الفصل الأول: دراسة الرسالة

 

 

الفصل الأول
دراسة الرسالة
بعد أن كلّم الله الآباء قديمًا بالأنبياء، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة بالابن الذي جعله وارثًا لكل شيء. هكذا تبدأ رسالة وما هي برسالة فقط، بل مقال وموعظة أيضًا. رسالة مدوّنة في طريقة بلاغيّة هامّة وفي لغة يونانيّة لا نجدها في أسفار عديدة من العهد الجديد. دوّنها شخص قيل في الماضي أنه بولس. ولكنّنا نعرف عنه أنه أغرم بالمسيح، فقدّم عنه صورة لا نجدها في الأناجيل ولا في الرسائل: يسوع هو عظيم الكهنة الأوحد. لا ذبيحة تغفر الخطايا سوى ذبيحته. كل نظام قبله زائل، سواء كان الناموس أو العهد أو الهيكل. كل ما قبله مؤقت. وحده نهائيّ وأبديّ. فكيف يجسر المؤمنون بعد أن عرفوا ذاك الذي بدأ مسيرة الايمان معهم، أن يتراخوا، أن يتراجعوا. عندئذ يعودون إلى أرض عرفها آدم بعد خطيئته. يُرذلون ويُلعنون، فتنبت حياتُهم الشوك والحسك، وتكون آخرتها الحريق.
تلك هي إشرافة على عب. نبدأ فنحلّلها، ثم ندرس المسائل التي تحيط بهذه الرسالة: المحيط الذي وُلدت فيه. من كتبها ولمن كتبها.

1 - تحليل الرسالة
بعد المقدمة (1: 1-4) نجد نفوسنا أمام خمسة أقسام وخاتمة.

أ - المقدّمة (1: 1-4)
في سياق الأيام الأخيرة وما فيها من صعوبات بالنسبة إلى الجماعة المسيحيّة، أعلنت المقدّمة منذ البداية تفوّقَ المسيح على كل ما سبقه في شعب اسرائل، في شعب العهد القديم، بطقوسه وشعائره الدينيّة. أما التعارض الرئيسيّ فيصيب الوحيين الإلهيين: وحي أول بواسطة الأنبياء، ووحي ثان بواسطة الابن الأزلي الذي به خلق الله العالم، وكلّمنا في هذه الأزمنة الأخيرة. نحسّ في هذه الآيات الثلاث، أننا أمام نشيد يرسم وجه المسيح منطلقًا من سمات الحكمة الالهيّة في العهد القديم. فكما كانت الحكمة فيض مجد الله والمرآة التامّة لذلك القدير الذي يصنع كل شيء (حك 7: 25-27)، هكذا هو ابن الله: إنه ضياء مجد الله، صورة كيان الله المطبوعة في الكون، وهو يسند المسكونة بكلمته القديرة (1: 3). غير أن الحقيقة تتجاوز الصورة، والابن يتفوّق على الحكمة تفوّقًا لا محدودًا. كانت الحكمة، بحسب نظر العهد القديم، صفة إلهيّة. أما الابن فشخص حيّ حمل إلينا تطهير الخطايا، ثم جلس عن يمين الجلال.

ب - القسم الأول (1: 5- 2: 18): اسم يسوع واسم الملائكة
مع عب، نحن حالاً في ما يُسمّى ((الكرستولوجيا العليا)): تفوّقُ يسوع على الملائكة، بانتظار الكلام عن تفوّقه على موسى (3: 1- 4: 13). صاغ الكاتب كلامه حول تفوّق المسيح على الملائكة عبر سبعة استشهادات كتابيّة (1: 5- 14) أخذت من العهد القديم، وهي تقابل تسميات الابن في 1:1- 3. فوضعُ المسيح الذي هو فوق الملائكة، كالابن، يرفعه رفعًا لا مثيل له. فالعالم اليهوديّ سمّى الملائكة ((أبناء الله)). وتحدّثت مخطوطات قمران عن روح الحقّ وروح الكذب اللذين يشرفان على البشريّة كلها. وأخيرًا، الملائكة هم وسطاء الشريعة. هم حملوها إلى موسى. في هذه النصوص، يوجّه الله إلى يسوع كلامًا لم يوجَّه يومًا إلى ملاك (1: 8- 9): عرشك، يا الله، إلى أبد الأبد، وصولجان الاستقامة صولجان ملكك. لهذا مسحك إلهك يا الله بزيت البهجة. وهكذا سُميّ يسوع الله. نشير هنا إلى وجود فكر معاصر للعهد الجديد، جعل الملائكة فوق يسوع المسيح. هو أخذ جسدًا. أما الملائكة فمحض أرواح. والروح فوق الجسد. أترى وصل الأمر بقرّاء الرسالة إلى هذه الهرطقة؟ اذا كنا على المستوى اليهوديّ الذي يرى في يسوع انسانًا وحسب، نفهم أن تكون هذه البدعة انتشرت في محيط ((العبرانيين)) (أي الجماعة التي توجّهت إليها عب). لهذا، انطلق الكاتب من ردّ على موقف سلبيّ، فدلَّ على وضع يسوع الذي هو فوق كل ما في السماء وما على الأرض. بل به خُلقت السماء والأرض (1: 3).
ما نلاحظه في عب، هو أن القسم التعليمي يتبعه إرشاد أخلاقي. بعد الصورة هناك العمل. رسم الكاتب وجه يسوع بالنسبة إلى الملائكة. وها هو يقول في 2: 1 - 4: إذا كان بلاغ الشريعة الذي نقله الملائكة متطلبًا إلى هذا الحدّ، فكيف نُفلت من العقاب إن أهملنا خلاصًا حمله الرب يسوع ونقله أولئك الذين سمعوه. هذا يعني أن كاتب عب لا يقف مع الرسل الشهود، الذين رأوا يسوع بعيونهم، وسمعوه بآذانهم، ولمسوه بأيديهم. لا يقف مع الذين يسمّيهم في 13: 7 ((المدبّرين)) الذين عاشوا حياة الايمان، وأنهوا جهادهم بسفك دمهم. يبدو أن كاتب عب هو من الجيل المسيحيّ الثاني الذي تربّى على يد الرسل.
في 2: 5-18 ،نجد رسمة جديدة تلوّن نظرة عب إلى المسيح بلون آخر. فهي تمزج تنازل الابن وخضوعه، مع ارتفاعه ومجده. استعملت مز 8: 5-7 ، فأعلنت أن هذا الابن الذي خُفض عن الملائكة ((حينا)) (2: 9)، هو ابن الله، وله يخضع منذ الآن كل شيء. احتاجت الجماعة ((العبرانيّة))، التي تصادمُها المحن، إلى كلام يكشف فيه الكاتب قصد الله من أجل البشرية: لا مجد بدون ألم. فالمجد يمرّ بالألم، على مثال ما قال يسوع لتلميذي عماوس: كان ينبغي للمسيح أن يكابد هذه الآلام ويدخل إلى مجده. إذا كان ارتفاع ابن الله في المجد قد حمل الخلاص، إلاَّ أنه لم يهتمّ بخلاص الملائكة. فإن كان المسيح قد مات، فمن أجل البشر الذين مجّد الله منهم عددًا كبيرًا بيسوع باكورة خلاصهم، الذي صار كاملاً بالآلام (2: 10).
إن موضوع شعب الله الذاهب في طريق الحجّ بقيادة يسوع، إلى المعبد الذي هو موضع راحة الله، سيعود في 4: 11، 14 فيدعو المؤمنين ليتبعوا حبرهم إلى موضع الراحة. وفي 6: 20: ندخل إلى حيث دخل يسوع الذي سار أمامنا، سبقنا كي يهيّئ لنا موضعًا كما نقرأ في انجيل يوحنا. فالابن، قائد المسيرة، هو من لحم ودم، شأنه شأن اخوته أبناء الله. وهكذا صار الحبرَ الأمين الرحيم، الذي يكفّر خطايا الشعب. وبما أنه هو نفسه تألم وابتلي (وامتحن)، استطاع أن يُغيث الذين يحاولون مقاومة التجربة. بهذا يكون الكاتب في هذا القسم الأول قد تحدّث عما يُسمّى سرّ التجسد. وسيعود إلى هذا الموضوع في ف 4-5 فيتحدّث عن طاعة الابن الذي اُخذ من البشر وجُعل من أجل البشر.
ج - القسم الثاني (3: 1-5: 10): يسوع حبر أمين ورحيم
بعد تفوّق يسوع على الملائكة، ها هو الكاتب يتحدّث عن تفوّقه على موسى وسيط العهد القديم على جبل سيناء. كرامة باني البيت أعظم من كرامة البيت. والابن في البيت غير العبد والخادم: ((والعبد لا يقيم في البيت على الدوام. أما الابن فيقيم على الدوام)). هذا ما قاله يسوع نفسه (يو 8: 35). ويرد لقب آخر عظيم يُعطى ليسوع: الرسول وحبر اعتراف الايمان (3: 1). هنا يعود الواعظ (تعتبر عب عظة) إلى العهد القديم، ويركِّز كلامه على خروج بني اسرائيل من مصر، ومسيرتهم في البرّية، طلبًا للراحة في أرض الميعاد (3: 7-4: 13). عاش بنو اسرائيل العصيان، فما استطاعوا أن يُدركوا الهدف الذي جعله الله أمامهم. لم يدخلوا في راحة الله، في الأرض المقدسة. لماذا؟ لأنهم تراخوا. نظروا إلى الوراء. يئسوا من طول الطريق وصعوباتها. وهذا ما ينتظر المسيحيين الذين تتوجّه إليهم عب: الويل لمن يتخلّف. إذا كان باب الراحة ما زال مفتوحًا، إلاّ أنه سيُغلق عن قريب. والذين يتكاسلون، يلبثون خارجًا قائلين: يا رب، افتح لنا. لا شكّ في أن الابن صعد إلى السماء، ولكن كلمته ما زالت حيّة فعالة وأمضى من كل سيف ذي حدّين (4: 12).
دور موسى دور الوسيط. وهو بذلك لعب دور ((الكاهن)). وهكذا وصل الكاتب إلى عنصر في النظام القديم بعد أن تكلّم عن الشريعة التي حملها الملائكة. وصل إلى الكهنوت القديم، إلى ذلك الحبر (= عظيم الكهنة) الذي يُطلب منه أن يكفّر خطايا الشعب. لهذا بدأ فقال: ((وإذ لنا حبر عظيم اجتاز السماوات، يسوع ابن الله...)). نحن هنا أمام نظرة إلى التجسّد (تختلف عن نظرة يوحنا). نظرة تشدّد على واقعيّة بشريّة يسوع. فهو ذاك الحبر الذي يستطيع أن يتعاطف مع ضعفنا. فقد ابتُلي مثلنا في كل شيء، ما خلا الخطيئة (4: 15). وكما أن عظيم الكهنة اليهودي لم يُقم نفسه حبرًا، بل أقامه الله. كذلك كان الأمر بالنسبة إلى المسيح. هو ما سمّى نفسه، بل دعاه الله حين قال له: أنت ابني. أنا اليوم ولدتك. وقال له أيضًا: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق. هنا نجد نفوسنا في مناخ تجلّي يسوع على الجبل الذي تبعه الإنباء بالآلام والموت. فبعد أن كرّم الله هذا الحبرَ، صوّر الكاتبُ آلامه ((في أيام بشريته)) (5: 7): قرّب تضرّعات وابتهالات إلى القادر أن يخلّصه من الموت. أجل، مع أن يسوع هو الابن، فقد تعلّم الطاعة بما تحمّل من آلام. عرفت عب، بلا شك، التقليد الذي صوّر يسوع ليلة آلامه في بستان الزيتون، ويوم موته على الصليب: هو لم ينجُ من الموت في البستان مع أنه قال: إن أمكن فلتبتعد عنّي هذه الكأس. ولا على الصليب مع أنه طلب من الآب أن لا يتركه. فرغم الموت الآتي وضعف البشرية، انتصر يسوع على الموت وصار ينبوعَ خلاص. ورفعتُه على الصليب صارت في الواقع رفعته في المجد.
فبعد أن مرّ يسوع في الألم، صار كاملاً. صار ينبوع خلاص لجميع الذين يطيعونه. ذاك الذي صار طائعًا حتى موت الصليب، رفعه الله وأنعم عليه بالاسم الذي يفوق كل اسم (فل 2: 8-9). لهذا، من رافقه في الطاعة والألم، يرافقه في المجد والسعادة.

د - القسم الثالث (5: 11-10: 39): كهنوت المسيح كهنوت حقيقيّ
هنا عاد الكاتب إلى الارشاد والتحريض، فوبّخ القرّاء على عدم نضجهم: ما زالوا على مستوى الحليب (اللبن) كالأطفال. فلا يستطيعون أن يأكلوا الطعام القويّ (5: 12-13). في 6: 1-2 ،نجد ست نقاط تشكّل التعليم المسيحي ((الابتدائي))، ((التعليم الأوليّ)): التوبة، المعمودية، وضع الأيدي، قيامة الموتى، الدينونة، الحياة الأبدية. ما يهتمّ له الكاتب هو ارتداد المسيحيين عن إيمانهم لأسباب عديدة، ليس آخرها العزلة من المجمع والضيق المادي. لهذا، هدّد الذين اعتمدوا (استنيروا، نالوا نور المسيح، رج يو 9) وشاركوا في عشاء الرب (الإفخارستيا)، وتذوّقوا كلمة الله: إن هم ارتدوا، فلا توبة لهم، بل تنتظرهم اللعنة والحريق (6: 8). وستعود الرسالة إلى الموضوع عينه في 10: 26-31: ((يا لهول الوقوع في يدي الله الحي. من عاند، كان كأنه يطأ ابن الله، ويعدّ مبتذلاً دم العهد الذي تقدَّس به)) (10: 29).
ولكن الكاتب لا يشك في مستقبل هذه الجماعة والأعمال الصالحة التي تعملها: المحبّة الأخوية (رج 13: 1)، خدمة القديسين (6: 10). فالوضع أفضل ممّا كان (6: 9). لهذا، لن ينسى الله ما تقوم به هذه الجماعة من أعمال. فهو أمين لمواعيده. وما يكفل كل هذا شفاعةُ يسوع الفاعلة في المعبد السماوي، حيث صار حبرًا على رتبة ملكيصادق (6: 13- 20)، وتكرّسَ ف 7 للكلام عن تفوّق كهنوت يسوع على كهنوت اللاويين. هناك من توقّف عند جماعة قمران واهتمامها بملكيصادق. ولكن عب اكتفت بما وجدت في التوراة، فتوسّلت قواعد التأويل المعروفة، وهذا كفاها من أجل مشروعها. ماذا وجدت؟ لم يذكر الكتاب المقدس والدَي ملكيصادق، وهو الذي اعتاد ذكر الانساب ولا سيّما الكهنوتيّة منها. واستنتج الكاتب عن ملكيصادق: إذن لا أب له ولا أم. هو ((بداية)) لا تسبقها بداية. لهذا، تفوّق على ابراهيم، باركه. ثم إن كهنوته قد رافقه قسَمٌ إلهي، وهذا ما لم ينعم به كهنوتُ لاوي. وأخيرًا، الكهنوت على رتبة ملكيصادق هو كهنوت أبدي (مز 110: 4). إذن، لا حاجة بعد إلى كهنة عديدين من نسل لاوي، يحلّ بعضهم في وظيفة تركها آباؤهم بموتهم. فيسوع الذي هو كاهن حسب ملكيصادق، حيّ إلى الأبد. إذن، لا نهاية لتشفّعه. ولا حاجة إلى أن يحلّ أحد محلّه (7: 32- 35). فهذا الحبر القدوس والبريء والذي لا عيب فيه والذي انفصل عن الخطأة وارتفع فوق جميع السماوات، هذا الحبر حين قدّم نفسه قدّم ذبيحته مرّة واحدة فنال الخلاص للبشر (7: 26- 27). كان الأحبار يقدّمون ذبيحة كل سنة. هذا يعني أن الخطايا لم تُغفر. وإلاّ لم تكرارُ الذبيحة. أما المسيح فقدّم نفسه، مرة لا غير، وهكذا وضع حدًا لجميع التقدمات التي يقرّبها الحبر عن خطاياه الخاصّة ثم عن خطايا الشعب.
مع ف8 ، نرى يسوع يدشّن العهد الجديد، فيدلّ على تفوّق خدمته الذبائحيّة، كما على تفوّق المعبد السماويّ. أجل، إن الكلام عن يسوع الذي هو حبر لدى الله، وصل بالكاتب إلى مفهوم المعبد السماوي الذي ((رآه)) موسى فجعل صورته في خيمة على الأرض. وكهنة لاوي الذين يخدمون ظلَّ هذا المعبد السماوي، بدت خدمتهم كلا شيء أمام خدمة (ليتورجية) يسوع، كما أن العهد الأول بان حقيرًا تجاه العهد الثاني الذي وسيطه المسيح. وعاد الكاتب هنا بشكل خاص إلى إر 31: 31- 34 ،فبيّن أن العهد الأول الذي عُقد مع موسى شاخ، عتق ، صار باليًا، بل صار قريبًا من الزوال (8: 13).
في ف 9 ، قابل الكاتبُ مطوّلاً بين موت يسوع وطقس يوم التكفير (يوم كيبور) الذي احتُفل به في موضع مقدّس كان ينتقل مع بني اسرائيل في البرية. هنا نجد الغشاء (9: 5 ؛ رج روم 3: 25) حيث يُرشّ دم الذبائح لغفران الخطايا. وهكذا كانت مقابلة بين موت يسوع وذبائح اللاويين. تعدّت عب المقابلة، أو بالأحرى حصرتها في ما يتمّ في يوم كيبور: يدخل الحبرُ قُدس الأقداس مرّة في السنة بدم التيوس والعجول. أما يسوع فدخل مرّة لا غير إلى المعبد السماوي بدمه الخاص (9: 11- 12)، فعقد العهد الجديد. هو الحبر الوحيد الذي يقف منذ الآن أمام الله ((لأجلنا)) (9: 24). في الماضي، قدّم نفسه فحملَ خطايا الكثيرين، وهو يعود لكي يخلّص الذين ينتظرونه. أجل، لا حاجة للتكفير في المجيء الثاني (9: 28).
وفي ف 10 ، يعود الكاتب فيشدّد على تفوّق ذبيحة يسوع. هو لم يقدّم ((حيوانًا)) خارجًا عنه، بل قدّم ذاته، قدّم دمه. أتُرى دم الثيران والتيوس يزيل الخطايا (10: 3)؟ حاشا. فالرب يفضّل الطاعة على كثرة الذبائح، وهذا منذ نبوءة هوشع (6:6). استندت عب هنا أيضًا إلى الكتاب المقدس، إلى مز 40: 7- 9: صنعت لي جسدًا... فقلت ها أنا آت لأعمل بمشيئتك، يا الله. هذه الذبيحة الكاملة حملت الكمال إلى الذين شاركوا المسيح في قداسته (10: 14). غُفرت خطاياهم، فانتفت الحاجة بعد ذلك إلى تقدمة عن الخطيئة (10: 17).
فتح يسوع الطريق. نزع الحجاب الذي كان يمنع المؤمنين من الاقتراب إلى الله في قدس الأقداس. لهذا، فالاخوة الذين التأموا في جماعة، يدخلون إلى المعبد بدم يسوع: في كمال الايمان، في اعتراف الرجاء، في حياة من المحبّة تظهر من خلال الأعمال الحسنة (10: 22- 24). ولكن إن خطئوا خطأ يقود إلى الموت (1 يو 5: 15- 16). إن خطئوا بملء معرفتهم وإرادتهم فقادتهم هذه الخطيئة إلى الارتداد عن المسيح، لن تبقى ذبيحةٌ عن الخطايا. ((بل هول الدينونة وغضب النار)). (10: 26). ويا لهول ما ينتظرهم حين يقعون في يدي الله الحي (10: 31).
اعتاد الكاتب أن يوبّخ، واعتاد أن يشجّع. اعتاد أن يهدّد ((بالعقاب الابدي))، وكأن الأمور وصلت إلى الهاوية. ولكنه يعود حالاً فيفتح باب الرجاء، ويكتشف ما في هذه الجماعة من بذور قيامة وانبعاث جديد. في 6: 4- 6 أشار إلى اللعنة والحريق. ولكنه رأى تحسّن الحال واقتراب المؤمنين من الخلاص، لا من الهلاك (آ 9). وهنا، يعود بالمؤمنين إلى الأيام السالفة وما عملوه تعبيرًا عن إيمانهم. هل نسوا أنهم أبناء الايمان؟ هل نسوا أنهم مدعوّون للحياة (10: 39)؟
هـ - القسم الرابع (11: 1-12: 13): الايمان والثبات
بعد القسم المركزيّ سيكون هذا القسمُ قصيرًا. سبق الكاتب ودعا الجماعة إلى عيش الايمان. ولئلاً يبقى كلامه خطبة مجرّدة، أعطى لوحة رائعة عن أناس عاشوا الايمان قبل المسيح وثبتوا في هذا الايمان. منذ هابيل وأخنوخ ونوح، حتى ابراهيم وموسى والملوك والأنبياء. ولكنه ظلّ عند المقابلة بين القديم والجديد: هؤلاء ((القديسون)) شهد لهم الكتاب ولكنهم لم ينالوا الموعد. ((أعدّ الله لنا مصيرًا أفضل، فما استطاعوا أن يبلغوا الكمال بمعزل عنا)) (11: 40). بعبارة أخرى: انتظرونا. في الواقع، انتظروا المسيح. لأن كل ما تاقوا إليه، وجد كمالَه في يسوع المسيح.
وبعد هذه اللوحة، جاء التحريض. ماذا نفعل بعد أن رأينا كل هؤلاء الشهود؟ وخصوصًا، ماذا نفعل بعد أن رأينا يسوع الذي مرّ في عار الصليب (12: 2) قبل أن يجلس عن يمين عرش الله؟ فهذه الآلام التي تصيب المؤمنين، هي في الواقع تأديب من الرب. فإن قبلوا هذا التأديب، دلّوا على أنهم أبناء الله. وإلاّ اعتبروا نفوسَهم أولاد زنى لا بنين شرعيين (12: 8).

و - القسم الخامس (12: 14-13: 19)
وقدّم الكاتب أيضًا أكثر من مثل ليدلّ على العقاب الذي ينتظر المعاندين. فليعلموا أن الله نار آكلة (12: 29)، وتنتهي العظة بإرشادات أخلاقيّة مفصلة نجد مثلها في الرسائل البولسيّة. كما تشدّد على الطاعة للمسؤولية ((للمدبّرين)). أما الأساس فهو يسوع المسيح ((الذي هو هو أمس واليوم وإلى الدهور)) (13: 7).

ز - خاتمة (13: 20- 25)
تنتهي هذه العظة ببركة باسم ((إله السلام)) الذي ((بعث من بين الأموات راعي الخراف العظيم، ربنا يسوع)). وكان خبر: تيموتاوس في السجن ويُطلق سراحه. وسلام من كاتب الرسالة إلى المدبّرين والقديسين. وسلام من جماعة ايطالية، من رومة، حيث مات بطرس وبولس شهيدين، فكانوا من ((المدبِّرين)) الذين أنهوا حياتم بسفك دمائهم (13: 7). فهل وصل المؤمنون في مقاومتهم حتى الدم (12: 4)؟ كلا. ولهذا، ما زال الجهاد ينتظرهم وتأديبُ الرب يعاملهم كالأبناء (12: 7).

2 - المسائل الأدبية
حلّلنا عب وأطلنا التحليل، لما فيها من منطق لا يسمح للقارئ بأن يشرد لحظة واحدة، ولما فيها من طرح جذريّ ينقل هؤلاء المسيحيين من النظام القديم إلى النظام الجديد، ويمنعهم من العودة لئلاّ يكونوا من الجاحدين، بل يمنعهم أن يعرجوا بين الجنبين، فيؤمّون الكنيسة تارة والمجمع تارة أخرى. يبقى علينا أن ندرك المسائل الأدبية وهي: البنية والفن الأدبي. مناخ الرسالة. كتابة الرسالة.

أ - البنية والفن الأدبي
أولاً: الفن الأدبي
منذ قرن من الزمن، بدأ الشرّاح يتحدّثون عن هذا اللغز الأدبي الذي هو الرسالة إلى العبرانيين. قالوا يبدأ كمقال، يتواصل كقصة، وينتهي كرسالة. أنقول إن عب هي مقال لاهوتي؟ لا شكّ في أن التعليم اللاهوتي حاضر فيها، ولا سيّما حول كهنوت المسيح وذبيحته. غير أن الكاتب توخّى بشكل عام أن يمنع القرّاء من أن يؤخذوا بشعائر العبادة الاسرائيليّة التي بدت جميلة إزاء ما يتمّ في جماعة الكنيسة. لهذا، حذّرهم من الارتداد عن الايمان، وتفضيل العهد القديم على المسيح الذي يتفوّق على كل ما سبقه بشكل لا يحدّ. فهو أعظم من الآباء، أعظم من ابراهيم وموسى، أعظم من الملائكة. إنه الابن الذي به خلق الله العالم. إذن، عب هي مقال مع هدف دفاعي يُبرز صفات الايمان المسيحيّ فيبدو ما عداه في وجه لا يستحقّ أن يعودوا إليه. بعد أن ذاقوا الموهبة الالهية، هل يعودون إلى الشوك والحسك؟
وعب هي عظة. هكذا حدّدها الكاتب نفسه في 13: 22: كلام موعظة. وهناك الاسلوب الذي يضمّ الارشاد إلى التعليم، فيحثّ المؤمنين على العيش المسيحي. مرّة يهدّدهم. وأخرى يشجّعهم. وهكذا لا يتكلّم فقط إلى العقل، بل إلى القلب والعاطفة أيضًا. بل إن هناك آيات تدلّ على أننا في إطار عظة. نقرأ في 2: 5: العالم الآتي الذي نتكلّم عنه. نحن أمام كلام يُلقى على الجماعة التي يجعل الكاتب نفسه منها حين يستعمل صيغة المتكلّم المجمع (10: 26: لأنّا إن خطئنا)، لا أمام سطور يدوّنها ((المدبّر)) أو أحد العاملين معه. في 5: 11 ،نحسّ أن الواعظ يرتاح بعض الوقت، ويترك سامعيه ((يتنفّسون)). ثم يوجّه إليهم كلامه في صيغة المخاطب الجمع: عليكم أن تكونوا ... بقي لنا كلام كثير نقوله وأنتم لا تطيقون سماعه. وهو كلام صعب. فكأني بالمتكلّم قرأ على الوجوه ما دلّ على أنهم لم يعودوا يفهمون. وفي 6: 9 ،نرى الواعظ يكلّم هذه الجماعة الحاضرة، ويدعوها ((أيها الاحبّاء)). فكأني به يتحاور معها. بدا في 6: 4- 6 كأنه يكلّم أناسًا غابوا عن ((الاجتماع)). وها هو هنا، يكلّم القطيع الصغير الذي دُعي لأن يرث المواعد. أمّا أن تكون عب رسالة، فالتوصيات التي نجدها في ف ،13 والخاتمة في 13: 20-25 ،تجعلها تشبه رسالة من الرسائل البولسية. وهكذا نستطيع القول إن عب هي عظة كُتبت مع خاتمة رسائليّة.
ثانيًا: البنية في عب
هنا تطرح مشكلة التصميم التي اختلف فيها الشرّاح. أما الابسط فيبدأ في ثلاثة أقسام. الاول (1:1-4: 13) يُبرز سموّ وحي الله في ابنه يسوع على كل وحي. الثاني (4: 14-10: 18) يصوّر يسوع كحبر كامل. الثالث (10: 19-13: 22) يقدّم الارشاد. وهناك قسمة أخرى بسيطة: طريق المخلّص (1:1-6: 20). وظيفة الابن كعظيم كهنة (7: 1-10: 18). طريق الايمان (10: 19-13- 22). أما 13: 22- 25 فهي الخاتمة.
نقدّم هنا أربعة تصاميم. أما نحن فقد اتبعنا الثالث في تفسيرنا للرسالة.
• التصميم الاول
يتألف من مطلع وأربعة مواضيع وملحق وخاتمة
- المطلع: كرامة ابن الله المتجسّد، الذي هو ملك وكاهن وحامل وحي (1:1-4)
- الموضوع الأول: الابن يتفوّق على الملائكة (1: 5- 2: 18)
- برهان كتابي يتحدّث عن تفوّق الابن على الملائكة (1: 5- 14)
- تحريض على عدم إهمال الكلمة التي نالها الابن (2: 1- 4)
- تمّ الفداء بالمسيح الانسان لا بالملائكة (2: 5- 18)
- الموضوع الثاني: يسوع حبر أمين ورحيم (3: 1-5: 10)
- أمانة المسيح تفوق أمانة موسى (3: 1- 6)
- لن يدخل المسيحيون الذين جُعل أمامهم مثلُ بني إسرائيل، إلى راحة الله إلاّ إذا كانوا أمناء (3: 7-4: 11)
- موضوع وأساس الأمانة المسيحية: كلمة الله المسيح الكاهن (4: 12- 16)
- يسوع حبر رحيم (5: 1- 10)
- الموضوع الثالث: كهنوت يسوع المسيح كهنوت حقيقي (5: 11-10: 18)
- الحياة المسيحية واللاهوت (5: 11-6: 20)
أ - تفوّق المسيح الحبر الرحيم، الفريد، الكامل، على الكهنة اللاويين (7: 1- 28)
- رسمة تاريخية لملكيصادق (7: 1- 3)
- ملكيصادق تسلّم العُشر من ابراهيم وباركه (7: 4- 10)
- كهنوت على رتبة ملكيصادق يلغي الكهنوت الخارج من لاوي (7: 11- 14)
- إلغاء الشريعة القديمة (7: 15- 19)
- كهنوت المسيح يفوق كهنوت لاوي، لأن نظامه لا يتبدّل (7: 20- 22)
- كهنوت المسيح كهنوت مستمرّ (7: 23- 25)
- كمال مطلق للحبر السماويّ (7: 26- 28)
ب - تفوّق المسيح الكاهن على مستوى العبادة والمعبد والوساطة (8: 1 - 9: 28)
- الخدمة الكهنوتية الجديدة والمعبد الجديد (8: 1-5).
- المسيح وسيط عهد أفضل (8: 6- 13)
- المسيح حبر دخل بدمه المعبد السماوي (9: 1-14)
- المسيح ختم العهد الجديد بدمه الذي قدّمه مرّة لا غير، فدشّن معبدًا يشفع فيه من أجلنا (9: 15- 28)
ج- ذبيحة المسيح أفضل من الذبائح الموسويّة (10: 1-18)
- ذبائح قديمة تتكرّر فتدل على لافاعليتها، وذبيحة المسيح الطوعيّة هي فاعلة (10: 1- 10)
- فاعلية ذبيحة يسوع أبديّة ولا حدود لها، كما قال الأنبياء، (10: 11- 18)
الموضوع الرابع: الايمان والثبات (10: 19-12: 29)
- إنتقالة (10: 19-25)
- خطرالجحود وعقابه (10: 26-31)
- الجزاء هو دافع للثبات (10: 32- 39)
- ايمان الآباء المنتصر مثال لنا (11: 1-40)
- مثَل يسوع المسيح (12: 1-4)
- تأديب الربّ الأبويّ (12: 5-13)
- عقاب الارتداد المريع (12: 14- 29)
ملحق: توصيات عمليّة (13: 1- 19)
خاتمة: أماني وسلام (13: 20- 25).
• التصميم الثاني
1:1-3 مقدّمة
1: 4-4: 11 تفوّق يسوع لأنه ابن الله
1: 4- 2: 18 على الملائكة
3: 1-4: 13 على موسى
4: 14-7: 28 تفوّق كهنوت المسيح
8: 10-10: 18 تفوّق كهنوت يسوع وخدمته في المعبد الالهي حيث يدشّن العهد الجديد
10: 19-12: 29 الايمان والثبات: عمل يسوع الكهنوتي
10: 19- 39 إفادة من ذبيحة يسوع
11: 1- 40 أمثلة الايمان في العهد القديم
12: 1-13 آلام يسوع وتأديب الرب
12: 14- 29 تحذير من العصيان (أمثلة من العهد القديم)
13: 1- 19 توصيات عملية
13: 20-25 خاتمة: بركة وسلامات.
• التصميم الثالث
يتألف من مقدمة وخمسة أقسام وخاتمة.
1:1- 4 مقدمة الرسالة
1: 5-2: 18 القسم الأول
اتجاه واحد: اسم يفوق اسم الملائكة
1: 5-14 الابن فوق الملائكة
2: 1- 4 ارشاد
2: 5- 18 طريق المجد
3: 1-5: 10 القسم الثاني
3: 1-4: 14 الاتجاه الأول: يسوع حبر أمين وأهل الثقة
3: 1-6 أمانة موسى وأمانة يسوع
3: 7-4: 14 ارشاد يستند إلى مز 95
4: 15-5: 10 الاتجاه الثاني: يسوع حبر رحيم
5: 11-10: 39 القسم الثالث
5: 11-6: 20 المطلع
5: 11- 6: 12 ارشاد: استعدادات السامعين
6: 13- 20 عظمة قسَم الله
7: 1- 28 الاتجاه الأول: حبر حسب ملكيصادق
7: 1- 10 ملكيصادق وكهنوته حسب تك 14
7: 11- 28 رتبة هارون ورتبة ملكيصادق حسب مز 110
8: 1- 9: 28 الاتجاه الثاني: التتمة والكمال
8: 1- 9: 10 إبدال العبادة القديمة لأنها غير كافية
9: 11- 28 ذبيحة المسيح فاعلة ونهائيّة
10: 1- 18 الاتجاه الثالث: علّة خلاص أبدي
10: 19- 39 إرشاد نهائي
11: 1- 12: 23 القسم الرابع
11: 1- 40 الاتجاه الأول: ايمان الأقدمين
11: 1- 7 تحديد الايمان والامثلة الأولى
11: 8- 22 ابراهيم
11: 23-31 موسى
11: 32- 40 أبطال انتصروا وأبطال تألّموا
12: 1- 23 الاتجاه الثاني: الثبات الضروري
12: 14- 13: 18 القسم الخامس
اتجاه واحد: سبل مستقيمة
12: 14- 28 تحذير بالنسبة إلى النهاية
13: 1- 6 مواقف مسيحيّة
13: 7- 18 نظرة دينية صحيحة ونظرة خاطئة
13: 20-21 خاتمة الرسالة
13: 19، 22- 25 بركة وسلامات
• التصميم الرابع
- المطلع: وحي في يسوع المسيح (1:1- 4)
1:1- 2أ في الماضي تكلّم الله بفم الانبياء
والآن، في الأيام الأخيرة، تكلّم بابنه
1: 2ب- 4 جُعل الابن وارث كل شيء
اعلان موضوع 1: 5- 2: 18 في 1: 4
إبن الله وُضع ورُفع (1: 5-2: 18)
1: 5-14 ابن الله رُفع فوق الملائكة
اعلان موضوع 2: 1- 18
2: 1- 4 استنتاجات إرشادية: اهتمام جديّ بالتعليم
2: 5- 81 رُفع الابن الذي يجب أن يخضع له كل شيء. وُضع فصارمبدئ الخلاص.
اعلان موضوع 3:1-5:10 في 2: 17- 18
- حبر أمين ورحيم (3: 1-5: 10)
3: 1-4: 13 عظة حول موضوع الايمان: حثّ على ايمان واثق وتحذير من الارتداد
4: 14- 5: 10 الابن حبر رحيم: حثّ على الامانة واعتراف الايمان
اعلان موضوع 5: 11-10: 18 في 5: 6- 10
- التعليم الكامل (5: 11-10: 18)
5: 11-6: 20 مقدّمة إرشادية: التعليم الكامل (6: 1) يُفهم بصعوبة (5: 11)
القرّاء ما زالوا في البداية (5: 11- 14)، لهذا ما يلي يوجَّه إلى قرّاء تقدمّوا (6: 1-3)
سبب التحذير: اهتداء ثان هو غير ممكن (6: 4-8)
تقديم موضوع 6: 12- 20 في 6: 11
7: 1- 28 الابن حبر برتبة ملكيصادق
مقدمة وعرض تأويلي (7: 1- 3). تفوّق ملكيصادق على اللاويين (7: 4- 10). الكهنوت الجديد يتضمّن نظامًا جديدًا وإلغاء القديم (7: 11- 19). الكهنوت الجديد تثبّت بقسَم إلهي (7: 20- 25). يسوع هو حبر فريد إلى الأبد (7: 26- 28)
8: 1-10: 18 عظة تأويلية حول ذبيحة المسيح
8: 1- 13 العبادة السماوية والأرضية والعهد الجديد
9: 1- 10: 18 توسّع في الموضوع: العبادة القديمة ظلُّ الجديدة (9: 1- 10). العبادة الجديدة والسماوية (9: 11- 14). العهد الجديد (9: 15-22) الذبيحة الجديدة والسماويّة (9: 23- 28). النتائج الخلاصيّة للذبيحة السماوية (10: 1- 10). موجز (10: 11- 18)
- نتائج ارشادية: حثّ على عيش الايمان (10: 19- 12: 13)
10: 19- 39 حث على الرجاء
صرنا قريبين من السماء. لهذا نبقى متعلّقين بإيماننا (10: 19- 25). تحذير من الارتداد (10: 26-31)
حثّ على حياة في اليقين (10: 32- 39)
11: 1- 40 فقاهة حول موضوع الايمان
تحديد الايمان (11: 1- 2)
الايمان، من الخلق إلى نوح (11: 3- 7)
إيمان الآباء (11: 8- 22)
إيمان موسى وشعبه (11: 23- 30)
إيمان الأنبياء والشهداء (11: 31- 38)
موجز: تتمّة الايمان والوعد للمسيحيين (11: 39- 40)
12: 1- 3 عظة حول الثبات
يسوع مبدئ الايمان (12: 1- 3)
الآلام المؤدّبة (12: 4-11)
حثّ على الايمان (12: 11- 12)
- تحريضات نهائية (12: 14-13: 19)
12: 14- 29 تحذير من الارتداد
13: 1- 19 تحريضات عامة حول الحياة الجماعية
- مباركة مضاعفة 13: 20- 25
13: 20-21 بركة نهائية
13: 22-25 خاتمة بولسيّة

ب - مناخ الرسالة
في أي مناخ كُتبت عب، وما هي خلفيّة الكاتب الفكرية؟ نلاحظ أولاً أن صاحب الرسالة قريب جدًا من فيلون الاسكندراني. فهو في استشهاده بالكتب المقدّسة يشبه ما فعله فيلون وصاحب الرسالة إلى برنابا. فوصفُ سلطان كلمة الله التي تنفذ حتى مفرق النفس والجسد (4: 12) تشبه لغة فيلون. والمقولات الفكرية التي يلجأ إليها الكاتب، تجد ما يوازيها في الفلسفة المعاصرة لفيلسوف الاسكندرية. يكفي هنا أن نتحدّث عن الحقيقة والظلّ فنتذكّر المثُل الافلاطونيّة. والتشديد على الوحدة يعود بنا إلى العالم الرواقي. فمنذ سفر الحكمة، اعتاد الكتاب المقدس أن يقرأ الحكمة اليونانية ليكتب فيها الوحي، كما قرأت أسفار أخرى حضارات الشرق القديم وكُتبها على ضوء الالهام الالهي. هكذا فعل فيلون. ومثله كاتب عب الذي لم يكن فيلسوفًا محترفًا وإن ألّم بالمقولات الفلسفية.
في 8: 5 ، نقرأ عن الكهنة اللاويين: ((هؤلاء يقيمون خدمة هي صورة وظلّ)). هذا يعني في إطار الفلسفة الافلاطونيّة، أن لا حقيقة لهذه الخدمة في ذاتها. وبالتالي إنها تزول. مثلُ هذه الأفكار كانت معروفة في عالم الشرق الذي تشرّب الثقافة الهلنستية. وفي 9: 23-24 ،تحدّث الكاتب عن الذبائح والليتورجيا في العبادة الاسرائيلية. هي نسخة، هي ظلّ لواقع وحقيقة في المعبد السماوي. وقال أخيرًا في 10: 1: ((ليس الناموس سوى ظلّ الخيرات الآتيّة، لا ذات الحقيقة بعينها...)). لهذا، ماذا تستطيع أن تفعل مثل هذه الذبائح؟ هي باطلة وبدون فائدة، ولا تستطيع أن تجعل المتقرّبين إلى الله كاملين.
ويبقى التعارض بين ما هو أرضيّ وما هو سماويّ. هو لا يصدر فقط عن طبيعة عنصر الأرض وعنصر السماء. بل عن التبدّل الجذري الذي أدخله المسيح. مع الكهنة اللاويين، كنّا على المستوى البشريّ المحض. هم يموتون، لهذا يحلّ كاهن محلّ كاهن. والذبيحة تحرَق، فتصبح كأنها ما كانت. أما المسيح فهو ابن الله. عرشه يدوم إلى الأبد. ودمه حاضر دومًا لدى الآب ليشفع من أجلنا. هنا نحسّ أن عب ابتعدت عن أفلاطون، كما عن فيلون. فكلاهما لا يهتمّان بمفهوم الاسكاتولوجيا. يكفي أن نتذكّر ردّة الفعل عند أهل أثينة حين كلّمهم بولس عن قيامة الاموات. ((فلما سمعوا بقيامة الأموات، طفق بعضهم يستهزئون)) (أع 17: 32).
وهكذا بدت لنا عب بمناخها، قريبة من طريقة فيلون المتأثِّر بدوره بالفلسفة اليونانية. فماذا نقول عن الغنوصيّة التي تشدّد على المعرفة الباطنيّة بحيث لا يعود المؤمن يحتاج إلى وحي يصل بالتسلسل الرسولي؟ قبل العودة إلى الرسالة نشير إلى أن الغنوصيّة ارتبطت بالظاهريّة فاعتبرت أن الابن لم يتجسّد حقًا، بل اتخذ ظاهر الجسد. بدا كأنه تجسّد. وفي أي حال، لم يمُت على الصليب. كان انجيل يوحنا ردًا على هذه النظرة حين قال إن من هو الكلمة صار بشرًا، صار من لحم ودم. ونحن لمسناه ورأيناه وسمعناه. وشدّدت عب تشديدًا كبيرًا على بشريّة يسوع هذه، فتحدّثت عن خضوعه، ومحنه، وآلامه وموته.
غير أن الشرّاح وجدوا أمورًا غنوصيّة في صورة يسوع القائد، رأس المسيرة، الذي قاد شعب الله إلى الراحة السماويّة، راحة الله. ففي الفكر الغنوصيّ، يقود وحيُ الفادي النفوسَ أو الشرارات الالهيّة الضائعة في هذا العالم الماديّ، يقودها من هذا العالم إلى عالم النور. ورأى آخرون في عب 2: 11 (المقدِّس والمقدَّسين هم كلهم من أصل واحد)، نظرة غنوصيّة إلى وجود الانفس في السماء قبل أن تدخل في جسد على الأرض. ولكننا نظنّ أن الشرّاح يشدّون بنص عب لكي يتوافق مع النظرة الغنوصيّة التي يفرضونها على النصّ الكتابي. لا ننسى أن الكاتب هو ابن عصره. والفكر الغنوصيّ الذي سيدوّن في القرن الثاني المسيحي، كان قد بدأ في العصر الأول بعد المسيح، بل العصر الأول قبل المسيح، وأثّر حتى على الفكر البيبلي. لهذا، لا نعجب إن استقى الكاتب مقولات كانت ((في الجوّ)) ولكنه حمّلها المعنى الجديد، فما عادت الألفاظ تقود إلى أفكار مجرّدة، بل إلى شخص حي، هو الابن الذي تجسّد وعرف كل ما عرفه البشر ما عدا الخطيئة. وفي ما يخصّ وجود الأنفس في السماء، نجد الجواب في عب 11: 15- 16: فالغرباء والمسافرون على الأرض يُوعدون بسفر إلى عالم سماوي لم يكونوا قد ذهبوا إليه من قبل. فوطن بني اسرائيل في البرية هو مصر. ولكن راحتهم لن تكون في مصر بل في أرض الموعد. كذلك يكون الوضع بالنسبة إلى المؤمنين.
والغنوصية عرفت الثنائية بين الخير والشر، بين النور والظلمة... وهذا ظاهر في انجيل يوحنا. ونحن نجد بعض الميول الغنوصيّة في عب: تقابل الرسالة بين الأرض (تحت) والمناطق السماوية (فوق). تقابل بين هذا الدهر وذاك الآتي. بين عالم وعالم. نقرأ في 2: 5: ((ليس للملائكة أخضع العالم الآتي)). ويشير 6: 5 إلى الدهر الآتي. و9: 26 إلى الأزمنة الأخيرة. هنا نقول إن الثنائية لم تكن محصورة بالغنوصيّة. بل كانت معروفة في الشرق القديم، ولا سيّما في الكتاب المقدس. أما صورة ((القائد)) الذي يسير في مقدّمة شعب الله، فنجد سابقة كافية لها في دور موسى ويشوع اللذين قادا الشعب إلى أرض الموعد. وتبقى بشكل خاص الطريقة التي بها لعب يسوع دور القائد. لا بالمعرفة (غنوسيس)، بل بالآلام، وهذا ما يبعدنا كلّ البعد عن الغنوصيّة.
وما علاقة عب بالاسيانيين وجماعة قمران؟ حين اكتُشفت مخطوطات البحر الميت ، اعتبر شرّاح متحمّسون أن هذه الرسالة ارتبطت بمسيحية متهوِّدة وُلدت في هذا المحيط. بل توجّهت إلى كهنة اسيانيين. ولكن هذا الحماس خبا بسرعة، واتخذ أبعادًا متوازنة حيث تلتقي أفكار عب مع أفكار الاسيانيين: فالمناخ واحد وقد استقت منه عب كما استقت كتابات قمران. هنا نتذكّر أيضًا أن تيارات يهوديّة عديدة ازدهرت في القرن الأول المسيحيّ، وهي لن تنجرّ في تيار واحد إلاّ في نهاية القرن الأول المسيحيّ وبعد خراب أورشليم. لهذا، لا نعجب أن تكون عب ظلّت ملتصقة بمحيطها الذي خرجت منه، وهو محيط يهود اهتدوا إلى المسيح. ونستطيع أن نقول القول عينه عن انجيل متّى، مع أنه تحوّل تحوّلاً جذريًا فانتقل من محيط يهودي منغلق يرفض الذهاب إلى السامريين وإلى أرض وثنية ويكتفي بالخراف الضالة من اسرائيل، إلى محيط مسيحيّ (مت 10: 5- 6) منفتح وصل إلى صور وصيدا والمدن العشر، إلى سورية كلها (مت 4: 23- 25) بانتظار الذهاب إلى جميع الأمم (مت 28: 19)، أي الأمم الوثنيّة.
ونعود إلى مقابلات مع جماعة قمران. عارضت كل المعارضة الجحودَ والارتداد عن الايمان. والمسيحيون ((العبرانيون)) عاشوا عقدة الذنب. تركوا معتقدهم الأول. وهم يستعدون للنكوص، للرجوع إلى الوراء. من أجل هذا كان الكاتب قاسيًا، فهدّدهم باللعنة والحريق (6: 8). وبيّن لهم سموّ كهنوت يسوع وعبادته، فكيف ينحدرون. هم يعيشون في الحقيقة فكيف يعودون إلى الظلّ. كفّر يسوع عن خطاياهم. وهم إذ يعودون عن إيمانهم المسيحي ((يطأون ابن الله وينجسّون دم العهد الذي قُدّسوا به)) (10: 29). فالهول ينتظرهم (آ 31). ونبّهم من ((العرج)) بين معتقد وآخر، بين الكنيسة والمجمع. لا يستطيعون أن يكونوا مع المسيح وضدّه.
عرفت جماعة قمران بُعدًا كهنوتيًا وليتورجيًا خاصًا، وهذا ما جعل أعضاءها يلتحمون التحامًا كبيرًا. لهذا، فالذين تركوها ليتبعوا المسيح، ظلّ في قلبهم حنين إلى ما تخلّوا عنه. ونشير بشكل عابر إلى أن الاسيانيين لم يكونوا يشاركون في شعائر عبادة الهيكل، لهذا غابت من عب الامثلة التي تتحدّث عن الهيكل. نبدأ فنقول إن الاسيانيين لم يرفضوا مبدأ الهيكل، بل هذا الهيكل الحاضر الذي تنجّس بسلالة كهنوتيّة لا تنتمي إلى هارون. وفي ((درج الهيكل)) نعرف أن الله يقود عمليّة بناء الهيكل. ولكن في نظر عب، يبقى هذا الهيكل الظلَّ والصورة تجاه الهيكل السماوي الذي يُنزع منه كل حجاب بحيث يقترب المؤمنون بثقة من قدس الأقداس.
وتحدّثت عب عن الكهنوت .أشارت إلى كهنة لاوي وشعائر عبادتهم. كما إلى عيد كيبور وما يفعله عظيم الكهنة مرّة في السنة عن خطاياه الخاصة وعن خطايا الجماعة. ولكن كهنوت يسوع ليس على رتبة هارون، بل على رتبة ملكيصادق، وهذا ما يبعد عب كل البعد عن النظرة القمرانيّة المتعلّقة بمسيح كهنوتي يتحدّر من هارون.
من أجل كل هذا نقول إن قرّاء عب يمكن أن يكونوا أشخاصًا تركوا جماعة قمران وحملوا بعض أفكارهم. ويمكنهم أن يكونوا من جماعة يهوديّة أخرى. في أي حال، انطلق يسوع من عالم يهودي وما انحصر فيه، بل فجّره وحمّله مفاهيم العهد الجديد حيث تحقّقت النبوءات وصار الانتظار واقعًا في تجسّد الابن. كذلك فعلت عب. انطلقت من مفاهيم العالم اليهودي، فأظهرت أن ما ارتبط بالعهد القديم قد شاخ وعتق وهو على شفا الزوال (8: 13). فلا يَعُد المسيحيون إلى الوراء يطلبون كهنوتًا فخمًا وذبائح متعدّدة. فكاهنم واحد وهو يسوع المسيح. وذبيحتهم واحدة لا غير. هي لا تتكرّر لأنها نالت مرة واحدة غفران خطايا البشرية.
ج- كتابة الرسالة
أولاً: من كتب عب
لا نعرف كاتب الرسالة إلى العبرانيين. فنحن لا نجد اسمه في النصّ. ولكن منذ القرن الثاني، نُسبت إلى بولس. وكانت الكنيسة الانطاكية تقول: رسالة القديس بولس إلى العبرانيين. ووُجدت برديّة قديمة (بردية 46 ، بيتي الثاني) من التقليد الاسكندراني، فاحتفظت لنا بأقدم نص للرسائل البولسيّة. تضمنت هذه البردية عشر رسائل توجّهت إلى الجماعات (لا إلى تيطس، تيموتاوس، فيلمون)، وجعلت عب حالاً بعد روم. أهناك علاقة بين الاثنين؟ أو ربما تكون عب كُتبت إلى مسيحيّي رومة. هذا ما سوف نقوله في النهاية.
اذن، اعتبر الشرق أن عب رسالة بولسية. وذلك منذ القرن الثاني. أما الغرب فتأخّر. غير أننا نجد، في الاسكندرية كما في رومة، في اللوائح القانونيّة الرسميّة التي تعود إلى القرن الرابع وبداية الخامس، أن عب حُسبت بين الرسائل البولسية الأربع عشرة. تارة وضعت في نهاية الرسائل، وطورًا قبل 1 و 2 تم، تي، فلم. وبعد ذلك أدرج اسم بولس في العنوان. ما الذي دفع إلى نسبة هذه الرسالة إلى بولس؟ هناك عدّة عوامل.
هناك أولاً ظهور عبارة ((أخينا تيموتاوس)) (13: 23). نشير هنا إلى أن اسم تيموتاوس لا يظهر سوى في أع وعشر رسائل بولسيّة. يسمّيه بولس ((الاخ)) في 1تس 3: 2 (بعثنا أخانا تيموتاوس)؛ فلم 1 (من بولس ومن تيموتاوس الأخ)؛ 2 كور 1: 1؛ كو 1: 1. ولكن جاء من يردّ بأن تيموتاوس كان أيضًا قريبًا من مسيحيّين عديدين. وهناك ثانيًا البركة والسلامات في 13: 20- 24. فهذا ما يجعلنا قريبين من خاتمة الرسائل البولسية. ولكن أجيب بأن الذي بعث بالرسالة استقى أسلوب بولس وجعل هذه الخاتمة في نهاية عظة حول كهنوت المسيح. ونضيف صيغة الأمر المستعملة في ف 12- 13 التي تجعلنا قريبين من الاسلوب البولسي. وهناك ثالثًا تقارب بين حب 2: 3- 4 الذي ورد في عب 10: 37- 38 وفي غل 3: 11؛ روم 1: 17. هذا ما لا شكّ فيه. ولكن بولس يشدّد على التبرير بالايمان لا بالأعمال. أما عب فلا تتحدّث عن التبرير، بل عن أولئك الذين آمنوا بالمسيح ثم ارتدّوا عنه. حين آمنوا، كانت لهم الحياة. فإن نكصوا كان لهم الهلاك. وهناك رابعًا عناصر لاهوتيّة نجدها في عب كما نجدها في الرسائل البولسيّة. مثلاً، تنازلُ يسوع واتضاعه حتى الموت (2: 14- 18؛ رج فل 2: 7- 8). مجد المسيح ومجد موسى (3: 2- 3؛ رج 2 كور 3: 7- 8). طاعة يسوع (5: 8؛ رج فل 2: 8؛ روم 5: 19). الحجاب أو التكفير (9: 5؛ رج روم 3: 25). تقدمة المسيح أو ذبيحته (9: 28؛ رج 1 كور 5: 7). ابراهيم مثال الايمان (11: 8؛ رج غل 3: 6-9). السعي في الميدان (12: 1؛ رج 1 كور 9: 24). لفظة ((قديسين)) (11: 8؛ رج روم 1: 7). نجيب: لا شكّ في أن هناك تقاربًا، ولكن هناك اختلافات أيضًا.
وما هي الأمور التي تمنع نسبة عب إلى بولس؟ هناك أولاً الاسلوب اليوناني الرفيع الذي يختلف كل الاختلاف عن أسلوب بولس، وهذا ما لاحظه اكلمنضوس الاسكندراني وأوريجانس منذ القرن الثالث. وهناك عبارات معروفة لدى بولس لا نجدها في عب. نشير فقط إلى ((المسيح يسوع)) التي ترد 90 مرة تقريبًا في الرسائل البولسيّة، ولا ترد مرّة واحدة في عب... وهناك ثالثًا، وهذا هو الأهم، المنظور والرؤية. فمنظور بولس ليس منظور عب. إن القيامة عنصر جوهريّ في اللاهوت البولسيّ، ولكنها لا تُذكر سوى مرّة واحدة في عب 13: 20 ،وفي جملة معترضة لا في برهان كما في 1كور 15. مقابل هذا، الموضوع الرئيسي في عب هو المسيح عظيم الكهنة. هذا الموضوع لا يظهر أبدًا عند بولس. أعلن بولس أنه ما تلقّى إنجيله من بشر: الله أوحاه له بيسوع المسيح (غل 1: 11- 12). أما عب فكتبت أن التعليم ((يكفله الذين سمعوه)) (2: 3).
ماذا يكون ردّنا؟ لا شك في أن هناك تعابير بولسيّة لا نجدها في عب. ولكن عب فعلت مثل بولس، فجعلت المسيح في قلب تعليمها، ونظرت إليه في إطار العهد القديم، لأنها تتوجّه إلى جماعة جاءت من العالم اليهوديّ، فما عرفت أن تقطع الرباط، أرادت أن تجعل الخمر الجديدة في زقاق عتيقة (مت 9: 17). ثم، لا شكّ في أن عب لا تتوسّع في موضوع القيامة، بل تشدّد بالاحرى على آلام المسيح وموته. ولكنّها تتحدّث عن تمجيده. كما تتحدّث عن هؤلاء المؤمنين الذين ضحّوا بحياتهم من أجل قيامة أفضل (11: 35). الذين عاشوا على الرجاء مع أنهم لم يروا ما رآه أبناء العهد الجديد. وابراهيم نفسه اعتبر أن الله قادر أن يُنهض حتّى من بين الاموات (11: 19). فكيف تكون قيامة للمؤمنين إن لم تسبقها قيامة يسوع الذي هو قائدنا وسابقنا. أما أن بولس تسلّم انجيله مباشرة من الربّ، فهذا ينسينا أنه تعلّم أكثر ما تعلّم من الجماعات المسيحية التي عاش فيها بعد اهتدائه، فقال مرة بعد أخرى: سلّمت ما تسلّمت (1 كور 11: 23).
لذلك يمكننا القول إن البراهين التي تربط عب ببولس تقابل تلك التي تحاول أن تفصلها عن بولس. أما يمكن أن نقول إننا في المدرسة البولسيّة، كما كان الوضع بالنسبة إلى المدرسة اليوحناويّة. اعتبر أوريجانس أن سكرتير بولس كتب عب. ونسبها ترتليانس إلى برنابا الذي ارتبطت باسمه رسالة دوِّنت في القرن الثاني فأخذت بأسلوب الاستعارة كما فعلت عب. وهناك من نسب عب إلى اكلمنضوس أسقف رومة، أو أبلوس، رفيق بولس في عمل الرسالة (أع 18: 24) الذي كان يهوديًا من الاسكندرية، بليغًا، عارفًا بالكتب المقدسة. هذه الفرضيّة الأخيرة اجتذبت عددًا من الشرّاح.
يبقى أن كل ما نستطيع قوله عن كاتب عب، هو أنه مسيحيّ من أصل يهودي. تلقّى تربية هلنستية عميقة، فعرف المقولات الفلسفية اليونانية. أسلوبه يُشبه أسلوب فيلون ومدرسة الاسكندرية. تعرّف إلى المسيح (2: 3) لدى أشخاص ارتبطت نظرتهم اللاهوتيّة بالتيّار الهليني مع موقفه المتحررّ بالنسبة إلى الارث اليهودي في ما يخصّ شعائر العبادة. شابه اسطفانس (7: 47- 50) في موقفه من الهيكل، وقد يكون حاول أن يربح اليهود المتكلمين اللغة اليونانية (أع 6: 1) إلى نظرته التي عرفها يوحنا حين أراد الغاء ((الغنم والبقر)) (يو 2: 15) من الهيكل. فالهيكل الذي كلّف بناؤه ستًا وأربعين سنة، سيحلّ محلّه هيكل جسد الرب. لا حاجة بعد إلى رمز لحضور الله على الأرض. فالابن الذي صار جسدًا هو حضور الله بالذات. هو في حضن الآب فيخبرنا عن الآب (يو 1: 18).
ثانيًا: أين كتبت عب ومتى
قال الشرّاح زمنًا طويلاً إن عب دوّنت في الاسكندرية. فأسلوبها أسلوب مدرسة الاسكندرية مع فيلون، فيلسوفها اليهودي. ثم إن البردية 46 وُجدت في مصر. ولكن هذا لا ينفعنا في دراستنا للرسالة، لأننا لا نعرف شيئًا عن أصول كنيسة مصر. ثم إن البراهين التي نجدها في عب، والتي تتركّز على الليتورجيا اليهودية وعلى الكهنوت اللاوي، تدفعنا لكي نعتبر أن عب كتبت في أورشليم أو في فلسطين. غير أن معرفة الكاتب بالترجمة السبعينية وإيراده نصوصها ايرادًا حرفيًا، يبعدنا عن هيكل أورشليم وعن نص التوراة العبري. ولكن جاء من يقابل بين كاتب عب واسطفانس الذي كان رئيس الهلينيين في أورشليم. فكلاهما ارتبطا بالكتب المقدسة واحتقرا الهيكل: صُنع بأيدي البشر (أع 7: 48) فكيف يصلح مقامًا لله يجد فيه راحته (آ 49).
في الواقع، يبدو أن الهيلنيين عملوا بالأحرى خارج أورشليم، بل خارج فلسطين. فسفر الاعمال يرينا جماعة اسطفانس في السامرة (8: 4 ي) وفي الطريق إلى غزة (آ 26)، بل في فينيقية وقبرص وأنطاكية (أع 11: 19) وقيريني (آ 20) بانتظار أن يوسّع بولس الرسالة حتى رومة. وجاءت السلامات التي ارتبطت بايطالية (عب 13: 24)، فذكّرتنا بوجود يهود من رومة في أورشليم يوم العنصرة (أع 1: 10). هل هذا يعني أن عب وُجّهت إلى مسيحيين في رومة؟ فالمراسلة متواترة بين اليهودية ورومة كما تقول أعمال الرسل (28: 21). ولكن من أين أرسلت، وقد تكون أرسلت من رومة. ولكن لمن؟
وقبل أن نتوّقف عند الجهة التي أرسلت إليها عب، نطرح سؤالاً يرتبط بالسابق. متى أرسلت عب؟ نستطيع أن نؤكّد بادئ ذي بدء أن الكاتب لا ينتمي إلى الجيل المسيحي الأول، لأنه يرتبط بالذين سمعوا كلام الربّ (2: 3؛ نطق به الرب، ثم ثبَّته لنا الذين سمعوه). والقرّاء (أو السامعون) هم مؤمنون منذ زمن بعيد: تعلّموا منذ وقت (5: 12). وها هم يريدون العودة إلى التعليم الأولي (6: 1). مضت سنوات، لا أيام فقط (10: 32) بعد أن نالوا العماد فكلّفهم ذلك صبرًا على النضال وانتهاب أموالهم. بما أن اكلمنضوس الروماني أشار إلى عب (الرسالة الأولى 36: 1- 5)، في أكثر من مقطع (عب 1: 3 ،5 ،7 ،13)، واستعمل أمثلة الايمان (الرسالة الأولى 10-12 ،17) التي استعملتها عب11 ،يجب أن تكون عب دوّنت حوالي سنة 90 أو قبل هذا الوقت.
أما الشرّاح فيتوزّعون بين سنة 60 وسنة 90. إن كانت عب دُوّنت قبل دمار الهيكل فهذا يعني أنها دوّنت سنة 60. وإن بعد دمار الهيكل ففي سنة 80. فان كان بولس أو أبلوس أو برسلكة دوّنوا هذه الرسالة، فيجب أن يكون ذلك سنة 60 في أبعد تقدير، لأن أحدًا منهم لم يكن حيًا سنة 80. أما إطلاق سراح تيموتاوس (13: 23) الذي هو عنصر تاريخيّ في الظاهر، فليس بعائق تجاه تاريخ متأخر. فتيموتاوس كان شابًا حين التقى به بولس، ويمكن أن لا يكون مات سن 80.
الاشارة الرئيسية التي تجعلنا نقول إن عب دوّنت سنة 60 تقريبًا، هي أنها لا تقول شيئًا عن دمار الهيكل (سنة 70) وهو أمر أشار إليه لو 21: 20؛ رؤ 11: 1 ي. فلو وُجد تلميح إلى هذا الحدث، لبدا طرح الكاتب أقوى حين قال بأن يسوع أحلّ شيئًا آخر محلَّ الليتورجيا اليهودية والكهنوت وشعائر العبادة. والواقع أن النص لا يهتمّ أي اهتمام بالهيكل: ربما ليس بالنسبة إليه أهم مكان مقدّس، لأن إله العهد القديم لم يأمر يومًا بأن يُبنى. إذن، لا نستطيع أن نقول إن كان دمار الهيكل دخل في براهين الكاتب. لا فرق إن كان دمِّر أو لم يدمَّر بعد. والعودة إلى شعائر العبادة في الوقت الحاضر (الآن)، لا تبرهن أن شعائر العبادة ما زالت تمارس في الهيكل. رج 8: 3 (يكون له ما يقرّبه)؛ 9: 7 (يدخله مرّة في السنة)؛ 13: 11 (يدخل الحبر المعبد). ولكن يبقى النصّ الاصعب ذاك الذي نقرأه في 10: 1- 2 والذي يتحدّث عن ذبائح تقرّب بغير انقطاع وما زالت تقرّب. إن وجود صيغة الحاضر في كل هذه النصوص لا تعني شيئًا. لأن يوسيفوس الذي كتب العاديات عشرين سنة بعد دمار الهيكل، يستعمل هو أيضًا صيغة الحاضر لا صيغة الماضي.
وما الذي يُسند قولاً يعلن أن عب دوّنت سنة 80 تقريبًا؟ التشديد على إبدال الاعياد والذبائح والكهنوت وموضع العبادة الأرضي، في العالم اليهودي. وهكذا حلّ العهد الجديد محلّ العهد الأول، العهد القديم. ((لأنه، لو كان العهد الأول بغير لوم، لما كان من داع إلى آخر)). كان الكلام الأول حول تجديد جذريّ في نظم اسرائيل. ولكن بعد سنة 70 ودمار الهيكل تبدّلت النظرة: أحلّ المسيح شيئًا آخر ما كان من قبل. فالقديم عتق وشاخ وصار قريبًا من الزوال. فلماذا العودة إليه. ونشير بالنسبة إلى زمن كتابة عب، أن تسمية يسوع ((الله)) بدأت تفرض نفسها في الثلث الأخير من القرن الأول المسيحي. ولكن يبقى أن هذه الاشارة الأخيرة تبقى ضعيفة لأن الاستناد إلى اللاهوت المقارن يبقى ضعيفًا جدًا. وهكذا لا نستطيع أن نجزم في ما يتعلّق بكتابة عب.
ثالثًا: إلى من كتبت عب أو أرسلت
نبدأ يعنوان الرسالة. يرى معظم الشرّاح أن العنوان ((إلى العبرانيين)) ليس من يد الكاتب. ولكنه يظهر في أقدم مخطوط وصل إلينا، البردية 46. كما أنه استعمل حوالي سنة 200 في مصر وفي أفريقيا الشمالية (لم يزاحمه عنوان آخر). إذن يمثّل فرضيّة ترتبط بكتاب يعالج شعائر العبادة في بني اسرائيل.
ونواصل بحثنا في مضمون الرسالة. ماذا نقول عن القرّاء وعن موضع إقامتهم؟ تعكس الرسالة ثلاث مراحل. مرحلتان تنتميان إلى الماضي . والثالثة إلى الحاضر. (1) في البداية، استنار القرّاء (اعتمدوا في المسيح 6: 4). نالت جماعتهم التعليم المسيحيّ من مبشّرين ترافقَ عملُهم مع عدد من المعجزات. واختبروا أيضًا نشاط الروح المقدس ومواهبه (2: 3-4؛ 6: 4 - 5). اكتشف هؤلاء المؤمنون الغنى الديني في العالم اليهوديّ، وهم الذين تربّوا على مطالعة التوراة قبل اهتدائهم وبعده، على ما في أع 2: 42: ((كانوا مواظبين على تعليم الرسل)). كل هذا يفترض أن الجماعة المسيحية التي تسمع العظة أو تقرأ الرسالة، تفهم البراهين وما فيها من تلميحات مرتكزة على الكتاب المقدس وعلى شروح يهوديّة. لهذا، اعتبر بعضهم عب ((مدراش)) (درس وتأمّل) حول مز 95: 110؛ إر 31: 31 - 34. وعرفت هذه الجماعة أيضًا ليتورجيّة شعب اسرائيل فاستطابت المشاركة فيها. (2) بعد ذلك (لا ندري متى)، كانت الجماعة المسيحية ضحيّة اضطهاد فيه العداوة والتعييرات والمضايق (10: 32- 34): نُهبت أموال البعض، ووُضع البعض الآخر في السجن. هذا يفترض أن السلطات المحليّة تدخّلت فجعلت المؤمنين في القيود. هل هناك دور لليهود، كما كان الأمر في أكثر من مرّة (أع 14: 4؛ 14: 16...) مع بولس الذي سيقول في 1 تس: ((اضطهدونا، يمنعوننا أن نكلّم الأمم)) (1تس 2: 15- 16)؟ (3) ساعة دوّنت عب، كانت الأزمة قد مرّت، والاضطهاد توقّف. ولكن ظلّ التوتّر حاضرًا. يئس الناس، تراخوا، تراجعوا أمام الخطر الآتي. فالذين من الخارج يعيّرون المسيحيين (13: 13). والذين في الداخل، أعضاء الجماعة، ما عادوا يريدون أن يفهموا مثل هذا الكلام القاسي (رج يو 6: 60). صاروا بطيئي الفهم. توقّف جريهم. خفّ اجتهادهم (6: 11). صاروا متثاقلين، تراجعوا، فسيطرت عليهم أفكار وأفكار .
ونستطيع أيضًا أن نكتشف في هذه الجماعة حنينًا مفرطًا إلى الجذور اليهوديّة في الاعلان المسيحيّ. فقد أراد بعضهم أن يقفوا عند الارث العباديّ في أرض اسرئيل، ولا يخرجوا منه. هم لم يفهموا بعد التبدّل العميق الذي حمله الله بالمسيح. أجل، كل ما ينتمي إلى العهد القديم، صار باليًا. صار قريبًا من الزوال. ومع ذلك، ما زال هؤلاء يتعلّقون به. بل يبدون مستعدّين لأن يتخلّوا تخليًا تامًا عن الغنى الذي نالوه بالمسيح. فما عادوا يجتمعون مع الإخوة ليشاركوا في العبادة المسيحيّة (10: 25: لا تهجروا الاجتماع). عندئذ قدّمت عب براهينها حول تفوّق المسيح (هو أسلوب يونانيّ، ولكنّنا نجده أيضًا عند المعلّمين اليهود) على موسى بشكل خاص، حول إبدال الذبائح اليهودية والكهنوت اللاوي. ورافق هذه البراهين ارشادات تتوخّى تقديم فهم صحيح للانجيل، وتهديد الذين يتراجعون: الأرض التي شربت المطر (أي تعليم المسيح) تعطي ثمرًا يرتبط يبركة الله، لا الشوك والحسك (6: 7). وهكذا يحذّر الكاتب المؤمنين تحذيرًا قاسيًا، ويُفهمهم أنه من الصعب الحصول على مغفرة لخطيئة اقترفت عمدًا بعد نوال معرفة الحقيقة المسيحيّة. عاد الكاتب إلى الذين قاسوا الاضطهادات في الماضي، فقدّم ثباتهم مثلاً يشجّع فيه الاخوة على المقاومة حتى الدم (12: 11)، وسط عداوة حاضرة، وقد تنمو.
بعد أن عرفنا ما عرفنا عن القرّاء، هل نستطيع أن نحدّد هويّتهم؟ كل الجماعات المسيحيّة في القرن الأول المسيحي، يمكن أن تتوجّه إليهم عب. فالاضطهادُ لاحق الكنيسةَ منذ انطلاقتها في أورشليم ولم يتركها. في أورشليم، استشهد اسطفانس (أع 7: 57- 58) رجمًا بالحجارة، ويعقوب بقطع رأسه (أع 12: 22. وسُجن بطرس ويوحنا وسائر الرسل. وحلّ الاضطهاد بالجماعة الهلينية بعد مقتل اسطفانس (أع 8: 1؛ 11: 19). وفي رومة، مات بطرس وبولس كما قال رؤ 11: 8 (رج أع 12: 1 ي في ما يخصّ موت بطرس). كما كثُر عددُ الشهداء، فذهب بعضهم إلى المنفى، والآخرون قُتلوا (رؤ 13: 10). فلم يبق للقديسين سوى الصبر والايمان.
ذكرنا هاتين المدينتين، لأن الأنظار توجّهت إلى رومة وأورشليم كموضعين أقام فيهما قرّاء عب. بالنسبة إلى أورشليم، نقول إن القرّاء هم يهود صاروا مسيحيين، وما زالوا يحنّون للعودة إلى ديانة الآباء مع ليتورجيّة الهيكل وذبائحه التي كانوا يرونها في أورشليم. إلى هؤلاء كتب مسيحيّ من إيطالية إلى مسيحيّين متهوّدين يعيشون في فلسطين أو في أورشليم، يحثّهم على أن لا يتركوا المسيح. وفي النهاية، يرسل إليهم سلامات ((الذين من إيطالية)).
ولكن هل كان كل قرّاء عب يهودًا اهتدوا إلى المسيحيّة، بدليل معرفتهم بالكتب المقدّسة والنظم اليهوديّة؟ يبدو أنه كان بينهم ((أمم)) أخذ بعقليّة هؤلاء اليهود الذين هدوهم إلى إيمانهم على مثال جماعة غلاطية التي تأثّرت بتعاليم يهوديّة بعد أن بشّرها بولس. لهذا، نستطيع القول إن قرّاء عب جماعة مختلطة: فيها مسيحيون جاؤوا من العالم اليهودي. ومسيحيون جاؤوا من العالم الوثني (أو اليوناني،) والفئتان عرفتا العهد القديم. والدليل على ذلك أن بولس كلّم الغلاطيّين عن ابراهيم، عن سارة وهاجر، مـمّا يعني أن الكنيسة الأولى اعتادت أن تدرّج مؤمنيها في قراءة الكتاب المقدس، شأنها شأن اليهود في المجامع. هذا فضلاً عن وجود وثنيين اعتادوا أن يؤمّوا المجمع. بعضهم سمع، والآخر صار من خائفي الله، أي اقتبل الايمان اليهودي دون الأخذ بالختان.
تحدّثت عب عن شعائر العبادة اليهوديّة، ولكنها لم تذكر الهيكل. فما قيمة أورشليم بدون الهيكل، وما معنى كلام عن المعبد السماوي لا يجد جذوره في الهيكل الذي اعتُبر رمزًا لحضور الله على الأرض. هذا الواقع يدفعنا إلى القول بأن قرّاء الرسالة لا يمكن أن يكونوا مسيحيّي أورشليم وفلسطين. ثم إن ما نعرفه عن مسيحيّي أورشليم، هو أن المسيحيين المتهوّدين في أورشليم عادوا يؤمّون الهيكل (أع 21: 23- 26). فإن توجّهت إليهم عب قبل سنة 70 ،فهم لا يحتاجون إلى توصية تدعوهم أن لا يعودوا إلى ما تركوه. وإن دونّت بعد سنة 70 فكيف يعودون إلى عبادة ذبائحيّة لم يعد معمولاً بها. ثم لا ننسى أن المسيحيين تركوا أوشليم قبل سنة 70 وراحوا إلى الاردن.
وقال بعضهم لكي يتحاشى بعض الصعوبات: أرسلت عب إلى مجموعة خاصة في أورشليم، إلى كهنة اهتدوا إلى الايمان (أع 6: 7). اعترفوا بيسوع فما عاد يُسمح لهم بأن يقدّموا الذبائح. أو إلى مسيحيين متهودّين لم ينضمّوا إلى الثورة على رومة. فهربوا من أورشليم في الستينات وما عادوا يستطيعون أن يذهبوا كل يوم إلى الهيكل. ولكن حتّى مع مثل هذه المجموعات، كيف يأمل مسيحيّ من الجيل الثاني، مسيحيّ ليس من مصاف الرسل، وهو يكتب في الستينات، كيف يأمل أن تُسمع توبيخاتُه أو تؤثّر نصائحه في مدينة يقيم فيها يعقوب، أخو الرب والمحافظ الأمين على الشعائر اليهودية (توفي سنة 62)؟ ولماذا ألّف هذا النصّ في لغة يونانيّة إلى كهنة مسيحيين متهوديّن كانت العبرية جزءًا من الليتورجيا، أو إلى مسيحيين متهوّدين يقيمون في يهوذا ويتكلّمون العبرية والأراميّة؟
نعود هنا إلى عب 13: 23: ((إعلموا أن تيموتاوس أخانا قد أطلق (سبيله). فإن أسرع في مجيئه ذهبتُ معه لأراكم)). ونعود إلى معطيات العهد الجديد: هو لا يقول لنا إن تيموتاوس كان في السجن. كما لا يقول لنا إنه جاء إلى أورشليم. وفي أي حال، فأهل أورشليم لا يعرفون شيئًا عنه. أما مسيحيّو رومة فقد عرفوا تيموتاوس. ففي روم 16: 21 كان مع بولس أول من حيّى المسيحيين في رومة: ((يسلّم عليكم تيموتاوس معاوني)). وإن 2 تم التي أرسلت على ما يبدو من رومة (1: 17)، ساعة كان بولس مسجونًا هناك، قد طلبت من تيموتاوس أن يأتي إلى بولس. قال الرسول لتلميذه: ((إجتهد أن تقدم إليّ عاجلاً)) (2 تم 4: 9). كل هذا يدفعنا إلى فرضيّة تقول إن عب توجّهت إلى جماعة تقيم في رومة. فنحن نعرف أنه وُجد مسيحيون في بوطيول (خليج نابولي)، وبومباي وهركولانو واوستيا (أع 28: 12ي). ولكن رومة وحدها عرفت جماعة مسيحيّة متهوّدة: كان تيموتاوس معروفًا لديها. ثم إن شهودًا عيانًا بشّروها بالانجيل (عب 2: 3)، ومدبّرين معروفين ماتوا هنا في سبيل إيمانهم. إذا كان الكاتب يلمّح إلى بطرس وبولس، فهذا يعني أن جماعة تشرّفت بهذين المدبّرين العظيمين والشهيدين الكبيرين، لا يحقّ لها أن تتراخى أو تتراجع.
ما الذي يوجّهنا في هذه الطريق؟ حين نقرأ أع 18: 2 نفهم أنه وُجد مسيحيون متهودّون في رومة وقد طُردوا في زمن كلوديوس سنة 49 (أكيلا وبرسكلة). لهذا، أيا يكن المكان الذي منه أرسلت عب إلى رومة، فقد وُجد في هذا المكان مسيحيّون أصلهم من رومة، وقد أرسلوا سلاماتهم إلى إخوتهم في مدينة بطرس وبولس. هنا نشير إلى أن عبارة ((يسلّم عليكم الذين من إيطالية)) تعني شيئين: إما الذين يعيشون في إيطالية. وإما الذين أصلهم من إيطالية. فهمَ الكودكس الاسكندراني العبارة في المعنى الأول، فأضاف في 13: 25: ((كُتب من رومة)). ولكن إن فهمنا العبارة في المعنى الثاني، فقد تكون عب أرسلت من أي مكان يقيم فيه إيطاليون، وهم يحيّون إخوتهم المقيمين في إيطالية. فإذا كانت أرسلت من أورشليم أو من فلسطين، نتذكّر أن أع 2: 10 (كُتب سنة 85) يشير إلى مسيحيين من رومة يوم العنصرة. ونقرأ في أع 10: 1 أن الفرقة الايطاليّة أقامت في قيصريّة حوالي سنة ،40 وقد يكون هذا الخبر تاريخيًا.
في 10: 32-34 لـمَّحت عب إلى عذابات قاستها الجماعة في الماضي، وإلى القيود ونهب الأموال. كل هذا يتّخذ معناه الحقيقي إن كانت عب وجّهت إلى رومة سنة 80 ،لأن المسيحيين كانوا قد اضطهدوا هناك بشراسة، على يد نيرون، سنة 64-68 ،ومات في هذا الاضطهاد بطرس وبولس. والكلامُ الذي وجّهه الكاتب إلى قرّائه بأنهم لم يقاوموا بعد حتى الدم (12: 4)، يعني أننا قبل سنة 90 ، ساعة انطلق رجال الامبراطور دوميسيانس في تحرّياتهم حول الديانات الشرقيّة. في ذلك الوقت صارت حياة السيحيين في خطر. هنا نعود إلى خلفيّة سفر الرؤيا.
هناك توازيات بين رسالة بولس إلى رومة التي دوّنت سنة 58 ،وبين الرسالة إلى العبرانيين. وهذا نفهمه إن كانت الرسالتان دُوّنتا من أجل جماعة واحدة مع فارق عقدين أو ثلاثة عقود من السنين. فإن روم تتفوّق على سائر الرسائل البولسيّة في نظرتها إلى العالم اليهوديّ. وهي تستعمل عددًا من الألفاظ الليتورجيّة اليهوديّة (الختان، روم 3: 1-12، المسيح كفّارة، 3: 25 ،ذبيحة حيّة، 12: 1 ،وخدمة بولس هي قربان. 51: 16). تحدثت روم 12: 10 عن ((بروهيغومانوي)) (أي المدبّرين الأوّلين) حيث يحسب الواحد الآخرين خيرًا منه. وعادت عب 13: 7 إلى ((هيغومانوي)) الجماعة الذين كانوا مثالاً بايمان قادهم إلى الموت (في أيام نيرون). ويتحدّث 13: 17 عن الرؤساء الحاليين الذين ((يسهرون على نفوسهم)). أما رسالة اكلمنضوس الأولى (21: 6) التي كتبت من رومة سنة 96 ،فتطلب من المؤمنين أن يكرموا ((رؤساءنا)). وهناك توازيات أيضًا بين عب و1بط التي دوّنت في رومة (مناخ الاضطهاد هو هو).
أما البرهان الأهمّ في جعل عب تُرسَل رومة، فهو أن هذه الكنيسة عرفت الرسالة إلى العبرانيين قبل غيرها من الكنائس. سبق فقلنا إن رسالة اكلمنضوس الأولى التي دوّنت في رومة بعد عب، تورد مقطعًا من هذه الرسالة. وفي القرن الثاني، كتب يوستينوس من رومة فدلّ أنه يعرف عب. هذه الرسالة بما فيها من توبيخ، قُبلت في رومة بدون حماس، وهذا ما يفسّر موقف الكنيسة تجاه وضع عب القانوني. مع أن الاسكندرية وأنطاكية تأخّرتا قرنًا من الزمن عن رومة لتعرفا عب، إلاّ أنهما قبلتاها بسرعة ونسبتاها إلى بولس. أما رومة فلم تأخذ بهذا الموقف، ولم تجعل عب بين الرسائل البولسيّة. أترى عرفت رومة أن عب ليست من يد بولس، بل دوّنها معلّم من الجيل الثاني المسيحي. فمن يكون هذا ((المعلّم)) (وان كان جديرًا بالاحترام) تجاه العمودين بطرس وبولس (اكلمنضوس الأولى (5: 2- 7). إذن، كان تردّد. ولكن الجدالات حول الثالوث بدّلت المعطيات لا سيّما وأن عب 1: 3 مهمّة جدًا لتقديم البرهان عن لاهوت المسيح ضد الاريوسيين. عندئذ فُرض الرأي القائل إن بولس دوّن عب، في الكنيسة الجامعة حوالي سنة 400، وهكذا اعتبرت عب الرسالة الرابعة عشرة بين الرسائل البولسيّة.
من أجل هذا، نعتبر أن عب كُتبت إلى أهل رومة، وتوجّهت إلى جيل جاء بعد ذاك الذي تسلّم روم، وسبق الذي تسلّم رسالة اكلمنضوس الأولى. هكذا نستطيع أن نكشف رسمة سريعة لكنيسة ستلعب دورًا كبيرًا في تاريخ المسيحيّة.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM