مدينة الملك العظيم

مدينة الملك العظيم
المزمور الثامن والاربعون

1. المزمور 48 هو مزمور يتلوه الحجّاج ليشكروا الرب عن الزمن الذي قضوه في المدينة المقدّسة. يذكرون فيه أورشليم، بعد أن خلّصها الرب من خطر كان يحدق بها. فأورشليم عزيزة على قلب كل إسرائيلي وهي المدينة المقدّسة التي اختارها الرب لسكناه فأعطاها طابعًا الهيًا مقدّسًا. ولكن شعب الله نسي أن عظمة أورشليم تأتي من اختيار الله لها، لا بارتفاع أبراجها وحصونها (ستسقط سنة 587 بيد نبوخذ نصر). هذه المدينة ينشدها الشعب ويقوم بطواف (يش 316- 7؛ نح 12: 427) حولها، حول أسوارها وأبراجها (نحميا 6: 15- 16). ويتذكّر التقاليد التاريخيّة والنصوص النبويّة التي تتحدّث عنها ويعطيها أبعادًا معاديّة. فأورشليم قد هدمت وزالت (نحن بعد الجلاء) ولم يعد من وجود للملك وللهيكل. فما بقي منها إلاّ هذه الليتورجيا في هيكل صغير (لا يعرف ضخامة هيكل سلمان) ولكن حضور الرب في شعبه يجعل الهيكل عظيمًا والليتورجيا فخمة.

2. مدينة الله جميلة وقويّة لا تقهر.
القسم الأول (آ 2- 4): ينشد المرتّل الله العظيم في مدينة صهيون.
القسم الثاني (آ 5- 8): يروي حدثًا من حياة أورشليم: حاصرها المهاجمون فإذا الرعب والفرار.
القسم الثالث (آ 9- 12): ينشد المرتّل نشيد الشكر الذي أنشدته المدينة المقدّسة لتعبّر عن سعادتها يوم نجّاها الرب.
القسم الرابع (آ 13- 15): يدعو المرتّل الحجّاج إلى طواف العيد حول أسرار أورشليم.

3. نشيد يُرفع لمجد أورشليم. يبدو أن كلمة أورشليم كانت محلّ كلمة "الرب" في الآية الثانية، فحذفها أحد الكتّاب (بعد خراب المدينة سنة 587 ق. م) ليمنع أي تماثل بين الله والمدينة المقدّسة. ولكن هذا لا يعني أنه إن قُهرت المدينة يكون قد قُهر الله. يمكن أن تدمّر المدينة والهيكل، ولكن الله يبقى مع شعبه، فيصبح شعبه بهجة الأرض، وإليه يعود كل مجدها. الأرض تعني أرض الميعاد، وعاصمتها أورشليم. ولكنّها تعني أيضًا الأرض كلّها والرب ملكها وأورشليم عاصمته. أقصى الشمال يعني أولاً القسم الشمالي من جنوب صهيون حيث يبدو الهيكل كحصن من حصون المدينة. ويعني ثانيًا مسكن الآلهة على جبل الشمال أي جبل حرمون (أش 14: 13؛ حز 28: 14- 16). والملك العظيم لم يعد ملك بلاد ما بين النهرين (مز 46: 3؛ 94: 3؛ ملا 1: 14)، بل الله الذي يقيم على جبل صهيون، ويحميه من كل خطر (أش 33: 16) لأنه الحصن الحصين. الله هو الملك العظيم القابض بيده على أقصى الشمال، الجالس على عرشه، في جبله المقدّس (أش 2: 2، مي 4: 1). يسكن أورشليم فيجعل جبلها أعظم الجبال من خلال حبّ الله العجيب لمدينته.
يمكن الشعب أن يرجع بالذكرى إلى يوم تحالف الآراميون والافرائيميّون على أورشليم، (2 مل 16: 5) أو يوم حاصرها الملك سنحاريب (4 مل 18- 19). ولكننا نفهم هذا النص على ضوء تدخّل الله في نهاية الأزمنة، فنرى في حدث خلاص المدينة خلال هذا الحصار، رمزًا لكل نعم الخلاص التي منحها الله لمدينة صهيون. ويصوّر الكاتب الهجوم السريع والهرب الأسرع: أخذتهم الرعدة، وتوجَّعوا كالتي تلد. نجد في آ 8 مقابلة بين تحطيم الله لسفن ترشيش (وهي رمز العظمة التي تقف بوجه الله) برياح شرقية (خر 14: 21= الريح الشرقيّة تنجّي شعب الله في البحر الأحمر، وتُهلك أعداءهم) وتحطيم أعداء أورشليم. إن المشتركين بهذه الليتورجيا لم يروا الحدث، بل سمعوا خبره. رأوا المدينة بعد أن بُنيت من جديد ورُفعت أسوارها، فتذكّروا اختيار الله الأبدي لها، وتأكّدوا ويتأكّدون أن الله سيثبّت مدينته إلى الأبد، فيعمّ الفرح الأرض والسكّان، لأن الله لا يُقهر وهو يحامي عن شعبه مدينته وأرضه (بنات يهوذا تعني مدن يهوذا التي شاركت أورشليم فرحتها).
يبدأ التطواف بما فعله الله لها. وهكذا تجمع الليتورجيا في عبادة واحدة الذين كانوا هنا وماتوا، الذين هم حاضرون الآن، الذين سيأتون ولم يولدوا بعد، تجمعهم ليعيشوا معًا أحداث تاريخ الخلاص وأعمال الله العظيمة. يقولون: الله يقودنا ويهدينا. في الماضي كان تابوت العهد يسير في المقدّمة، واليوم يمسك الربُّ شعبه بيده ويقوده في طريق الخلاص المنتظر.

4. أن يحمل الله الخلاص تجاه صهيون، حدث نعيشه واقعًا نحن المسيحيين أيضًا، لأن تاريخ الخلاص في العهدين تاريخ واحد. أورشليم أدخلت المسيحيّين إلى سرّ المسيح ويبقى دورها حاضرًا في حياتنا اليوم. أورشليم العليا هي أمنا (غل 4: 26) ولها مواعيد الله (مت 16: 18). والمسيحي المؤمن إيمان ابراهيم، ينتظر المدينة الثابتة على أساساتها، لأن الله مهندسها وبانيها.

5. أنشدوا أن الله عظيم، ولكنهم لم يقولوا مدى عظمته. فلا أحد يستطيع أن يحدّها. لهذا زاد المرتّل: "وجدير بكل مديح"، لأن لا حدود لهذه العظمة. ذاك هو معنى كلام النبيّ. فالربّ وحده نمجّد ونمدحه إلى أبعد إمكانيات المديح بسبب عظمة طبيعته اللامحدودة واللامدركة، واعترافًا بالجميل لأجل الخيرات التي أغدقها علينا. فقد أراد، وتمتّ إرادته كله. "في مدينة إلهنا وعلى جبله المقدّس". ماذا تقولون؟ هذا الإله العظيم جدًا، الذي يستحقّ كل هذا المديح، هل تحصرون مدائحه في مدينة واحدة، في جيل واحد؟ لا، أجاب النبيّ. ولكنّي أتكلّم بهذه الطريقة، لأننا عرفنا عظمة الله قبل أن تعرفها سائر الشعوب.
إن العبارة "في مدينة إلهنا" تدلّ على أن عظمة المعجزات التي تمّت في هذه المدينة، جعلت قدرة الله تسطع في مجده. فهو الذي يحيط بحضوره أسرى ضعفاء. هو الذي رفعهم. وهو الذي خلّصهم.
وأعلن الملك النبيّ ما يكوّن كرامة أورشليم ومجدها وتاجها. هي مدينة الملك العظيم. ويبرّر حقوقها بأن تستحقّ مثل هذا اللقب، فيضيف: "الله معروف في منازله". أي إن عناية الله تحيط بالمدينة من كل جهة. هي لا تكتفي بأن تسهر عليها، بل تمدّ حمايتها إلى كل بيت من بيوتها. نحن لا نحتاج إلى هذه النتيجة الخاصة التي هي ثمرة العناية لكي نعرف الله، ولكن النبيّ يفيد منها لكي يكشف "لخصوم" الله عظمة قدرة الربّ.
"مما سمعناه رأيناه". ماذا سمع النبيّ وماذا رأى؟ رأى أن حماية الله ألبست المدينة قوّة منعت عنها كل تدمير. وما هو أساس مؤكّد، وقوّة لا تُقهر، ليس سندًا من البشر ولا عونًا من الجيوش. إذن، ما هو نوع هذا العون؟ حماية من عند الله. (يوحنا فم الذهب).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM