إلى الثواب. نلاحظ في هذا المجال أن بنية المقطع تقابل (في شكل تعارض)، بين فكرة الثواب الالهي (آ 26) وفكرة الدخول في بيت فرعون (آ 24). لهذا، يُدعى القارئ لأن يفهم الثواب على أنه أرفع ممّا سيناله موسى حين تتبنّاه ابنة فرعون. هذا المنظار سيعود إليه الكاتب في الاتجاه الثاني، في 7: 21 ي.
ثانيًا: القسمة الثانية (11: 28 - 31)
تستعيد نهاية المقطع (آ 28 - 29) ما قيل في آ 20 - 22. وهكذا ننتقل على الدوام من المناعة التي ينعم بها المؤمنون، إلى الضربات الهائلة التي تصيب اللامؤمنين.
11: 28 بالايمان صنع الفصح ورشّ الدم،
لئلاّ يمسّ الهلاك الأبكار.
11: 29 بالايمان جازوا في البحر الأحمر كما في أرض يابسة،
ولما حاول ذلك المصريون، غرقوا.
11: 30 بالايمان سقطت أسوار أريحا
بعد الطواف حولها سبعة أيام.
11: 31 بالايمان راحاب البغيّ لم تهلك مع العصاة
لأنها قبلت الجاسوسين بسلام.
تحدّثت الجملة الأولى بعد عن موسى. ولكن منذ الجملة الثانية يغيب، فينتقل النصّ من صيغة المفرد (صنع هو الفصح)، إلى صيغة الجمع (جازوا، عبروا، هم). لا يتكلّم الكاتب عن البرية، ولا عن احتلال الأرض المقدّسة. في 3: 7 - 4: 11، سبق له وعبّر عن نظرته إلى هذه الأحداث. أما هنا فاكتفى بالكلام عن سقوط أريحا، فكان له مثال حيّ عن الخلاص بالانتماء إلى شعب الايمان.

د - المقطع الرابع (11: 32 - 40): أبطال منتصرون وأبطال متألّمون
هنا أوقف الكاتب تعداد حالات خاصة، وانتهى بنصّ عام كله بلاغة. تنطبع بدايةُ القطعة ونهايتها بتضمين مع ((ديا بستايوس)) (بواسطة الايمان) التي لا تظهر إلاّ هنا في ف 11.
11: 32 وماذا أقول أيضًا؟ إنه ليضيق بي الوقت إن أخبرتُ عن جدعون وباراق وشمشون ويفتاح، وعن داود وصموئيل والأنبياء
11: 33 أولئك الذين بالايمان (ديا بستايوس)
قهروا الممالك،
وأقاموا القضاء،
ونالوا المواعد،
وسدّوا أشداق الاسود،
11: 34 وأخمدوا حدّة النار،
ونجوا من حدّ السيف
وتقوّوا من ضعف (مرض)
وصاروا أشدّاء في القتال
وقلبوا معسكرات الاعداء
11: 35 واسترجعت نساء أمواتهنّ بالقيامة.
11: 35 ب فمنهم من عذّبوا
ولم يقبلوا النجاة
ليحرزوا قيامة أفضل.
11: 36 وآخرون ذاقوا الهزء والسياط حتّى القيود والسجن
11: 37 رُجموا، نُشروا، أحرقوا
ماتوا بحدّ السيف،
تشرّدوا في جلود الغنم والمعز،
معوزين، مضايقين، مجهودين.
11: 38 هم الذين لم يكن العالم مستحقًا لهم،
تائهين في البراري
والجبال والمغاور وكهوف الأرض.
11: 39 وهؤلاء كلهم، وإن شُهد لهم بالايمان،
لم ينالوا الموعد،
11: 04 لأن الله إذ أعدّ لنا مصيرًا أفضل،
لم يشأ أن يبلغوا الكمال بمعزل عنّا.
بُني هذا التوسّع الطويل على تعارض بين مرحلتي الايمان، مرحلة إيجابيّة (تأكيد)، ومرحلة سلبيّة (نفي)، ونحن نجد الوصلة في آ 35 مع الاداة ((دي)) (آ 36، الفاء)، والتقابل بين قيامة على مستوى الجسد، على الأرض (آ 35 أ) وقيامة أفضل (آ 35 ب). فالقيامة على مستوى الأرض، هي تتمّة ما يحقّقه الايمان على مستوى الرمز. غير أن الايمان لا يتوقّف هنا، كما لا يتوقّف عند سائر الأمور المنظورة (المرئيات). بل هو ينفصل عنها وينتظر شيئًا أفضل. في الشقّ الأول (آ 33 - 35 أ)، نجد أولاً ثلاث وحدات قصيرة (فعل ومفعول به). ثم تتوسّع الوحدة في تواز: ستوماتا (أشداق الأسود، حدّ السيف، فم السيف، رج آ 34). ثم ((ديناميس)) (قوّة النار) و((إديناموتيسان)) (تقووا، آ 34). وفي النهاية، صارت الجملة طويلة (آ35 أ) كنفير يعلن نهاية القتال. وجاء الشقّ الثاني (آ 35 ب - 83) متنوعًا جدًا: أفعال، أسماء الفاعل. وتُطرح هنا مسألة نصوصيّة في آ 37: إبايراستيسان (أحرقوا). هناك حلول ثلاثة: هذا الفعل هو تكرار للذي قبله ((نُشروا)) (إيريستيسان). لهذا نلغيه. الحلّ الثاني، نصحّح النص إلى ((إبراستيان)) أو ((ابيروتيسان)): أحرقوا. الحل الثالث، نحافظ عليه كما هو. نستطيع أن نلغيه. أما نحن فاحتفظنا به وهكذا كانت لنا مجموعة من ثلاثة أفعال: رُجموا، نشروا، أحرقوا.
إن الجملة الأخيرة (آ 39 - 40) هي خاتمة المقطع. تستعيد عبارة ((بواسطة الايمان)) (آ 33) وتعود إلى ما قيل في آ 33 (نالوا المواعد) فتحدّد أن ما تحقّق بشكل جزئيّ لا يمكن أن يُمزج بالنوال النهائيّ للموعد. من هذا القبيل، جُعل الأبطال المنتصرون (آ 33 - 35أ) والابطال المتألّمون (آ 35 ب - 38) في خانة واحدة: كلهم انتظرونا لكي يبلغوا إلى الكمال معنا. لهذا، قرأنا لفظ ((أفضل)) في آ 40، كما قرأناه في آ 35 ب: فالقيامة الأفضل محفوظة للعهد الأفضل (8: 6؛ رج 7: 22).
لم يرَ الكاتب أن يدرج هنا تلميحًا مباشرًا إلى اعتباراته عن موسى (آ 23 - 31). فتفضيل موسى لثروة أعظم يجدها في عار المسيح (آ 26)، هيّأه لأن ينعم بمصير أفضل (آ 40). هذا ما يتعلّق بالمقطع الأخير (آ 32 - 40). وأشار الكاتب أيضًا إلى المقاطع السابقة. استعاد من المقطع الأول (آ 1 - 7) شهادة الله التي مُنحت للايمان (آ 39؛ رج آ 2 ،4 ،5)، وهي شهادة لا تمتزج بالثواب (آ 6) أي بنوال الموعد (آ 39)، ولكنها تعطينا الثقة بالحصول عليه. وعاد الكاتب، في التوسّع حول ابراهيم (آ 8 - 22)، إلى القسمة المركزيّة (آ 13 - 16). فعبارة آ 39 (وهؤلاء لم ينالوا الموعد) هي صدى آ 13 (أولئك جميعًا لم ينالوا الموعد). والانتقال من صيغة الجمع (المواعد)، إلى صيغة المفرد (الموعد) يدلّ على تطوّر في الفكرة صار ممكنًا بواسطة برهان آ 15 - 16: ما قصدوا ذلك الوطن الأرضيّ. بل كانوا يصبون إلى وطن أفضل. فمرحلة نجاحات الايمان الأرضيّة (ايجابيّة) ومرحلة التجرّد عنها (سلبيّة)، هما مرحلتان تتطلّعان إلى هدف أفضل: الكمال في الله الذي يُعطى لنا. وهكذا نستعدّ للاتجاه الثاني (12: 1 - 13).
2 - الاتجاه الثاني: الثبات (12: 1 - 13)
بعد الاتجاه الأول الذي كان موضوعه الايمان في حياة الآباء من هابيل حتى ابراهيم وموسى، والقضاة والملوك والانبياء، يرد الاتجاه الثاني الذي يدعو المسيحيين إلى الثبات في خطى يسوع. نجد هنا مقدمة (12: 1 - 3) هي نداء، وتوسّع حول الباعث على التعزية، وخاتمة (12: 12 - 13). هي نداء للنهوض وابتعاد عن التراخي مهما طال الوقت وتكاثرت الصعوبات.

أ - نظرة عامة
اتّخذ الاتجاه الثاني منذ البداية لهجة التحريض، فاختلف عن الاتجاه الأول. لم نعد أمام الآباء الأولين وطريقة عيشهم للايمان، بل أمام مؤمنين يعيشون الآن، في الزمن الحاضر، زمن دوّنت فيه عب، زمن نعيش فيه نحن اليوم أيضًا. نقرأ في 12: 1: نحن أيضًا. وفي 12: 9: نخضع نحن. إذن، صيغة المتكلم الجمع، وفي 12: 3 ،5 ،7 ،13، ترد صيغة المخاطب الجمع: لئلاّ تكلّ نفوسكم (أنتم). نسيتم هذا التحريض، إصبروا على التأديب... غير أن الكاتب اهتمّ بأن يربط اتجاهًا باتجاه. ففي نهاية الاتجاه الأول، أعلن الاتجاه الثاني حين أورد صيغة المتكلّم الجمع (لا الغائب الجمع: عذَّبوهم ولم يقبلوا) فقال: ((أعدَّ الله لنا مصيرًا)) (11: 40). وفي بداية الاتجاه الثاني (12: 1 - 13) أوجز الاتجاه الأول في عبارة قصيرة (12: 1): ((يحدق بنا هذا السحاب الكثير من الشهود)). رج 11: 2 ،4 ،5 ،31. وبعد ذلك، سيستعيد فكرة الكمال (مكمّله، 12: 2؛ رج 11: 40) ولفظة الايمان (12: 2).
غير أنه لن يشدّد هنا على الايمان، ولا على دور الشهود. فموضوع الاتجاه الثاني هو ثبات أبناء الله. اشير مرّة واحدة إلى الايمان (12: 2)، ولكن أربع مرات إلى الثبات (12: 1 ،2 ،3، 7). وما يلفت النظرليس ((سحابة الشهود)) بل يسوع (12: 2) مثال الذين جعلهم الله أبناءه. وهكذا يرتبط هذا الاتجاه (12: 1 - 13)، عبر ف 11، بالتحريض الذي نقرأه في نهاية القسم الثالث؛ هنا أعلن الغرضُ من الثبات (10: 36؛ رج 10: 32)، وهناك تطلّعنا إلى يسوع (10: 19) الذي فتح لنا الطريق بدمه فدخلنا المعبد (10: 19 ،رج 12: 4).
هناك اختلافات في الاسلوب تدعونا إلى تقسيم هذا الاتجاه إلى مقاطع صغيرة. في آ 1 - 3 ،تأتي الأفعال في صيغة الأمر (تأمّلوا 12: 1) أو صيغة قريبة (لنسعَ، 12: 1). هي المقدمة. وإذا وضعنا جانبًا فعلين في صيغة الأمر (لا تحتقر، لا تفشل، 2: 5) يتمُ التوسّع (12: 4 - 11) في صيغة الدلالة. نتميّز قسمتين تفصل بينهما ((ايتا)) (ثم) التي تلعب دور الوصلة. الأولى (12: 4 - 8) تشدّد على صفة الأبناء (تتكرّر اللفظة ست مرات). والثانية (آ 9 - 11)، لا تتكلّم عن البنوّة، بل تُبرز ثلاث نقائض مع ((مان)) (من جهة). دي، (من جهة أخرى). وأخيرًا، هناك آيتان (12: 12 - 13) ترد فيهما الافعال في صيغة الأمر (انهضوا، اصنعوا). هي الخاتمة.

ب - المقدمة (12: 1 - 3)
12: 1 لذلك نحن أيضًا مثل هذا السحاب الكثير الكثيف من الشهود،
فلنطرح عنا كل ثقل
الخطيئة التي تكتنفنا،
ولنسعَ بثبات في الميدان المفتوح أمامنا
12: 2 شاخصين بأبصارنا إلى مبدئ الايمان ومكمّله، يسوع،
الذي بدل السرور الموضوع أمامه،
تحمّل الصليب هازئًا بالعار.
وجلس عن يمين عرش الله.
12: 3 فتأمّلوا بتفصيل ما قاساه الذي صبر على مثل هذه المقاومة لشخصه من قبل الخطأة، لئلاّ تكلّ نفوسكم وتخور.
يظهر في هذا النص تواز متداور في نهاية آ 2: تتكوّن العقدة بعبارتين تدلاّن على الآلام: تحمّل الصليب، هزئ بالعار. ومن كل جهة تتجاوب جملتان تتعارضان مع منظور الآلام هذا: أولاً، السرور الذي تخلّى عنه يسوع، ثم المجد الذي ناله (نلاحظ هنا للمرة الرابعة ((جلس عن يمين)) مز 110؛ رج 1: 3؛ 8: 2؛ 10: 12، وكل مرة مع تفصيل خاص). ونستطيع أن نواصل البحث عن التقابلات: ((فتأمّلوا بتفصيل)) (آ 3) تتوازى مع ((شاخصين بأبصارنا نحو يسوع)) (آ 2). ((ما قاساه)) (آ 3) تذكرنا ((بثبات)) (هيبوموني) (آ 1). ((المقاومة)) (آ 3) تقابل ((الميدان)) (أو القتال) (آ 1). وأخيرًا نجد علاقة بين الاشارة إلى الكلل والخور (آ 3) والوصيّة التي نقرأها في آ 1 بأن نطرح كل ما يثقلنا. وهكذا يمتدّ التوازي حتى يصل إلى قلب النصّ.
ويُبرز هذا التوازي أيضًا تشابهًا بين يسوع والمسيحيين: فالمعلم والتلاميذ يمرّون في ذات الطريق، طريق الثبات والمعاناة والمقاساة. غير أن الكاتب يعرف أيضًا، بفضل تقابل يأخذه من الخارج، أن يجد بينهما اختلافًا. فتكرار اسم الفاعل لفعل ((بروكايستاي)) له معناه: هو يشدّد على الاختلاف بين وضع البداية للمعلّم وللتلاميذ. ما هو أمام (بروكايمانون) التلاميذ بشكل عادي هو النزال، القتال، الميدان. وما هو أمام (بروكايمانيس) يسوع هو السرور والفرح. غير أن ((قائدنا)) اتخذ طريقًا آخر: بدل السرور تحمّل الصليب. وبهذه المقاساة الاراديّة، انضمّ إلينا، وسار على رأسنا. تشبّه بنا (رج 4: 15 و 2: 14 - 18).

ج - التوسّع (12: 4 - 11)
نلاحظ شيئًا مماثلاً في التوسّع حول العلاقة بين المقاساة والبنوّة. حسب 5: 8، تعلّم الطاعة من الألم، مع أنه كان الابن. فإن هو تحمله فتضامنًا مع البشر. وها هو يُقال لنا الآن أن المؤمنين يخضعون للمحنة لأنهم أبناء (آ 7). لا تحمل بنوّتهم القيمة عينها: فالتأديب الذي ينالونه، يجب أن يكمّلهم (12: 6). وهذا الدور الايجابي للمحنة، هو الذي يعطي الكاتب أساس برهانه في آ 4 - 11. فالتأديب أبعد ما يكون باعثًا على اليأس، بل هو يحرك الثقة المسيحيّة والدالة، لأنه يتوخّى قبل كل شيء تقوية رباطات البنوّة مع الله، فيشهد على وجود مثل هذه الرباطات (12: 4 - 8).
أولاً: القسم الأول (12: 4 - 8)
أبرز الكاتب أولاً (آ 4 - 8) هذه الوجهة الثانية. من قال ((تأديب))، قال ((بنوّة)) (الابن يؤدّب). واللفظة اليونانية ((بايدايا)) توافق كل الموافقة هذا الكلام، لأنها تدلّ على الولد (بايس) وتشير إلى التربية والتأديب معًا. نحن هنا في وجهة مؤلمة في الحياة المسيحية لهذا نقول: أدّب، تأديب، مؤدّب.
12: 4 فإنكم إلى الآن، لم تقاوموا بعد حتّى الدم في الجهاد ضدّ الخطيئة
12: 5 وقد نسيتم هذا التحريض
الموجّه إليكم إلى بنين:
يا ابني لا تحتقر تأديبات الربّ،
ولا تيأس إذا وبخك
12: 6 لأن من أحبّه الرب يؤدّبه،
ويجلد كل من يرتضيه ابنًا له.
12: 7 فاصبروا على التأديب،
إنما الله يعاملكم كبنين،
وأيّ ابن
لا يؤدّبه ابوه؟
12: 8 فإن لبثتم بدون هذا التأديب
الذي يشترك فيه الجميع،
فأنتم نغول (أبناء زنى)
لا بنون.
عالج الكاتب موضوعه عائدًا إلى سفر الامثال (3: 11 - 12) كما قرأه في السبعينية. وهذا السفر اعتاد أن يقدّم أقواله في جمل متوازية:
يتألف الشطر الاولين من جملتين متوازيتين في صيغة النفي:
- لا تحتقر - لا تيأس
- التأديب - مؤدّب
ويتألف الشطر الثاني من جملتين متداورتين في صيغة التأكيد:
- من يحبّ - من يرضى عنه
- يؤدب - يعاقبه
وتوحّدت المجموعة، بفضل التكرار، في سلسلة متداورة مؤلّفة من ثلاثة عناصر:
- الابن - الابن
- التأديب - مؤدب
- الربّ - الرب
وتابع كاتب عب هذا الكلام في ذات الاسلوب. فاستعاد عناصر السلسلة المتداورة، ما عدا ((الرب))، وأحلّ محله ((الله))، ثم ((أب)). فجاء التسلسل مرتبًا كما يلي:
تأديب، ابن، الله
ابن، أدّب، أب
تأديب، ابن.
أبرز سفر الأمثال العطف الذي يظهره الأب، فلم يقل كلامًا مباشرًا عن العلاقة بين البنوّة والتأديب. ولكن هذا هو الأمر الذي يهمّ عب. فشرحُها يتوخّى التشديد عليه لكي يعطي عن المحنة نظرة إيجايبّة جدًا. وهكذا توزّع هذا المقطع الأخير في ثلاث مراحل:
- تأكيد (12: 7 أ) : أصبروا على التأديب.
- استفهام (12: 7 ب): أي ابن لا يؤدّبه أبوه؟
- نفي (12: 8) : لستم أبناء
يتوضّح التأكيد في جملتين متوازيتين:
- باسم التأديب - كما مع الابناء
- تصبرون، تقاسون - معكم يتعامل الله
وهكذا نصل إلى تقابل بين ((ابن)) و ((مؤدّب)) (الابن هو الذي يؤدَّب)، وهو تقابل يتوخى الاستفهام أن يدل عليه بشكل صريح: ((أي ابن لا يؤدّبه أبوه))؟ وأخيرًا، تنطبق الفرضيّة السلبية (غياب التأديب، لا يؤدّبه) على القّراء، فيحلّل مضمونها في جملة تناقضيّة، رتّبت ترتيبًا متوازيا:
- بدون تأديب - نغول
- مشارك - بنون
ينتج عن هذا أن غياب التأديب يتضمّن غياب البنوّة. لا ترضون التأديب، إذن لستم أبناء. هذه الملاحظة تجعلنا نخاف وضعًا من هذا النوع قد تمنيناه للوهلة الأولى. وفي الوقت عينه، لم يعد من معنى لتحفّظات المسيحييّن أمام المحنة.
ثانيًا: القسمة الثانية (12: 9 - 13)
بعد أن بيّن الكاتب أن التأديب لا ينفصل عن البنوّة، أبرز في قسمة ثانية المنفعة التي تمنحها المحنة بما فيها من تأديب:
12: 9 لقد كان أباؤنا بحسب الجسد (حسب البشرية)
يؤدّبوننا
وكنا ننقاد لهم
فكم بالاحرى يجب أن نخضع
لأبي الأرواح،
فتكون لنا الحياة.
12: 10 إن أولئك، لأيام قلائل،
وعلى هواهم،
كانوا يودّبوننا
أما هو فلفائدتنا
لكي يشركنا في قداسته
12: 11 كل تأديب في الحال
لا يبدو باعثًا على الفرح بل على الغمّ
ولكنه في ما بعد، ثمر برّ سلميًا
يُعقب للذين راضهم.
واستخلص الكاتب حالاً من هذه الاعتبارات المشجّعة، النتائج العمليّة، فأطلق نداء للوقوف من جديد بعيدًا عن التراخي. وهكذا نكون في خاتمة هذا الاتجاه كله (12: 1 - 13)
12: 12 فأنهضوا إذن أيديكم المسترخية، وركبكم الواهنة،
12: 13 واصطنعوا لأقدامكم مسالك أمينة،
لكي لا يشرد الأعرج بل بالحريّ يبرأ.
كان التعبير في آ 9 - 11 في ثلاثة تقابلات متناقضة. قابل التناقضان الأولان بين تربية بشريّة وتربية إلهيّة. وعارض التقابل الأخير بين حاضر مؤلم ومستقبل زاهر. وما يُبرز هذه الوحدة هو ألفاظ عن التربية: في التقابل الأول: مؤدّب. في التقابل الثاني: يؤدّبوننا. في التقابل الثالث: تأديب. في التقابل الأول، نقرأ فعل ((انترابوماتا)) الذي هو موضوع جدال. استُعمل مرة واحدة في العهد الجديد (1 كور 4: 14، لإخجالكم) في صيغة المعلوم. ونجده في الصيغة الوسطيّة ثماني مرات: خمس مرات في الأناجيل الازائية مع المفعول به (رج مت 21: 37: يهابون ابني). مرتين في الرسائل البولسيّة، بدون المفعول. رج 2 تس 3: 14 ((لكي يخجل)) والمرة الأخيرة في هذا النصّ من عب. كيف نفهم هذا الفعل هنا؟ بما أن السياق هو سياق خضوع تقول: ((نحترمهم، ننقاد لهم)). وهكذا تصبح الجملة كما يلي:
- ليؤدّبونا - لتكون لنا الحياة
- آباؤنا حسب الجسد - لأبي الأرواح
- نحترمهم - نخضع.
هذه نظرة، ولكنها تحوّل ((نحيا)) (زيسومان) إلى ((تكون لنا الحياة)). وتقرأ ((كمؤدبين)) لا ليؤدبونا)). لهذا تُبنى الجملة بعناصرها الستة كما يلي:
لنا مؤدبّون نكون خاضعين
أباؤنا حب الجسد أبو الارواح
((كاي انترابوماتا)) ونحيا.
وهكذا تصبح ((انتربوماتا)) بدون مفعول، شأنها شأن نحيا. وهكذا نرى في هذا الفعل لا موقف الولد أمام مربّيه، بل النتيجة التي حصلت عليها التربية. وهكذا لن يكون المعنى، هاب، احترام، بل تربّى، تأدّب، خضع، تهذّب (رج تروبوس في 13: 5). و ما يثبت هذا الموقف، هو أن الكاتب يستعمل مرّة ثانية فعل ((ترابو)) في الصيغة الوسطيّة مع ((إك)) لا مع ((إن)) وهذا ما يصل بنا إلى معنى معاكس: مال، ابتعد، شرد (آ 13). أيكون الكاتب استعمل فعلين من جذر واحد ليكوّن تضمينًا بين بداية هذه القسمة (آ 9) ونهايتها (آ 13)؟ ربما.
في التقابل الثاني (آ 10)، تبدو البنية متداورة. قلبُها فعل أدّب. نجد قبله وبعده اسم فاعل في صيغة الحياد مع حرف الجرّ. معنى الشقّ الأول: حسب هواهم، على ما بدا لهم. في الشق الثاني نجد ((ابي)) مع المنصوب، بالنظر، لكي (غائيّة): الله يؤدّبنا لفائدتنا. ولكن يُطرح السؤال: ما الفرق بين تربية يقدّمها الله وتربية يقدّمها البشر؟ فهل يريد الكاتب أن يقول إن الوالدين لا يطلبون فائدة (منفعة، خير) أولادهم؟ أما يجب أن نبحث عن معنى آخر غير الغائيّة؟ بل نتطلّع إلى مدى تدخّل الله في حياتنا. وهكذا تلتقي ((كاتا)) (حسب، على، في الشق الأول) مع ((ابي)) (في الشق الثاني). الأولى، أشارت إلى ما في كل تربية بشرية من أمور غير أكيدة. والثانية دلّت على تربية الله التي هي أكيدة كل التأكيد. فالآباء لا يؤدّبون إلا على هواهم. حسب ما يشعرون، حسب ما يظنون ويرون. أما تربية الله فتنظر بشكل مباشر إلى المنفعة الحقيقيّة.
وماذا عن التقابل الثالث (آ 11)؟ اللفظة المشتركة بين قسمي التقابل (كل تأديب)، نجدها في رأس الجملة. ثم هناك تعارض بين هذين القسمين (في الحال، في ما بعد)، وفي داخل كل منهما جاء الأول أكثر وضوحًا: الفرح والغم. والثاني أكثر وضوحًا: ثمر سلميّ، راضَ. تعود بنا فكرة الترويض إلى استعارتين رياضيّتبن استُعملتا في 12: 1 (السعي والنضال والميدان) لتهيّئ هذه الخاتمة التي تجد نفسها في المنظور عينه (12: 12 - 13)، مع صيغة الأمر (إنهضوا، اصطنعوا) كما في آ 1 - 3. ذكّرتنا آ 13 ببداية المقطع في تضمين (ننقاد لهم، آ 9) وببداية الاتجاه (مسالك مستقيمة، رج آ 1 نسعى) فدلّت على النهاية، وفي الوقت عينه أعلنت موضوع القسم الرابع (12: 14 - 13: 25): ((اصطنعوا لأقدامكم مسالك مستقيمة)).




Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM