الفصل الثالث والعشرون: ذبيحة المسيح ذبيحة نهائيّة

الفصل الثالث والعشرون
ذبيحة المسيح ذبيحة نهائيّة
9: 11 - 28

قدّم المسيح نفسه للموت في مبادرة طوعيّة وخيار شخصيّ. غير أنه كان لا بدّ من أن يتمّ هذا الموت، من أجل خلاص البشر. سبقت عب وعالجت هذه الضرورة، ضرورة موت المسيح (2: 1ي). وإن شدّد الكاتب الآن عليها، فلأن موت المسيح كان حجر عثار لليهود وللمسيحيين المتهوّدين. لهذا، نظر الكاتب إليه في إطار العهد وهدفه ووسائل الحصول على التكفير عن الخطايا وتحقيق المواعيد. فإن كان المسيح وسيط عهد جديد، فبالنظر إلى فاعليّة ذبيحته التي أتاحت له أن يقوم بفداء أبديّ وينال الخيرات التي وعد بها النبيّ. وهكذا بدت هذه القطعة (تقابل 8: 6 - 13) شرحًا مسيحيًا لما في إر 31: 31 - 34، وبرهانًا على ضرورة موت المسيح الذي هو وسيط بين الله والبشر.

1 - تفسير الآيات
حين نقرأ هذا المقطع الثاني (9: 11 - 28)، في قلب الاتجاه المركزي (8: 1 - 9: 28، بلغ إلى الكمال)، بعد المقطع الأول (8: 1 - 9: 10، عدم كفاية العهد القديم)، نفهم أننا أمام ثلاثة أمور يتوسّع فيها كاتب عب: نظم جديدة وفاعلة (9: 11 - 14)، عهد جديد (9: 15 - 23)، دخول إلى السماء (9: 24 - 28).

أ - نظم جديدة   وفاعلة   (9: 11 - 14)
كان الخباء الأول ناقصًا، وها نحن مع خباء كامل بواسطة دم المسيح الذي يختلف عن دم التيوس والعجول. كانت فاعلية الذبائح نسبيّة، وهي تتطلّع إلى الذبيحة الوحيدة التي تحمل الخلاص الكامل الناجز، تتطلع إلى دم المسيح الذي يطهّر ضميرنا من الأعمال الميتة لنعبد الله الحيّ.
أولاً: الخيمة الكاملة ودم المسيح (آ 11 - 12)
شدّد المقطع السابق على نقطتين: فرائض بشريّة، ضعف هذه الفرائض في تطهير الضمير. وها هي الرسالة تقابل (دي، رج ((مان)) في 9: 1) معها، لا نظامًا جديدًا، بل شخص الحبر الذي يخدم في المعبد السماوي ويقدّم الذبيحة الناجعة. إنه يختصر كل العبادة الخلاصيّة. أجل، دخل المسيح على مسرح التاريخ في وقت حاسم، وكأنه آت من عالم آخر، وجاء يلعب دوره. ((باراغينوماي))، كان حاضرًا، وفد، جاء للمساعدة (لو 11: 6؛ 12: 51؛ 1كور 16: 3). يشير إلى وصول المسيح أكثر من ((غانومانوس)) الذي قرأناه في 1: 4 (صار)؛ 6: 20؛ 7: 26. قدّم يسوع نفسه على أنه عظيم الكهنة (4: 14). وقد نال المسحة الكهنوتيّة (لهذا هو المسيح، خرستوس) بتجسّده. وكأنه ما كان يستطيع أن يجيء إلى العالم إلاّ كاهنًا. هو لا يشبه الكاهن الهاروني الذي هو وسيط عهد أرضيّ وعابر، بل جاء يحمل إلى البشر الخيرات الروحيّة والأدبيّة (آ 15؛ رج 2: 5؛ 3: 1؛ 13: 14). وتتحدّد وظيفتُه الكهنوتيّة بهدفها الأخير: كمال الخلاص. هي اذن اسكاتولوجيّة.
أول سمة في تفوّق عمل المسيح الكهنوتي، هي كمال المعبد الذي يتمّ فيه هذا العمل، وهو معبد سماوي دخل به إلى الله. فسّر الآباء اليونان وغيرهم ((ديا)) (عبر الخيمة) بمعنى أداة، وفهموا أن المسيح دخل المعبد بواسطة خيمة أفضل هي بشريّته (مر 14: 58؛ يو 1: 14؛ 2: 19؛ كو 2: 9). في هذا قال الذهبيّ الفم: ((دلّ هنا على بشريّته، ولهذا قال إنها أعظم وأكمل، لأن الله الكلمة يسكن فيها مع قوّة الروح)). وتيودوريتس: ((سمّى الخيمة التي لم تصنعها يد، الطبيعة البشرية التي اتّخذها السيد المسيح... التي لا تتبع ناموس طبيعة تقيم في هذه الخليقة)). ولكن يبدو أن المعنى المكاني هو الأصحّ: ((اجتاز في المسكن)). إن عب تنظر إلى الاحتفال بيوم التكفير، وتقابل دخول المسيح إلى السماء مع دخول الحبر إلى قدس الأقداس عبر الحجاب (آ 3؛ رج 6: 19). إذن، نفهم أن يسوع اجتاز السماوات، بعد قيامته وصعوده، ليصل إلى حضرة الله (4: 14؛ 7: 26؛ أف 4: 10)، أي إلى المعبد السماوي (آ 24؛ رج 8: 1 - 2) الذي أشير إليه تجاه المعبد الموسويّ.
المعبد الأول هو الصورة والظلّ، والمعبد السماوي هو الحقيقة والمثال. ((خايروبوئيتوس)) (صنع يد، آ 24؛ مر 14: 58؛ أع 7: 48؛ 18: 24). هي لهجة استخفاف. فالأصنام هي صنع يد الانسان (ا ل ي ل، لا 26: 1 ،30؛ يه 8: 18؛ أش 2: 18؛ 100: 11). إذن، لا وجود حقيقيًا له. هو نسخة عن معبد الله، وهو من هذا العالم. ((كتيسيس)) (الخليقة) تقابل ((كوسميكوس)) (من هذا العالم).
مع آ 12 نصل إلى التعارض الرئيسيّ بين ذبيحة المسيح والذبيحة التي يقدّمها الحبر اليهودي في يوم التكفير. وإليك البرهان: يُقاس ثمن الدم بقدر سافكه. دخل عظيم الكهنة قدس الأقداس مرة واحدة، لا بدمه، بل بدم تيوس (تراغوس، ش ع ي ر، الساعور) تقدّم عن خطايا الشعب، وعجول (موسخوس. ف ر. رج ((ب ق ر)). ش و ر أو الثور، رج آ 13، ع ج ل، لو 15: 23) من أجل خطاياه الخاصة. استُعملت صيغة الجمع (رج آ 13) مع أنه يُذبح تيس واحد وعجل واحد، لأننا أمام عبارة مقولبة. أما المسيح فدخل ((مرة لا غير)) (افاباكس، 7: 27؛ روم 6: 10) بدمه الخاص أي في ذبيحة آلامه. نقرأ ((ايديوس)) الخاص. هو دمه الخاص، دمه لا دم غيره. وهذه الوسيلة كانت فاعلة بحيث ندخل السماء بشكل نهائي. نجد صيغة الاحتمال (ايسلتان، عمل واحد، اورامانوس، اوريسكو، وجد، احرز). قبل المسيح كان التطهير التام والروحي مجهولاً ومستحيلاً. لهذا، شدّد الأنبياء على ما في الذبائح من ناحية سحريّة (أش 1: 10 - 17؛ هو 6: 6) إذا ظلّت مجرّد طقس خارجيّ.
نشدّد على الرباط الواضح بين ((الدم)) (هايما) و ((دخل)) و((أحرز)) و((فداء)) (ليتروسيس). فالدم هو ثمن الفداء (1كور 6: 20؛ 7: 23) وشرط الدخول إلى السماء (2: 9). فبعد أن أتمّ الكاهن ذبيحته، استطاع أن يدخل إلى المعبد السماوي الذي يكرّس عمله إلى الأبد. هذا ما يفرضه التوازي مع الليتورجيا الموسويّة. هو عمل واحد نلنا به ما نلنا. وذبيحة الصليب لا تعاد ولا تتجدّد. فقوّتها التكفيريّة باقية إلى الأبد (7: 27).
ثانيًا: دم الذبائح ودم المسيح (آ 13 - 14)
وقدّمت آ 13 - 14 البرهان على الفداء الأبدي، مع ((غار)) (لأن)، وشدّدتا على قوّة هذا الدم الذي يطهّر الضمائر. وكانت مقابلة مع ذبائح الحيوان مع برهان بالحري. كان للذبائح فاعليّة أكيدة، ولكن في إطارها الخاص، فمنحت الطهارة الطقسيّة. فكم يطهّر دم المسيح على المستوى الروحي؟ إن دم التيوس والعجول يلمّح إلى ما يفعله عظيم الكهنة في يوم التكفير (لا 16: 14 - 15). ثم إن كل اسرائيليّ يتنجّس يغتسل بماء طاهرة (عد 19) ليتطهّر. نشير إلى أن بعض هذه الممارسات لم يعد يُعمل بها، ومع ذلك ذكرتها عب، فدلّت أنها لا تعود إلى ما كان يمارس في القرن الأول المسيحي، بل ترتبط بالتفسير البيبلي مع بعض تقاليد المعلّمين. نقرأ ((رانتيزاين)) (رش، مر 7: 24 يذكّرنا بـ عد 19: 9 ،ماء التطهير). هذه الطقوس التكفيريّة كانت تجعل المؤمنين جديرين بالمشاركة في العبادة (هاغيازاي، يقدّس)، فتمنحهم فقط طهارة خارجيّة. وحده الايمان يعطي الطهارة الباطنية.
أما دم المسيح (آ 14) فيمتلك قوة لا تمتلكها ذبيحة (بوسو مالون، كم بالأحرى، رج 10: 29). كانت الحيوانات وسائل غير مباشرة للتطهير. أما المسيح فوهب دمه الخاص. من جهة، الحيوانات. ومن جهة أخرى، ابن الله. من جهة ذبيحة مكرهة. ومن أخرى، تتقدّم الضحيّة بحريتها إلى الموت. كانت الضحايا بلا عيب (ت م ي م، خر 29: 1)، ويسوع كان بلا خطيئة (4: 15). كان القداسة بالذات.
وارتبطت نتائج الذبيحة بكرامة الكاهن وكمال الضحيّة. نلنا طهارة الضمير، لا طهارة الجسد. وغُفرت (2: 17) الأعمال الميتة أي الخطايا (6: 1). بعد هذا، يستطيع الانسان أن يعيش حياته الدينية كما يليق، أن يجعل من حياته على الأرض عبادة تليق بالله الحي (8: 10 - 12؛ روم 12: 1). قابلت ((زونتي)) (الحي) ((نكرون)) (الاعمال الميتة)، و ((سينايديسيس)) (الضمير)، ((ساركوس)) (البشرية). كان تعارض بين الله والخطيئة، بين الحياة والموت. هذا هو موضوع خدمة المسيح الكهنوتيّة (روم 1: 9؛ فل 3: 3، الخدمة): تمنح الذين ينعمون بوساطته بأن يشاركوا في ليتورجيّته السماويّة الموجّهة كلها لمجد الله.

ب - عهد جديد (9: 15 - 23)
تلاعب الكاتب على لفظة ((دياتيكي)) التي تعني ((عهد)) و ((وصيّة)) (انسان قبل موته)، وانطلق من رشّ الدم في الحالتين، فأعلن أن الذبيحة تتضمّن الموت وهي ضروريّة في كل دياتيكي. فموت الموصيّ مفروضة لتصلح الوصيّة وتنفَّذ. والمسيح وجب عليه أن يموت ليؤسّس العهد الجديد ويجعله يحمل كل ثماره. إذن، يتعارض هذا العهد مع القديم الذي خُتم بدم الحيوانات.
أولاً: إقامة عهد جديد (آ 15)
وينتقل الكاتب بواسطة ((كاي ديا توتو))، ولذلك. فيشرح تطهير الضمير وخدمة الله الحيّ (آ 14) كفداء (أبوليتروسيس) أبدي (ايونيوس) كما في آ 12. غير أنه أدخل بشكل خاص ضرورة العهد الجديد الذي فيه يتمّ الفداء الكامل (روم 3: 24؛ أف 1: 7). أنبأ إرميا بإقامة هذا العهد الجديد (كايني دياتيكي) (عب 8: 8). فإذا كان المسيح وسيط هذه العهد (8: 6) وهو يحقّق النبوءة، فلأنه اضطلع بمهمّة هذا الفداء (هوبوس ايس، بحيث إن) من أجل متجاوزي العهد الأول، أي قرّاء الرسالة قبل اهتدائهم. ففيهم فعلَ دمُ المسيح، فحلّ محلّ وسائل تطهير غير كافية في العهد القديم. فخلال تلك الحقبة كلها، لم تُمحَ الخطيئة، بل تكاثرت بسبب الشريعة (روم 3: 25؛ 7: 8 - 12؛ غل 3: 19 - 22؛ أع 13: 38: 39).
((إبي)) (في العهد الاول) ليست فقط زمنيّة، بل شرطيّة وسببيّة (بسبب العهد الأول، بما أن). لسنا فقط أمام عدد من الخطايا تكاثرت مع الشريعة الموسويّة، بل أمام خطايا كانت نتيجة هذه الشريعة. كان موسى وسيط العهد القديم، وبدا يسوع كما بدا، فكان الوسيط الذي لا يمكن إلاّ أن يجدّد فيؤسِّس عهدًا يختلف عن السابق. والوسيط (8: 6) هو أيضًا ضحيّة، ولموته قوّة الذبيحة، وتقديم ذاته هو عمل جوهريّ في هذه الوساطة الكهنوتيّة. بهذا الموت غُفرت الخطايا (8: 12)، وامتلك المدعوّون إلى العهد وإلى خيراته السماويّة (كاكليماوي، رج 3: 1. صيغة الكامل. دُعوا وما زالوا مدعوّين) تحقيق أسمى المواعيد الالهيّة. لسنا فقط أمام مسيحيين يعيشون اليوم في نظام العهد الجديد، بل أشخاص عديدين من بيت اسرائيل وبيت يهوذا (8: 8 ،10) الذين عاشوا في الماضي واستفادوا من نتائج موت المسيح الخلاصيّة، فشاركوا في المواعد (11: 40؛ 12: 22). ((ابنغاليا)) هي تارة وعد الله (7: 6؛ 11: 17)، وطورًا تتمّة هذا الوعد (6: 15؛ 11: 33). ننال (لمباناين، 9: 15) الوعد، نمتلكه (إخاين، 7: 6)، نحصل عليه وقد تحقّق (كوميزاستاي، 9: 36)، نرثه (كليرونوماين، 6: 12) بالايمان والثبات. فالمسيحيون هم وارثو الموعد (6: 17)، وارثو الخلاص (1: 14) والخيرات الآتية (9: 11 ،مالونتا أغاتا). هذا يعني أن ((دياتيكي)) و ((البيس)) (الرجاء) ارتبطا (7: 19، 22).
في العهد القديم كانت ((كليرونوميا)) (الميراث) أرض كنعان التي وُعد بها شعب اسرائيل (ن ح ل ه، لا 20: 24؛ عد 26: 53؛ تث 9: 6؛ عب 11: 8). وكان الشعب ميراث الله وحصته وشعبه المميَّز (تث 32: 9؛ 1مل 8: 51). وسيقول صاحب المزامير والأنبياء إن الابرار يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد (مز 37: 9 ،11، 12، 29؛ أش 57: 13). نجد هذه الوجهات الثلاث في عب: فالارض الموعودة هي رمز الخيرات الروحيّة التي يمنحها الله بواسطة المسيح (10: 36؛ غل 3: 14 - 22؛ أف 2: 12). فالمسيح (لا اسرائيل) هو وارث الله (1: 4). وهو يشرك في غناه المتعاقدين (3: 14؛ 8: 17) فيمنحهم الدخول إلى راحة الله (4: 9)، إلى حضرة الله (9: 24)، إلى الخلاص الأبديّ (9: 28؛ رج تي 3: 7).
ثانيًا: الوصيّة (العهد) والموت (آ 16 - 17)
إن ((كليرونوميا)) التي تعني عادة الميراث (1: 4 ،14؛ 9: 8)، تحمل في آ 15 الوجهة القانونيّة للميراث. لهذا تُعتبر آ 16 - 17 بشكل معترضة، ولكنهما تبرّران في الواقع عبارة ((تاناتو غانومانو))، الموت حاصل، بالموت (آ 15). فالميراث ينتج عن وصيّة (دياتيكي). وهذا ينتج عن مبدأ حقوقيّ: لا نرث شخصًا ما دام حيًا. إذن، وحسب ((أنانكي))، على المسيح أن يموت، ليمتلك المؤمنون امتلاكًا فاعلاً خيرات وعد بها الله. إذن، أضاف المسيح على وظيفة الوسيط، وظيفة الموصي (دياتامانوس، لفظة مخصّصة، لو 22: 92). إن موته ضروريّ لكي يبدأ تنفيذ الوصيّة، وينعم بها الوارثون بشكل شرعي. استعمل فعل ((فاراستاي)) (بدل ((غانستاي))، صار): أعلن، أنتج، نقل بشكل رسميّ. رج يو 18: 29؛ رج أع 25: 7. هي صيغة المجهول لفعل ((فارو))، حمل.
وتعلن آ 17 المبدأ الذي يؤسّس الضرورة القانونيّة. ((بابايوس)) (ثابت، متين، 6: 19). يُستعمل في لغة القانون بمعنى صحيح (2: 2؛ 3: 6). فالوصيّة لا معنى لها ولا قيمة إلاّ بالنظر إلى موت الموصيّ. استعمل الكاتب ((إبي نكرويس)) ليشير إلى أمرين: موت الموصي قبل موته (آ 16) وموت الضحيّة في الاحتفال بقطع العهد (آ 18). ((إبي)) تشير إلى النقطة التي بها يرتبط شيء بآخر، إلى العلاقة: شرط. فالموصي قبل موته يستطيع أن يبدّل ارادته ويحتفظ بميراثه. ووصيّته، وإن دوّنت، لا تحمل نتائج قانونيّة. ((اسخيوو))، كان قويًا، متينًا. في اللغة القانونية: سرى، ثبت.
ثالثًا: تأسيس العهد الأول في الدم (آ 18 - 22)
((أوتن)) تقابل ((غار)) (لأن، الفاء، 2: 17؛ 3: 1) في آ 16. تربط التوسّع الذي يلي بما قالته آ 15 (لا ننسى أن آ 16 - 17 معترضة)، وتقول إن الذبائح اللاويّة كانت صورة الذبيحة الدمويّة التي شكّلها موتُ المسيح. استعاد الكاتب مدلول ((دياتيكي)) (عهد) فبرهن على ضرورة موت المسيح كذبيحة عهد (آ 18 - 21) من أجل التطهير والتكفير (آ 22). هناك رباط قوي بين ((دياتيكي)) و((تاناتوس)) (موت، آ 15، 16 - 17) بحيث إن كل وصيّة تفرض موت الموصيّ. وكل عهد، حتّى العهد الأول (8: 13) لم يُختم بدون رشّ دم (خر 24). إن فعل ((انكانيزو)) (10: 20، مراحدة في العهد الجديد، رج يو 10: 22: انكاينيا، عيد التجديد) يستعمل لتدشين الهيكل أو مذبح للرب (ح د ش. ح ن ك. 1مل 8: 63؛ 2أخ 7: 5؛ 15: 8؛ 1مك 4: 36، 54؛ 5: 1)، أو بيت (تث 02: 5) أو ملك (1صم 11: 41). يُستعمل للكلام عن كل غرض نستعمله للمرّة الأولى. إن هذا الفعل يليق بالطقوس الاحتفاليّة التي بها قُبل العهد الأول وصار في الشريعة. لسنا أمام دم انسان، بل دم حيوان. فالدم مركز الحياة (تك 9: 4؛ لا 17: 11، 14). استحقّ الانسان الموت حين أغاظ الله. ما كان يحقّ له أن يدمّر نفسه (تك 22: 13)، فذُبح الحيوان عنه.
وأورد (آ 19) العهد القديم طقسين عن قطع العهد: الرب مع ابراهيم (تك 15)، ومع بني اسرائيل (خر 24: 4 - 8). توقّف الكاتب عند الثاني لأنه أساس النظام التيوقراطي وصورة العهد الجديد. غير أنه تعامل بحريّة مع النص البيبليّ، فدلّ إلى أنه يعود إلى التقليد الشفهيّ. كانت قراءة كتاب العهد ضروريّة ليعرف الشعب بما يلزم نفسه. قالت عب: جميع الشعب (مرتين). ثم ((كل وصيّة)). رج خر 24: 3 ،7 ،8. وارتبطت البركة والويل بكل وصيّة، وهذا ما قبله الشعب أيضًا: فإن مارس الشعب هذه الفرائض، ثبت العهد المقطوع مع الله. إذن، لا بدّ من الموافقة. في خر 24: 5 ،قدّم الشبان العجول (ف ر ي م. موسخوس، عب 9: 12). فأضافت عب ((التيوس)) في خط يوم التكفير (آ 12) وأضافت عب رش الماء والصوف والزوفى (لا 14: 4 - 7، البرص). الماء يغسل الأوساخ وربما الدم. والقرمزي، رمز الدم، يرمز إلى الحياة والخطيئة معًا (أش 1: 18). وظهرت الزوفى في طقس البقرة الحمراء (عد 19: 16 - 18). أما كتاب العهد فيدلّ على إرادة الله ويرمز إلى حضوره.
حسب السبعينية، كان موسى قد قال: هذا (إيدو) دم العهد الذي قطعه (ك ر ت) الرب معكم (ع م ي م). أحلّ الكاتب ((توتو)) (هذا) محلّ ((إيدو))، فعاد إلى تأسيس الافخارستيا (مر 14: 24؛ مت 26: 28؛ 1كور 11: 25). ((دياتيتيمي))، رتّب، نظم، عقد (رج آ 16؛ 8: 10؛ أع 3: 25). قد حلّ محله ((انتالوماي)) (أوصى، انتولي، الوصية). رج سي 45: 3؛ مت 17: 9؛ 19: 7؛ يو 15: 14. نحن أمام فرائض العهد (آ 19).
تحدّثت آ 21 عن رشّ الخباء والأثاث (لا يُذكر في خر). هو طقس تكريس المعبد بالزيت (خر 40: 9 - 11؛ لا 8: 10 - 13). أحلّت عب الدم محلّ الزيت بسبب قوّة التطهير فيه (رج يوسيفوس، العاديات 3/8: 206). والمبدآن المعطيان في آ 22 يشرحان قوّة التطهير والتكفير في الدم، وهذا ما يوجّه البرهنة منذ آ 12، إذ بيّن الكاتب أن الدم ضروري لعقد العهد، وشدّد على دوره التطهيريّ (رنتيزو، رشّ، طهّر، آ 19 - 21). هناك الماء (لا 15: 10، 13)، والنار (عد 3: 22 ،23)، والدقيق (لا 5: 11 - 31). ولكن لا وسيلة تنفع مثل الدم. فقد فرض كاتب الطقوس أن يطهّر كل شيء (بنتا) في الدم وبالدم (سخادون، رج أع 13: 44؛ 19: 26، كذلك): المذبح (لا 8: 15؛ 16: 19)، الكهنة (لا 8: 24، 30)، اللاويون (عد 8: 5)، الشعب (لا 9: 16؛ 19: 30).
والتكفير؟ وحده الدم يقوم به. نحن أمام مبدأ مطلق يعود إلى لا 17: 11. قال فيلون: ((الدم رشاش النفس)) (الوصايا الخاصة 1: 205). واستخرجت عب ((هايماتاخيسيا)) (رش الدم)، لتدل على ليتورجية ذبائح تكفّر عن الخطيئة، حيث كان الكاهن يمسح قرون المذبح بالدم ويصبّ الباقي عند أساس المذبح الذي هو عند باب خيمة الاجتماع (خر 29: 12؛ لا 4: 7 ،18، 25، 30، 34؛ 8: 15؛ 9: 9). في المحرقة (ع ل ه)، كان يُرشّ دم الضحية حول المذبح (لا 1: 5 ،11؛ 9: 12). ولكن في الذبيحة عن خطايا عظيم الكهنة والشعب، كانوا يرشّون سبع مرات من دم العجل أمام حجاب المعبد (لا 4: 5 - 6 ،17). واخيرًا، في يوم كيبور، كان يرش الحبر تابوت العهد بدم الضحيّة. وهكذا كان رش الدم اساسيًا في ذبيحة التكفير، فكان وسيلة لا بدّ منها لغفران الخطايا.
ونقرأ أيضًا في آ 22 ، ((أفاسيس))، أطلق، حرّر الأسرى (لو 4: 18)، عفا عن الدين وبالتالي عن الذنب. فالخطيئة التي تُغفر هي دين يُترك (مت 6: 12). في العبرية، نجد 13 لفظة وأهمها ((ي و ب ل)). الله، يحرّر المؤمن من عبودية الخطيئة ومن الشجب، وهذا يناله بالدم. أحل الكاتب ((أفاسيس)) محل ((كاتاريزو)) (طهّر، آ 22أ)، ((رنتيزو)) (رش، آ 19، 21)، ((انكانيزو)) (دشّن، آ 18)، فترك الوجهة العباديّة والطقوسيّة في العلاقات مع الله، وأبرز الطابع الاخلاقيّ والشخصيّ.
رابعًا: الخاتمة (آ 23)
هذه الخاتمة تشكّل انتقالة. لهذا لن نتوقّف عند مضمونها الحرفيّ في شأن تطهير السماويات، على مثال تطهير ((الارضيات)) التي هي عنها نسخة ناقصة. إن ((أون)) (اذن) تربط هذه الآية بتطهير الخباء (آ 21) وسائر أدوات العبادة (آ 19 - 22). ويقابل الكاتب مرّة أخرى المعبدين. واحد (مان، من جهة) حقيقيّ، روحيّ، سماويّ، وآخر (دي، من جهة ثانية) مادي، أرضي، ونسخة وصورة عن ذاك (هيبودايغما، 8: 5). فليتورجية الهيكل الالهي تسمو على النسخة والصورة. فبدل طقوس ماديّة وذبائح حيوانات، تُفرض (انانكي، آ 16) عبادة روحيّة، وذبيحة المسيح الشخصيّة (آ 25 - 28). ((ذبائح أفضل))، أو بالأحرى، ذبيحة واحدة، هي ذبيحة المسيح، توجز في ذاتها كل الذبائح.
كان على عظيم الكهنة، قبل أن يدخل قدس الأقداس، أن يرشّ المعبد بدم الضحايا. ولكن لا ليطهّر المعبد الذي هو رمز حضور الله، بل ليطهّر نفسه فيصبح جديرًا بالاتصال بالله. ولكي يتاح الدخول إلى المعبد السماوي، للمسيح كما للبشر، لا بدّ من الدم، وهو دم أنقى من دم الضحايا الحيوانية، بشكل لامحدود. هو دم اين الله الذي يُسفك في ذبيحته. هكذا صارت السماء (مسكن الله) هيكلاً جديرًا بالليتورجيا التي كاهنها المسيح من اجل المدعوّين حتّى نهاية العالم. في الواقع، هو الرباط بين الذبيحة والدم من جهة، والتوازي بين المعبدين والطقسين من جهة ثانية (مان... دي)، ما جعل الكاتب يتحدّث عن تطهر السماويات. ولكنه لم يكرّر فعل ((كاتاريزاتاي))، بل ((دشّن)) (رج آ 18). نحن أمام بداية مع ذبيحة سامية هي ذبيحة المسيح (تيودوريتس).

ج - دخول إلى السماء (9: 24 - 28)
إن آ 24 - 26 تبيّن كيف تتحقّق في المعبد السماوي المتطلّباتُ (انانكي) التي قيلت في آ 23. وتحمل آ 27 - 28 برهانًا جديدًا حول طرح الكاتب بأن المسيح مات مرّة واحدة لاجل فدائنا.
أولاً: دخول المسيح إلى السماء (آ 24)
استعارت آ 24 المقابلة مع الحبر الداخل إلى قدس الأقداس، في يوم التكفير. وأعلنت أن يسوع وسيطنا (آ 15) دخل إلى السماء (غار، لأن)، إلى المعبد الحقيقي (اليتينون، يقابل ((ابورانيا))، آ 23)، الذي يشكّل المعبدُ الأرضي نسخة عنه ((انتيتيبوس))، الصدى، النسخة، الصورة، ما يمثّل. هو يقابل ((هيبو دايغما)) (آ 23). حاليًا (نين، الحاضر الابدي تجاه ما هو عابر في الكلندار الليتورجي)، يجد المسيح نفسه في حضرة الله (7: 20؛ 8: 1؛ 9: 11) كممثّل ومحام عنا (هيبر هامون). حضوره العميق هو حضور وسيط وحضور ضحيّة. هو ((بارقليط)) (1يو 2: 1؛ عب 5: 9). وما يحدّد علّة دخول المسيح إلى السماء وعمله الكهنوتي هو عبارة: ((ليظهر الآن، أمام وجه الله لأجلنا)). الفعل هو ((إمفانيزو))، أرى، عرّف، أظهر (خر 33: 31 - 81؛ 2مك 11: 29؛ حك 1: 2؛ 17: 4؛ مت 27: 53؛ يو 14: 21 - 22). وهو يدلّ على حضور فاعل، ناشط. هو لا يجلس وحده عن يمين الآب، بل يمثّل المدعوين ويرافع عنهم كالمحامي (باراكليتوس). دخل أمام الله بدمه كحمل مذبوح (رؤ 5: 6 ،12، 13؛ 6: 17)، وهو يلعب دور الراعي. في هذا المعنى تقول عب إنه خادم الأماكن المقدّسة (8: 2). ووساطته الكهنوتيّة تتواصل في السماء، وإن بشكل آخر، ولكنه وهو في مجده، لا يتخلّى عن آلامه من أجلنا، حتى مجيئه الثاني (آ 28).
ثانيًا: مرّة واحدة، لا مرارًا (آ 25 - 26)
أجل، لا يكرّر المسيح ما فعله مرّة على الصليب. فذبيحة واحدة لا غير كانت كافية، وهي تحقّق بشكل نهائي ما أراده الله. وهكذا تبدأ مع آ 25 (رج آ 12) مرحلةٌ جديدة في البرهنة. يبدو الكاتب وكأنه يردّ على اعتراض يهوديّ: إذا كان المسيح، شأنه شأن عظيم الكهنة، قد دخل قدس الأقداس السماوي، فعليه مثله أن يكرّر ذبيحته ويدخل مرارًا (بولاكيس). كيف يفعل؟ هل يعود من جديد إلى الأرض لكي يموت؟ الجواب هو كلا. بما أنه قدّم نفسه، فذبيحته سامية جدًا بحيث لا تحتاج إلى أن تتكرّر، وفاعليتها لا تنتهي. فالتقابل بين تقدمة نفسه (بروسفاري هيوتون) ودم آخر (هايماتي ألوتريو)، رج آ 12، يدلّ على أن الطابع المتعالي لتضحيته يمتلك قيمة أبدية (آ 14): هي ذبيحة واحدة وحيدة نالت خلاص البشر، ذبيحة المسيح، الذي لن يموت بعد. فطابع ذبيحته طابع نهائي (لا ذبيحة بعدها) وقيمتها لامحدودة. حصلت مرّة واحدة، ولكنها تدوم إلى الأبد (الآن، 24). ذاك هو سموّها على ذبائح تتكرّر وتقدّم لله المرّة بعد المرة.
((يتألم مرارًا)) (آ 26) يرتبط بـ ((قدّم نفسه مرارًا)). تقدّم هذه الآية برهانًا بالمحال حول الفاعلية المطلقة والنهائيّة لموت المسيح الذبائحيّ: في العهد القديم (بل منذ بداية البشرية)، تكاثرت الزلات وما غفرت، فوجب على المسيح أن يكفّر عنها (آ 15؛ 2: 17). فلو كان حبرًا مثل سائر الأحبار، لقدّم أكثر من مرّة ذبيحة تكفيريّة. ولكن بما أنه ضحيّة، يجب أن يموت أكثر من مرة، وهذا محال. في الواقع، انتظر لكي يظهر (فانارو، 1تم 3: 16؛ 1 بط 1: 20 . يتضمّن أزليّة المسيح. وصيغة الكامل تدلّ على أن هذا الظهور التاريخي يتواصل في الحاضر، رج يو 1: 29)؛ ويقدّم نفسه، انتظر زمن النهاية والتتمّة (سنتالايا). إن تتمة الأزمنة (أو الأزمنة الأخيرة) تشير إلى حقبة طويلة من الاستعداد الذي يليه مجيء عالم جديد، العصر المسيحاني، الذي يعيش فيه قرّاء الرسالة. اذن، لا وقت له لكي يجدّد ذبيحته، أو بالأحرى: جاء في النهاية فكفّر عن جميع الخطايا السابقة، وهكذا افتدى البشر جميعًا. إذن الآن (نيني، 8: 6 ،الساعة الحاضرة)، لا يمكن أن تكون ذبيحة المسيح إلا واحدة وحيدة، هي واحدة لا غير (هاباكس، آ 2؛ 1بط 3: 18)، وهي تلغي الخطيئة. هنا نقرأ لفظة قانونية ((أتاتيسيس)) (إلغاء، 7: 18) التي هي أقوى من ((ابوليتروسيس)) (آ15، فداء) و ((أفاسيس)) (مغفرة)، فتشدّد على إلغاء جذري لخطيئة سيطرت مدّة طويلة، فما غلبتها محاولاتُ التطهير الموسوي (10: 4). قُهرت الخطيئةُ مرّة واحدة بدم المسيح، فلن تقوم لها قائمة. وهكذا دشّن دم المسيح كونًا جديدًا (8: 10 - 12)، وسيطرت ذبيحة الصليب على تاريخ الكون، منذ بداية الأزمنة حتّى نهايتها.
ثالثًا: عودة المسيح وخلاص البشر (آ 27 - 28)
الحياة البشريّة لا تتجدّد. والانسان يموت مرّة واحدة (3: 19). وما يُقال عن البشر يقال عن المسيح (2: 14؛ 4: 15). نقرأ ((أبوكايماي)): احتُفظ به (لو 19: 20؛ كو 1: 5؛ 2تم 4: 6). يدلّ على مصير لا مهرب منه، ويأتي اسم المفعول في صيغة الاحتمال (بروساناختايس، آ 28) في موازاة مع ((أبوتاناين))، فدلّ على خضوع المسيح لهذه القاعدة حين صعد على الصليب. وإن هو تحمّل الموت، فقد تحمّله مرّة لا غير، ولكن من أجل هدف فدائي: رفع الخطايا. اختار الكاتب ((أنافارو)) في موازاة ((بروسفارو)) (هو موت تكفيريّ) ليدلّ على معنيين: رفع، قرّب ذبيحة (7: 27؛ 13: 15؛ يع 2: 21؛ 1بط 2: 5. لهذا ترجمت البسيطة: د ب ح أي ذبح). رج يو 1: 29 (يرفع خطايا العالم)؛ أش 53: 12 (س ب ل). هناك تكفير بدليّ، وبالاحرى مشاركة. فالمسيح تضامن مع البشريّة وهكذا افتدى اخوته. تماهى معهم واحتمل الموت فاستطاع أن يكون الذبيحة، لا عن بعض منهم، بل عن الكثيرين (بولون، 2: 10؛ مر 14: 24).
وارتبطت الدينونة بالموت. فبعد موت المسيح هناك مجيئه المجيد (100: 25، 37)، مجيئه الثاني (دوتاروس). كما أن حياة يسوع على الأرض انتهت بالموت، فعلاقاته بالأرض لا تنتهي إلاّ بتدخّله الأخير وعودته من السماء (أع 1: 11). ولكنه عند ذاك، يعود بلا خطيئة، بعد أن حمل في مجيئه الأول خطايا الكثيرين. فذبيحته في مجيئه الأول كانت كافية، فلا حاجة إلى تكرارها بعد أن ألغيت الخطيئة (آ 26). وعودتُه ليست عودة محارب، بل عودة منتصر جاء يدوس بقدميه آخر عدوّ له وهو الموت (1كور 15: 26). عندئذ يتمّ خلاص الذين انتظروا كاهنهم الآتي من قدس الأقداس السماويّ. هو انتظار قلق (أباكداخوماي، 1كور 1: 7؛ فل 3: 20)، ولكن يحرّكه الايمان (غل 5: 5): سيظهر، سيُرى (اوفتيساتاي). ونحن نظهر معه (روم 8: 19). نلنا الخلاص الذي هو تبرير من الخطايا، فلا نعود نخاف الموت ولا الدينونة (كريسيس، آ 27) بعد أن طهّرنا دمُ المسيح.

2 - قراءة إجماليّة
((أما المسيح، فإذ قد جاء حبرًا للخيرات الآتية، اجتاز المسكن (الخباء) الأعظم والأكمل الذي لم تصنعه يد، أي ليس هو من هذا العالم، وبدمه الخاص، لا بدم تيوس وعجول. دخل المقادس مرّة لا غير، بعد أن أحرز فداء أبديًا)) (9: 11 - 12)
الصور في هاتين الآيتين، صور يوم التكفير. هناك علاقة منطقيّة مع ما قيل في آ 7 حول خدمة الحبر اللاويّ، مرّة كل سنة. هناك كان الظلّ، وهنا الحقيقة. فحين ظهر المسيح تبدّل الوضع كله. ما استطاع كهنوت لاوي أن يمنح الخيرات التي وعد الله بها. ولكن مع ظهور ذاك الذي على رتبة ملكيصادق، قيل أنها ((أتت))، لأن العهد الجديد ومواعيده تمّت في عمله الكهنوتي. هذه الخيرات قد أعطيت في العهد القديم (عب 10: 1)، ووصلت إلى كمالها مع مجيء المسيح. أو: هذه الخيرات أعطيت للمسيحيين وستجد كمالها في مجيء المسيح الثاني (عب 13: 14؛ 1كور 2: 9). والخيرات التي هي لنا في المسيح، جاءت في مرحلتين: اتحدنا به فورثنا كل شيء (روم 8: 17؛ 1كور 3: 21 - 23). ولكننا ندخل بعد ذلك في ملء ميراثنا (1بط 1: 4؛ 1يو 3: 2). فعملُ المسيح التكفيري هو الينبوع الذي به تفيض كل بركات العهد الجديد. لهذا قال بولس: ((لم يشفق على ابنه الخاص، بل أسلمه عنا جميعًا، كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء)) (روم 8: 32)؟ وهذه العطايا التي ننعم بها الآن، لا نعرفها بعدُ في ملئها. فالأجمل يكون في النهاية (يو 2: 10). وهذه النهاية هي بداية واستمرار لما لا حدّ له ولا حدود. وخبرتنا لقدرة الروح الذي يقيم فينا ويحوّلنا، هي عربون ما ينتظر شعب الله في مجد الأبديّة (أف 1: 13 - 14؛ 1كور 1: 22). اذن ((الخيرات)) أتت وهي آتية. والمرحلتان اللتان فيهما نختبرها (التذوّق السابق، الملء)، ترتبطان الواحدة بالأخرى كالعلة والنتيجة، في إطار مجيئي المسيح: المجيء السابق والمجيء الآتي.
وماذا نقول في آ 12؟ لم يدخل المسيح إلى القدس، بل إلى قدس الأقداس (هاغيا تعني الاثنين). دخل بدمه الخاص، فأحرز لنا فداء أبديًا. استُعمل اسم الفاعل (اورامانوس) في صيغة الاحتمال فدلّ على أن المسيح دخل إلى المعبد السماوي بعد أن أحرز الفداء الأبديّ. هذا ما فعل على الصليب ثم صعد إلى السماء. فموته الذبائحيّ وسفك دمه كانا ((الشرط)) لدخوله الظافر في المجد. سُمح للأحبار اللاويين وحدهم بأن يقفوا أمام الله، في قدس الأقداس، من أجل الشعب، فتسامى يسوع عليهم، وظهر من أجلنا في مجد المعبد السماويّ. سُمح للاحبار بأن يدخلوا مرّة في السنة (آ 7)، فتسامى يسوع، ودخل مرّة لا غير إلى المعبد الحقيقي. هناك ((واحد)) سنويّ (مرّة في السنة)، وواحد لامحدود. ذبيحة تتكرّر مرّة كل سنة، وذبيحة لا تتكرّر أبدًا لأن نتيجتها التكفيرية تدوم إلى الأبد. لا يمرّ الحبر إلى قدس الأقداس إلاّ بعد أن يرشّ دم الذبيحة على المذبح. وتسامى يسوع فأحرز فداءنا الأبديّ بذبيحة نفسه، ثم انتقل بقدرة دمه أمام وجه الله، لأجلنا (آ 24).
((لأنه، إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة يُرَش على المنجسين لتطهير الجسد، فكم بالأحرى دم المسيح، الذي بروح أزليّ قرّب لله نفسه بلا عيب، ليطهّر ضميرنا من الأعمال الميتة لنعبد الله الحيّ)) (9: 13 - 14)
يتوسّع الكاتب هنا في تسامي ذبيحة المسيح الحبر اللامحدودة، بالنسبة إلى ذبائح النظام اللاوي. سبق ورأينا أن النظام الذي جعله المسيح باليًا، بمجيئه، تميّز بذبائح لا تستطيع أن تجدّد الخطأة فتكرّرت باستمرار. أما ذبيحة المسيح الكاملة فقُرّبت مرة واحدة لا غير (7: 23). هذا يتضمّن تجاه طقوس قديمة وخارجيّة وسطحيّة (وإن هي تطلّعت إلى كمالها في المسيح) أن عمل الابن المتجسّد دخل إلى عمق الضمائر فطهّرها، ولم يبق على مستوى الجسد، على المستوى البشريّ.
تحدّث الكاتب عن طقسين في النظام الجديد: رشّ الدم في يوم التكفير. رشّ رماد العجلة الحمراء، ثم استخلص برهانه: إذا كان دم هذه الحيوانات يطهّر أجساد الناس، فماذا يفعل دم المسيح الذي هو ذبيحة لا عيب فيها؟ سار المسيح إلى الموت بملء حريّته وكمال إرادته، فأتمّ الهدف الذي لأجله جاء إلى العالم (مر 10: 45؛ 1تم 1: 15). هو يقدّم حياته (بالموت)، وهو يستردّها (بالقيامة)، ولا أحد يأخذها منه (يو 10: 17 - 18). كم نحن بعيدون كل البعد عن حيوان يذبحه عظيم الكهنة الذي لا شيء يربطه بما يقدّم. أما يسوع فيقدّم نفسه. وحين صعوده إلى أورشليم (لو 9: 15، قسّى وجهه، ما خاف الصعوبات الآتية)، قال: ((من أجل هذه الساعة جئتُ)). هو سيُرفع على الصليب ليدلّ على الميتة التي يموتها (يو 12: 32 - 33). أجل، ذبيحة المسيح على الصليب هي عمله الحرّ من أجلنا.
يتطهّر الضمير من الأعمال الميتة. هذا التطهير الجذريّ الذي تمّ على الصليب، هو أساس المصالحة التي منحها الله في المسيح. من جهة الانسان، هناك الحاجة للارتداد عن الاعمال الميتة (6: 1)، وهذا الارتداد هو تجاوب مع نداء الله، ونتيجة نعمة الله التي تفعل في القلب وتقود إلى التوبة (12: 15 - 17؛ أف 2: 8 - 10). هناك ثلاثة معان رئيسيّة فيها تصوّر الاعمال ((ميتة)). أولاً، هي ميتة لأنها تصدر عن خاطئ صار ميتًا بالنسبة إلى الله. فالخطيئة لا تجعله قادرًا على أعمال حيّة يرضى بها الله. فحين يعود من ذاته إلى الله الذي خلقه، يصبح حيًا مع المسيح (أف 2: 5)، لن تعود أعماله ((ميتة)). ثانيًا، هي ميتة لأنها عقيمة ولا تنتج ثمرًا.كيف يستطيع الانسان أن يثمر إن كان لا ينظر إلى الله ينبوع حياته؟ أعماله هي في الزمن، لا في الأبد. هي أعمال شهوة لا أعمال حب. هي أعمال الجسد لا أعمال الروح (روم 6: 21؛ غل 5: 13ي). ثالثًا، هذه الأعمال هي ميتة، لا لأنها تنطلق من عالم الموت ويرافقها عالم الموت وحسب، بل لأنها تنتهي في الموت: هي تقود إلى الدينونة والهلاك (روم 6: 21، 23؛ فل 3: 19 - 20؛ رؤ 21: 8). مثل هذه الأعمال التي تنبع من الموت وتقود إلى الموت، تعبّر عن حاجة الانسان إلى التحرّر من تسلّط الموت (2: 15)، وإلى التجدّد في أعماق كيانه.
إن تطهير الضمير من الأعمال الميتة، بدم المسيح، ليس نهاية في ذاته، بل هو بداية تفتح الطريق لتحقيق هدف الفداء وغايته. وهذه النهاية تصوّر هنا بواسطة ((عبادة (خدمة) الله الحي)). ما يبدأ مع الله ينتهي مع الله أيضًا، لا مع الانسان. وعمل الله بما فيه من ديناميّة، لا يقود إلى نتيجة نستطيع أن نحصيها في أعمال متعدّدة. عمل الله يقود إلى خدمة متحرّكة. ففي الخبرة المسيحيّة، كل شيء هو ((لحمد نعمته المجيدة التي أنعم بها علينا في الحبيب)) (أف 1: 6). لهذا، لا يُعقل أن يُخدم الله الحي إلاّ بأعمال حيّة، بأعمال تصدر عن الحياة الجديدة في المسيح، والتي يثيرها الروح القدس في قلب الانسان. لهذا قال بولس في أف 2: 10: ((خُلقنا في المسيح يسوع للأعمال الصالحة التي أعدّها الله لنا من قبل لنسلك فيها)).
((ولذلك هو وسيط عهد جديد، بحيث ينال المدعوون، بموته لفداء المعاصي، تمام الموعد، الميراث الأبديّ)) (9: 15)
أتمّ دمُ المسيح المراق ما عجز عنه العهد القديم مع كهنوته وذبائحه، أي تطهير الضمير من الاعمال الميتة من أجل عبادة الله الحي. لهذا، هو وسيط عهد جديد، يختلف عن القديم، ويحلّ محلّه. فلاهوت العهد خاص بهذا الجزء المركزي من عب: صُوّر المسيح ككفيل عهد أفضل ووسيط (7: 22؛ 8: 6). والوعد النبويّ بعهد جديد مع بركاته، جاء في كلام إرميا. وتوضّحت عطايا دلّت على عجز العهد الأول الذي كانت نظمه من عالم الأرض، تجاه الواقع السماوي في العهد الجديد (8: 7 ،13؛ 9: 1ي).
لا يقول الكاتب بأن ضرورة العهد الجديد تفترض فشل مخطط الله في القديم. فلا كلام عن عهد جرِّب ولم يكن مرضيًا، فأجبر الله على أن يُجرّب شيئًا آخر. فمنذ بداية ما سميّ هنا (8: 7، 13) العهد الأول، عُرفت الحاجة إلى تدبير جديد تكون عطاياه كاملة ومستمرة. لهذا (قالت عب) فمنطق الوضع مع النظام الأول، مع تكراره من جيل إلى جيل مع ذبائح عديدة، يتطلّع إلى ذبيحة كاملة تتمّ مرّة لا غير فتلتقي إلى الأبد مع حاجات الانسان. وهناك اعتبار آخر يدلّ على أن العهد الجديد لم يكن محاولة إلهيّة لتصحيح خطأ خبرة سابقة. فقد كان هناك قبل ذاك الذي سميّ ((الاول)) هنا، هو عهد ابراهيم الذي لم يُلغه العهد الموسوي (غل 3: 15 - 18). فالعهد الذي أعطي لابراهيم بأن تتبارك جميع الأمم في نسله، قد تمّ في المسيح (غل 3: 16). وهكذا كان الوعد الابراهيمي في جذور العهد الجديد، وفي امتداده، فتماهى معه. وهكذا دلّ مجيء المسيح أن الله كان يعمل ((ليذكر عهده والقسم الذي أقسم به لأبينا ابراهيم)) (لو 1: 72 - 73). اذن، العهد ((الجديد)) ليس جديدًا بالنسبة إلى الله، بل بالنسبة إلينا، في مسيرة التاريخ، وهو يسمو على الأول الذي أعطي بوساطة موسى.
بركتان ارتبطتا بموت المسيح. الفداء من المعاصي التي اقتُرفت في العهد الأول، أي النجاة من حكم لفظته الشريعة على الذين تجاوزوها، وما استطاعت الذبائح شيئًا من أجلهم. ونتيجة الفداء هذه لم تصل فقط إلى الذين عاشوا بعد مجيء المسيح، بل إلى جميع الذين وثقوا بمواعيده قبل أن تتمّ في مجيئه. فالكمال الذي لنا في المسيح هو لهم أيضًا (11: 39 - 40)، ثم، نوال الميراث الموعود به. فالوعد الجديد يجد جذوره في عهد ابراهيم الذي وعده الرب بنسل كبير. تمّ هذا العهدُ بشكل خارجي وعلى مستوى الأرض، مع يشوع بن نون. ولكن بسبب الطبيعة العابرة لامتلاك الأرض هذا، وللموت الذي يصيب البشر، استحال على هذا العهد أن يجد كماله في نظام الأشياء الحاضر. فالأرض والنسل يشيران إلى شيء آخر. هما منظوران وعابران، وينطلقان إلى واقع غير منظور يدوم إلى الأبد.
((لأنه حيث تكون وصيّة لا بدّ من موت الموصي. إذ إنّ الوصيّة تثبت بالموت، ولا قوّة لها البتّة ما دام الموصيّ حيًا)) (9: 16 - 17)
إن الميراث الموعود الذي نقبله على أساس موت المسيح الفدائي، يقابل مع مبدأ الوراثة في الحياة اليومية: لا ميراث قبل موت الموصيّ. هناك ارتباط بين العهد والموت، ولا سيّما في رش دم الذبائح. وموت المسيح الذبائحيّ يترافق مع العهد، كما يترافق مع الوصيّة. فهناك تقارب بين إرادة الموصي الأخيرة والوصيّة، وفي فكرة العهد الذي قطعه الرب. فالارادة تمثل رغبة انسان هو الموصيّ وحده، حول توزيع أملاكه بعد موته. ولكن يطلب الوارث بعض الشروط من الورّاث. وهذا ما نقوله عن الله الذي عاهد شعبه: عليهم الطاعة لكي ينالوا المواعد المرتبطة بالعهد.
دمه هو ينبوع كل حياة، وليس عرضة للموت، شأنه شأن البشر. لهذا، فهو لا يستطيع أن يلعب دور الموصيّ. ولكن بالمسيح الذي هو الله المتجسّد والذي صار واحدًا منا، وذاق الموت لأجلنا (عب 2: 9)، استطاع الله أن يقوم بدوره هذا. فالمسيح هو الله العامل من أجلنا (2كور 5: 9). والميراث الذي به وعد الله شعبه، يبدأ مفعولُه مع موت الابن المتجسّد. فسرّ النعمة الالهية العجيبة، أن ابن الله الذي لا يموت صار ابن الانسان الذي يموت. ومع أنه ابن الله الأزلي، استطاع أن يموت كانسان من أجل الجنس البشريّ، ويقوم من القبر، ويوحّد البشر معه لينعموا بالميراث الأبدي.
((فمن ثم، حتّى العهدُ الأول لم يكرَّس بلا دم. وفي الواقع، إن موسى لما تلا، على مسامع جميع الشعب، كل وصيّة بحسب (من وصايا) الناموس، أخذ دم العجول والتيوس مع ماء وصوف قرمزيّ وزوفى، ثم رشّ على السفر عينه، وعلى جميع الشعب قائلاً: هذا دم العهد الذي أمركم به الرب)) (9: 18 - 20)
بعد أن شرح الكاتب أن بنود العهد الجديد الذي وسيطه المسيح، صارت سارية المفعول بموته (تبدأ الوصيّة مع موت الموصيّ)، ذكّر قرّاءه أن العهد الأول لم يدشّن بدون دم. هذا ما فعله موسى على جبل سيناء (خر 24: 3ي). وعاد النصّ إلى سفر الخروج وإلى عدد من التقاليد، فتحدّث عن العهد الموسوي الذي تكرّرت عباراته إلى العهد الجديد. قال يسوع: ((هذا هو دمي، دم العهد، الذي يسفك من أجل أناس كثيرين)) (مر 14: 24؛ رج مت 26: 28).
((وكذلك رشّ على الخباء وعلى جميع أدوات الخدمة. فإن الناموس يقضي بأن يطهَّر كل شيء تقريبًا بالدم. ولا مغفرة بدون سفك دم)) (9: 21 - 22)
كما أن تدشين العهد الأول في سيناء رافقه سفكُ دم، كذلك تقدّس بهذه الطريقة، الخباء وكل ما يرتبط به. فالشريعة أعلنت داخل النظام اللاوي، مبدأ تطهير كل شيء (تقريبًا) بالدم. هذا المبدأ نجده أيضًا في العهد الجديد الذي يقول إن دم المسيح المسفوك هو الينبوع الوحيد لتطهير الخاطئ ومصالحته مع الله (1يو 1: 7؛ 1بط 1: 18 - 19). فما كان ظلاً مع العهد الأول قد تمّ في المسيح. وهنا نعود أيضًا إلى تأسيس العشاء السرّي (مت 26: 28).
((وإذن، فإذ كان لا بدّ لرموز ما في السماوات (الأمور السماوية) أن تطهَّر على هذا الوجه، كان لا بدّ للسماويات أيضًا من مثل ذلك، ولكن بذبائح أفضل من تلك. لأن المسيح لم يدخل معبدًا صنعته الأيدي، صورة للحقيقي، بل دخل السماء بعينها ليظهر الآن، أمام وجه الله لأجلنا. ولا ليقرّب نفسه مرارًا، كما يدخل الحبر كل سنة، قدس الأقداس، بدم غيره، وإلاّ لاقتُضي أن يتألّم (ويموت) مرارًا منذ انشاء العالم. غير أنه الآن، في نهاية الأزمنة، ظهر مرّة واحدة ليُبطل الخطيئة بذبيحة نفسه)) (9: 23 - 26)
إن التمييز الذي عُرض في 8: 2 - 5 ،قد أوجز هنا، في آ 23: هناك كهنة لاويون، من الأرض، يخدمون صورة وظلّ المعبد السماوي (8: 5). أما المسيح عظيم كهنتنا فهو خادم في المعبد وفي الخباء الحقيقيّ الذي نصبه الرب لا الانسان (8: 2). وهنا تتقابل الأشياء السماوية مع نسختها. أما النسخة (8: 5) فهي خباء البرية وأدواته وطقوسه، مع كل ما هو ضروريّ لتطهير الخطأة. والحقيقة هي المسيح الذي أبطل الخطيئة بذبيحة نفسه (آ 26). هو قدوس، ولا عيب فيه، ومنزّه عن الخطيئة (7: 26). لهذا وصل إلى المعبد السماوي. وسفكُ دمه وتمجيدُ ذاك الذي هو انسان مثلنا، بل سابقنا (2: 14؛ 6: 20)، فتحا الطريق للجنس البشريّ ليكونوا في حضرة الله (4: 14 - 16؛ 9: 8؛ 10: 19ي). والنتيجة الأخيرة هي تجديد الكون، تحرير البشر من الخطيئة، ليصيروا أبرارًا أمام الله. في هذا الإطار يُحكم على العهد الأول مع ذبائحه، تجاه عهد ثان قدّمت فيه ذبيحةُ ذاك الذي هو حبرنا إلى الأبد.
وظهر المسيح (آ 24) في حضرة الله من أجلنا، أي مثّلنا كحبر قدّم الذبيحة الكاملة تكفيرًا عن خطايانا. وهو الوسيط الذي يشفع دومًا بنا (7: 25؛ روم 8: 34؛ 1يو 2: 1). كل هذا فعله المسيح من أجلنا وما زال يفعله.
ويبدأ الكاتب مع آ 25 فيلخّص موضوع تقدمة المسيح نفسه عن الخطأة، بما في هذه التقدمة من فرادة وكمال. هذا الموضوع هو في قلب تعليمه حول طبيعة عمل المسيح الكهنوتي ومدلوله. لهذا، نراه يستعيده ويتوسّع فيه (رج آ 11؛ 7: 27؛ 10: 11 - 18). أما نقطة الانطلاق فالاحتفال بيوم التكفير. ففي النظام الكهنوتي، كان الحبر يدخل مرة في السنة. ويتكرّر هذا الدخول سنة بعد سنة. أما المسيح فظهر مرة واحدة، لا بدم غيره، بل بدمه الخاص.
في هذا المقطع، نجد ثلاثة ((ظهورات)) للمسيح. في آ 24، دخل المسيح السماء بعينها، وقد ظهر الآن أمام وجه الله، لأجلنا. في آ 26، ظهر مرة واحدة، في نهاية الأزمنة، ليُبطل الخطيئة بذبيحة نفسه. وفي آ 28، ظهر مرة ثانية، ولا يرتبط ظهوره بالخطيئة، بل ظهر لخلاص الذين ينتظرونه. تعود بنا آ 24 إلى نشاط المسيح الكهنوتيّ في المعبد السماوي. وآ 28 تتحدّث عن ظهور المسيح الاسكاتولوجيّ. هو يأتي مرّة ثانية (بمجد عظيم) بعد أن جاء مرة أولى ليرفع خطايا الكثيرين. أما آ 6 ،فتعود بنا إلى التجسّد وخدمة الابن على الأرض، التي تجد ذروتها في ذبيحة نفسه، على الصليب.
((وكما حُتم على الناس أن يموتوا مرّة واحدة، وبعد ذلك تكون الدينونة، كذلك المسيح، هو أيضًا، بعد أن قرّب نفسه مرّة لا غير، ليرفع خطايا الكثيرين، سيظهر ثانية، لا من أجل الخطيئة، بل لخلاص الذين ينتظرونه)) (9: 27 - 28)
لقد ظهرت بشريّة الابن المتجسّد، لا في حياته وحسب، بل في مماته أيضًا. فالهدف الأول لمجيئه إلى عالمنا، هو أن يموت انسان عن البشر، أو يقاسي الموت لكل واحد منّا، بنعمة الله (2: 9 - 14). ويظهر تماهيه مع بشريتنا في أنه مات مرّة واحدة، فكان مصيرُه مصيرَ سائر البشر. ويقول الكاتب إن البشر الذين يموتون، لا يموتون مرّة ثانية، بل مرّة واحدة، ثم تأتي الدينونة. أجل، الانسان مائت في طبعه، و& وحده الخلود (1تم 6: 16). أما الانسان فيرتبط ارتباطًا تامًا بعطيّة الحياة واستمراريّتها. وعلاقة الحبّ والرجاء التامّة تجاه الخالق، تعني بالنسبة إلى الخليقة (والانسان المفديّ) مشاركة لا تنقطع في حياة تجري كما من ينبوع. فإن تُرك الانسان وشأنه مات. ونقول أيضًا إن الانسان يموت اليوم، بسبب ثورته على ينبوع الحياة. دخل الموت إلى الجميع لأن الجميع خطئوا بعد أن ابتعدوا عن معطي الحياة (روم 3: 23؛ 5: 12). لهذا، ارتبط الموت بالدينونة. وهذه الدينونة ترتبط باليوم الذي يظهر فيه المسيح مرّة ثانية، لا ليعالج الخطيئة التي عالجها في مجيئه الاول، بل ليحمل الخلاص التام للذين انتظروه. أما الذين أهملوا هذا الخلاص العظيم (2: 3)، فينتظرهم هول الدينونة وغضب نار تلتهم المعاندين (10: 27؛ رج 12: 25). فالانسان الذي يبتعد عن كلمة الانجيل، يحكم على نفسه بأنه غير اهل للحياة الأبديّة (أع 31: 64). فمن رفض صليب المسيح كأداة خلاص، اختاره كأداة دينونة، كما قال يسوع: ((من رفضني وما قبل كلامي، فله من يدينه. الكلام الذي قلته يدينه في اليوم الآخر)) (يو 12: 48).
إن الاعلان القائل إن المسيح ((يرفع خطايا الكثيرين)) يعود إلى أش 53: 12. نحن في إطار آلام عبد الرب كما قرأتها الكنيسة الرسوليّة. أما ((الكثيرين)) فلفظ يدلّ على البشريّة الكثيرة، لا على بشريّة محدودة مهما كثر عددها. وظهور المسيح الذي أشارت إليه آ 26، 28 (في خطّ عظيم الكهنة) بدأ مع الغفران وانتهى في دوره كالوسيط والمتشفّع. ونحن ننتظر صباح اليوم الأبديّ، الذي فيه نراه نحن الذين انتظرنا مجيئه (2تم 4: 8)، بل نكون مثله لأننا سنراه كما هو (1يو 3: 2؛ رج 2كور 3: 18).

خاتمة
بعد كلام عن شعائر عبادة بقيت محدودة في فاعليّتها، لم تكلّمنا عب عن شعائر عبادة أخرى تُصلح ما في سابقتها من خلل، بل عن شخص عظيم الكهنة، عن المسيح الذي يخدم (ليتورجيا) في الهيكل السماوي، ويقرّب الذبيحة التي تُبطل الخطيئة وتحمل الخلاص، التي ترفع خطايا المؤمنين ولا تجيء بهم إلى الدينونة. أما البرهان فبسيط: لا عهد بدون رش دم، ولا وصيّة تنفّذ قبل موت الموصي. وها هو المسيح يتنازل، فيسفك دمه من أجل عهد جديد، في خط العهد الذي قطعه موسى، باسم الشعب، على جبل سيناء. كما أنه يموت على الصليب، فيصبح الميراث لنا. وهذا الميراث ليس فقط عطيّة خارجيّة، أو ((خيرات آتية))، بل يسوع المسيح نفسه الذي صار وسيطنا وشفيعنا. هو الكاهن الذي دخل السماء بدمه. وهو يدعونا منذ الآن. نبدأ فنحمل عاره ونتطلع إلى المعبد السماوي الذي صار مفتوحًا أمامنا. هو ((ظهر أمام وجه الله))، ونحن أيضًا. فذاك الذي لم يستح أن يدعونا اخوته، يريدنا له شركاء في موته لكي نكون شركاء في مجده.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM