الفصل الثالث: من دمار الهيكل الأول إلى دمارالهيكل الثاني

 

الفصل الثالث
من دمار الهيكل الأول
إلى دمار الهيكل الثاني

بين سنة 587 ق. م ودمار هيكل سليمان على يد نبوخذ نصر البابلي، وبين سنة 70 دمار الهيكل الثاني الذي جمّله هيرودس وخلفاؤه. بين ذهاب الشعب العبراني إلى منفى بابل، وبيت تشتّت اليهود مرّة أولى بعد سقوط أورشليم على يد تيطُس ووسباسيانس، ومرّة ثانية مع الامبراطور ادريانس، مرّت حقبة هامة من سبعة قرون جعلت الكهنة واللاويين والحكماء يعودون إلى تراثهم الديني، يدوّنونه وهم ينتظرون ذاك الداود الجديد الذي سيكون بحسب قلب الرب. وسيأتي يسوع. ولكن مسيرتهم البشريّة تتابع طريقها وهم ما زالوا ينتظرون.
جاءت الجيوش الأشوريّة من بلاد الرافدين إلى بلدان سورية ولبنان وفلسطين مع تغلت فلاسر الثالث، الذي اجتاح المنطقة ودمّر دمشق سنة 732. وتبعه شلمنصر الخامس الذي حاصر السامرة واستولى عليها. ولكن سرجون الثاني الذي تسلّم الملك سنة 722- 721 هو الذي دمّرها وأجلى سكانها وجعل محلهم أناسًا جاء بهم من بابل ومن حماة. وهكذا زالت مملكة إسرائيل من الوجود. أصبحت مقاطعة أشوريّة بانتظار أن تصبح مقاطعة بابليّة ثم فارسيّة ثم يونانيّة، لاجيّة، سلوقيّة، رومانيّة، بيزنطيّة... وهرب من هرب من السكان إلى أورشليم حيث عوملوا كجيران (ج ر في العبريّة). والذين بقوا في السامرة وحولها، اندمجوا بالسكان الوثنيّين وأضاعوا إيمانهم فصاروا على التوالي أشوريّين مع الآشوريّين، بابليّين مع البابليّين، يونان مع اليونان حتى سمّيت السامرة سبسطية باسم أوغسطس الامبراطور الروماني الأول. وظلّت فئة من المؤمنين تحاول أن تنغلق على ذاتها حتى صارت اليوم حول نابلس أقليّة قليلة لا يصل أفرادها إلى الألف نسمة.
لم تسقط أورشليم بيد الأشوريّين مع أنهم حاصروها. وذلك لأن الوباء تفشّى في الجيش المهاجم. ولما عاد سنحاريب إلى بلاده، قتله ابناه ليستوليا على العرش. غير أن مملكة يهوذا صارت صغيرة جدًا، فركّزت اهتمامها على الاصلاح الدينيّ الذي تمّ مع حزقيا (716-687) ثم مع يوشيا الذي توفيّ في معركة مجدو سنة 609، ساعة أراد أن يصدّ الجيش المصري بقيادة نكو الثاني الذاهب لمساندة الأشوريّين ضدّ البابليّين باسم سياسة توازن القوى. وفي سنة 597، جاء نبوخذ نصّر فوضع يده على أورشليم. سلب ما سلب، أخذ الملك أسيرًا، وأخذ معه عددًا كبيرًا من الوجهاء والصنّاع ورجال الحرب. ولما ثارت أورشليم بدفع من مصر، كانت عاقبتها الدمار سنة 587. لم يعد من ملك. أحرق الهيكل موضع حضور الله. دمّرت الأسوار فصارت مدينة الله مدينة مباحة. وسوف تنتظر مئة سنة ونيّف حتى يعاد بناؤها على يد نحميا والعائدين من السبيّ.
عاد أولا العائدين من السبي سنة 538 وأرادوا إعادة ملكيّة داود مع زربابل. ولكن يبدو أنه خسر دوره فحلّ محلّه يشوع عظيم الكهنة (زك 3: 1) الذي قيل فيه ما قيل في داود: "هذا ما قال الرب القدير: إن سرتَ في طرقي وعملت بأوامري، فأنت تحكم بيتي وتسهر على دياري" (زك 13: 7). فمنذ دمار أورشليم، لم تعد من سلطة سياسيّة تحاور الحاكم الأجنبي في شأن الشعوب المقيمة في الشرق. فالدولة الحاكمة ترسل موظفًا من قبلها يراقب الامن ويؤمّن وصول الضرائب إلى عاصمة الامبراطوريّة. أما المتكلّم باسم الشعوب المغلوبة على أمرها التي ستصبح أقليّات حتى في زمن العثمانيّين، فهو رئيس السلطة الدينيّة. كان عظيم الكهنة في ما قبل المسيح، وسيصير أسقف المدينة مع المسيحيّة.
تسامح الفرس مع الشعب اليهوديّ، فسمحوا لهم بالعودة. فعاد الفقراء لا الأغنياء الذين صار بعضهم أصحاب مصارف ومتاجر مشهورة. عاد الكهنة وعادت قلّة من اللاويّين بعد أن خسرت مكانتها في الاصلاح الجديد الذي بدأه يوشيّا سنة 627. ولكن هؤلاء العائدين نفحوا في ما سمّي "شعب الأرض"، الشعب الذي ظلّ يعمل في ظلّ الحاكم الأجنبي، روحًا جديد، فبنوا هيكلاً جديدًا لا يمكن أن يقابل إطلاقًا بهيكل سليمان. اعتبروه "كلا شيء" (حج 3:2). ولكن سيأتي هيرودس الكبير في نهاية القرن الأول ق. م ويعمل فيه قرابة أربعين سنة ليصبح قبلة الأنظار. غير أنه سيدمّر على يد الرومان سنة 70. يل يُقتلع من مكانه فلا تبقى إلاْ الأساسات التي صارت حائط المبكى اليوم، لأن الامبراطور ادريانس بنى مكانه هيكلاً لزوش إله الكابتول في رومة، وبدّل اسم أورشليم فصارت "أيليا كابيتولينا". بل أعطى البلاد كلّها اسمًا جديدًا استقاه من شعب الفلسطيّين، سماها فلسطين حوالي سنة 135 ب. م.
ومرّ بعد الفرس جيش الاسكندر الكبير. ويقول التقليد إن رئيس الكهنة استقبله فكان السلام لأورشليم. أما أهل السامرة الذين ثاروا على الحاكم اندروماكوس وأحرقوه حيًا بالنار، فقد كانت لهم آخرة تعيسة وهرب الوجهاء، فاختبأوا في مغارة أشعلت النار على بابها فاختنق كل من فيها. وظلّت المغارة مقفلة حتى سنة 1962 حيث وُجدت مدونات هامّة جدًا.
تسامح اللاجيّون المصريون الذين حكموا فلسطين بعد الاسكندر. ولكن في بداية القرن الثاني ق م، انتقلت فلسطين ومعها البقاع اللبناني وامتداده إلى حكم السلوقيّين في أنطاكية. فقامت ثورة يهوديّة على أنطيوخس الرابع ابيفانيوس الذي أراد أن يكون جميع سكان ممكلته متساوين حتى على مستوى العبادة، فمنع اليهود من ممارساتهم الدينيّة ولاسيّما الختان. قام بهذه الثورة متتيا وأبناؤه الذي سيسمّون المكابيّين أو المختارين. وبعدهم جاء الحشمونيون، فنالت البلاد بعض الاستقلال. ولكن المكابيّين لم يكتفوا بالحرب من أجل الحريّة الدينيّة، بل أرادوا أن يصيروا ملوكًا. لهذا السبب تركهم "الحسيديم" أي جماعة الاتقياء. فصاروا الفريسّيين الذي انفصلوا عن الحرب ولكنهم ظلّوا يعيشون في قلب المجتمع يعلّمونه كيف يحافظ على نقاوته وسط عالم وثنيّ. كما صاروا جماعة قمران أو الاسيانيّين الذين أقاموا عند البحر الميت وكانت نهايتهم سنة 69 ب م، ساعة مرور الجيوش الرومانيّة التي زحفت على أورشليم واحتلتها سنة 70.
ولكن الخلافات كانت عديدة على مستوى السياسة كما على مستوى الدين. من يكون حاكم البلاد؟ أرسطوبولس أم أخوه هركانس الثاني؟ حسم بومبيوس القائد الروماني سنة 63 ق م المسألة، فأزاح الاثنين وجعل من يهودا أو أرض اليهود (اليهوديّة) مقاطعة رومانيّة. وعلى مستوى عظيم الكهنة، كانت صراعات على هذا المركز بالوساطة والمال والقوة والقتل، بحيث صار عظيم الكهنة لعبة في يد الحاكم. بل إن الحاكم احتفظ له بثيابه الكهنوتيّة رهينة وما كان يعطيه إياها إلاّ في زمن العيد، على أن تعود إلى "خزنة" الحاكم حالا بعد العيد. وكان صراع بين الصادوقيّين والفريسيّين، بين أصدقاء العرش الذين كانوا السبب في قتل الآلاف من الفريسيّين. وبين أصدقاء الشعب وقد رافقوه في المجامع يوم السبت بل في حياته طوال الأسبوع على مستوى الوصايا التي وصلت إلى 613 وصيّة منها 248 فريضة (إيجابية، ما يجب على الانسان أن يعمل) و365 أمرًا محرما (سلبية، ما لا يجب أن يعمل).
الفريسيون يقاومون الاحتلال الروماني بموقف رافض وإن دفعوا الضرائب في الوقت الحاضر. كما يقاومون بالوعظ والكتابات التي وصل إلينا منها الكثير. أما الصادوقيون فيتعاملون مع الحاكم سواء السلوقي أو الروماني. وقد أخذوا بعادات السلوقيّين من لغة وحضارة وألعاب على مثال الألعاب الاولمبيّة. أما المقاومون في الحرب فهم الغيورون الذين نبتوا بشكل خاص في الجليل. واشتهر منهم أصحاب الخناجر الصغيرة (سيكا) الذين قتلوا العديد من الأشخاص واختفوا عن الأنظار. هذا الاتجاه العنفيّ والحربيّ هو الذي يسيطر شيئًا فشيئًا فتعود البلاد كلها إلى حرب تؤخذ فيها أورشليم. ثم إلى حرب ثانية مع ابن الكوكب الذي اعتبروه المسيح المخلّص، الآتي ليحرّر شعبه من حكم الرومان. ولكن حركة العنف هذه قادت البلاد إلى الدمار، والشعب اليهودي إلى المنفى. كان قد بدأ تشتّته منذ زمن بعيد، ولكن في نهاية القرن الأول المسيحي صار المشتّتون (أو المشتات) يشكلّون عشرة أضعاف سكان اليهوديّة والجليل. فتوزعوا في كل المدن ولاسيّما انطاكية والاسكندريّة ورومة، وكانت لهم مجامع في كل حوض البحر المتوسط، بل في العالم الشرقي، في بابل وغيرها من المدن.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM