وسط عالم شرير

وسط عالم شرير
المزمور الخامس والخمسون

1. المزمور الخامس والخمسون هو مزمور توسّل أنشده رجل (ملك أو كاهن) خاب أمله عندما رأى الخيانة والشرّ حتى داخل أورشليم المدينة المقدّسة. صوَّر الحالة التي يعيش فيها اسرائيل، والكذب الذي يعشّش في جماعة شعب الله. استوحى موضوعه من إرميا (5: 1؛ 6: 6- 8؛ 9: 1- 8)، وأغناه بمعان مأخوذة من المزامير (69، 102) المكتوبة بعد الجلاء والتي تصوِّر حالة الضياع التي يعشيها الشعب بعد رجوعه من المنفى.

2. كيف نتخلّص من عالم مخادع إن لم نلتجئ إلى الله؟
آ 2: مقدمة يردّد فيها المرتّل ما تعوّدنا إن نقرآه من عبارات توسّل وتضرع: اللهم أصغ لصلاتي، اصخ إلي، واستجب لي.
آ 3- 10: ينظر المرتّل إلى حالته الخاصّة بما فيها من خوف، ويصوّرها بصور قاتمة بعد أن سمع حوله صراخ العدو الذي يطارده بغضب. ضجر من الحياة، ففكّر في الهرب إلى الصحراء مثل داود (1 صم 23: 4). شعر أنه يحتاج إلى أجنحة الحمام حتى يطير ويستريح.
آ 10- 15: يشكو المرتّل إلى الرب حالة الخداع والغدر التي تحيط به. يفتح عينيه فلا يجد إلاّ الشرور وأعمال العنف في مدينة حلم أن يراها موضع العدالة والسلام. "كيف صارت المدينة الأمنية خائنة كالزانية" (أش 1: 21). وبسبب هذه الحالة أحسّ بالألم يدخل فيه حتى العظام. غدرُ الناس دخل حتى إلى هيكل الرب وفعل فعله بين الأصدقاء والأصحاب.
آ 17- 22: يتطلّع المرتّل إلى الله ليخبره بهذه الحالة المزرية وليرفع إليه صلاته. منذ الصباح إلى المساء يرفع إليه شكواه على الشرير الذي يحسب أن الله لن يتدخّل: فمه ألين من الزبدة وفي قلبه القتال. كلماته أرق من الزيت وهي سيوف مسنونة.
آ 23- 24: الخاتمة: نسمع صوت الكاهن خلال الليتورجيا يشجّع المؤمن ويدعوه إلى الثقة بالله. فيجيب المؤمن بأنه متأكّد أن الله سيزيل الأشرار من أمامه إلى الأبد.

3. يجد المرتّل نفسه في حالة تشبه حالة إرميا الذي قال (6: 1 ي): "ويل لمدينة الكذب، كل ما فيها جور. كما أن بئرا تتبع مياهها، كذلك هي تتبع شرّها. فيها يسمع بالظلم والسلب". ويستنتج إرميا فيقول (9: 1 ي): "لو كان لي ملجأ أبيت فيه على حافة الطريق في البرية، لتركت شعبي وانصرفت عنهم، فإنهم جميعهم فسّاق وعصابة غادرين. وطئوا قسيّ ألسنتهم للكذب. لا ينطقون بالصدق، بل عوَّدوا ألسنتهم النطق بالكذب. ليحذر كل واحد قريبه ولا يتكل على أحد من اخوته، فإن كل أخ يخدع أخاه وكل قريب يسعى بالنميمة. ألسنتهم سهام قاتلة".
نقرأ مثل هذا الكلام في المزمور 55 فنفهم حالة الضياع التي يعيشها المرتّل.

4. يعبّر هذا المزمور عن الفلسفة القائلة بأن "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان". وهذا ما عاشه يسوع لما تخلّى عنه أصحابه وخانه أحد تلاميذه بقبلة هي علامة الصداقة، وأنكره بنو قومه. وما حصل ليسوع سيحصل لتلاميذه وقد أخبرهم بذلك مسبقًا لما قال لهم (مر 13: 12- 13): "سيسلم الأخ أخاه إلى الموت، والآب ابنه، ويتمرَّد الأبناء على الآباء ويقتلونهم، ويبغضكم جميع الناس من أجل اسمي. ومن يثبت إلى النهاية يخلص". لن تخاف الكنيسة فقط من أعدائها في الخارج، بل تخاف من الخونة في الداخل. ولا يأخذ المؤمن حذره فقط من الغرباء بل من أبناء البيت، من أبناء الإيمان. والدواء لهذه الحالة ثقة بالله الذي ندعوه في صلاتنا فيأتي إلى خلاصنا.

5. تأمّل
يصوّر هذا المزمور الغش والكذب اللذين يسيطران في كل مكان، حتى في قلب شعب الله. فيتوسّع في ثلاثة أزمنة. في زمن أول يتطلّع المؤمن إلى وضعه الخاص وخوفه ورغبته في الهرب. في زمن ثان يصوّر بقوّة شرّ البشر الذي يحيط به. وفي زمن ثالث، يُفرغ قلبه أمام الله ويرفع إليه صلاة ليتورجيّة: ألق على الربّ همّك وهو يعولك.
يبدأ المزمور في جوّ من الظلمة. قد تكون ظلمة الموت، ظلمة الحرب، ظلمة اليأس التي تمسك بقلب مضايق يحسّ وكأن العدوّ يلاحقه من كل جهة. سئم الحياة ففكّر بالهرب كالعصفور. ولكن لا. لماذا لا يأتي الله برياحه فيكنّس الشرّ من العالم.
هذا الشرّ يُرى في كل مكان. الظلم والجريمة. الخداع والكذب. هي نظرة سوداء بلا شكّ. ولكن المؤمن ينظر إلى ما حوله من أعماق ألمه. هل ييأس؟ كلا. بل هو ينظر إلى الله الذي يحوّل الشرّ خيرًا والصحراء القاحلة عيون ماء كما في الفردوس الأرضي.

6 أ. عن أيّة مدينة يتكلّم؟ مدينة يشاهد فيها هذه الشرور؟ لا جواب لنا على مستوى التاريخ. ومن هو الذي يتوجّه إليه حين يقول: "أنت يا من قاسمتني عواطفي، أنت رفيقي وصديقي الحميم، أنت يا من أكلت معي وجعلت طعامي عذبًا" (آ 14- 15)؟ فلو كان ما يحصل لي من ألم متأتيًا من عدو، أو من إنسان يعلن أنه يبغضني لما تعجبت. ولكن منك أنت يا من لا تبغضني ولست عدوي، بل أنت أنيسي ورفيقي، أنت الذي قاسمته عواطفي وجعلته رفيقي وكرَّمته فقاسمني طعامي ودخل معي من وقت إلى آخر إلى بيت الله وشاركني في صلاتي. أنت تجرأت أن تعمل هذه الأعمال ضدي. أن يقول داود هذه الأمور باسمه الشخصي، لا معنى لها، على ما أرى. فشاول ما كان يقاسمه عواطفه ولا كان صديقه ولا كانت له عادات تشبه عاداته. ما قاسم شاول يومًا عواطف داود الذي هرب منه واختبأ وتحفّظ منه كعدو معلَن. ولا نستطيع أن نطبِّق على قصّة داود ما يتعلّق بالمدينة. ففي أية مدينة رأى الاثم والخصام ليلاً ونهارًا والعذاب والالم والظلم والربى؟ فمدينة شاول كانت الرامة أو جبعة. أما أورشليم فلم تكن بعد تحت سلطة بني اسرائيل بل تحت سلطة الغرباء. وحين يقذف داود اللعنات فيقول: "ليأت الموت عليهم ولينزلوا أحياء في الجحيم" (آ 16). فكيف يوفّق هذا مع مجد داود وفضيلته التي جعلته يقول: "إذا كنت رددت الشرّ على الذين صنعوه بي فلأسقط وأتلاشى أمام أعدائي" (7: 5). لم تكن من عادة داود أن يقذف الأعداء باللعنات وهو الذي كان صبورًا، وكرّم شاول، وما تجرّأ أن يرفع عليه يده حين استطاع. هذا ما يبيِّنه التاريخ. ويزيد: "كلامه ألين من الزيت ولكنه سهام" (آ 22). فمن صنع كل هذا بداود. كيف نستطيع أن نبرهنه؟
فانطلاقًا من كل هذه الملاحظات أظن أننا لا نستطيع أن نربط هذه الأمور بشخص داود.
أظنّ أنها قيلت بفعل قوّة نبويّة وتمَّت في مخلّصنا وربنا حين تحالف عليه رؤساء الشعب اليهودي في أورشليم وتشاوروا كيف يهلكونه. ففي هذه الجلسة قرّر البعض موته وعارضهم البعض الآخر مثل نيقوديمس الذي قال: "هل تحكم شريعتنا على رجل دون أن تسمعه" (يو 7: 15)؟ هذه الأحداث أعلنها هنا الروح القدس نبويًا حين قال: "رأيت الاثم والخلاف في المدينة نهارًا وليلاً" (آ 10- 11). فالإنجيل يشهد بوضوح للنبوءة حين يطبّق كلماتها على يهوذا الخائن: "لو كان عدو عيَّرني لكنت احتملته. لو تكلم ضدي واحد يبغضني لكنت اختبأت منه. ولكن أنت يا من تقاسمني عواطفي..." (آ 12- 14). هكذا ظهر أن النص وجد تمامه في أعمال عملت ضد المخلّص، وأن شهادة الإنجيل تربط بالخائن هاتين الآيتين. لهذا يبدو منطقيًا أن نفهم هذه النبوءة بالنسبة إلى آلام المسيح وأن نبيّن أن كل ما ورد فيها وجد تمامه وقت المؤامرة على ربنا. (اوسابيوس القيصريّ).

6 ب. في المدائح، سواء كنّا في الضيق أو الحزن، في الفرح أو البهجة، يجب أن نمدح ذاك الذي يعلّمنا في الضيق ويعزّينا في الفرح. فالمديح لا ينبغي أن يفارق قلب المسيحيّ وفمه. هو لا يباركه في الراحة ويلعنه في المعاكسات، بل يفعل كما يقول المزمور: "أبارك الرب في كل حين. وتسبحته في فمي على الدوام" (34: 1). أنت في الفرح، تعرّف إلى أب يريد أن يُسرَّك. أنت في الحزن، تعرّف إلى أب يودّبك. ومهما فعل، فهو يكوّن فيك الابن الذي يهيّئ له الميراث.
"أصغ يا الله إلى صلاتي، ولا تتغاضَ عن تضرّعي، أنصت إليّ واستجب لي". تدلّ هذه الكلمات على إنسان يهاجمه العدوّ، تأكله الهموم، مُرمى في المحن. يحسّ بقساوة كل هذا. فيصلّي وهو ما عاد يصبر على الرب لكي ينجّيه من الشرّ. نستمع إلى حديثه عن المحنة التي يجد نفسه فيها. وحين يبدأ شرحه يجب أن نعي أننا نحن أيضًا في المحنة. وإذ نمتزج معه في الضيق عينه نشاركه في الصلاة عينها.
"إليك صرخت يا ربّ". هو جسد المسيح الواحد في ضيقه وسأمه وحزنه وقلق جوده. صرخ من أقاصي الأرض. هو وحده، ولكنه وحدة. هو واحد، ولكنه ليس بواحد في مكان واحد. صوته يرتفع من كل أقطار الأرض. فكيف يصرخ وحده من كل أقطار الأرض لو لم يكن في أناس كثيرين؟ (أوغسطينس).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM