أنا مسكين وبائس

أنا مسكين وبائس
المزمور السادس والثمانون

1. المزمور السادس والثمانون هو مزمور توسّل ينشده عبد الله المتألم ويطلب معونة الرب. نكتشف فيه حوارًا مفعمًا بالثقة والمحبة بين عبد وسيّده يجعلنا نتذكّر عبد يهوه الذي هو في الوقت ذاته شعب اسرائيل، وفرد يمثّل هذا الشعب. كتب المرتّل حواره منطلقًا من نصوص عديدة أخذها عن المزامير (40: 18؛ 25: 20؛ 58: 2) فعبّر عن حالته النفسيّة بصلاة كلها محبة وحرارة.

2. صلاة عبد الله المتألم.
آ 2- 7: حوار بين العبد وسيده. يطلب العبد المعونة والحياة والخلاص والرحمة والفرح من الرب وقد جعل ثقته فيه. يتوجّه إلى ربه وإلهه الغفور والصالح: أصغ يا رب إلى صوت تضرعي.
آ 8- 13: يذكر المرتّل مجد اسم الله بين الأمم (آ 8- 10) وعند شعبه وعبيده (آ 11- 13). فالله بالنسبة إلى الامم اله لا مثيل له يفعل ما لا يفعله سواه، ويعمل ما لا تستطيعه آلهتهم الفارغة. وتأتي هذا الامم فتسجد للرب معلنة عظمته مقرّة بملكه. تأكدوا بسبب أعماله أنه وحده الله. ويأخذ مجد اسم الله بالنسبة إلى عبيده طابعًا آخر، فلا يؤخذون فقط ببهاء أعماله التي تؤثّر على الذين هم في الخارج، بل يؤخذون بعظم رحمته التي ولدت النعمة في نفس حبيبه، فأعادت إليه الحياة وهو في الجحيم، وجعلته يعيش من جديد بجوار الله.
آ 14- 17: أمام عداء العالم ورحمة الله، يشكو المرتّل أمره إلى الرب ويتوسّل معلنًا ثقته به: الله رحوم رؤوف طويل الاناة كثير الرحمة (103: 8) ومحبته لا يقف في وجهها شيء. أراد العالم أن يسحق المؤمن، ولكن المؤمن وجد عند الرب القوة والخلاص، التفت إليّ وارحمني، وهبني قوّة منك وخلّصني.

3. يتوسّل المرتّل إلى الرب طالبًا معونته، فهو مسكين وبائس (15: 10) وأحد أحبَّاء الله المضطهدين الذين يرفعون إليه قضيتهم. قال الرب: أنا الهك... (خر 20: 2). أجاب المؤمن: أنت الهي. ويردّد المؤمن في آ 5 ما نقرأه في سفر الخروج (34: 6) والعدد (14: 8): السيد صالح وغفور ووافر الرحمة. وهكذا يجدد ثقته بالله، ويجعل كل اتكاله عليه، ويعده بأن يحيا حياة يرضى عنها الله، أي بأن يسلك بأمانة مع الله موجّهًا قلبه إليه متّكلاً على رحمته.
يحسّ المرتّل بالخطر يحدق به، فيتوجّه إلى الله طالبًا الخلاص وهو واثق بأن الله يسمعه لأنه من جماعة مساكين الله وأحبّائه. وما يزيده ثقة هو أن الله اله رحوم غفور، وأن حبّه يظهر بألف صورة وصورة لمن يطلبه دائمًا: لانك عظيم وصانع المعجزات، أنت الله وحدك.

4. المرتّل بائس ومسكين يسير بتواضع في طرق الرب (مي 6: 8). وهو رمز إلى يسوع المسيح الذي أخذ صورة العبد (فل 2: 7) وصار فقيرًا لأجلنا (1 كور 8: 9) وجاء من عند الرب ليبشّر الفقراء (لو 4: 18). وما زال يعظنا بأن نتجرّد عن العالم (مر 10: 21) ونعيش الفقر بالروح (مت 5: 3) ونظهر بالتواضع أمام الله. والمساكين بالروح يسلّمون ذواتهم بثقة إلى الله الذي يكشف عن ذاته رؤوفًا رحومًا يخلص نفوس عبيده من الخطيئة والموت. وكما أقام الآب ابنه يسوع وانتشله من أعماق الجحيم ومن عالم الموت وأجلسه عن يمينه، هكذا سيقيم معه كل المائتين ويخلّص المتضايقين من ضيقاتهم.

5. تأمّل
هي نفس المرتّل تتوسّل تارة وتشكر طورًا. تنخطف ثم تقول حبّها بكل بساطة. فإلهام الساعة هو الذي يوجّهها في حريّة أين منها حريّة الاطفال حين ينتقلون من فكرة إلى فكرة. وتأتي الكلمات التي تغذّيها كلمة الله، فيتأمّل فيها المؤمن على مثال مريم العذراء التي كانت "تحفظ" هذه الكلمات و"تتأمل بها في قلبها" (لو 2: 19). والمؤمن هنا قد اختبر في ضيقه قوّة الله وأمانته وحبّه لشعبه. فترك لسانه يتحدّث، بل قلبه يعبّر عمّا في أعماقه. فجاءت أولى كلماته للرب. وأول حركة توجّهت إليه. بل هو سأل الرب أن يلتفت إلى من هو عبده البائس الفقير.
"أمل أذنك واستجب لي". لا يكفي ربي أن تنظر إليّ. يجب أن تنحني نحوي، كما الآب ينحني على ابنه، وتميل أذنك نحوي. صوتي ضعيف فكيف تسمع صلاتي فتصل إليك كلمات لا تقال إلاّ لك. "تعال يا إلهي. أريد أن أكلّمك في أذنك فليس إلاّ أذنك يا الهي تستطيع أن تجيبني، أن تستجيب لي".
أنا أعرف أنك تجيب. تجيب دومًا المسكين والتعيس. هكذا يسمّي المرتّل نفسه. انحنى أمام الآخرين، فصار حصَّة الله. ولكن إن عرف الفقر والضيق، فهو يستطيع أن يشهد أنه أمين لإلهه. وهو متأكّد أن هذا الاله لن يتخلّى عنه.
"أحرسني يا إلهي لأني تقي". وتتكرّر أداة "لأن" تسع مرات، إلى أن يستبقيه، إلى أن يبقيه على قيد الحياة، إلى أن يخلّصه. شقائي يحنّن قلبك يا رب وفقري، ثم تقواي وأمانتي والثقة التي أضعها فيك.
وإذا كانت هذا الاسباب تلامس قلب الله وتدفعه إلى أن يتدخّل، كيف لا يتأثّر الله حين يسمع نداء اسمه يتكرّر كما في فم طفل يتضايق في ظلام الليل. يهوه (الرب) ادوناي (السيّد). الوهيم (الله). يرد اسم الله 14 مرّة في 17 آية التي فيها يتوسّل المؤمن. فالفقير يلجأ إلى كلمات عديدة لكي يسمعه الناس. تلك هي خبرة هذا المؤمن. وإن سمَّى نفسه المسكينَ والبائس، فالاسماء التي يعطيها للاله تدلّ على قدرته وعظمته. بل هو يسميه 7 مرات السيد والربّ. ويسمّي نفس خادمه المرتبط به ارتباطًا مطلقًا. فكيف لا يهتمّ الله بخادم أمين إلى هذا الحدّ. أما هو حبّ وحنان وأمانة؟ إذن، سوف يفعل.

6. ما استطاع الله أن يمنح البشر عطيّة أجمل من تلك التي منحهم رأسًا هو كلمته الذي به خلق كل شيء، وأشركهم في هذا الرأس كأعضائه، لكي يكون في الوقت عينه ابن الله وابن الإنسان، إلهًا واحدًا مع الآب وإنسانا واحدًا مع البشر. وهكذا حين نوجّه إلى الله صلاتنا، لا نفصل عنها المسيح. وحين يقدّم جسد المسيح صلاته لا ينفصل عن رأسه. وهكذا، فربّنا يسوع المسيح، ابن الله، مخلّص جسده، يصلّي لأجلنا، يصلّي فينا ويتقبّل صلواتنا. هو يصلّي لأجلنا ككاهننا. ويصلّي فينا كرأسنا. ويتقبّل صلواتنا كإلهنا. لنفهم إذن أننا نتكلّم فيه وهو يتكلّم فينا.
حين ينسب الكتاب (ولا سيّما الأنبياء) إلى الرب يسوع المسيح اتضاعًا لا يليق بالله، لا نخف من هذه النسبة، لأنه هو نفسه ما خاف أن يجعل نفسه واحدًا منا. الخليقة كلها في خدمته، لأنها به صُنعت كلها. وهكذا حين نتطلّع إلى تساميه ولاهوته، حين نسمع الكتاب يقول: "في البدء، كان الكلمة، وكان الكلمة عند الله، وكان الكلمة الله. كل شيء به كوّن، وبدونه ما كوّن شيء" (يو 1: 1- 2)، وحين نتوقّف عند لاهوت ابن الله الذي هو فوق كل شيء ويتجاوز جميع الخلائق، نسمعه (كما يقول الكتاب) يبكي، يصلّي، يشتكي. نرفض أن ننسب إليه مثل هذه المواقف، وكأن عقلنا الذي ما زال مملوءًا من مشاهدة لاهوته، ما استعدّ بعد للنزول والقبول بهذا الانحدار. وكأننا نخاف أن نغيظه حين نؤكّد أن هذه الكلمات البشريّة هي كلماته، هو ابن الله، ساعة نتوجّه إليه حين نرفع صلاتنا إلى الله. (أوغسطينس).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM