كتاب الأخبار

كتاب الأخبار

مقدمة:
كتاب الأخبار أو كتاب أخبار الايام (والسنين) سفران في كتاب واحد: سفر أخبار الأيام الاول، سفر أخبار الأيام الثاني، وكلاهما يكوّنان تاريخ شعب اسرائيل من آدم إلى قرار كورش والرجوع من سي بابل سنة 538 ق. م.
كتاب الأخبار يستعيد مواد كثيرة من كتاب صموئيل وكتاب الملوك، يقرأها الكاتب من جديد على ضوء التقليد الكهنوتي. ويرتبط كتاب الأخبار بسفري عزرا ونحميا (ونهاية كلماته تتردد في بداية سفر عزرا) اللذين يفتحان لنا نافذة على زمن بناء الهيكل الثاني وحياة شعب اسرائيل في أيام الفرس.
موضوع الكتاب:
يشكل كتاب الأخبار نظرة تعود بنا إلى زمن الخلق وتمتد بنا إلى القرن الخامس ق. م. وهو يقسم اربعة أقسام.
القسم الاول (1 أخ 1- 9) يقدّم لنا لوائح من الانساب منذ آدم إلى القبائل الاثنتي عشر، ومن القبائل الاثنتي عشرة حتى داود، بل بعد زمن داود في بعض اللوائح. لا خبر يرويه الكاتب، وهمه أن يصل بسرعة إلى داود الذي اختاره الله، ولماذا يروي أخباراً يرفها القارئ؟ لأنه يريد أن يربط داود بأول إنسان على الارض. هذه الفصول التسعة تبدو ناشفةً للقارئ، ولكنّها تعبّر عن فكرة عميقة وهي أن بناء الهيكل وتنظيم العبادة فيه يعودان الى بداية البشرية. وقد لعبت كل من قبيلة كاوذا (قبيلة داود) وقبيلة لاوي (قبيلة الكهنوت) وقبيلة بنيامين (حيث بُني الهيكل) دوراً هاما في تهيئة الحدث الهام ألا وهو بناء الهيكل.
القسم الثاني (1 أخ 10- 29) يحدثنا عن الملك داود. يبدأ خبره مع موت شاول، وينهيه مع موت داود. في هذا القيم يبدو داود غير ما نجده في كتاب صموئيل. هو الملك التقي الذي تهمه مصالحُ الرب والهيكل والكهنوت والاناشيد الدينية والاحتفالات. داود ملك، ولكنه ملك في خدمة الرب يهوه، لأن الرب وحده ملك في اسرائيل، وداود وكيله، وشعب اسرائيل هو بيت الرب ومملكته. عرش داود هو عرش الرب في اسرائيل وتمجيد الرب هو هَمّ داود. لذلك لم يكتَفِ بالتفكير ببناء الهيكل، بل هيَّأ التصاميم ولم ينسَ حتى آنية الخدمة والسرج والمنائر (1 أخ 28: 11- 18). نظَّم كل شيء قبل موته.
القسم الثالث (2 أخ 1- 9) يحدثنا عن الملك سليمان الذي انهى عملاً هيَّأه أبوه. سليمان ملك يتحلَّى بالكمال والتقوى، لهذا يحق له ان يبني بيتاً لاسم الرب (2 أخ 6: 8- 9). ويطيل الكاتب كلامه عن بناء الهيكل، ولا يتوقّف إلاّ قليلا على نشاط سليمان السياسي. وحين أنهى الملك سليمان العمل الذي هيأه له ابوه، رقد بسلام غير خائف على المستقبل واثقاً بكلام الرب: اقيمه (أي سليمان) في بيتي وفي مُلكي إلى الدهر، ويكون عرشه ثابتاً إلى الأبد (1 أخ 17: 14).
القسم الرابع (2 أخ 10- 36) يرافق مملكة يهوذا منذ موت سليمان حتى الجلاء إلى بابل وبداية الرجوع إلى أورشليم. بنى داود وسليمان صرحاً عالياً، ولكن الصرح بدأ ينهار. إنشقت قبائل الشمال وتمرّدت على بيت داود (2 أخ 10: 19)، فما عاد الكاتب يتحدث عنها إلا قليلاً. ثم ان بعض ملوك يهوذا حاد عن طريق داود، فلامهم الكاتب وهدّدهم بالعقاب الاتي: اذا سهرتَ على تنفيذ الأحكام التي أمر بها الرب موسى شعبه تنجح (1 أخ 22: 13). هذا ما قاله داود لابنه. وقال له ايضاً: إن طلبتَ الرب وجدته، وإن تركتَه خذلك الى الابد (1 مل 28: 9). وسيقول عزريا الني للملك آسا وشعبه: الرب معكم ما دمتم معه. إن طلبتموه وجدتموه، وإن تركتموه ترككم (2 أخ 15: 2).
ويتوقف الكاتب على رحبعام وعزريا ويوشيا. نجحوا ما داموا أمينين للرب، وحين تركوا الربَّ عرفوا الشقاء والهزيمة. ويكلّم الرب مَلِكه وشعبه بواسطة انبياء يرسلهم في مهمة. إلى رحبعام ارسل شمعيا فقال لهم: قال الرب: تركتموني وأنا أيضاً تركتكم في يد شيشاق، ملك مصر، فخشعوا وقالوا: عادل الرب (2 أخ 12: 5- 6). وإلى آسا ارسل عزريا بن عوديد (2 أخ 15: 1- 7) وحناني الرائي الذي قال للملك: إتكلتَ على ملك آرام ولم تتكل على الرب إلهك، لذلك افلت من يدك جيش ملك آرام (2 أخ 16: 7)، وإلى يوشافاط أرسل ياهو بن حناني (2 أخ 19: 1- 3) ويحزيئيل (2 أخ 20: 14- 17). وحين حل روح الله على زكريا بن يوياداع وقف امام الشعب وقال لهم: كذا قال الله: "لماذا تتعدّون وصايا الله؟ أنتم لا تنجحون لأنكم تركتم الرب فترككم". فتحالفوا عليه ورجوه بالحجارة بأمر الملك (3 أخ 24: 20- 21). هؤلاء الانبياء وغيرهم ارسلهم الله لأنه اشفق على شعبه وعلى مسكنه، ولكن الشعب لم يفهم والملوك لم يتوبوا فحلَّت الكارثة.
المعنى الديني لكتاب الاخبار:
قلنا في المقدمة ان ما نقرأه في كتاب الأخبار نجده أيضاً في كتاب صموئيل وكتاب الملوك. لهذا نستطيع أن نعود إلى ما قلناه عن داود وسلمان وسائر الملوك الذين كانوا أمناء لشريعة الرب. ونشير هنا أيضاً إلى دور الأنبياء الذين حلوا كلمة الله في شعبه، كلمة التحذير والتنبيه، كلمة التعزية والتشجيع. ونفهم أنه لا يزال يوجد في شعب الله اليوم، في الكنيسة، انبياء يحملون كلمة الله ويُوصلونها الى المؤمنين.
لن نعود ونتكلم عن داود، والكاتب يشبِّهه بموسى. فكما كان موسى قائدَ شعب الله في البرية، كذلك كان داود قائدَهم في أرض كنعان، قنظم الشعبَ وشرعّ له القوانين باسم الرب على مثال موسى. ولن نعود الى سليمان الذي بنى الهيكل بحسب التصاميم التي وضعها أبوه، ودشّنه بأبّهة لا مثيل لها. مع داود وسلمان بدأت مملكة داود وتنظمت، وستدوم من القرن العاشر حتى القرن السادس فتحمل آمالا كبيرة للشعب وتنتهي بآلام المنفى وضياع المدينة والهيكل. كانت السلالة الملكية والمدينة والهيكل عواميد يستند إليها المؤمن، ولكن حين زالت هذه العواميد فَقَدَ الشعب رجاءه. وكان لا بد ان تزول، لئلاّ يتعلق الشعب بالبشر، والبشر ضعفاء، بل بالله، ولئلا يُسند حياته الى الحجر الذي لا يدوم. وحين ذهب الشعب إلى المنفى، فهم أن الله لا يرتبط بأرض، وهو سيد الارض كلها. ولا يرتبط بمعبد، والسماء عرشه والأرض موطئ قدميه. فهم الشعب، فاعطى روحانية جديدة لإيمانه. وسزى، فيما بعد، كيف أنه ربط نفسه بالله من خلال طقس صغير هو الختان الذي به يعلن انتماءه الى شعب الله. وتعلَّم أن يكوِّن جاعة حول كلمة الله يقرأها كل سبت وليتأصل فيها. ولكن بانتظار ذلك، سيبقى الهيكل مركز العبادة الوحيد.
الهيكل والعبادة هما محور كتاب الأخبار، بل الهدف الرئيسي لكتاب يحدثنا عن تاريخ أورشليم المدينة المقدسة، وعن الاحتفالات التي تقام في الهيكل. من أجل هذا، نرى الكاتب يتوسّع في ذكر سلسلة أنساب يهوذا وبنيامين لارتباطهما بالهيكل. وحين يذكر خلفاءَ داود، يتوقف بصورة خاصة عند الملوك الذين كان شغلهم الشاغل بناء الهيكل وتنظيم شعائر العبادة. وهم: آسا، يوشافاط، حزقيا، يوشيا. وهذا الاهتمام سيظهر أيضاً في سفري عزرا ونحميا: رُفع المذبح فوق ركام الهيكل، اعيد تنظيم العبادة في الهيكل.
ويحدثنا كتاب الأخبار عن خدَّام الهيكل، وكلّهم من ابناء لاوي، أكانوا كهنة متحدّرين من هارون، أم لاويين متحدّرين من سائر عشائر لاوي. فوظيفة الكهنة هي: النفخ في الابواق امام تابوت العهد (1 أخ 15: 24؛ 2 أخ 13: 12) ورش دم الضحايا على المذبح (2 أخ 30: 12) اما اللاويون فليسوا عمَّالا من الدرجة الدنيا، انما لهم دورهم في شعائر العبادة. فهم يحملون تابوت العهد، ويفتحون ابواب الهيكل ويحرسون مداخله. هم يعزفون وينشدون، ويشاركون الكهنة في تهيئة الذبائح (لا في تقدمتها، 2 أخ 2: 34؛ 30: 16- 17) كما يشاركونهم في حمل كتاب شريعة الله وتعليم الشعب (2 أخ 17: 7- 9؛ 35: 3). ولقد اهتمَّ كتاب الأخبار بلوائح انساب اللاويين فلم ينسَ عشيرةً من عشائرهم. أثنى على غيرتهم ومهارتهم الفائقة في خدمة الرب فقال فيهم: "كان اللاويون أكثر أمانة من الكهنة في تطهير انفسهم" (3 أخ 39: 34).
نتوقف هنا نحن المسيحيين عند أسس العبادة في كنائسنا، عند دور الكهنة ومساعديهم في ممارسة الطقوس. للاشخاص دورهم الذي لا يُستغنى عنه، ولشعائر العبادة أهميتها اليوم وفي كل يوم. كانت لشعب العهد القديم طرقُعبادته التي تقوم بتقدمة الذبائح في الهيكل ورفع الصلوات إلى الله. وسيكون لشعب العهد الجديد طرق عبادته حول الذبيحة الوحيدة، ذبيحة يسوع المسيح التي نعيشها على مذابحنا في القداس وفي حياتنا في سائر الأسرار والطقوس. جوهر العبادة هو هو، والتقوى ضرورية لتنقلنا من عالم البشر العادي إلى عالم الله المقدس.
ويحدثنا كتاب الاخبار عن الهيكل فيقول: لا هيكل إلا هيكل اورشليم، ولا عبادة شرعية إلا في المكان الذي اختاره الله لسكناه. ولهذا نراه يَرفض كُلَّ المحاولات لتأسيس معبد غير هذا المعبد الواحد، واقامة الطقوس خارجاً عن الهيكل. وسيقوم بهجوم عنيف على السامريين الذين سيبنون لهم هيكلا على جبل جرزيم، بل سيُغفل اخبارَ مملكة السامرة التي قطعت كل علاقة بالهيكل بعد موت سليمان.
بهذا الهيكل الذي أعيد بناؤه بعد الرجوع من الجلاء، سيتعلق الشعب اليهودي. سينجَّس في زمن السلوقيين وانطيوخس ابيفانيوس في القرن الثاني، ولكن هيرودوس سيجمِّله في بداية المسيحية ليصبح قبلة الانظار. هذا الهيكل سيُهدم سنة 70 ب. م. وسيتشتت كهنته وتُلغى ذبائحه فيتأسّف عليه المسيحيون الجدد الآتون من العالم اليهودي. ولكن الرسالة الى العبرانيين ستعلن لهم: لا فائدة من الذبائح ولنا ذبيحة واحدة هي يسوع المسيح. لا فائدة من الكهنة الذين يحتاجون أن يقدموا الذبائح عنهم وعن الشعب، لأن يسوع هو الكاهن الذي قدَّم نفسه مرة واحدة فكان لنا سبب خلاص ابدي. ولا فائدة من هيكل من الحجر، لأن جسد يسوع هو الهيكل الجديد ومركز حضور الله وسط البشر، فلا نحتاج بعده الى وسيط آخر.
إن ما قلناه عن داود وسليمان، عن الهيكل والعبادة، يقودنا إلى نظرة خاصة تجعل الله مَلِكاً على شعبه في أرضه. فالجماعة اليهودية أسسها الله، وجعل داود ملكاً عليها. بل إن الله هو الملك الوحيد، أمّا داود فيجلس على عرش الله باسم الله. وحينئذ يصوِّر كتاب الأخبار مملكة الله كما يتمثلها الانسان: العبادة في موضع واحد هو هيكل اورشليم، الاقامة في مدينة مقدسة بالايمان والفرح والتهليل بفضل وجود الكهنة واللاويين. أما الطاعة لشريعة الله فهي أولى واجبات الشعب في حياته اليومية. والعلاقة بين الله والشعب تترجم بمبدأ المكافأة والمجازاة: عدالة الله تجازي بالبركة امانة الشعب لله، وهي تعاقب كلَّ تخاذل أو عصيان وبالاخص في ما يتعلق بالهيكل والعبادة. مثل هذا التعليم يبدو واضحاً في حياة خلفاء داود. ونعطي مثلين على ذلك: دام مُلك منسى طويلا لأنه تاب إلى ربه (2 أخ 33: 12- 13). اما يوشيا فمات شاباً لأنه عارض مشيئة الله (2 أخ 35: 21- 22).
هذه الحياة على مستوى الأمة كلها، ستحاول فئات صغيرة أن تعيشها. نذكر الفريسيين وجاعة قمران الذين سعوا الى أن يطبعوا الحياة اليومية بطابع قدسي. ولكن الفريسيين تحجروا حول الشريعة وممارسات الاجداد. وجماعة قمران انفصلوا عن الشعب وابتعدوا عن الهيكل فانغلقوا على ذواتهم بانتظار ان يتشتتوا في ثورة اليهود على الرومان في القرن الثاني المسيحي. ولكن الفكرة التي أعلنوها ما زالت حية في جماعاتنا الرهبانية وخاصة تلك التي تكرّس حياتها للعمل والصلاة الليتورجية. لا شك ان هناك فصلاً بين الحياة اليومية والحياة القدسية، ولكن الفصل لا يعني استقلال الحياة اليومية عن شريعة الله التي تنيرها وتوجهها. الله حاضر في الكون وحاضر في حياتنا وعلى المؤمنين أن يعلنوا هذا الحضور بحياتهم واعمالهم واقوالهم. إذا أردنا أن يأتي ملكوت الله، كما نصلي كل يوم، فعلينا أن نهيّء الدرب له بتقديس الكون وكل ما فيه ليصبح هيكل الرب الذي فيه نقدم لله ذبيحة يسوع المسيح الحاضر معنا إلى نهاية العالم. كانت محاولة لتكريس الارض للرب في العهد القديم، وهذه المحاولة ستنجح مع المسيح الذي جمع في شخصه كل ما في السماء وعلى الارض، وستنجح أيضاً في الكنيسة عندما يصبح كل شيء لنا ونكون نحن للمسيح ويكون المسيح لله.
الخوري بولس الفغالي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM