أعمال الله في شعبه
المزمور الثامن والستون
1. المزمور الثامن والستون هو مزمور شكر تنشده الجماعة في احتفالاتها أيام الأعياد، لتعبّر عن فخرها وثقتها بالرب الذي أعطى أرضًا لشعبه، وجعله يسكن هذه الأرض، وثبّته عليها لأنه أمين على مواعيده وعهده. ينطلق المرتّل في نشيده من خلاص الربّ على يد دبورة ضد سيسرا (قض 5: 1 ي)، ثمّ يلمّح إلى رجوع الشعب من جلاء بابل (538 ق م)، أو إلى رجوعه من مصر على عهد بطليموس (285- 247 ق م). نشيد الخلاص هذا أنشده الشعب مرّة أولى في هذه المناسبة الخاصّة، ثم أنشده في كل مرّة شعر بيد الله تخلّصه من الضيق.
2. أعمال اله العهد العجيبة في شعبه المختار.
آ 2- 4: مقدمة يدعو فيها المرتّل الربّ إلى أن يقوم ويدين الأرض ويسير أمام شعبه فيعطيه النصر (10: 35).
آ 5- 12: إله العاصفة يُسكن شعبه على أرضه. الله، ملك اسرائيل، يسكن في معبده، فيهتمّ بالمساكين، ويقضي لليتامى والأرامل. يسير أمام جيوش شعبه بقدرته التي ظهرت على جبل سيناء: إنه اله العاصفة الذي يعطي الشتاء ويدين الأمم بالعدل، لأن المياه والعدالة تولّدان كلتاهما الحياة.
آ 13- 19: بعد أن ذكر المرتّل خروج الشعب من مصر وعبوره للصحراء، ذكر احتلال أرض الميعاد وإقامة الله في أرض كنعان يعد أن تغلّب على شعوبها. الربّ يأتي من سيناء إلى الجبل المقدّس في صهيون، فيدبّ الحسد في قلب حرمون ومراعي باشان.
آ 20- 28: يتحدّث المرتّل عن انتصار اسرائيل المفتخر بإلهه الذي ظهر كإله خلاص يُمسك بمخارج الموت ومداخله، كإله حرب يأتي بأعداء شعبه ويسحقهم عند أقدامهم. وفي ذلك الوقت ينطلق التطواف: المغنّون والعذارى...
آ 29- 36: يتطلّع المرتّل إلى المستقبل يوم تعترف الأمم بقدرة الله وعظمته.
3. يضعنا هذا المزمور أمام ظهور الرب: الأرض ترتجف فتأتي العاصفة بشتائها وثلجها، وتحدثُ بلبلة بين القوى التي حسبت أن الكونَ ملكٌ لها: جبل صلمون (جبل حوران) وجبل باشان، واله الموت والبحر، وكذلك وحش القصب وجماعة الثيران التي هي آلهة وثنية. يظهر الرب فيتشتّت أعداؤه ويهربون كضباب الصباح أمام الشمس، وكالشمع أمام النار. يهرب الملوك تاركين أسلابهم وراءهم من وجه الاله الآتي مع جيشه، فيأخذ الأسرى ويقتل بعضًا منهم. أما الباقون فيأتون ويقدّمون إليه الهدايا من ذهب وفضة ونحاس، ويسجدون لله الذي غلبهم مع آلهتهم. يظهر الربّ فيتمّ الخلاص لشعبه، فيفرحون لأن الرب أنقذهم من العدو، وأخذ على عاتقه أمر المساكين والضعفاء واليتامى والأرامل (واسرائيل هو ذلك المسكين الذي لا سند له إلاّ الله) وأعطاهم المنّ والسلوى مع شريعته. فليبارك الشعبُ الربّ لأنه وضع قدرته بتصرّف محبّيه.
يذكر المزمورُ صهيون حيثُ تقدّم الذبائح، وحيث يُوضَع تابوت العهد الذي هو علامة حضور الرب بين شعبه، وبالأخص ساعة القتال. ويذكر جبل سيناء الذي منه انتقل الربّ فوق كل الجبال قبل أن يختار صهيون جبله الخاص به حيث ربط مصيره بمصير شعبه.
ونرى تطوافًا يسير فيه تابوت العهد: أمامه المغنّون والعازفون والعذارى يرقصون ويضربون بالدفّ، ثم الأمراء والعظماء. هم يطوفون في كلّ أورشليم إلى أن يصلوا إلى الهيكل، كما فعل سليمان لأول مرّة حين نقل تابوت العهد من البيت الذي كان مقيمًا فيه إلى الهيكل الذي بناه له.
4. تورد الرسالة إلى أفسس (4: 8) آ 19 من هذا المزمور: صعدت إلى العلى وسبيت سبيًا... لتبيّن أن المسيح الصاعدَ إلى السماء هو المنتصر الذي يعطي العطايا. فهذا المزمور الذي يُنشده إله العهد الجديد معلنًا انتصاره مهيّئًا النعم لشعبه، يفتح أمامنا آفاقًا معاديَّة تجعلنا نتطلّع منذ الآن إلى الرب المنتصر الممجدّ: ننظر إليه بعين الإيمان منتظرين أن يظهر بمجده العظيم ليدين الأحياء والأموات.
5 أ. ظهور الله
نحن في هذا المزمور أمام ظهور الله مع نتيجته المثلّثة العاديّة: الكوارث الطبيعية، إنهزام الأعداء، خلاص المختار.
أ- الكوارث الطبيعية: الأرض ترتجف (آ 9)، العاصفة تفعل فعلها (آ 9، 10، 34)، الثلج يتساقط (آ 15). ويقابل ظهور الله بلبلة وجنون الطبيعة كلها، لأن القوى التي ظنّت أنها تتقاسم الخليقة، رأت ذاتها مهدّدة ومزعزعة. فصلمون، وجبل باشان، ومشارف البعل، اضطربت (آ 15- 17). والموت (وهو مؤلّه عند الأقدمين) المُغلَق والذي لا يُقهر صار له بابٌ من صنع الرب (آ 21). وعُرّي البحرُ ممّا كان يمتلك (آ 23). أما وحش القصب وقطعان الثيران والعجول، فهي تشير إلى آلهة مصر وأشور وكنعان التي ترتبط بالطبيعة وظواهرها (آ 31). شعرت كلّها أنها مهدّدة حين ظهر الرب راكبًا على السحاب.
ب- انهزام الأعداء: هؤلاء الأعداء الذين يدخلون في التاريخ، كل هذه الوحوش، سيتشتّتون ويهربون (آ 2). بل سيزولون كضباب الصباح أمام الشمس الطالعة أو يذوبون كالشمع بحضور نار مشتعلة. نرى هنا تلميحًا إلى تماثيل الشمع التي يغرز فيها السحرة دبابيسهم أو يلقونها في النار. وهكذا يهزأ المزمور بالأمم وممارساتهم.
هرب الملوك (آ 13) وتركوا كل أسلابهم، لأن الذي لا يُقهر يطاردهم (آ 15) بجيشه الخاص. يجمع الاسرى العديدين (آ 19)، ويفني قسمًا من أعدائه (آ 22)، فيدوس المنتصرون دم الموتى، وتأكل الكلاب نصيبها. أما الذين بقوا، فخضعوا للرب، وحملوا إليه تقادمهم من الذهب والفضة والنحاس المشغول (آ 31- 32)، بل أسرعوا في المجيء ليعبدوا ذلك الذي تغلّب عليهم (آ 33) وعلى آلهتهم.
- خلاص الشعب المختار: هو خلاص متعدّد الوجوه والأشكال، فيسبّب الفرح لخلاصهم من الأعداء (آ 4- 5). ولكن هذا الخلاص يظهر في داخل هذا الشعب. فالربّ ليس فقط ذلك الذي يربح المعارك لشعبه، بل ذلك الذي يتّخذ تحت حمايته اليتيم والارملة، ويُعطي بيتًا للمسكين الذي لا بيت له (آ 6- 7). إنه الاله الذي يعتني بالضعفاء. وشعب اسرائيل شعب من الضعفاء لا قوّة له إلاّ قوّة الله الذي اختار مقامه في صهيون (آ 6) والذي يسير في مقدمة شعبه (آ 8). هو يغدق عليهم المطر حيث تغرق عجلات الأعداء، ويعطي المن والسلوى، ويؤمِّن بيتًا حتى في البريّة. وهكذا يتذكّر الشعب وجوه الخلاص السابقة. فيجب إذن أن نبارك هذا الاله (آ 20، 33، 35، 36)، لأنه جعل قدرته المريعة في خدمة شعبه (آ 29).
5 ب. مقام الله
يرتبط ظهور الله بصهيون، بتابوت العهد، بسيناء، بانتصار دبورة على سيسرا. ولكن يبدو أن العنصر الأخير هو تذكّر لا إراديّ لانتصار مثاليّ حدث بين سيناء والوقت الذي فيه أنشد هذا المزمور. هذا الانتصار هو محطة في تاريخ بني اسرائيل، وهو يدلّ على ديمومة اختيار الله لشعبه. ويُذكر هنا بسبب الكوارث الطبيعية التي رافقتها، أو لأنه يشبه النصرَ الذي حصل للشعب حين أنشد هذا المزمور فأحس بظهور الله.
أ- صهيون: يبدو من الصعب أن ننكر أننا في الهيكل، لا في عهد شاول كما قال بعضهم. وإلاّ فكيف نتصوّر كل هذه التقادم وهذه التطوافات (آ 25- 28) إلاّ في أورشليم؟ ثم إن آ 35- 36 تبدوان قريبتين من 11: 4 (الرب في هيكله المقدس، الرب في السماء عرشه) التي تتحدّث عن ملك الله: هو ملك في شعبه أي في أورشليم، وهو ملك في السحاب. ففي صهيون المختارة (آ 17) يملك الله ومنها يُرسل كوارثه. وهذا لا يمنعه من أن يصل إلى جبال باشان (آ 23)، ويخرج للجرب فيأسر الاسرى. ولكن بأيّ شكل؟ هل بشكل إله خفيّ على السحاب، أو بشكل إله المعبد؟ كيف نحافظ على الطابع المزدوج لحضور الله؟ الجواب نجده في تابوت العهد.
ب- تابوت العهد: يؤمّن التابوت إقامة الله في صهيون، وحضوره يكون على رأس شعبه في المعارك (آ 8). ثم إن ظهور الله لا يصبح أمرًا ملموسًا ولا يُفهم إلاّ مع تابوت العهد. لنتذكّر أنه كان لوجه الله معنى ملموس وأن هذا الوجه (آ 3- 4) يتطلّع إلى الشعب أو إلى الفرد، فيدلّ على بركة الله. فوجه الله (ومجد الله أيضًا) والتابوت يرتبطان. ثم إننا لا نتصوّر تطوافًا كذلك الذي تورده آ 25- 26 إلاّ إذا تضمّن صورة (رمزيّة أو واقعيّة) عن اللاهوت، يسير وراءها البعض، ويتقدّمها البعض الآخر.
ج- سيناء: نقرأ في آ 9: إله سيناء. إن هذه العبارة تحتفظ بتقليد قديم عن إقامة الله في سيناء. فنحن هنا في مزمور يعكس الانتقال من تقليد إلى تقليد، من تقليد سيناء إلى تقليد صهيون، والانتقال من رب الصحراء والجبال العالية إلى ربّ تلّة وبلاد محدّدة. فنستنتج أن ظهور سيناء لعبَ في الماضي دورًا كبيرًا في فكر بني اسرائيل وليتورجيتهم. فعهدُ سيناء يتجدّد في هذه الانتصارات وفي هذا التطواف، فتتكرّر المعجزات. فنحن لسنا أمام تذكّر عقلانيّ أو إيراد وقائع، بل أمام تأوين يجعل الحدث حاضرًا في الليتورجيا. فنلاحظ أن حدث سيناء لم يكن لبني اسرائيل فقط وحيًا لشرائع أخلاقيّة وقانونيّة، بل عهدًا دائمًا يَبرز بخلاصات لاحقة. أجل لم يعش بنو اسرائيل وحي سيناء كوحي عن إرادة الله وحسب، بل كعلاقة دائمة بين مصيرين، مصير الله ومصير شعبه المختار. ولكن لا يبدو أن سيناء زاحم صهيون. فبعد داود، صار صهيون الجبل المقدس الوحيد، وانتقل اله سيناء إلى المعبد (آ 18).
6 أ. مزمور الصعود
نعود هنا إلى العهد الجديد الذي يطبّق هذا المزمور على سرّ الصعود في مقطع مليء بالمعاني. "كل واحد منا أعطي نصيبه من النعمة على مقدار ما وهب له المسيح. فقد ورد في الكتاب: صعد إلى العلى فأخذ أسرى وأوسع على الناس العطايا. وما المراد بقوله "صعد" سوى أنه نزل إلى أسافل الأرض. فذاك الذي نزل هو نفسه الذي صعد إلى ما فوق السماوات كلّها ليملأ كل شيء. وهو الذي أولى بعضهم أن يكونوا رسلاً وبعضهم أنبياء" (أف 4: 7- 11). نجد في هذا المقطع مقابلة بين الصعود والنزول كما يحدّثنا عنها صعود أشعيا (كتاب منحول)، وعلاقة بين الصعود والارسال.
حدّثنا النص العبري عن عطايا ننالها من يهوه. فتكلّم القديس بولس عن عطايا يمنحها المسيح. ما قيل عن يهوه في العهد القديم يطبَّق على المسيح. وتبديل النصّ يدلّ على الانتقال من إله العهد القديم إلى إله العهد الجديد. وهذا ما يشدّد على الطابع الكرستولوجي لتفسير المزامير في الكنيسة الأولى. فالقديس بولس لا يرى تعبيرًا عن تسامي الله، وهذا ما هو المعنى الحرفيّ، بل تعبيرًا عن رحمة المسيح وهذا هو المعنى النمطيّ. وما يهمّ بولس هو هذا المعنى النبويّ.
ونجد التفسير البولسي لهذا المزمور في التقليد. فيوستينيوس قد طبّقه على الصعود.
أما ايريناوس فكتب: "قام من بين الأموات فوجب عليه أن يصعد إلى السماء كما يقول داود: مركبة الله هي ألوف وألوف من الملائكة. الرب وسطهم في سيناء وفي المعبد. يصعد إلى العلى ويقود جماعة الأسرى. أعطى عطايا للبشر. سمّى النبيّ الأسر زوالَ قدرة الملائكة المتمرّدين. ودلّ على المكان الذي منه سيرتفع من الأرض إلى السماء، لأن الرب، كما قال، صعد من صهيون أي من الجبل الذي قبالة أورشليم، والذي يسمّى جبل الزيتون. بعد أن قام من بين الأموات، جمع تلاميذه، وكان صعودُه أمام عيونهم، فرأوا السماء تنفتح لاستقباله".
وقارب أوريجانس بين هذه الآية ومت 12: 29، فرأى فيها نبوءة عن مشاركة الأبرار في القيامة والصعود. "بدأ فقيّد الشيطان على الصليب، وبعد أن دخل إلى بيته (أي إلى الجحيم) وارتفع من هناك إلى الأعالي، اقتاد الأسرى أي الذين قاموا ودخلوا معه إلى أورشليم السماويّة".
ولكن هذه الآيات لم تطبّق وحدها على الصعود في مزمورنا. فالآية 34 تتكلّم عن يهوه "الذي يصعد إلى سماء السماء من المشرق". فلهذه الآية أهميتها الكبرى للتاريخ الليتورجي. فهي تؤكّد أن صعود المسيح تمّ في المشرق. ويورد تعليم الرسل هذه الآية ليؤسّس عادة الصلاة نحو الشرق. وملائكة الصعود أعلنوا أن المسيح سيعود كما صعد إلى السماء (أع 1: 11). ولهذا ننتظر رجوع المسيح من الشرق. ولهذا كان المصلّون يتوجّهون إلى الشرق، فكانت صلاتهم انتظار رجوع للمسيح الذي سيظهر من الشرق.
غير أن هناك صعوبة. قيل إن المسيح صعد من الشرق، ولكن آ 5 تقول: "هيّئوا الطريق للذي يصعد في الغرب" (كما في اليونانية). كيف أجاب الآباء على هذه الصعوبة؟ عاد أوسابيوس إلى المقابلة بين الصعود والنزول، كما في الرسالة إلى أهل أفسس فقال: "وزاد النصّ: هو الذي صعد إلى سماء السماء إلى الشرق، وهذا ما يقابل بدقّة ما كُتب أعلاه: هيّئوا الطريق للذي صعد إلى الغرب. فبعد أن تعلّمنا عن نزوله، يليق بنا أن نتعلّم عن صعوده. فنزوله كان في الغرب حين أظلم شعاع لاهوته. وكان صعوده إلى سماء السماء في الشرق بعودة مجيدة إلى السماء".
وهذا الرمز عن الغرب والشرق كان مألوفًا في الجماعة الأولى. ففي طقوس المعموديّة، كانوا يكفرون بالشياطين ووجوههم إلى الغرب، ويؤمنون بالمسيح ووجوههم إلى الشرق. ويشرح لنا أوسابيوس في مكان آخر هذا الرمز: "ستفهم ما نعني بمقابلة الشمس. فعند غروبها تُتمّ مسيرة خفيّة وحين تصل إلى الأفق الشرقي ترتفع مستقيمة في المساء فتنير كل شيء وتعطي النهار ضياءه. كذلك يظهر لنا الرب هنا بعد أن يُتم "غيابه" في زمن آلامه وموته، بعد أن يعبر هذه المنطقة يصعد إلى سماء السماء، إلى الشرق. ويعطي أثناسيوس الشرح عينه: "الغروب هو الهبوط إلى الجحيم والشروق هو الصعود".
ونكتشف تفسيرًا آخر للصعود فوق الغروب. فهو يدلّ على انتصار المسيح على الموت الذي رمزه الغرب. وهذا واضح لدى غريغوريوس النيصي. "كانت خطيئة الإنسان سبب طرده من الفردوس. ترك الشرق (تك 2: 8) وسكن في الغرب. بسبب هذا، يبدو الشرق في الغرب (زك 6: 12): سبحوا الرب الصاعد إلى الغرب، لتضيء الشمس الظلمات". ويقول هيلاريوس: "كل مولود يعرف غروبًا، وزوال الأشياء التي لها غروب هو الموت. إذًا يجب أن نعظّم ونهيّئ الطريق للذي يصعد في غروب الموت، أي ذلك الذي طرد كل غروب حين انتصر على غروبه. صعد على غروب موتنا ذلك الذي نال الحياة من بين الأموات بقيامته. هذا كان فرحَ الرسل حين رأوه ولمسوه بعد قيامته".
6 ب. أي رفيق لطيف لحياتنا هو النبيّ داود؟ في أي مكان من مسيرتنا نلتقيه؟ هو يتّحد اتحادًا عجيبًا بكل الأقوياء في السبل الروحية، ويعمل مع المرتقين في أيّة درجة كانوا. يلعب مع الذين هم أولاد حسب الله، ويشاهد البالغين في صراعهم، يعلّم الشبّان ويُسند الشيوخ. يجعل نفسه كلاًّ للكلّ. هو سلاح للجنود، ومدرّب للمقاتلين، وميدان للرياضيين، وإكليل للغالبين. هو فرح في الوليمة، وعزاء في الحداد. فلا وقت في الحياة تغيب عنا نعمته. هل من صلاة فعّالة لم يشارك فيها داود؟ وهل نتصوّر فرح العيد دون أن يرفع داود رونقَه؟
وهذا ما نقدر أن نراه اليوم. فموضوع عيدنا الذي هو عظيم في ذاته، قد عظّمه النبيّ أيضًا فحمل إلى الليتورجيا فرح المزامير التي توافقها.
- الرب راعيّ: فأحد المزامير (23: 1 ي) يدعوك لأن تجعل نفسك نعجة يقودها الله إلى المرعى فلا ينقصها شيء: لا عشب المرعى، ولا مياه الراحة، ولا الطعام، ولا المبيت، ولا الطريق، ولا الهادي. كل هذا يجعلك الراعي الصالح، فتفيد منه فيوزّع ويكيّف نعمته حسب كل حاجة. هذا هو أسلوب الكنيسة. كن أولاً نعجة الراعي الصالح. فكرازة صالحة تقودك نحو المراعي الالهيّة والينابيع التعليميّة، حينئذ تُدفن بالعماد في موت الرب. فلا تخف من هذا الموت، لأنه ليس موتًا، بل ظلّ الموت وصورته. قال المزمور: "لو عبرت وسط ظل الموت لا يصيبني سوء" (23: 4). بعد هذا تتغذّى بعصا الروح القدس. الروح هو المعزّي. يضع أمامك مائدة الأسرار. هيّأها لك أمام مائدة الشياطين. الشياطين هم الذين يستغلّون حياة الناس بعبادة الأوثان. فتقوم ضدّهم مائدةُ الروح، ثم تمسح الكنيسة الرأس بزيت الروح المعطّر، وتزيد عليه الخمرة التي تُفرح القلب (104: 15)، وتمنح نفسك السكر العفيف الذي يميل بأفكارك عن العابر ليثبّتها في ما هو أبدي. فالإنسان الذي اختبر هذا السكر، يُبادل ما لا يثبت بديمومة لا تنتهي. تمتدّ حياته إلى "طوال الأيام" في بيت الرب.
مزمور واحد أعطانا مثل هذه الأفكار. أيقظَ نفوسنا إلى فرح أعظم وأكمل سيأتيه من المزمور التالي (24: 1 ي). فإذا أردتم، نلخّصه في بضع كلمات لنعطيكم معناه.
- للرب الأرض: "للرب الأرض وكلّ ما فيها" (24: 1). لماذا يبدو لك غريبًا أيها الإنسان أن يكون الله ظهر على الأرض وعاش بين البشر؟ ألم يخلق لنا الأرض؟ أما هي عمله؟ أي عجيب أن يأتي سيّد المكان ليزوره؟ فهذا العالم ليس غريبًا عنه، وهو الذي كوّنه. وضع البحار وأساسات الأرض. واهتم بأن يرويها عند مجرى الأنهار. ولماذا جاء؟ فبعد أن تتشكّك من هوّة الخطايا أراد أن يقودك إلى جبله. وتصعد هذا الجبل في مركبة ملوكيّة بممارسة الفضيلة. فلا يستحيل أن تصعد هذا الجبل إذا سرت مع الفضائل. لتكن يداك بريئتين فلا ينجِّسهما عمل سيّئ. وليكن قلبك نقيًا، وحرّر نفسك من كل ما لا جدوى فيه، ولا تعدَّ لقريبك فخاخًا. فبركة الرب تكون محازاة هذا الصعود. وهو من أجلك يحفظ هذا العون. "هذا هو نسل الذين يطلبونك". الذين يقدرون أن يصعدوا إلى العلى بواسطة الفضيلة. "هؤلاء هم الذين يطلبون وجه إله يعقوب" (24: 6).
- ارتفعن أيتها الأبواب الأبدية: وتعليم ما تبقّى من المزمور أرفع لأنه أقرب إلى الإنجيل. فماذا يعلّمنا الإنجيل إلاّ حياة ربنا على الأرض وصعوده إلى السماء؟ فهذا النبيّ العظيم يرتفع فوق نفسه كما لو أنه لا يحسّ بثقل الجسد. يختلط بتجمّع القوات العلويّة، ويجلب من هناك إلينا تفاصيل كلماته.
فالقوّات التي ترافق الرب في نزوله إلى الأرض، تتوجّه إلى الملائكة الذين يحيطون بالأرض والذين أوكل إليهم مصيرُ البشر، وتلحّ عليهم بأن يرفعوا أبواب الدخول. تقول: "إرفعوا الأبواب أيها الأمراء. وأنت أيتها الأبواب ارتفعي. سيدخل ملك المجد". فالذي يتضمّن كل شيء في ذاته وحيث يكون، يتكيّف مع ذلك الذي يقبله: إنسان مع الناس، يرافقه الملائكة، فيأخذ طبعهم، ويجعل نفسه على مستواهم. لهذا يتساءل البوّابون: من هو ملك المجد هذا؟ فيبيِّنون لهم أنه القويّ والجبّار في القتال. سيقاتل الذي يسبي الطبيعة البشريّة. سيدمّر من له سلطان الموت (عب 2: 14). وعندما يزول هذا العدوّ الأخير، يُدعى النسلُ البشريّ حينذاك إلى الحريّة والسلام.
وتسمع من جديد الكلمات عينها (إرفعوا أبوابكم). منذ الآن قد تمّ سرُّ الموت. منذ الآن تمّ الانتصار على الأعداء، ووقف ضدَهم الصليبُ كشعار غلبة. "صعد إلى العلى، وقاد إلى السبي" أولئك الذين سبوا الإنسان (68: 19). أعطى الناس هذه العطايا الفاخرة، أي الحياة والملك. فيجب أن تُفتح أمامه من جديد أبواب العلاء. واتّخذ الحراس بدورهم مكانًا بين أفراد الحاشية، وفتحوا الأبواب العليّة ليمجَّد فيها من جديد. ولكنهم لم يعرفوه بعد أن تغطّى بلباس حياتنا القذر: ثيابه حمراء بعد أن مرّت في معصرة خطايا الإنسان. حينئذ أسمعوا صوتهم بدورهم: "من هو ملك المجد هذا"؟ فلم يكن الجواب هذه المرّة: "هو القوي والجبّار في القتال". بل "هو ربّ القوّات العلويّة". هو الذي نال السلطان على الكون، الذي جمع كل شيء في شخصه، الذي له الأوليّة في كل شيء، الذي أعاد كل شيء إلى ما كان عليه أولاً. هذا هو ملك المجد".
أنظروا كيف زاد داود على جمال العيد، فمزج نعمته بالرونق الذي أعطته الكنيسة. ونحن أيضًا نقتدي بالنبيّ قدر امكاننا، فنتقدّم في حب الله بحياة متواضعة وطول بال تجاه الذين يبغضوننا. وهكذا يقودنا تعليم النبيّ كما بيدنا إلى الحياة حسب الله في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد إلى دهر الدهور آمين. (غريغوريوس النيصي)