الفصل الرابع :الشعب اليهودي من بداية القرن الثاني إلى أيامنا

 

الفصل الرابع
الشعب اليهودي
من بداية القرن الثاني إلى أيامنا

نودّ هنا أن نلقي نظرة لصريعة إلى الشعب اليهوديّ، بعد أن سحقت رومة في الدم ثورة ابن الكوكب (بركوخبا) سنة 135. ترك اليهود أورشليم حيث مُنع تعليم الشريعة اليهوديّة، ولكنهم انسحبوا بترتيب إلى الجليل وظلّوا هناك حتى سنة 425 قبل الانطلاق إلى بابل حيث ظلّوا حتى سنة 1200.
بدأوا فنظمّوا صفوفهم في مجمع يبنة أو يمنية حوالي سنة 90. اتفقوا على قانون الكتاب المقدّس أو لائحة الأسفار القانونيّة. فأخذوا بقانون فلسطين (في اللغة العبريّة)، وتركوا قانون الاسكندرية الذي يتضمّن الترجمة السبعينيّة اليونانيّة، كما يتضمّن سبعة أسفار وبعض المقاطع التي لا نجدها في النصّ العبري الفلسطيني. لم يعد من كهنوت بعد دمار الهيكل ولم تعد من ذبائح. الصادوقيون المرتبطون بعظيم الكهنة زالوا، فما بقي سوى الفريسيّين الذين لعبوا دورًا كبيرًا في جمع التقاليد والنصوص لئلا يضيع أي شيء من الغنى الذي حملوه منذ ألفي سنة تقريبًا.
بعد سنة 135، لاحق الحاكم الروماني المعلّمين، وحرّم الممارسة الدينيّة اليهوديّة. وسُجن القائد الروحي الكبير رابي عقيبة في قيصريّة وعُذّب مع عدد كبير من زملائه وتلاميذه. غير أن هذا الاضطهاد لم يدم طويلاً. ففي أيام انطونين التقي، امبراطور رومة (138- 161)، تحسّن وضع اليهود ومعاملتهم. فاجتمع السنهدرين أو المجلس الأعلى في أوشه في الجليل، وجعل من سمعان بن غملائيل "بطريركًا" على اليهود. واعترفت رومة بسلطته الدينيّة كما أقرت بسلطة السنهدرين القضائيّة. عمليًا نحن أمام حكم يهوديّ يعقد جلساته في الجليل في بيت شعاريم أو صفوريّة. وكانت في تلك الحقبة نهضة ماديّة وروحيّة، فبُنيت المجامع في كفرناحوم وبيت ألفا وكفربرعم وميرون وكورزين وأريحا وغزة... كما دوّنت في ذلك الوقت المشناة (تكرار الشريعة). ودوّنت التفاسير الملحقة (توسفتا، المضافة) أما المعلّمون فهم "ردّادون" (تنائيم). 148 منهم ذُكرت أسماؤهم. في القرن الرابع، كانت مصادمة مع الحامية الرومانيّة فدمّرت مراكز طبرية وصفورية واللدّ. وبدأ المركز الفلسطيني بالانحطاط وكان اضطهاد دفع إليه تيودوسيوس الثاني.
وننتقل من فلسطين إلى بابل. منذ القرن السادس ق م، ذهب اليهود إلى أرض بابل، وما عتّموا أن كوّنوا "مستوطنات" حيّة وغنية، فنعمت بمساندة السلطة حتى سنة 211 البرتيين (أو الفراتيّين)، وحتى سنة 642 مع الفرس الساسانيّين، وبعد ذلك مع الخلفاء العرب. فاعترفوا جميعًا بسلطة الحاكم اليهودي المستقل "رئيس جلوتا" أو "رئيس" أهل الجلاء أي أهل المنفى. سمّيت تلك الحقبة الحقبة التلموديّة. هناك نجد العدد الكبير من اليهود الذين شكّلوا دولة ضمن الدولة: نهارديا، نصيبين... وكانت المدارس التي سمّيت "أكادميات" (يشيبوت) فعلّمت الشريعة اليهوديّة. أما آخر هذه الفترة فسمّيت حقبة "جيونيم" أي رؤساء هذه الاكادميات الذي سيلعبون دورًا كاد يسيطر على دور "رئيس الجلاء".
سنعود إلى كتابة التلمود فيما بعد، مع "القوّالين" (اموارئيم) بعد "الردادين" (تنائيم). ودوّنت الغمارة فشكّلت مع المشناة، التلمود مع جميع الأسئلة والأجوبة.
نشير هنا إلى حركة يهوديّة في بلاد الخزر (شمال بحر قزوين) سيطرت على الحكم ولم تذهب إلى الانحلال إلاَّ بعد الهزيمة التي مناها بها الأمير الروسي باروسلاف سنة 1083. امتلأت البلاد بالجوامع حتى مجيء التتر سنة 1237.
وامتدّ اليهود إلى أفريقيا الشمالية، كما وصلوا إلى اسبانيا، فكان لهم عهد ذهبيّ مع العرب. لا ننسى أن ابن ميمون هو من اسبانيا وأنه طبع الفكر اليهودي بالطابع العقلاني. ولكن مع "الموحدين" بدأ الاضطهاد، فهرب اليهود إلى أوروبا وهناك توسّعوا حتى وصلوا إلى روسيا. ولما اضطهدوا في أوروبا عادوا إلى السلطنة العثمانيّة فشكلّوا "سفراديم" (أي اليهود الذين أصلهم من اسبانيا). كما بدأوا يعودون إلى الأرض المقدّسة: في عالم الزراعة في الريف، في عالم الصناعة ولاسيّما الحياكة في المدن.
نتوقّف هنا بعد هذه المسيرة الطويلة للشعب اليهودي الذي كان في الواقع فئيتن. الفئة الأولى تضمّ اليهود الذين ولدوا من أمهات يهوديّات. والفئة الثانية، اليهود المرتدون. وقد كانت ارتدادات عديدة إلى الشعب اليهودي، ولاسيّما في الشرق مع مملكة حدياب، ومع منطقة الخزر. كما أن عددًا كبيرًا من القبائل (كابيليا) في جبال الجزائر ارتدت إلى اليهوديّة قبل أن يردّها الاسلام. تيار روحي طويل النفس، لا يزال حاضرًا حتى اليوم. ولكنه اعتبر أن تركيزه في أرض فلسطين من جديد يعطيه غنى لم يكن له حين انتشر في بلدان العالم من فرنسا إلى هولندا إلى انكلترا والولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين واوستراليا... أظنّ أنه حين يفسّر التوراة بشكل حرفيّ ليطبقها على الحياة السياسيّة اليوم، يضعف من موقفه كما يقلّل من قيمة التوراة التي ليست كتابه وحده، بل كتاب الشرق كله. وحين يريد أن يعزل نفسه في مجبر (غيتو) كما في القرون الوسطى، يحكم على نفسه بالاختناق والموت. فالتفاعل مع الشعوب والأمم هو الذي يغني الجماعات البشريّة.
ذاك هو تاريخ الشعب اليهودي الذي حمل رسالة عبادة الإله الواحد في العالم. حمل رسالة ستأخذ منها المسيحيّة ولكنها تجدّدها تجدّدًا تامًا وتفتحها على جميع الشعوب والبلدان والحضارات. وهي رسالة استقت منها تيارات واسعة في هذا الشرق. وهو أدب توراتي يتدارسه العلماء في جميع أنحاء العالم فيقابلونه بسائر ما اكتُشف هنا وهناك من مكتبات. فمتى نتعرّف نحن على تراثنا، متى نتعرّف على تاريخنا وتاريخ كل شعب من شعوب الشرق، علّنا بذلك نعرف أن نتعايش في عائلة واحدة تكون المساواة مبدأنا والمحبة نورنا والايمان بالله الواحد أساس حياتنا؟

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM