الفصل الثاني: كرامة ابن الله

 

الفصل الثاني
كرامة ابن الله
1:1 - 4
اختلفت عب عن سائر رسائل العهد الجديد، فما تضمّنت عنوانًا يحوي اسم المرسل واسم من أرسلت إليهم، ولا فعل شكر ولا تمنّيات. غير أن هذه الآيات الاربع الأولى التي تتحدّث عن شخص يسوع وعمله، هي قريبة من مطلع الانجيل الرابع، وهي تشكّل إجمالة كثيفة للفكر التعليمي الذي يُشرف على هذه الرسالة كلها: سموّ المسيح إبن الله المتجسّد، الخالق والمعتني بخليقته، ونبيّ الأنبياء حامل الوحي، مخلّص البشريّة وسيّدها وملكها. ذاك هو موضوع الايمان والرجاء في الجماعة المسيحيّة الأولى. كما نقرأ في هذه الآيات أربع نقائض سوف يتوسّع فيها النصّ فيما بعد. الوحي القديم والوحي الجديد. الآباء ونحن. الابن من جهة، والانبياء والملائكة من جهة ثانية. قديم الزمان والآن. منذ البداية نلاحظ طابع الدفاع والهجوم (أبولوجيا) في رسالة تعبّر عن فكر صاحبها في تعارضات ومقابلات وتواجهات.
المسيح هو الابن، التعبير المطلق عن الآب. هو الوحي في سموّه. إنه يتفوّق على الأنبياء، على الملائكة، على موسى، وجميعهم كانوا وسطاء الوحي والتشريع اللذين أعطاهما الله لشعبه (1:1-4: 13). فهو كانسان وإله عظيم كهنة بريء وكامل، حنون وأمين. تتفوّق ذبيحته على شعائر العبادة التي مارسها الكهنة اللاويون (4: 14-10: 18). وبما أن العهد الجديد هو كلمة الله كما نقلها الابن، فهو أرفع من القديم ويحلّ محلّه. والوحي الذي أعطي للآباء هو، بالنسبة إلى الوحي الذي أعطي للابن، ناقص وعابر تجاه الكامل والنهائي. وكهنوتُ المسيح المتجسّد وذبيحته يتفوّقان على ما تقدّمه الليتورجيا اليهوديّة في يوم التكفير.
يبدو 1: 1-4 جملة طويلة. فاعلها الله (آ 1-2) ثم ابن الله (آ 3-4). هي تعبّر أولاً عن تواصل وعن تعارض بين المسيح والأنبياء (آ 1-2أ). ثم تصف الابن (آ 2ب)، وتتحدّث عن طبيعته الالهية، عن عمله الفدائي، عن موقعه السماويّ (آ 3). وأخيرًا عن تفوقّه على الملائكة (آ 4). وهكذا ندخل في الموضوع الاول من عب (آ 4). ما نلاحظه في عب هو تركيز على شخص الله الذي يتكلّم بالابن، يعمل مع الابن في الخليقة، ويرفع الابن الذي أتمّ رسالته على أكمل وجه. وأخيرًا، كلمةُ الله توحّد الوحي الأول والوحي الثاني، بعد أن كان المسيح الكمال النهائي لوحي حمله الآباء والانبياء.

1 - تفسير الآيات
بعد هذه التوطئة، نتوقّف عند الآيات ندرسها في تفاصيلها.

أ - الله كلّم الآباء (1: 1-2أ)
اولاً: الله يُرسل وحيه
ليست عب مقالَ لاهوت نظريّ. فالله حاضر في علاقاته مع البشر بواسطة الوحي. هو يتكلّم (لالاين في اليونانية. رج ((د ب ر)) في العبريّة. وسوف نجد في آ ،6 7 لاغاين، قال، ((أ م ر)) في العبرية على مدّ التاريخ. في الشعب الأول، في بني اسرائيل. وفي الشعب الثاني، في الكنيسة الآتية من اليهود الوثنيين. الله هو ((تيوس)) (مع التعريف. أي الله الآب، أما تيوس بدون تعريف فيدلّ على الالوهة وينطبق على كل من الأقانيم الثلاثة). لا تُضاف صفة. هو الله كما عرفه العهد القديم، وعبده اليهود الذين صاروا المسيحييّن الذين إليهم يتوجّه صاحب الرسالة.فهناك تواصل بين العهدين. والعهد القديم مُوحى، شأنه شأن العهد الجديد. فإذا كان الوحي الذي حمله الانبياء قد بلغ ذروَته في تجلّي الابن، فالوحي الأول والوحي الأخير يعودان إلى أصل واحد. ولكن الكاتب سيشدّد على التعارض، ولا سيّما حين يتكلّم عن طريقة الوحي.
كان الوحي الأول متعاقبًا ومتجزئًا ومتنوّعًا. هذا ما يعنيه الظرف الاول (بوليماروس، مرار عديدة) والظرف الثاني (بوليتروبوس، طرق عديدة، أشكال عديدة). الظرف الاول يشدّد على الأجزاء العديدة. فكلام الله إلى البشر تعدّد بواسطة أشخاص تعاقبوا ((على الكلام)). هذا يدلّ على الغنى. كما يدلّ على أن الكلام جاء جزئيًا. فكل نبيّ حمل وحيًا خاصًا: تحدّث هوشع عن حبّ الله لشعبه. وأشعيا عن قداسة الله كما اختبرها في رؤية الهيكل (أش 6: 1ي). وإرميا عن العهد الجديد، وحزقيال عن الشريعة والذبائح. وهكذا قدّم الله وحيه بشكل تدريجي للبشريّة، فربّاها وهذّبها إلى أن وصلت إلى الانجيل.
والظرف الثاني يشدّد على الطرق التي بها وصل هذا الوحي: بواسطة الملائكة والبشر، بل بواسطة الخليقة كلها. بواسطة الاحلام والرؤى وأحداث التاريخ وظروفه. أما الوحي الذي حمله الابن فهو نهائي وتام. أعطانا الله ابنه الذي هو كلمته. فأعطانا به كل شيء. ولا نستطيع بعد أن ننتظر كلمة أخرى.
ثانيًا: متى أُرسل هذا الوحي ولمن
بعد ملاخي، لم يظهر نبيّ في اسرائيل. بل اعتبر العالم اليهوديّ أن الوحي انتهى مع عزرا. لهذا جاءت لفظة ((بالاي)) (قديمًا) لتدلّ على قدم هذا الوحي الذي صار ((عتيقًا)). رج 1كور 3: 14 (العهد العتيق أبطله المسيح). وتجاه هذا العتيق نجد ((الأيام الأخيرة)) (إب اسخاتو تون هيمارون) التي تدلّ في السبعينيّة على الأزمنة المسيحانيّة (ب أ ح ر ي ت .هـ. ي م ي م، عد 24: 14؛ إر 23: 20؛ دا 10: 14). إن ظهور الابن يدلّ على نهاية حقبة من التاريخ مع نظام الشريعة وبداية حقبة تتميّز بملء وحي الله (الانجيل).
هذا العهد المسيحانيّ الذي انتظره الشعب (هـ. ع و ل م. هـ ب ا) هو الأخير (رج 9: 26؛ أع 2: 17؛ 2 بط 3: 3؛ يهو 18). ولكنه بدأ منذ الآن. ويعيشه قرّاء عب. لهذا جاء اسم الاشارة: توتون (هذه الأيام). هـ. ع و ل م. هـ ز ه. أي في هذه الحقبة الأخيرة التي نعيش فيها اليوم. فإن كان الله تكلّم اليوم، فهو يتكلّم للمرّة الأخيرة.
في هذا السياق تأتي لفظّة الآباء (باتراسين، هـ. أ ب و ت)، فتدلّ، لا على الآباء ابراهيم واسحاق ويعقوب فحسب (يو 7: 22؛ روم 9: 5؛ 11: 28). بل على نسلهم (يو 4: 20؛ 6: 31 ،49 ،58) وصولاً إلى داود (أع 13: 36). الآباء هم أباء الشعب العبراني. وجمعَ النصّ الاباء مع الأنبياء، كما في مت 23: 30- 32؛ لو 6: 23- 26؛ 11: 47؛ أع 3: 25؛ 7: 52 ،فأشار إلى مؤمني العهد القديم الذين سيذكرهم في ف11 ،والذين سيتقابلون معنا (هامايس)، أي سامعي يسوع المباشرين (يو 15:15) وقرّاء الرسالة الذين جاؤوا من العالم اليهوديّ ومن العالم الوثنيّ. فوضعُ المسيحيين يتفوّق على وضع الشعب الأول بعد أن نالوا ملء الوحي.
ثالثًا: من يحمل الوحي
هناك فئتان تحملان الوحي. من جهة، الملهمون ومرسلو الله في العهد القديم. ومن جهة ثانية الابن. هذا الابن هو حامل الوحي في كماله. بل هو وحي الآب. وهذا ما يدلّ على وجود المسيح يسوع قبل الزمن في السماء، كما يدلّ على علاقته الفريدة مع الله أبيه (يو 1: 1 ،14). إن التعليم الذي حمله يسوع وذاك الذي حمله الأنبياء يعودان إلى الله. إن لفظ ((في)) (إن في اليونانيّة) يدلّ على الأداة كما هو الحال مع ((ديا)) (ب ي د، في العبريّة، رج 2: 2، 3؛ أم 27: 6؛ مت 11: 34؛ أع 17: 31). كما يدلّ على الموضع والمكان (4: 7، في داود)، على حضور الله في مرسليه فقط بواسطة كلمات تردّدت، بل في حياته كلها ولا سيّما تجسّده وآلامه وموته وقيامته. لهذا صار الوحي الذي حمله الابن فوق كل وحي. هو وحي لا يستطيع البشر أن يُحيطوا به. ثم إن الانبياء لعبوا دورًا في الزمن، فهيّأوا المستقبل، وأعلنوا الخلاص المسيحاني. أما المسيح فأتمّ الواعيد وأقام العهد النهائيّ والأبديّ. لهذا، إذا كان الله تكلّم في الماضي (صيغة الاحتمال) بالانبياء فهو يتكلّم في الابن اليوم وإلى الأبد. وهكذا ظهر التقابل بين وحي عابر ووحي دائم. كما ظهر بين الكثرة وذاك الذي هو الابن الوحيد. لم يُجعل التعريف أمام الابن (هيو) للتشديد على طبيعة الشاهد وصفته: فالمسيح، وإن كان نبيًا، هو أعظم من نبيّ. لعب دورًا لعبه الأنبياء. فحمل كلام الله، ولكنه بلا قياس الشخص الموهّل لأن يتكلّم عن الآب حسب ما نقرأ في يو 1: 18: ((الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي في حضن الآب، هو الذي أخبر عنه)). لا شكّ في أن الوحي القديم يتواصل في الوحي الجديد، لأن الله يكشف عن نفسه في الحالين. ولكن هذا الوحي أصيل في الابن الذي هو صورة الله الكاملة. وسوف تدلّ آ 3 على أن لقب الابن ليس لقبًا استعاريًا. هو اسم علم يدلّ على المسيح (7: 28). لهذا قال النص ((الابن)) وما أضاف شيئًا ليدلّ على قراءة هذه البنوّة التي تحمل صفة المطلق.

ب - الابن هو الوارث (1: 2ب)
تتضمّن البنوّة الحقّ بالميراث (غل 4: 7)، ولكن لا حدود لميراث يناله الابن. هو يرث كل شيء. وتعود المبادرة في هذا الميراث إلى الله (تيتاناي، 1 كور 12: 28؛ 1تم 2: 7؛ 2تم 1: 11). فنحن أمام خيرات مسيحانيّة واسكاتولوجيّة (دا 7: 13- 14؛ مت 28: 18). إن لفظة ((كليرونوميا)) في اللغة البيبليّة لا تعني فقط امتلاك خير بعد موت صاحبه الأول، بل تعني امتلاكًا ووضعَ يد بشكل شرعيّ وقانونيّ. تسلّم المسيح كل شيء من أبيه، فأوصى بما امتلكه (دياتامانوس، 9: 16) للبشرية: بموته سلّم إلى اخوته الميراث السماويّ.
لا شكّ في أن الابن يمتلك كلّ الحقّ في سيادته على الكون. ولكن صاحب عب يشير إلى السلطة التي نالها يسوع كإنسان في تجسّده (مت 11: 27؛ يو 13: 3) ومارسها حين جلس عن يمين الآب (2: 8؛ 10: 13) ولا سيّما في كنيسته. وكما أن الشعب العبراني لم يمتلك من البدء، الميراث الذي وعده به الله، كذلك سينعم المسيحُ بملء السلطان بعد صعوده. فيسوع الذي وُلد في شعب صغير، لم ينحصر في هذا الشعب، بل أعطيت له الشعوبُ والأمم. ولم يرث فقط أرضَ فلسطين بل الكون كله. صار سيّد السماء والأرض، صار سيّد جميع المخلوقات.
هو خلق كل شيء. ولكن المشاركة في الخلق تعني ابن الله في طبيعته الالهيّة. هذا الدور الذي يُبرز كرامة حامل الوحي، نسبه العهدُ القديم إلى الحكمة (حك 9: 2) ويوحنا إلى اللوغوس (1: 3)، وبولس إلى المسيح (1 كور 8: 6؛ كو 1: 16). نقرأ ((أيونس)) التي لا تعني تعاقب الأزمنة ومختلف حقبات العالم (9: 26؛ 1كور 10: 11؛ 1تم 1: 17)، ولا تعني الفيض المتعاقب للكيان الالهي كما لدى الغنوصيين، بل مجمل الكائنات المخلوقة (ع و ل م ي م، في العبريّة)، الكون، كل ما فيه (11: 3؛ مك 13: 9؛ 2 تم 4: 10). ((الدهور)) (أو: العالم) ترادف ((كل شيء)) (بنتا، آ 3)، كما ترادف الكون (كوسموس، فيلون، الشرائع الخاصة 1: 17)، والكون الكبير (مكروكوسموس) لدى الرابينيين (ع و ل ع .هـ. ج د و ل) ما استعمل الكاتب فعل ((كتيزين)) (ب ر ا، خلق، برأ)، بل ((بوياين)) (صنع، سي 15: 14). واستعمل صيغة الاحتمال كما في تك 1: 16ي.
كيف نتصوّر هذا الخلق، خلق العالم، بواسطة الابن؟ مع ((ديا)). هناك سبب فاعل كما قال يوحنا الذهبيّ الفم (رج روم 11: 36). فقدرةُ الخلق، شأنها شأن الطبيعة الالهيّة، مشتركة بين الأقانيم الثلاثة. ولكن الابن ينالها من الآب الذي ولده. في هذا المعنى نحن أمام وجود الابن من الأزل وأمام طبيعته الالهيّة. وهناك سببيّة هي أداة. نعود في هذا المجال إلى التقليد البيبليّ والرابينيّ الذي يقول إن الله خلق بكلمته (تك 1:1ي؛ سي 42: 15)، بحكمته (أم 8: 30). أو بالتوراة كما يقول المعلّمون. إذن نستطيع أن نرى في الابن التعبير التام عن فكر الآب وكلمته الداخليّة. هذا ما قاله أوغسطينس.
غير أن السياق يدعونا لننظر إلى الدور الكوني للابن المتجسّد، الذي هو وارث كل شيء. فحسب كو 1: 16 ،المسيح بكرُ كل خليقة هو أيضًا وسيط الخليقة. وتقول أف 1: 3-4 إن الله خلّص مختاريه منذ الأزل في المسيح. وفي هذا النصّ، إن الكون الذي خلق بالمسيح هو أيضًا له (ميراث). فحرف العطف (كاي، الواو) يشير إلى مقابلة بين الميراث الذي ناله الابن ونشاطه الخلاّق. والرباط بين الاثنين يتمّ على مستوى الوحدة بين الطبيعة الالهيّة والطبيعة البشريّة في أقنوم الابن الواحد. وهكذا نفهم أن طبيعة الابن البشريّة هي وارثة كل شيء في اتحادها بالطبيعة الالهيّة التي خلقت كل شيء. ينتج عن كل هذا أن الابن الذي هو ينبوع الكون وهدفه، يمارس سلطة على المخلوقات ويطبعها بطابع ((مسيحي)).

ج- ضياء مجد الله (1: 3أ)
إن دور الابن الكونيّ هو دور يفوق عالم البشر. لهذا كانت محاولة من أجل تحديد الطبيعة الالهيّة لهذا الوحي الفريد وعلاقاته مع الله. فكيف يكون المسيح حامل وحي الله، لا بما قاله خلال حياته على الأرض فحسب، بل بما هو كصورة الآب. ولكن كيف السبيل إلى ذلك ونحن في عالم الالوهة، في عالم التجديد؟ هنا يعود الكاتب إلى المجاز والاستعارة، كما في الإطار الدنيويّ. ففي لاهوت الاسكندريّة، كان كلام عن الحكمة (سوفيا) وعن اللوغوس. فسفر الحكمة (7: 25، 26) اعتبر ((الحكمة)) (سوفيا) ((قوّة صافية فاضت من مجد القدير)). وصوَّر فيلون الكون كضياء القداسة. إن لفظة ((أباوغسما)) تتفرَّع من فعل ((أباوغازو)) الذي يعني ((جعله يشع)). وفي المجهول: شع، أشرق. وهكذا يدلّ الاسم (اباوغسموس) على الضياء والشعاع، على فيض نور آتٍ من عند الله (فيلون، الشرائع 4: 123). وهكذا يقابل المسيحُ في علاقاته مع الله، بضياء ينبوع منير، بموج من النور يصدر عنه ويدلّ على قدرته المنيرة. ولكن بما أننا في صيغة المجهول، التي تدلّ على النتيجة لا على الفعل. وبما أننا نقرأ في الخطّ عينه ((خاركتير)) (صورة، طابع)، نفهم ((اباوغسما)) كانعكاس، وصورة تعكس كما في مرآة، شعاعات صدرت عن ينبوع النور. والجذر ((أوغي)) يدلّ على النور الساطع، على ضوء الشمس. وهناك المضاف إليه ((دوكسيس)) (مجد). كل هذا يشير إلى سطوع كبير لهذا النور الذي انعكس فأشار إلى البهاء كما إلى الجمال. في هذا المجال، قال الرابينيون ((د ي و . ي ق ر ا)). سطوع الوقار والمهابة. ((د ي و. إ ي ق و ن ي ن)) سطوع الايقونة (كما نقول: الابن سر ابيه، صورة أبيه).
في العهد الجديد، تدل ((دوكسا)) على طبيعة الله كما تتجلّى للبشر (يو 1: 14؛ 2: 11). وهي تتضمّن إشارة إلى نور مضيء. رج رؤ 21: 23 (لا حاجة للشمس... لأن مجد الله ينيرها)؛ 2 كور 4: 6 (تسطع معرفة مجد الله المتألّق في وجه المسيح). حين نقول إن الابن هو بهاء المجد، نعبِّر في استعارة النور المعكوس، عن علاقته المباشرة بالآب الذي هو نور. كما نقول في النؤمن: الابن هو نور من نور. كما نعلن ايماننا بولادة الابن من الآب قبل كل الدهور. فكما أن النور يصدر عن الشمس، كذلك يصدر الابن عن الآب منذ الأزل وينال منه المجد الذي يليق به كابن. هذا ما قاله يو 1: 14: ((مجدًا من الآب لابنه الوحيد، الممتلئ نعمة وحقًا)). ونجد أفضل تعبير عن هذه العبارة (ضياء مجده) في تجلّي المسيح على الجبل المضيء وإعلان الصوت السماوي: هذا هو ابني الوحيد (مر 9: 2- 9). هي عبارة محسوسة، ولكنها تدلّ على طبيعة الابن الروحية، على طبيعته الالهية، لأن لا شيء يرتفع فوق المادة مثل النور. وارتبط هذا النور بالمجد (دوكسا) الذي هو معرفة الله بذاته، بحيث ابتعدنا عن كل تشبيه للاله بالانسان، وبما عنده من رغبات. في هذا قال أوغسطينس: ((أعطني نورًا بدون شعاع، فأؤمن أن الآب كان من دون ابن)) (عظة 117 : 8 ،11).
والابن هو أيضًا ((صورة مجده)). ترتبط هذه العبارة بالتي سبقتها ارتباطًا وثيقًا، وقد جُمعتا مع اسم الفاعل (هون)، بدون التعريف، فأشارتا إلى وجهتين متكاملتين لفكرة واحدة. ان الاسم ((خاركتير)) يعود إلى الفعل ((خاراسو)) الذي يعني: حفر، طبع بطابعه. ثم رسم، صوّر. وهو يعني بالتالي: العلامة المحفورة، الصورة، الطبع (رج لا 13: 28، ص ر ب ت). بعد هذا، اتّخذ هذا الاسمُ منحى التجديد، فابتعد عن كل مدلول ماديّ ليدلّ على ما هو خاص بشخص أو بشيء، على ما يميّز هذا الشخص أو هذا الشيء. أجل، طُبع الآب في الابن. إذا اردنا أن نرى الآب، ننظر إلى الابن. وهكذا تكون ((خاركتير)) أقوى من ((ايكون)) (أيقونة، صورة، 2 كور 4: 4؛ كو 1: 15). فالصورة تشبه ((تقريبًا)) الأصل. أما ((الختم)) فهو يعني التماهي الكلي مع الأصل. ص ل م. ع ص م و ت و: ختم عظمته.
والاسم ((هيبوستاسيس)) يتألف من ((هيبو)) و((هستيمي)): ما يختفي تحت الظواهر، تحت الأعراض. الجوهر، الكيان (حك 16: 21). ما يخصّ شخصًا بشكل مميّز. اذا كان الابن ختم (صورة) الآب والتعبير الكامل عن طبيعته، فهو يشبهه كل الشبه ويتساوى معه. هذا ما يؤكّده النصّ دون أن ينسى التمييز بين الاثنين. ولكن الاستعارة تبقى ناقصة: فإن تميّز الختم عن الأصل وانفصل عنه، فالابن لا ينفصل عن الآب. هو مثل النور الذي لا يمكن أن ينفصل عن الشمس. هنا يقابل الشرّاح اسم الفاعل (هون، كائن، هو) مع فعلين في صيغة الاحتمال (اتيكان، جعله؛ إبوييسان، صنع، أنشأ): لم نعد أمام عمل وفعل، بل أمام علاقة دائمة، أبديّة، تنفي فكرة التبنويّة بالنسبة إلى ذلك الذي هو الابن الوحيد. وهكذا تكمّل العبارةُ الأولى (ضياء مجده) العبارةَ الثانية (صورة جوهره). فالابن المساوي للآب في الجوهر. يتميّز عنه على مستوى الاقنوم.

د - ضابط كل شيء (1: 3ب)
هنا نصل إلى امتياز آخر للابن حسب طبيعته الالهيّة. وهذا الامتياز هو نتيجة اتحاده بالآب، وامتداد لعمله الخلاّق وتكملة له. فهناك الاداة ((تي)) (أيضًا) التي تربط هذه الجملة الواردة مع اسم الفاعل (فارون) مع سابقتها (هون). فعلاقة الابن المتجسّد بالله تتضمّن علاقته بالكون: هو يحفظه في الوجود، ويقوده (كل شيء، بنتا) إلى هدفه. الابن يحفظ الكون. يسوسه بشكل دائم. هذا ما يعبّر عنه فعل ((فارو)) الذ يعني حمل. ويعني رتّب، ساس، دبّر (عد 11: 14. قال موسى: لا استطيع أن أحمل هذا الشعب). هذا ما يشير أيضًا إلى المسؤوليّة (س ب ل في العبرية. حمل حملاً). فمن حمل الكون قاده إلى غايته. وهذا ما يفعله الابن. هو يواصل عمل الخلق، كما يعتني بالخليقة، فيدلّ على سلطانه الالهي. إنه يضبط كل شيء بكلمته (رؤ 3: 10). فكما خلق الله كل شيء بكلمته ((في البدء)) (تك 1: 1؛ من22: 9)، كذلك يحفظ الابنُ كلَّ شيء بكلمته (كو 1: 17). وهكذا تُحفظ الخلائق في الوجود بقدرة كلمة الله (ربما هي كلمة الخلق، ولوغوس كلمة الوحي، 3: 2؛ 4: 12).
وتقدّمُ الجملةُ التالية (بعد أن طهّرنا من خطايانا) وجهة جديدة من نشاط الابن، تعتبر السبب الأساسي لمجيئه على الأرض ولعمله الجوهريّ . فالتطهير من الخطايا هو أيضًا عمل قدرة. فكأني بالابن يعيد تكوين العالم بعد أن بلبلته الخطيئة. وهي معجزة أعظم من خلق الكون وحفظه في الوجود. نحن هنا أمام عمل شخصيّ قام به الابن حين ((طهّرنا من خطايانا)). نحن هنا في صيغة الاحتمال: في الماضي، قام يسوع بعمل من أجلنا. قام به مرّة واحدة. وهكذا ننتقل من حياة يسوع في الأزل (ابن الله) إلى حياته في الزمن التي تنتهي بارتفاعه وجلوسه عن يمين الآب. كل هذا يدلّ على التجسّد والفداء، على شخص الابن في علاقته مع البشر وفي عمله بحسب طبيعته البشريّة (مت 26: 28). يشير الكاتب هنا إشارة عابرة إلى هذه الموضوع بانتظار أن يعود إليه فيما بعد (2: 9 ،17؛ 5: 7...). ولكنه منذ الآن يقابل بين عمل عظيم الكهنة في العهد الجديد مع عمل كهنوت اللاويين في العهد القديم. هنا ذبائح كثيرة وغير كاملة من أجل التكفير عن الخطايا (خر 30: 19). أما المسيح فطهّر الكون بمجيئه على الأرض وموته (جاء لكي يموت). رج يو 1: 29 والكلام من يسوع الذي هو حمل الله الرافع خطايا العالم. زالت الخطيئة، فزال الحاجز بين الله والبشر، وتكوّن شعبٌ جديد مقدّس رأسه يسوع المسيح.
وبعد أن أنهى الابن مهمّته، عاد إلى أبيه ليكون بقربه، في حياة حميمة معه. وهذا التلميح إلى زمن الصعود وارتباطه بالتاريخ بواسطة التلاميذ، يشير إلى الابن المتجسد، إلى الانسان يسوع. نقرأ صيغة الاحتمال (إكاتيسن) التي توازي صيغة الكامل (عملٌ في الماضي ما زال حاضرًا). جلس المسيح عن يمين الجلال. هذا ما يشير إلى مز 110: 1 (مزمور مسيحاني سيعود إليه الكاتب في 8: 1؛ 10: 12؛ 12: 1). رج مت 22: 44؛ 26: 64. هذا الجلوس عن يمين الآب هو، مع الفداء، الموضوع المركزي لإيمان الكنيسة الأولى بالمسيح (أع 2: 34؛ أف 1: 20؛ رؤ 3: 21). لهذا دخل في قانون الايمان. من الواضح أن هذا الجلوس يدلّ على القدرة والكرامة. نحن أمام امتياز إلهيّ: عن يمين الجلال في الأعالي. اليمين هو موضوع الكرامة الأرفع (1مل 2: 19؛ مز 45: 10). ((ماغالوسيني)) (الجلال) هي صفة الهيّة (تث 32: 3؛ مز 145: 3، 6؛ 1أخ 29: 11 ،ن ب و ر ة؛ يهو 25) قريبة من ((دوكسا)) (المجد). الجلال يعني الله (رج القدرة، ديناميس، مر14: 62).
((إن هيبسيلويس)). في الاعالي. لا ترد إلاّ هنا كاسم في العهد الجديد. هي ترتبط بفعل ((إكاتيسن))، وتقابل ((هيبسيستويس)). ارتفع الابن. وكانت له هذه المكانة السامية. فدلّ على أنه ينعم بامتيازات الطبيعة الالهيّة، وأنه يرث العالم. إنه المسيح القائم من الموت. ان طبيعة يسوع البشريّة هي طبيعة الانسان الاله، الذي يجلس على عرش مجده من أجل البشر كملك (1: 8؛ أع 2: 33) وكاهن (8: 1) وشفيع (روم 8: 34). هكذا رآه اسطفانس ساعة موته (أع 7: 56).
تحمل آ 1-3 كثافة لاهوتية نجدها في مطلع روم. هي تصوّر شخص المسيح الذي سيكون موضوع الدراسة اللاهوتيّة اللاحقة. إنه حامل الوحي الذي يسمو على الانبياء والملائكة. به يتكلّم الله ويفعل. فيه يقيم الله. حسب طبيعته الالهية هو مساو للآب، ويمتلك ذات القدرة وذات النشاط الخلاّق. وحسب طبيعته البشرية هو الكاهن الفادي الذي يجلس عن يمين الجلاله الالهيّة في السماء. فمن تركه، حرم نفسه من الخلاص وابتعد عن الله.

د - أعظم من الملائكة (1: 4)
مع هذه الآية ينتهي مطلع عب الاحتفالي: يكمّل الكاتب الجملة السابقة ويشدّد على وجهة من عظمة المسيح الذي دخل في المجد الابديّ: هو يسمو على الملائكة. وهكذا كانت آ 4 انتقالة من أقوال عامة (آ 1-3) حول طبيعة الابن ودوره، إلى برهان مفصّل حول سموّ المسيح بالنسبة إلى جميع ((الوسطاء)) بين الله والبشر (آ 5ي). فالموقع الفريد للمسيح القائم من الموت في البلاط السماويّ، يتأكّد بسموّه على الكائنات السماويّة (السرافيم، اش 6: 2ي؛ رؤ 4: 2 ،يعتبرون قريبين من الله).
((أونوما)) الاسم. دخلت عب في النظرة السامية التي ترى في الاسم أعظم تعبير عن الشخص. الأسم هو الشخص. سموّ الاسم هو نتيجة كرامة الانسان. وهكذا يعلو اسم المسيح على اسم الملائكة كما تعلو قدرته وكرامته. نجد هنا اسم الفاعل في صيغة الاحتمال: هذا ما يعود بنا إلى عمل تاريخيّ محدّد في الزمن، ويقابل ((هون)) في آ 3 (وجود الابن في الأزل). فالمسيح اقتنى في طبيعته البشريّة الممجّدة هذه الكرامة، ورفعها إلى مستوى الألوهة.
لا شكّ في أن المسيح لم يمتلك هذا السموّ على الملائكة في حياته الأرضيّة (2: 9). ولكنه ناله بعد موته، وحين قدّم ذاته لله تقديمًا كاملاً. إن صيغة الكامل في ((كاكليرونوميكان)) (ورث)، تدلّ على أن ما ناله المسيح قد ناله بشكل نهائي. هو ينعم به الآن وإلى الأبد. وهذا الامتلاك يترافق مع الجلوس عن يمين الآب. إن سموّ الاسم الذي ناله المسيح يشير إلى أف 1: 2 حيث يتحدّث بولس عن المسيح الذي جعله الله عن يمينه في السماوات، وأعطاه اسمًا يفوق كل اسم، إسمًا تجثو له كل ركبة في السماوات وعلى الأرض وتحت الأرض. سما المسيح على الانبياء في العهد القديم، لأنه الابن. وسما على الملائكة بعد أن حمل الفداء وارتفع في المجد. فهذا الفادي والمخلّص وحامل كلام الله، هو ابن الله المتجسّد. فبأي احترام يجب أن نسمع كلامه.

2 - قراءة إجمالية
نجد في هذه الآيات الاربع كلامًا عن الآب الذي يعمل بابنه، ثم كلامًا عن الابن. وهكذا نجعل كلامنا في قسمين: الله الآب (1: 1-2). الله الابن (آ 2-4).

أ - الله الآب
((كلّم الله آباءنا من قديم الزمان بلسان الأنبياء مرّات كثيرة وبمختلف الوسائل. ولكنه في هذه الأيام الاخيرة كلمنا بابنه)) (1: 1-2أ).
هذه الطريقة التي بها تبدأ عب فلا تذكر اسم الكاتب ولا الذين يكتب إليهم، ولا تقدم التحيّات المعتادة في الفن الرسائليّ، تدلّ على أننا لسنا أمام رسالة، بل أمام مقال يتوجّه إلى مجموعة خاصة أو إلى بعض الأشخاص. وما يسند هذه النتيجة هو ما نقرأه في 13: 22 حيث يعلن الكاتب أنه أرسل ((كلمة موعظة)) (رج أع 13: 85. طُلب من بولس وبرنابا كلمة تحريض فكانت عظة بولس في انطاكية بسيدية). ومع ذلك، فهذه ((العظة)) الطويلة تنتهي بشكل رسالة. قال صاحب الرسالة: ((كتبتُ إليكم باختصار)) (هكذا اعتاد أن يفعل كاتب الرسائل). ثم كانت أخبار شفهيّة وتحيّة وبركة. وهكذا نقول إن عب هي مقال لاهوتي ورسالة.
بدأ الكاتب حالاً في عرض موضوع يريد أن يوصله إلى قرّاءه: فرادة وهدف وحي الله في ابنه يسوع المسيح. فهذا الوحي يكمّل النظام القديم ويواجهه. إن المسيح، الابن الذي به قال الله كلمته الأخيرة، والذي هو نفسه الكلمة، هو النبيّ النبيّ، ومجيئه ذورة نبوءات الماضي ومواعيده (2 كور 1: 20). قال كلامَ الله، شأنه شأن الأنبياء. ولكنه اختلف عنهم، لأنه الكلمة الأزليّ الذي صار الكلمة المتجسّد (يو 1: 1-14). به تكلّم الله كما بالأنبياء. ولكن فرادته واضحة لأنه الابن، وهذا ما لا نستطيع أن نقوله عن أيّ من الأنبياء. بهذه التسمية نعلن أنه أعظم من جميع الأنبياء الذين سبقوه، بل هو نبيّ من نوع آخر. هناك أنبياء عديدون. ولكن هناك ابنٌ واحد (سيُقال في 7: 15ي، هناك كهنة عديدون. أما يسوع فهو الكاهن الأوحد).
جاء وحي الله بالانبياء مرات كثيرة وفي مختلف الوسائل. وجاء واحدًا في الابن الكلمة. كان ضمنيًا ومجزأ وناقصًا. فصار في المسيح واضحًا وتامًا. أجل، الوحي في المسيح هو كامل في جوهره وفي شكله وفي مضمونه. وكانت مقابلة أخرى بين ((قديم الزمان)) حيث تكلم الله بالأنبياء، وبين ((هذه الأيام الأخيرة)) التي فيها تكلّم بالابن. كلام الانبياء استباق، وكلام الابن تحقيق لمواعيد الله. إن العهد الموسوي والكهنوت اللاويّ فتحا الطريق أمام نظام جديد هو الواقع المسيحاني، وهو نظام يختلف كل الاختلاف عن القديم، لأنه نهائيّ ودائم. فالسيادة والكهنوت والملك تخصّ فقط ذاك الذي هو وحده الابن الأزليّ.
هناك وجهة انقطاع بين القديم والجديد. وفي الوقت عينه، هناك خطّ تواصل. ففي النظام القديم وفي النظام الجديد، الله تكلّم. فقوّة الكلمة التي قيلت في الماضي بالانبياء إلى آبائنا، والتي تقال اليوم لنا بالابن، تستند إلى أن الله، لا غيره، هو الذي تكلّم في الحالتين. لهذا، كان العهد الجديد في المسيح تحقيق المواعيد والنبوءات والصور التي تشكّل قلب العهد القديم. نجد صيغة الماضي: الله تكلّم فجاء كلامه تامًا، في الماضي، في العهد القديم، وفي الزمن الحاضر مع تمامه في المسيح. أجل، صار كلام الله في المسيح تامًا كاملاً، ولا يمكن أن يُضاف إليه شيء. يروي اثناسيوس عن انطونيوس الذي تسلّم رسالة من امبراطور رومة، فتعجّب تلاميذه. فدعاهم وقال لهم: ((لا تدهشوا إن كتب إلينا الامبراطور. بل تعجبّوا لأن الله كتب شريعته لبشر وكلّمنا نحن بواسطة ابنه)) (حياة انطونيوس 81).
بهذه الكلمات قدّم الكاتب موضوع الرسالة، فرادة المسيح وسموّه بالنسبة إلى ما سبق مجيئه، إلى ما هو عابر وناقص. وأفهمنا أن العهد القديم في تعليم الانبياء، هو ((من وحي الله)) (2تم 3: 16). فالله هو الذي ((تكلّم بفم أنبيائه القديسين كما وعد من قديم الزمان)) (لو 1: 70). وقد ربط بولس ربطًا واضحًا العهد القديم بالأنبياء حين قال في روم 1: 1ي: ((اختاره ليعلن بشارته التي سبق أن وعد بها على ألسنة أنبيائه في الكتب المقدسة)) (رج لو 18: 31؛ 24: 25؛ أع 3: 18؛ 24: 14؛ 26: 22). إن عبارة ((الله كلّمنا بابنه)) تُبرز في جملة واحدة، تعليمَ العهد الجديد ومضمونه. لا لأن العهد الجديد هو شاهد على عمل الله الفدائي في المسيح وحسب، بل لأنه أيضًا ملخّص بقلم ذاك الذي هو كلمة الله (يو 1:1ي). الله هو الذي تكلّم في القديم وهو الذي تكلّم في الأزمنة الأخيرة. جاء الكلام الأول على الأرض. وجاء الكلام الأخير من السماء (12: 25). ولكن في الحالتين جاء الكلام شبيهًا بمن هو الكلمة. غير أن هذا الكلام الآتي من الماضي سيجد كماله في حضور المسيح الذي جاء يكمّله (مت 5: 28).
((الذي جعله وارثًا لكل شيء وبه خلق العالم)) (1: 2ب).
بما أن المسيح هو الابن، بل هو وحده ابن الله، فهو الوارث. هو وحده وارث كل شيء. فمفهوم الوراثة يرتبط بمفهوم البنوّة. وهكذا كان الانتقال طبيعيًا من الابن إلى الوارث. ولكننا لسنا هنا على مستوى الكيان الالهيّ. وهذا لا يعني أن الله الآب يجب أن يموت (شأنه شأن الانسان) لكي يرثه الله الابن. فبما أن الآب أزلي، فهذا يعني أن الابن لن يرثه إلى الأبد. إن التمييز بين الآب والابن في اللاهوت هو سرّ عميق من أسرار الوحي. ولكن الله واحد، فلا تكن نطرتنا إليه نظرة بشريّة. لهذا فالكلام عن الابن كالوارث يشير إلى وظيفة المسيح كوسيط بين الله والبشر. إن مفهوم المسيح الوارث نقرأه في منظور الفداء: ميراثه هو جماعة القديسين، والكون الذي تجدّد بعمل المصالحة الذي قام به.
المسيح هو وارث كل شيء، لأن لله ابنًا وحيدًا وبالتالي وارثًا وحيدًا. لا شك في أن المسيحي يُسمّى أبنًا ووارثًا. ولكنه كذلك باتحاده بالابن الوحيد الذي رضي الله به (مت 3: 17؛ 17: 5؛ روم 8: 14-17؛ غل 4: 4-7؛ 1بط1: 3- 4). وبمختصر الكلام، لا بنوّة ولا ميراث خارجًا عن المسيح. فمن أراد أن ينعم بهذا الامتياز، آمن بالمسيح. وحين قال صاحب عب إن هدف الله هو ((أن يهدي إلى المجد كثيرًا من الابناء)) (2: 10)، أوضح أن ذلك سيكون بواسطة ذلك الذي ((صنع)) هذا الخلاص. بسبب المسيح، وبسببه وحده لأنه الابن، صار الخلاص للمؤمنين في كورنتوس: هم للمسيح، والمسيح لله، فصار كل شيء لهم (1 كور 3: 21- 23). في الحقيقة، المسيح هو الباب الذي يفتح أمامنا الكون كله.
أعلنت عب أن الله خلق بالابن العالم. فعملُ الخلق وعمل الفداء هما عمل الله أبي ربنا يسوع المسيح. هنا نرفض ثنائيّة ترى في العالم المادي عمل الشرّير. وسيُقال فيما بعد كلامًا عن دور المسيح في الخلق كما في يو 1: 3؛ كو 1: 16؛ 1كور 8: 6. وستقول عب في معرض كلامها عن المسيح الذي يتفوّق على موسى: يسوع هو الذي يبني البيت. أما موسى فهو خادم أمين في البيت (3: 2- 3).
ما يتضمّنه هذا التعليم هو أولويّة المسيح على كل العالم المخلوق. وبالتالي وجوده منذ الأزل، ومساواته لله الآب. في هذا قال اثناسيوس الاسكندراني في عظاته ضد اريوس (1: 12): ((حين قال الكاتب الملهم إنه قبل كل الدهور، وان به خُلق العالم، أعلن كيان الابن الدائم والأزلي ودلّ عليه بالتالي أنه ابن الله. في ضوء هذا التعليم لا نعجب أن يتضمّن لقب الابن مساواة المسيح للآب، ومشاركته مشاركة تامة في اللاهوت. لهذا قالت عب عن الابن ما قال العهد القديم عن الله (يهوه): هو الخالق السامي، خالق كل شيء."من قديم أسّست الأرض، والسماوات من صنع يديك" (مز 102: 26). أجل بالمسيح خلق الله العالم)).
((هو بهاء مجد الله وصورة جوهره)) (1: 3أ).
ببدو للوهلة الأولى أن وصف الابن كنور مجد الله المشعّ والنسخة الكاملة لطبيعته، يجعل الابن أدنى من الآب. فمفهوم الاشعاع غير مفهوم النور. والنسخة، وإن كانت كاملة، تبقى بعيدة عن الحقيقة. هذا ما وعاه الذهبي الفم، فحذّر المؤمنين من تعليم المضلّين الذين سيحكم عليهم المجمع السكوني. فاللغة البشريّة لا تستطيع أبدًا أن تعبّر التعبير الكافي عن الله. نحن هنا على مستوى الاستعارة التي تساعدنا على الدخول إلى الحقيقة. وإن كان بهاء مجد الله يدلّ على الابن الوحيد في علاقته مع الآب، فالصورة التامة تدلّ على أن الابن يتميّز عن الاب. ولكننا نحافظ في الوقت عينه على الوحدة وعلى التمييز.
الابن يعكس مجد الله. وذلك في تجسّده (يو 1: 14؛ 2 كور 4: 6). هذا لا يعني أن اللاهوت يشعّ عبر الناسوت، بل أن مجد الله تجلّى في كمال بشريّة كانت مشيئتها مشيئة الآب (10: 7، 9). مجد الله هو شكينه، أي حضور الله كما على جبل سيناء (خر 24: 15ي)، أو في خيمة الاجتماع (خر 33: 9ي). رج مر 9: 2ي. لقد رأى الرسل مجد الله مشعًا في الابن، كما رآه بولس على طريق دمشق (أع 9: 3؛ 22: 6؛ 26: 13).
قال اثناسيوس: ((من لا يرى أن الشعاع لا ينفصل عن النور، بل هو في طبيعته خاص به وموجود معه ولا يأتي بعده)). وقال امبروسيوس: ((لم يكن وقت فيه كان الله بدون حكمة، ولم يكن وقت كان فيه النور بدون شعاع)) (الايمان 1: 13؛ 4: 9). فحيث النور هناك شعاع. وحيث الشعاع هناك نور. ((صورة جوهره)). هو يحمل الطابع الحقيقيّ لطبيعة الله التي انحفرت فيه. هذا يعني التقابل التام. وهذا التقابل لا يتضمّن فقط تماهي جوهر الابن مع جوهر الآب، بل الصورة الحقة للآب من خلال الابن. من رأى الابن رأى الآب (يو 14: 9). وتحدّث بولس عن المسيح الذي هو صورة الله (2كور 4: 4). ولخّص غريغوريوس النيصي موقف الآباء فقال: ((وارث كل شيء وصانع الدهور: أشرق مع مجد الآب. وعبّر في ذاته عن شخص الآب. له كل ما للآب وهو يمتلك قدرته كلها. لا تنتقل الحقيقة من الآب إلى الابن، بل هي تثبت في الآب وتقيم في الابن. فالذي هو في الآب هو في الآب مع قدرته، والذي له الآب في ذاته له كل قدرة الآب وقوّته)) (ضد اونوميوس، 2: 6). هذا يعني مشاركة الابن في جوهر اللاهوت، شأنه شأن الآب. نجد مثل هذه الفكرة عند اوريجانس ((في المبادئ)) (1/2: 7ي). وفي تيودورس المصيصي في شرحه يو 1:1 ((الكلمة هو الله)) يساوي ((بهاء مجده)).
((يحفظ الكون يقوّة كلمته ولما طهّرنا من خطايانا جلس عن يمين العظمة في السماء)).
نحن هنا أمام مفهوم ديناميكي: فعمل الابن متحرّك لاجامد. يحمل جميع المخلوقات إلى ما له صُنعت منذ البدء. فالله خلق الكون حسب مشيئته ومن أجل مخطّط وضعَه. وهو يُسنده ويوجّهه بحسب قصده. فخطيئة الانسان لا تُلغي قصد الله. وتجديد الخليقة في المسيح يجعل قصد الله يصل إلى كماله.
وُجد الكون بالمسيح وهو يُحفظ بقوّة كلمته. فالابن هو ((نواة)) الكون. ((فيه يتكوّن كل شيء)) (كو1: 17). وتماسكُ كل شيء يجد كمالَه فيه. كلمة الابن هي كلمة الآب، لأنه التعبير التام عن مشيئة الآب. والكلمة التي بها يحفظ الابن العالم في الوجود، هي فاعلة لأنها كلمة دينونة ضدّ كل ما يعارض مشيئة الله. هذا ما يجعلنا في نص يو 12: 44-50 مع حديث عن الايمان بالابن الذي يعني الايمان بالآب، وعن رفض الابن الذي يعني رفض الآب.
أجل، الابن هو ضياء مجد الله وصورة جوهره. هو يحفظ الكون بقدرته. ويضيف الكاتب: طهّرنا من خطايانا. نحن هنا في تاريخ البشريّة. وبعد ذلك جلس عن يمين الله. فكأني به استراح بعد أن أنهى مهمّته. وبعد ذلك، نال كل كرامة. هو لم يجلس فقط على عرش، بل جلس ليملك إلى الأبد. هو لم يوقف نشاطه بعد عمل التطهير، بل هو يواصله كما يواصل هذا النشاط في الكون. إنه سيجعل أعداءه تحت قدميه (1كور 15: 25). ويعين المتبلين (2: 18)، ويتشفّع بهم (6: 20؛ 7: 25). إنه يهيّئ لنا مكانًا (يو 14: 2- 3).
((فكان أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسمًا أعظم من أسمائهم)) (1: 4)
إن سموّ (أعظم، كرايتون، ترد 13 مرة في عب) الابن على الملائكة الذي ارتبط بالكرامة التي نالها (آ 3)، نجده في الاسم الذي ورثه. في آ 2 قيل عن الابن انه ورث كل شيء. ويقال هنا أنه ورث الاسم. بفضل بنوّته الأزليّة، كان منذ الأزل وارثَ كل شيء. كما امتلك الاسم الذي هو أبدي. فالاسم يدلّ على الشخص في ذاته وفي عمله. ولكن عب تعلن أيضًا: إن الابن الذي تواضع من أجل خلاصنا فترة من الزمن بحيث صار أقلّ من الملائكة، قد تمجّد الآن فسما عليهم، ونال اسمًا يتفوّق على أسمائهم. نحن هنا أمام أحداث من التاريخ مع اتضاع المسيح وموته وتمجيده.
فالاسم الذي يميّز المسيح عن الملائكة ويرفعه فوقهم، هو اسم الابن. هو ينال الامتياز والسلطة. أما الملائكة فخدّام في الملكوت. في هذا قال اثناسيوس في عظاته ضد الاريوسيين: ((هنا وفي الرسالة، تُنسب لفظة "أعظم" إلى الرب فتدلّ على أنه أفضل من المخلوقات ويختلف عنها. فذبيحته، ورجاؤنا به، والمواعيد التي صارت لنا به، هي أفضل. لسنا هنا أمام درجات، بل أمام كيان من نظام مختلف. بما أنه جعل كل هذا لنا، فهو أعظم من كل مخلوق)).
ولكن لماذا المقابلة بين المسيح والملائكة؟ بسبب الأشخاص الذين يتوجّه إليهم صاحب الرسالة: جعلوا الملائكة يزاحمون المسيح. هل نستطيع أن نكتشف طبيعة هذا التعليم الذي رآه الكاتب خطرًا بسبب الضلال الذي يحمله؟ هنا نعود إلى بولس حين كتب إلى أهل كولسي الذين شدّدوا على عبادة الملائكة (كو2: 18). نحن أمام اعتقاد بقدرة عناصر روحيّة (كو 2: 8 ،20) وكلام عن الطعام والشراب (2: 16)، في خطّ عب 13: 9 مع كلام عن الأطعمة التي لا يمكن أن تحلّ محلّ النعمة. هذا ما يجعلنا في عالم الغنوصيّين. أترى تأثر ((العبرانيون)) الذين يكتب إليهم بولس بالتعليم الغنوصي؟ ربما. ولكن لا ننسى أيضًا الدور الكبير الذي أسنده العالم اليهودي إلى الملائكة الذين حملوا الشريعة والوصايا إلى العالم (غل 3: 19).

خاتمة
ما قدّمت لنا هذه الآيات، هو مدخل إلى تاريخ الوحي والخلاص مركزه المسيح الذي يرتبط بعلاقات سامية مع الآب. ويتدخّل في خلق العالم. وينال مكانة مميّزة ونهائيّة في الوحي. ويطهّر البشر من خطاياهم. هذه الوجهات المختلفة في كيانه، والحقبات والمتنوّعة في دوره الكونيّ والتاريخيّ، سيتوسّع فيها الكاتب على مدّ رسالته في ما يلي. يبدو المسيح تجاه البشر بصفات نبيّ يتكلّم باسم الله. وبصفات ملك سماويّ يجلس عن يمين الله. وبصفات كاهن يتمّ العمل الهنوتي الأسمى الذي هو غفران الخطايا يتمّ العمل الكهنوتيّ الاسمى الذي هو غفران الخطايا.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM