الفصل الرابع والعشرين:الكنيسة ومسيرتها الايمانيّة

الفصل الرابع والعشرين
الكنيسة ومسيرتها الايمانيّة
ف 14-17

1- موضوع 14-17 في مجمل الانجيل
من الصعب أن نحدّد تحديداً دقيقاً في انجيل متّى ف 4 1-17. فما نجده في 13: 53-17: 27 يبدو قريباً من المراجع القبل إزائية. وهذا ما تدلت عليه المقابلة مع مرقس ولوقا. ثم إن الشرّاح يختلفون: هل يربطون خطبة الامثال وخطبة الكنيسة بما يسبق أم بما يلي كلاً من هاتين الخطبتين؟ إذن، علينا أن ننطلق من إشارات خاصة بمتّى لكي نستخلص الهدف اللاهوتي الذي حدّده الانجيلي، ونُظهر أن ف 14-17 تتداخل مع خطبة الامثال (ف 13)، وتفتح الطريق أمام خطبة الكنيسة (ف 18).
أين صرنا في مسيرتنا؟ بعد أن سمعنا كلمة الله في كتاب قال لنا كيف حققّ الطفل يسوع التتمة المسيحانيّة (ف 1-2)، شهدنا ظهور المسيح وتسليمه المهمّة بعد العماد في الاردن (ف 3-4). إن سلطان هذا الرجل الذي عرفنا فيه ملكوت السماوات، قد ظهر في أقواله (ف 5-7) وفي أفعاله (ف 8-9). وفي ف 10 رأينا هذا السلطان العجيب ينتقل إلى مجموعة من الرسل دعاهم يسوع شخصياً لكي يتابعوا رسالته. ولكن بعد نهاية هذه الخطبة، لم يذهبوا إلى الرسالة، بل ذهب هو نفسه فكان موضوع جدال وشكّ (ف 11-12).
هناك سرّ لا بدّ من إيضاحه: ما هو هذا الملكوت الذي دشّنه مجيء يسوع التاريخي، وبماذا يلزمنا؟ ما الذي يطلبه منا؟ ذاك هو معنى خطبة الامثال (ف 13) حيث برزت مجموعة التلاميذ التي أعطي لها أن تفهم. حتى الآن، لم يظهر التلاميذ كمجموعة إلا حين وجّهوا نداء إلى يسوع قبل أن يسكّن العاصفة (8: 25). أما في ف 13، فتدخّلوا ثلاث مرات (13: 10، 36، 51). وفي المرة الأخيرة، ساعة أعلنوا فهمهم للأمثال، تكرّسوا جماعة تميّزت عن الجموع، وتثبّتوا في الرسالة التعليميّة التي سيقومون بها (13: 52). أجل، لم يكن هذا الفهم تأكيدًا باطلاً، بل تسجّل بشكل ملموس في تاريخ إيمانهم. "حينئذ فهموا" (12:16؛ 13:17).
لقد بيّن ف 13 أن نموّ الملكوت يفرض خيارًا حاسمًا على من فهم أنه مدعوّ دعوة شخصيّة. منذ الآن ينكشف حضور ملكوت الله في جماعة يسوع التي اجتمعت شيئًا وشيئًا، التي انفتحت تدريجيًا على واقع الايمان (33:14؛ 16: 16)، التي اكتشفت خطوة خطوة الحريّة التي لها في المسيح (17: 26).
نستطيع أن نعنون هذه المرحلة: نحو إعلان الكنيسة، أو: الكنيسة باكورة ملكوت السماوات. فمتّى يعالج في هذه الفصول (14-17) تكوين الجماعة الكنسيّة تكوينًا متدرّجًا. غير أننا فضّلنا عنوانًا يأخذ بعين الاعتبار أمورًا ثلاثة في وقت واحد: الواقع الديناميكي لملكوت اكتشفناه عبر الامثال. تحرُّكات يسوع العديدة وهو يجتذب تلاميذه على خطاه. تعميق إيمان التلاميذ بفضل مسيرة لها متطلّباتها.

2- البنية الاجماليّة للنصّ
ارتكز بعض الشراح على مختلف تدخّلات التلاميذ والجموع، كما استند إلى تدخّلات خصوم يسوع الذين أجبروه على التراجع ثلاث مرات، على ما يبدو، فاكتشفوا بنية مثلّثة في مت 14: 1-16: 20. فالانجيلي قد أعاد صياغة مجموعة الخبز التي هي معطية مشتركة من معطيات التقليد الازائيّ. هذا التقليد كما يبدو كان في دبتيكا بدرفتين. هذه الرسمة الاصليّة تبقى في أي فرضيّة ممكنة مع أننا نستطيع أن نبيّن أن مر 6: 30-26:8 قد رتّب مواده حسب بنية مثلّثة. ومهما يكن من أمر هذه النظريات، فسنحاول أن نوّسع البحث منطلقين من 53:13 حتى 27:17. ونطرح بنية مختلفة بعض الشيء انطلاقاً من إشارات أدبيّة ولاهوتيّة.
أن نجد في هذه الفصول الاربعة (13-18) مسيرة "ايمان" و"فهم"، فهذا واضح من استعمال هاتين اللفظتين في هذه المجموعة. فـ "الايمان" يُذكر مع لفظة "قليل الايمان" (اوليغوبستوس) في معرض الحديث عن بطرس الماشي على المياه (14: 31) وعن التلاميذ الذين يطرحون سؤالاً حول خبزات نسوا أن يأخذوها معهم (8:16). هذه اللفظة خاصة بمتّى وقد سبق له واستعملها في خطبة الجبل (6: 30: كم بالاحرى يلبسكم أنتم يا قليلي الايمان)، وفي مشهد تسكين العاصفة (8: 26: لم أنتم خائفون يا قليلي الايمان، 4 استعمالات). وتبعه لوقا وحده في استعمال هذه اللفظة (اوليغوبستوس) في 12: 28 (إن كان العشب... فكم أنتم بالاحرى يا قليليّ الايمان).
وشفاء الولد المصروع يشير إلى توبيخ من يسوع: "أيها الجيل غير المؤمن" (مت 17: 17؛ مر 9: 19؛ لو 9: 41). وزاد متى ولوقا: "والفاسق". أما مرقس فشدّد وحده على إيمان والد الولد: "أؤمن. فأعن قلّة إيماني" (مر 9: 24). أما متّى فربط هذا الإيمان بالتلاميذ الذين ما استطاعوا أن يشفوا الولد المصاب بالصرع ("قلّة إيمانهم"، اوليغوبسيتا) كما نجد في 17: 20 حسب نسخة أصلية على ما يبدو. فكل مرّة يشير متّى إلى ايمان التلاميذ في هذه الفصول، فهي مقاطع خاصة به أو هو حوّلها بعد أن تلقّاها من التقليد الإزائي. هـان كان متى (13: 58) ومرقس (6: 6) قد تحدثا عن "لإايمان" (ابستيا) أهل الناصرة، فمتّى أشار إلى الإيمان العظيم (ميغالي بستيس) لدى المرأة الكنعانيّة (28:15).
وبالنسبة إلى "الفهم"، نجد 9 استعمالات لفعل "فهم" (سينياناي) في ف 13-17 (13:13، 14، 15 في رجوع إلى أش 9:6-10؛ ثم 19:13، 23، 51؛ 15: 10؛ 16: 12؛ 13:17). عند مرقس خمس مرات (4: 12؛ 6: 52؛ 7: 14؛ 17:8، 21). وعند لوقا أربع مرات (2: 5؛ 8: 10؛ 34:18؛ 45:24). في مت 15: 10، دُعيت الجموع لكي تسمع وتفهم كما في مر 7: 14. وفي 15: 16 سُمّي التلاميذ "غير فاهمين" (أسيناتوي) في مر 18:7. ولكن متّى وحده (16: 12؛ 13:17) قال لنا: "حينئذ فهم" هؤلاء، ما ظلّ مغلقًا عليهم حتى تلك الساعة.
بعد هذا، نتساءل: كيف نظّم متّى المواد التي تسلَّمها من التقليد؟ هنا نتوجّه نحو يسوع الذي به يرتبط الايمان. ثلاث مرات ابتعد (13:14؛ 15: 16:21: 4) عن خصومه كما سبق له وفعل بعد الجدالات الأولى مع الفريسيين (15:12). ولكننا نحسّ في الوقت عينه أن الناس يتعلقون به ويدخلون شيئًا فشيئًا في سرّه للتعرّف إلى هويّته. فإذا كانت الكنيسة تتكوّن في هذه الفصول، فبسبب علاقتها بيسوع. ففي أربعة أوقات، يسوع هو موضوع اعتراف إيمان. أولاً: "الذين كانوا في السفينة"، حين رأوا يسوع يخلّص بطرس رفيقهم، سجدوا قائلين: "حقًا، إنه ابن الله" (14: 33). هذا القول خاص بمتّى. ثانيًا: هتفت الكنعانيّة: "إرحمني يا ربّ، يا ابن داود"، وسجدت له (22:15، 25). ثالثًا: حين جاء يسوع إلى شاطئ بحر الجليل، ورأت الجموع المعجزات التي اجترحها، اعترفت به ومجّدت "إله اسرائيل" (15: 31). هذان القولان خاصان بمتّى. رابعًا: طرح يسوع نفسه على تلاميذه سؤالاً حول هوية ابن الانسان. فأعلن بطرس باسمه الجميع: "أنت المسيح ابن الله الحيّ" (16:16). إذا كان هذا المقطع قد وجد في مر 29:8 (أنت المسيح)، ولو 9: 20 (انت مسيح الله) ويو 6: 69 (نعلم أنك قدّوس الله)، غير أن متّى تفرّد فجعل على شفتي بطرس تسمية "ابن الله الحيّ" التي هي صدى لاعتراف التلاميذ في 14: 33. وأخيراً، على جبل التجلي، سمع التلاميذ الثلاثة صوتاً آتياً من السحابة يعلن: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت" (17: 15). وإذ خافوا، سقطوا على أوجههم إلى الارض، كما يقول متّى وحده (رج مر 9: 7؛ لو 9: 35). أما يكون تكويم هذه الالقاب الكرستولوجية وفعلات العبادة، إشارة إلى نموّ الكنيسة في الايمان؟
تتيح لنا هذه العناصر المختلفة أن نكتشف بنية في أربعة اقسام حيث نشهد تدرّجًا في اكتشاف الايمان بيسوع.
أ- من لا إيمان أهل الناصرة بيسوع، إلى الاعتراف بابن الله، مرورًا بأول تكثير أرغفة للجمع (13: 53- 14: 36).
ب- من تعلّق بتقليد الاقدمين إلى افخارستيا تعطى للجميع، مرورًا بعطيّة خبز الاولاد للذين عرفوا ابن داود (15: 1-39).
ج- من طلب آية، إلى قبول مجيء ابن الانسان، مرورًا بمحنة وحي الآب (16: 1-28).
و- من خوف التلاميذ أمام الابن الحبيب، إلى اكتشاف الحريّة التي ينعم بها أبناء الملكوت، مرورًا بالانفتاح على قوّة الايمان (17: 1-27).
3- تحليل النصوص
أ- من اللاايمان إلى الاعتراف بابن الله (13: 53- 14: 36)
إن المادة التي يعالجها متّى في 53:13- 14: 36 تقابل مر 6، بحيث إن عدداً من الاخصّائيين في المسألة الإزائية استنتجوا أن متّى يرتبط بمرقس. ففي الانجيليين نجد المتتالية الآتية: زيارة يسوع إلى الناصرة. ردّة فعل هيرودس وموت يوحنا المعمدان. أولا تكثير للخبز. سير يسوع على المياه وأشفية متعدّدة في جنسارت. وأتبع مرقس زيارة يسوع إلى الناصرة بإرسال الاثني عشر وعودتهم إلى يسوع بعد موت يوحنا المعمدان. أما لوقا فيبدو أنه اتّبع تصميمًا آخر: هو لا يقدّم موازاة إلا في زيارة يسوع إلى الناصرة (4: 16- 30) وردّة فعل هيرودس (9: 7-9) وموت يوحنا المعمدان (3: 19-23) وأولى تكثير للأرغفة (9: 10- 17).
يضمّ النصّ المتّاوي خمس وحدات تحدّدها تضمينات هي في أكثر الاحيان خاصّة بمتّى.
أولاً: اللاايمان في موطن يسوع (13: 53-58): نقرأ "وطنه" و"عجائب" (أعمال قدرة) في آ 54 و57-58. إن لفظة "عجائب" شابكة مع الحدث التالي (14: 2) وكذلك لفظة "نبيّ" (13: 57 و14: 5).
ثانيًا: هيرودس وموت يوحنا النبيّ (14: 1-12): نقرأ "يسوع" في آ 1 و12 و"سجن" يوحنا في آ 3 و10.
ثالثاً: البركة وعطيّة الخبز في البرّية (14: 13- 23): نقرأ "القارب"، "الجموع"، "يسوع وحده" في آ 13 و 22-23. و"التلاميذ" في آ 15، 22.
رابعًا: إيمان بطرس القليل وسجود التلاميذ (14: 24-33): نقرأ "القارب"، "الريح" في آ 24 وآ 32-33.
خامسًا: شكرُ الجموع ونجاة المرضى (14: 34-36): لا نجد تضمينات في هذه الاجمالة، بل استعادة لألفاظ من الأخبار السابقة: العبر (آ 22، أو الجهة المقابلة)، "أرض" (آ 34) "نجى" (آ 30). إن هذه الاجمالة تشكّل خاتمة، فتعارض بين استقبال يسوع في أرض غريبة، واستقباله في الناصرة (على مثال إيليا الذي رفضه أهله واستقبله العرب في الشرق والفينيقيون في الغرب).
أولاً: لا إيمان في موطن يسوع (53:13-58)
أرانا متى يسوع وهو "يمضي من هناك"، كما سيفعل في 19: 1 حيث يترك الجليل بشكل نهائي بعد خطبة الكنيسة (أو: الخطبة حول الجماعة، ف 18). يبدو أن الانجيلي تحاشى ذكر الناصرة التي تركها يسوع في 13:4 ليجعل من كفرناحوم "مدينته الخاصة" (9: 1). ولفظة "وطن" (أو: موطن) تتجاوز حدود قرية معيّنة، لتدل على "كل الجليل" (4: 1، 23)، بل على عقليّة، على طريقة في النظر إلى يسوع والحكم عليه من الوجهة البشريّة. لتدلّ على موقف الجموع الذين سمعوا وما استطاعوا أن يفهموا (ف 13). وما يشير إلى ذلك هو استعادة "كل هذا" (13: 34، 50) في آ 56، التي لا ترد إلاّ عند متّى. ونجد كلمة أخرى في آ 54: "وكان يعلّم" (إديدسكان). بعد ذلك، لن يكون حديث عن تعليم يسوع في سائر الانجيل، إلاّ في اورشليم (21: 23؛ 22: 16). هذا يعني أن مرحلة التعليم قد ولّت، على ما يبدو، لأن الناس لا يستطيعون أن يفهموا. قالوا: "من أين له هذه الحكمة وهذه العجائب" (آ 54)؟
اندهش مواطنو يسوع من حكمته، وجهلوا أن هذه الحكمة تبرّرها أعمالها (11: 19). لقد تساءلوا، شأنهم شأن هيرودس (14: 2)، حول أعمال قدرته (أعماله القديرة)، حول عجائبه. ومع ذلك فالمدن التي على شاطىء البحيرة والتي شهدت هذه الأعمال لم تتب (11: 20-23). إنهم يعرفون كل المعرفة عائلة يسوع. أمه، اخوته، اخواته (كل العشيرة). ولكنهم لم يدركوا أن القرابة الحقيقيّة مع يسوع تحدَّد على مستوى آخر (46:12-50). لهذا لم يلزموا نفسهم البحث عن جواب على سؤال حول أصل "كل هذا". فعدم إيمانهم (أبستيا) جعلهم يتشكّكون، ومنعَ الكلمة من أن تدخل فيهم (13: 21). هم لا يستطيعون أن يتذوّقوا الطوبى التي وجّهها يسوع إلى يوحنا المعمدان (11: 6). كما لم يروا في يسوع ذاك النبيّ المنتظر. إنه بالنسبة إليهم ابن النجار.
وأخذ يسوع يعيش وسط الشعب، دالاً على رحمته وحنانه، شافيًا ومغذيا الجموع التي تتبعه. يحصل له بعض المرات أن "يهرب" (14: 13، 22-23) ليجعل الناس يفكّرون ويحدّدون موقفهم تجاهه. فإن كانوا يؤمنون حقًا به، ليبحثوا عنه، وهو يعرف كيف يستقبلهم (14: 13، 35).
ثانياً: هيرودس وموت يوحنا (14: 1- 12)
إن التلميح إلى النبي الذي لا "يكرّم" (رج 27: 9-10) في وطنه، يجعلنا نفكّر حالاً في المعمدان الذي رأى فيه يسوع نبياً، بل أعظم من نبيّ (9:11- 13). وكما بدأ يوحنا وقدّم نفسه، لكي يستطيع يسوع بدوره أن "يقدّم نفسه" (3: 1، 13)، هكذا يجب على يوحنا أن يموت لكي يستطيع يسوع أن يدخل في طريقه إلى الموت.
إن هيرودس، تتراخس (رئيس ربع) الجليل، هو هيرودس انتيباس (22- 40 ب. م.)، ابن هيرودس الاكبر (37- 4 ق. م.) وامرأته الثالثة ملتقى. وهو أخو أرخيلاوس. تزوّج أولاً ابنة ملك الانباط الحارث الرابع، قبل أن يتزوّج حوالي سنة 27 هيرودية (امرأة أخيه من أبيه هيرودس، فيلبس الاول) التي أعطته ابنة سمّاها سالومة. يُعتبر مثل هذا الزواج زنى تشجبه الوصايا العشر (20: 14؛ تث 5: 18). ثم إن الشريعة اليهوديّة منعت الزواج بين الأقارب (لا 18: 17). ونستطيع هنا أن نتذكّر ما قاله يسوع حول الزنى والطلاق (5: 27- 32؛ 19: 9).
فهيرودس هذا الذي حكم الجليل بعد موت أبيه هيرودس الكبير، كان يطرح على نفسه الاسئلة حول هويّة يسوع. فمقتل يوحنا يعذّبه. في الواقع سُجن المعمدان لانه وبّخ التتراخس على زواجه من هيروديّة. وحين أورد متّى هذا الخبر الذي رواه مرقس أيضًا بطريقة مطوّلة (6: 14-29) ولوقا بطريقة موجزة (9: 7-9؛ رج 3: 19- 20)، أراد أن يجعلنا نستشفّ طريق الآلام الذي يتّخذه يسوع. فالمسيح، شأنه شأن المعمدان، سيعرف الموت كالانبياء (23: 34-35؛ رج 5: 12). فيسوع ويوحنا قد اعتبرهما الجمع من الأنبياء. نقرأ في مت أن "الجمع يعدوُّن يوحنا نبيًا" (21: 26؛ رج 14: 5 خاصة بمتّى). وقد استعيدت العبارة نفسها بالنسبة إلى يسوع في 46:21 (خاصة بمتّى): "لأنه (أي يسوع) كان عندهم نبيًا". اعتُبر يوحنا إيليا الجديد (11: 14؛ 17: 10-13) فأعلن بآلامه وموته أيام يسوع الاخيرة. والالفاظ التي صوّرت آلام يوحنا (3:14، 12)، سوف يستعملها متّى لكي يروي آلام يسوع (48:26-50، 55، 57؛ 27: 2؛ 8:28).
نستنتج من هذا المقطع أن يسوع هو حقاً نبيّ، وإن لم يتعرّف إليه وطنه. إذن، كانت الجموع على حقّ. والبرهان على ذلك هو موت يسوع الذي أعلنه موت السابق. هذا ما يبرزه متّى خصوصاً في آ 5 وآ 12 ب اللتين تفرّد الانجيل الأوّل في ايرادهما.
ثالثًا: البركة وعطيّة الخبز في البريّة (14: 13-23)
بعد هذا الحدث، نصل إلى قسم من الانجيل سُمّي "مجموعة الخبز". نجد فيها رسمة فقاهيّة تعود إلى التقليد القبل إزائي. وقد أعاد صياغتها كل من مرقس (6: 31-8: 26) ومتّى (14: 13-16: 12) بنظرة خاصة، بعد أن زادا حدث اعتراف بطرس الذي نجده في لو 9: 18- 21 وفي يو 6: 67- 71 وقد ارتبط عندهما بتكثير الأرغفة. نشير هنا إلى أن لوقا ويوحنا أوردا خبرًا واحدًا عن تكثير الأرغفة. أما متّى ومرقس فخبران: واحد يتوجّه إلى العالم اليهوديّ، وآخر إلى العالم الوثنيّ.
دوّن متّى حدث تكثير الأرغفة الأول بعناية فائقة. فما ذكر عودة التلاميذ، لأنهم لم ينطلقوا (كما أرسلهم يسوع) بعد خطبة الرسالة، بل انطلق يسوع. ولكنه بدأ خبره (آ 13- 14) واختتمه (آ 22-23) بانتقالة تتحدّث عن يسوع الذي "اعتزل" الجمع، عن التلاميذ وعن القارب. هذه الألفاظ تشكّل تضمينًا كما قلنا. من جهة، "تحرّكت أحشاء يسوع" (رج 36:9؛ 15: 32؛ 20: 34) حين رأى هذه الجموع، فشفى مرضاها، ولكنه لم يعلّم كما قال مرقس (6: 34). ومن جهة ثانية، أطلق الجموع بعد أن اضطرّ التلاميذ أن يسبقوه في السفينة، "إلى العبر" (بيران) دون أن يذكر موضعًا محدّدًا (تحدّث مر 6: 45 عن بيت صيدا). ثم ذهب وحده منفردًا على الجبل ليصلي كما سيفعل في بستان الزيتون (26: 36- 44).
بدأ الخبر بحصر المعنى بعبارة معروفة (8: 16؛ 14: 15، 23؛ 16: 2؛ 20: 8؛ 57:27؛ رج مر 1 :32؛ 35:4؛ 47:6؛ 17:14؛ 42:15) في متّى: "ولما أقبل المساء" (آ 15. لم يجعل مرقس هذه العبارة في هذا الموضع). نلاحظ أن متّى (ومرقس أيضًا) بدأ بهذه العبارة خبرَ العشاء الأخير (26: 20؛ مر 14: 17) ودفن يسوع (17: 57؛ مر 15: 42). وسيشدّد متّى بشكل خاصّ على المدلول الافخارستي لهذا الحدث. تستعيد آ 19 ب (رج مر 6: 41) النصّ المعروف في تكريس الخبز الافخارستيّ. ودورُ التلاميذ كوسطاء بين يسوع والجمع، قد شدّدت عليه آ 19 ج (ودفعها إلى التلاميذ، إلى الجموع). فكأني بمتّى يشير إلى أن التلاميذ حين يوزّعون في الكنيسة خبز الرب، إنما يفعلون بالنظر إلى حدث تاريخيّ، إلى سلطان تسلّموه من يسوع نفسه خلال حياته على الأرض. وغابت السمكات في نهاية الخبر من أجل الهدف عينه (نحن في الافخارستيا). وتحدّث متّى عن الوفرة مع "اثنتي عشرة قفّة مملوءة" (آ 20). النموذج التوراتي لهذا الخبر نجده في ما فعله أليشاع (2 مل 4: 42-44)
حين أطعم مئة رجل من عشرين رغيفاً. ولكن لا يكفي أن نبيّن أن النصّ الانجيليّ يستلهم نموذج أليشاع والاحتفال بالافخارستيا في الكنيسة الأولى، لكي نعتبر هذا المقطع سطرة (خبرًا مصوّرًا لا اساس له في التاريخ) عن العشاء الافخارستي. لكي نعتبره مثلاً من أمثال يسوع لا واقعًا من حياته. إذا كنا لا نعرف بالضبط ما حدث في ذلك الوقت، فنستطيع القول إن التقليد الانجيلي لم يورد هذا الحدث ست مرات عبثًا. فما يعبّر عنه هذا النصّ، يتعدّى حدثًا من الأحداث المتفرِّقة: تجذّر في سلسلة أحداث حياة يسوع، وفي خبرة الطعام الذي أكله مع تلاميذه خلال تجواله، فأسقط نور الحدث المركزيّ (أي موت وقيامة يسوع اللذان تحتفل بهما الكنيسة) على الماضي وعلى المستقبل. في هذا المعنى يورد هنا متّى، شأنه شأن سائر الانجيليين، خبر تكثير الأرغفة.
رابعًا: ايمان بطرس القليل وسجود التلاميذ (14: 24-33)
ارتبط حدث سير يسوع على المياه بسابقة، بفضل الوصلة في آ 22-23. كما ارتبط ايضاً بنصوص العهد القديم: عبور بحر القصب أو البحر الأحمر (خر 14- 15)، عبور الاردن (يش 3-4؛ رج أش 43: 6؛ مز 77: 20). وتذكر الأسفار الحكميّة موضوع مسيرة الله (أي 9: 8؛ 38: 16) أو الحكمة (سي 24: 5) على البحر.
وتفرّد متّى في هذا الحدث فذكر بطرس ودوره مع يسوع. على المستوى الادبي، دخل أول الرسل (2:10) في الخبر. نجد تلميحاً إلى تسكين العاصفة: نداء بطرس (آ 30= 8: 25). جواب يسوع (آ 31=8: 26). استباق موقف التلاميذ أمام المسيح القائم من الموت: تلميح إلى الشكّ (دستازاين) الذي لا يظهر إلاّ هنا (آ 31) وفي 17:28 (في كل العهد الجديد). سجود (بروسكيناين) "الذين في القارب" (آ 23؛ رج 28: 9، 17) الذين عرفوا المسيح ونادوه بكلمات قائد المئة على الجلجلة (27: 54). ساعة ناداه بطرس مرَّتين: يا ربّ (آ 28، 30). وهناك تذكرّات من نشيد موسى بعد عبور بحر القصب. البحر الذي "يغرق" (آ 30؛ خر 15: 4: كاتابونتيزاين). والمياه والأمواج المنتصبة (آ 24-28؛ خر 8:15). اليد الممدودة (آ 31؛ خر 15: 12). الخوف والقلق (آ 26-30؛ خر 15: 16).
هذه الاشارات المختلفة تدعونا إلى أن نكتشف في نصّ متّى، تيوفانيا (ظهورًا) موجَّهة إلى "الذين في السفينة"، أي إلى كنيسة القائم من الموت. إنه الاله المخلّص (كما في سفر الخروج) الذي يخرج من عزلة الصلاة ليخلّص جماعته القليلة الايمان ويمنحها قدرته.
وبعد أن أشبع (خورتازاين) يسوع شعبه خبزاً (مز 37: 19؛ 81: 17؛ 132: 15) بواسطة تلاميذه، أمرَهم في المحنة لكي يثبّت إيمانهم. هنا نتذكّر حركة مز 107 حيث يرتبط الموضوعان (آ 8، 9 والشبع، آ 23- 30 والمحنة) في نداء إلى فهم حبّ الرب وتقريب الشكر له. ففي مسيرة على المياه محفوظة للاثني عشر، جاء ربّ الملكوت سرًا (مت 13، الأمثال)، جاء ربّ الايمان الذي أعطى المنّ العجائبيّ، فخلّص أيضًا جماعته (القارب، السفينة)، من أخطار البحر بقدرة فائقة نقلها إلى بطرس وإلى كل تلميذ يتبعه. وهكذا يوجّهنا هذا المقطع إلى الكنيسة كما إلى يسوع المسيح.
وفي النهاية، نحن في هذا المقطع أمام إيمان الكنيسة، وهو إيمان ما زال مليئًا بالشكّ واللافهم. هذا ما نجده في الجماعات المتاويّة التي يجب عليها أن تعرف أن يسوع القائم من الموت هو حاضر فيها: فقد تدخّل وخلّص بطرس الذي كاد يغرق. وهو يخلّص تلاميذه شرط أن يصرخوا كما صرخ بطرس: "يا ربّ، نجني".
خامسًا: شكر الجموع ونجاة المرضى (14: 34-36)
تلتقي هذه الإجمالة مع زيارة يسوع إلى وطنه (53:13-58). تبع مت نصّ مر عن قرب وذكر أمر يسوع بأن يذهبوا "إلى الجانب الآخر" (إلى العبر) من البحيرة (14: 22) حيث نحن الآن: نحن في جنسارت لا في بيت صيدا كما يشير إلى ذلك مر 6: 45.
وقال متّى (آ 35) إن "أهل (رجال، اندرس) ذلك المكان" عرفوا يسوع، و"أرسلوا" في طلب جميع المرضى. من هم هؤلاء الناس؟ هذا ما لا يوضحه الانجيليّ. ولكن يبدو أن التعرّف إلى (ابيغينوسكاين) يسوع، يعني الانطلاق في الرسالة (ابوستالاين). ونلاحظ الكلمة الأخيرة في هذا المقطع (خلصوا، نجوا، دياسوتيزان). هي صدى لصلاة بطرس (نجنيّ، آ 30)، وهي تذكّرنا بشفاء النازفة التي لمست طرف ثوب يسوع، فـ "نجت" (شُفيت) هي أيضًا (9: 21-22).
هؤلاء المرضى لمسوا طرف رداء يسوع (آ 36). هدب الرداء. فهذا الهدب كان يذكّر المؤمنين دومًا بالأمانة للوصايا (عد 37:15-39). كان قد أعلن النبيّ زكريا في الأزمنة المسيحانية أن عشرة رجال (اندرس) من كل ألسنة العالم (كما قالت السبعينيّة) يمسكون يهوديًا بطرف ثوبه قائلين: "نذهب معك لأنّا سمعنا أن الله معك" (زك 23:8). لا شكّ في أن مت فكّر بهذا النصّ: ساعة يتجاهل يسوعَ موطنه، وينغلق على فهم أسرار الملكوت، ها هي الأمم (الوثنيّة) تتعرّف إليه وتحمل إليه مرضاها. فكأني بفعلة العبادة التي قام بها التلاميذ (آ 33) قد تحوّلت فجأة إلى رسالة واسعة وسع العالم.
ونستشفّ من خلال هذا النصّ الذي يرسم تلمّسات إيمان باحث، طريقَ موت يسوع وقيامته كما أعلنه موت يوحنا النبيّ، وتحتفل به الافخارستيا التي أعطيت للجموع، ويكون حاضرًا حضورًا فاعلاً في جماعة مؤمنة قد عرفت الخلاص منذ الآن رغم شكوكها ومخاوفها.
ب- من تقليد الأقدمين إلى الافخارستيا (ف 15)
مع ف 15 تبدأ دورة جديدة تقدّم لنا تعمّق الايمان بالمسيح. وقد انطبعت هذه البداية بدخول الفريسيين والكتبة الآتين من أورشليم على المسرح. فأورشليم التي لعبت دورًا هامًا في الفصول الأولى من الإنجيل الأول (2: 1، 3، 3: 5؛ 25:4) لم تعد تُذكر الا بمناسبة الحلف (35:5: لا تحلفوا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم). حتى الآن يأتي الناس من (أبو في اليونانيّة) أورشليم. بعد 16: 21 (رج مر 10: 32-33) ستدلّ أورشليم على خاتمة المطاف في صعود يسوع الذي يذهب إلى (ايس في اليونانيّة) أورشليم (21:16؛ 17:20-18؛ 21: 1-10)
إن المواجهة بين يسوع والفريسيين لن تدوم طويلاً، لأن يسوع سيعتزل قريبًا في نواحي صور وصيدا، قبل أن يعود إلى شواطىء بحر الجليل حيث يُتمّ ثاني تكثير للأرغفة.
ويسير متّى بمحاذاة مرقس في ف 15. بحيث إن الخصائص المتاويّة تلفت انتباهنا. هناك حديث متواصل عن الطعام، منذ غسل اليدين كطقس عباديّ قبل الأكل (آ 2، 20) حتى الشبع (آ 33، 37، 14: 20) مرورًا بالأكل (آ 2، 27، 38؛ رج 14: 21) والخبز (آ 2، 26، 32، 34، 36، رج 14: 17، 19 مرتين). وهكذا نكتشف خمس وحدات داخل تضمينات خاصّة بمتّى.
أولاً: تقليد الشيوخ وكلمة الله (15: 1-9): "يأكلون بأيد لم يغسلوها" (آ 2- 20). "الانسان، الناس" (آ 9، 11). كل هذا يربط قسمي المقطوعة.
ثانيًا: تشكّكٌ بالكلمة ولافهم عند التلاميذ (15: 10- 20). "لا ينجّس الانسان" (آ 11، 20).
ثالثًا: خبز الاولاد وإيمان الكنعانيّة (15: 21-28): "إمرأة"، "ابنة" (آ 22، 28).
رابعًا: الجموع (التي شُفيت) تمجّد إله اسرائيل (15: 29- 31). تبدو هذه الاجمالة بدون تضمين فتذكّرنا بما في 14: 22-23. هي تبدأ كما في 11: 1؛ 9:12، وتنتهي بتمجيد إله اسرائيل، في تجاوب مع سجود التلاميذ (14: 33).
خامسًا: الجموع التي شبعت في الافخارستيا (15: 22-39): "الجموع"، "أكل"، "صرف" (حلّ) (آ 32، 38-39)، شبع (آ 33، 37). يبدأ هذا المقطع في 15: 10 (دعا إليه الجميع وقال لهم، بروسكالاسامانوس) ويعود بالقارب الذي تركناه في 14: 33.
أولاً: تقليد الشيوخ وكلمة الله (15: 1-9)
سأل الفريسيون والكتبة يسوع كما في 12: 2 عن تصرّف تلاميذه. وبعد أن أجابهم يسوع جوابًا قاسيًا (آ 3-9)، توجّه إلى الجموع وتلاميذه (آ 10) فأوضح فكره. هنا تأخّر مر 7: 2-5 ليشرح طقوس الاغتسال عند اليهود لقرّائه الوثنيين. أما متّى فذهب إلى الهدف مباشرة، وتحدّث عن "تعدٍّ" (بارابايناين) على تقليد الشيوخ (آ 2). جاء جواب يسوع في أسلوب الفريسيين والكتبة: "وأنتم، لمَ تتعدّون وصيّة الله من أجل تقاليدكم" (آ 3)؟ إن نصيّ خر 20: 12؛ 17:21 يتحدّثان عن الوجبات تجاه الوالدين، وقد ربطهما مرقس (7: 10) بموسى. أما متى (آ 4) فربطهما ربطاً مباشراً بالله. وهكذا تكون المقابلة بين تقليد الشيوخ وكلمة الله (آ 6؛ رج آ 12) قويّة جدًا.
وكما في التوسّع الأول في خطبة الجبل (5: 20-48)، قدّم يسوع هنا تفسيرًا جذريًا للشريعة الموسويّة واضعًا مبدأ يحوّل معطيات المسألة تحويلاً تاما: المهمّ هو كلام الله لا التفسيرات التي زادها البشر. فالمناخ هو مناخ عظة الجبل. وهذا ما يدلّ عليه النداء "أيها المراؤون" (آ 7) الذي يستعمله مرقس فقط في هذا النصّ الموازي (7: 6) مع مسافة بالنسبة إلى مت 6: 2، 5، 16؛ 7: 5. إن ممارسة "القربان" اليهوديّة تقوم بأن يقدّم المرء لله جزءًا من أمواله فيحمله إلى كنز الهيكل (مت 27: 6). كشف يسوع رياء ذاك الذي "يخدع" الله ليتهرّب من الفرائض الاساسيّة في الدكالوغ أو الوصايا العشر. يقع في فخاخ التفسيرات البشريّة، فلا يعود يميّز وصيّة الله.
يقول ولا يفعل: تلك هي تجربة الانسان الدينيّ الذي يسير "بطمأنينة" داخل جدالات مجرّدة حول الفرائض وينسى الواقع. ينسى الله والآخرين (7: 3:23:21). هذا ما يعبّر عنه نصّ أش 3:29 مع التعارض بين "الشفتين والقلب" (رج مت 13: 15 الذي يورد أش 6: 10) الذي يذكّرنا بما في مز 78: 36-37. إن الموقف الدينيّ الحقيقيّ يقع على مستوى القلب، حيث يفهم الواقع، لا حيث يتكلّم الناس ويعلّمون. فنصّ أشعيا ارتبط بفعل "كرّم" لأن التكريم الحقيقيّ هو ثمرة تمييزنا لله ووصاياه.
ثانيًا: تشكّك من الكلمة ولا فهم عند التلاميذ (15: 10- 20)
قدّم هذا التمييزُ ليسوع خاتمة الجدال حول الطهارة: فعبّر عنه أمام الجمع (آ 11)، وأسبقه بتحريض يعيدنا إلى الخطبة بالامثال (آ 23:13؛ رج حك 6: 1). لا شكّ في أنه يجب أن "نفهم" وإلاّ ظللنا عميانًا (آ 14؛ 15:13). ويكون العمى خطيرًا بشكل خاصّ حين تكون مهمّتنا التعليم وتوجيه الآخرين (23: 17، 24). فلا نعجب عنذ ذاك أن يكون الفريسيون قد تشككوا بالكلمة (آ 12؛ رج 13: 21): فالنور القويّ يعمي (يبهر) ذاك الذي اعتاد على بعض الظلمة. ومن يحصر كلمة الله في تفسيره الخاص، يكون وكأنه "يضع يده" على" غرس" الله (فيتايا).
إن هذا الموضوع الذي يظهر في أش 60: 21، يُستعمل مرارًا في العالم اليهوديّ المتأخّر ولا سيّما في النصوص الاسيانيّة (لدى أهل قمران على شاطىء البحر الميت). ونحن نذكر أن خطبة الأمثال صوّرت الملكوت بشكل زرع ينمو (مثل الزارع. الزرع الجيّد والزؤان، حبّة الخردل). كل هذا المقطع (آ 12-14) هو خاص بمتّى وهو يتوخّى بأن يؤوّن الامثال في حياة جماعته.
ويتدخّل بطرس (الذي هو غائب من نصّ مرقس) في آ 15 ليطلب من يسوع أن يوضح (فرازاين) المثل. لا يرد الفعل إلاّ هنا في كل العهد الجديد. هناك مخطوطات تجعله في 13: 36 حيث تضع أفضل المخطوطات "دياسافاين" الذي لن يستعمل في كل العهد الجديد إلاّ في 18: 31. فبعد سير يسوع وبطرس على المياه، نفهم لماذا أدخل متّى بطرس كمتكلّم باسم التلاميذ. فجواب يسوع (الذي أوجزه مرقس) يوبّخ التلاميذ أولاً لعدم فهمهم (اسيناتوي)، ثمّ يقدّم توسّعًا منطلقًا من "الشفتين والقلب"، من الخارج والداخل، مما يأتي من الانسان وممّا يأتي من الله.
تأتي الطهارة من القلب كما قالت التطويبات (8:5). هي قريبة جدًا من الفقر في الروح (5: 3). فالانسان ملتزم بأعمال يقوم بها، بأقواله يتلفّظ بها، بمواقف يأخذها في حياته اليوميّة. كل ذلك يكشف عمق وجدانه بما فيه من خطيئة، كما يكشف حضور الشرّ في قلبه (28:13-38).
كانت الطهارة على مستوى الاطعمة موضوع جدالات واسعة في الجماعات المسيحيّة الأولى (غل 2: 11-14؛ أع 10: 15). طُرح السؤال انطلاقًا من المشاركة في الافخارستيا التي تضم مسيحيّين آتين من العالم الوثني وآخرين من العالم اليهوديّ. فإن نقطة الخلاف هذه قد سبّبت عددًا من الخلافات حتى بين بطرس وبولس في كنيسة أنطاكية (غل 2: 11-14). أما النصّ الانجيليّ الذي هو صدى لهذه الجدالات الحامية، فيدلّ على أن الجواب لا يوجد إلاّ في موقف يسوع وكلمته اللذين عاد اليهما بولس الرسول في رسائله (1 كور 6: 13؛ روم 14: 20).
إن المبدأ الذي وضعه يسوع هنا، كان قد نال تعبيراً آخر في 12: 35: "الانسان الصالح من كنزه الصالح يخرج الصالحات، والانسان الشرير من كنزه الشرّير يخرج الشرور". فالقلب الشرير يحمل للبشر الانقسام والموت. فيا ليته يرتدّ. والاطعمة لا تستطيع أن تفصل البشر عن الله، ولا أن تفصلهم بعضهم عن بعض. فلا يمكن للشرائع المتعلّقة بالاطعمة أن تفرض نفسها حقًا على الناس. فما يفصل البشر بعضهم عن بعض هو القلب الشرير. وما يوحّدهم هو قلب جديد خلقه الله فيهم لأنهم جميعهم خطأة، سواء كانوا يهودًا أم وثنيين. ذاك هو موقف متّى وموقف الكنيسة الأولى.
أما الشريعانيّة (إفراط في التعلّق بالشريعة) التي تجعل تقاليد البشر تمرّ قبل كلمة الله، فقد شجبها العالم اليهوديّ نفسه. قال رابي يوحنان بن زكاي (+80): "في حياتك ليس الميت هو الذي ينجّس (بمجرّد لمسه)، ولا المياه هي التي تطهّر، بل أمر من ملك الملوك. فالله قد قال: وضعتُ فريضة، رسمت أمرًا. فلا يحقّ لأحد أن يتجاوز أمري" (رج عد 19: 12). وفي ذلك سار اليهود في خطّ الانبياء (أش 13:29-14؛ رج عا 5: 21-27؛ أش 1: 10- 16؛ 58: 1-8؛ هو 6: 6؛ إر 6: 20). وشموع بدوره لم ينقض الشريعة بل كمّلها (5: 17)، فدلّ على الحدّ الذي به تلزم الانسان أمام الله. وبعد أن حدّد الأمور في موقعها في الحقيقة، ختم كلامه فقال: "وأمّا الأكل بأيد غير مغسولة فلا ينجّس الانسان" (آ 20).
ثالثًا: خبز الاولاد وإيمان الكنعانيّة (15: 21-28)
اهتمّت الكنيسة الأولى اهتمامًا خاصًا بالجماعة الافخارستيّة التي تضم مسيحيين متهوّدين ومسيحيين أمميّين: فهل يوّزع خبز الابناء للوثنيين الذين ارتدّوا إلى المسيحيّة؟ أما قال يسوع نفسه إنه لا يُعطى للكلاب ما هو مقدّس، ولا تُرمى الجواهر أمام الخنازير (7: 6)؟ هذه المسألة التي كانت حاضرة في الجماعات المتاويّة، نستشفّها في حدث المرأة الكنعانيّة.
بدأ متّى فقال لنا إن يسوع خرج من هناك "ليعتزل" (13:14) في نواحي صور وصيدا، في منطقة وثنيّة ستتقبّل معجزاته أفضل من المدن التي على شاطىء البحيرة (11: 21-22). جاء نصّ متّى أكثر توسّعًا من النصّ الموازي في مر 7: 24- 30. سُميّت المرأة "كنعانيّة". "صاحت". "سجدت" ليسوع مثل التلاميذ في السفينة (14: 26). نادت يسوع "الرب ابن داود". شرحت أن ابنتها يمتلكها الشيطان (آ 22). وشدّد مت على أن يسوع لم يُجبها بكلمة. غير أنه أمام إلحاح التلاميذ الذين انزعجوا من صياح المرأة، أجاب: "لم أرسل إلاّ للخراف الضالّة من بيت اسرائيل" (آ 24). هذا الجواب يذكرنا بخطبة الرسالة (10: 6) حيث بدا أن خلاص الله يتبع خطاً تاريخياً وجغرافياً: يبدأ في العالم اليهوديّ قبل أن يدرك الأمم الوثنيّة ويصل إلى أقاصي الأرض.
ولكن، من جهة بادر يسوع ومضى إلى منطقة وثنيّة. ومن جهة ثانية، فالمرأة التي بدأت مناداته "الرب وابن داود" داومت على صياحها طالبة النجدة (آ 25): "يا ربّ أغثني". وفي النهاية قبلت بكل تواضع أن تُحسب كالكلاب الصغار على مائدة ربّها، لكي تشارك في الفتات الذي يتساقط من يد البنين. عند ذاك، تمّ اللقاء بينها وبين الربّ: هو الايمان الحقيقيّ الذي أتاح لها الدخول إلى الملكوت. أعجب يسوع بإيمان الكنعانيّة كما امتدح إيمان قائد المئة (8: 10). فالايمان يحصل على ما يريد (آ 28؛ رج 13:8): نجت ابنتها، شُفيت، وهكذا تمّ لهذه المرأة ما قاله أش 6: 9-10 (في مت 13: 15) الذي وعد بالشفاء للذين يفهمون بقلوبهم ويرتدّون.
في هذا الخبر الذي يتحدّث عن طعام البنين، نكتشف إشارات خاصّة بمتّى: إن "بيت اسرائيل" يتجاوز في الواقع الحدود الجغرافيّة والإتنيّة لمستقبل كل إنسان مهما كان أصله، شرط أن ينفتح على الكلمة. الايمان هو الذي يفتح أبواب الملكوت. وبه يشارك "الوثنيون الكلاب" (هم خارج البيت) في الخلاص الكامل. وموقف التلاميذ الذين غابوا من خبر مر، يذكّرنا بتردّد بطرس (أع 10) "والذين آمنوا من مذهب الفريسيين" (أع 15: 5) لقبول الوثنيين في الكنيسة دون أن يُجبروا على المرور في فرائض الشريعة. ولكن يبقى أن الاقرار بأولويّة اسرائيل في الخلاص، قد طلبه يسوع من المرأة، لأن الخلاص ليس ايديولوجيّة ولا فلسفة، بل يتسجّل في تاريخ بدأ مع شعب اسرائيل قبل أن يصل إلى الشعوب الوثنيّة.
رابعًا: الجموع تمجّد الله (15: 29- 31)
بعد أن استقبل يسوع الوثنيّين في جماعته "انتقل من هناك" (آ 29؛ رج 11: 1؛ 9:12) ليعود إلى شواطىء بحر الجليل. في هذا الموضع أورد مر 7: 31-37 شفاء الأصّم الأخرس. أما متّى فجعل يسوع يصعد إلى الجبل (رج 23:14) ويجلس لا ليعلّم كما في 5: 1، بل ليستقبل الجموع والمرضى (رج 14: 14). والاشفية التي يجترحها والتي تملأ الناس اعجاباً (9: 8، 33)، تصوّر كما في 11: 5 بألفاظ مأخوذة من أش 35: 5. وكما ذكّر يسوع يوحنا المعمدان بالبُعد المسيحانيّ لأعماله، ها هو يقوله للجموع إن عليها أن تقبل الشفاء من أمراضها لتستطيع أن تمجّد (8:9) إله اسرائيل وتأكل من الخبز الذي يقدّم لها.
خامسًا: الجموع التي شبعت من الافخارستيا (32:15-39)
إن إطار مت هو إطار الجبل حيث تتمّ الأشفية المسيحانيّة. أما مر فقد حدّد موقع الحدث في دكابوليس (المدن العشر) (7: 31): هناك جعل شفاء الأصم الأخرس وتكثير الأرغفة الثاني.
دعا يسوع إليه تلاميذه (رج 10: 1؛ 15: 10) ليشركهم من جديد إشراكًا حميمًا في فعل الشكر وتقاسم الخبز. فالخبر الثاني لتكثير الأرغفة يتوازى بشكل لافت عند مت مع الخبر الأول. هو لا يخاف من أن يضعنا أمام تكرار للخبر الواحد. وإذ شدّد على النقاط المشتركة، أراد أن يبيّن أننا حقًا أمام واقع واحد. غير أننا نلاحظ: ثلاثة أيام (آ 32). الخبزات السبع (آ 34). السلال السبع لأربعة آلاف رجل (آ 37)، لا خمس خبزات و12 قفة من أجل 5000 رجل كما في الخبر الأول.
حلّت محلّ البركة (اولوغاين) في 14: 19، صلاة الشكر (اوخارستاين) (آ 36). ولكننا نجد كل هذه الاختلافات في مر. شدّد مت (بالنسبة إلى مر) على سؤالا التلاميذ (من أين لنا خبز) (آ 33)، وعلى دورهم كوسطاء من أجل الجموع (آ 36)، وعلى وجود السمكات الصغيرة (آ 34)، وعلى القول بأنهم أكلوا كلّهم وشبعوا (آ 37). وبعد أن أطلق يسوع الجموع، ركب السفينة (مع تلاميذه في مر 8: 10) إلى منطقة مغدان (أو: دلمانوثا في مر) وهما موضعان نجهل موقعهما: تطلّع بعضهم إلى مجدو والتي تقع غربي سهل يزرعيل. وآخرون إلى مجدلة على شاطئ البحيرة. ومهما يكن من أمر، فقد قطع يسوع كل اتصال مع الجموع: خاف من الحماس الشعبيّ، أو أحسّ الخطر، فكان تلميح إلى موته مع عبارة "ثلاثة أيام".
حين نجمع مجمل العناصر التي اكتشفناها في ف 15، نشعر أننا شاركنا في وليمة عظيمة نستعدّ لها، لا بغسل الايدي، بل بتطهير القلب لكي "نفهم" أن الله حاضر في أعماق الانسان بواسطة يسوع. والجميع يستطيعون أن يتكئوا إلى هذه المائدة، حتى الوثنيون، شرط أن يروا في الايمان أن الخلاص المعطى لهم يمرّ في شعب اسرائيل الذي يكمّله يسوع. وسيُدرك بنو اسرائيل بدورهم المعنى المسيحانيّ، ويفهمون أنهم يستطيعون أن يشاركوا في مائدة الافخارستيا، في البريّة (13:14، 15). هي مائدة للاسباط الاثني عشر، وهي تضمّ جميع البشر (الرقم 7) لتشبعهم بواسطة التلاميذ بعد أن خارت قواهم في الطريق (آ 32). فالفصح حاضر في خلفيّة ف 14 كما هو حاضر في خلفيّة ف 15: ذلك الفصح الذي نعيشه في حياة الكنيسة الموجودة في المسكونة كلّها، لأنها تأسّست على حضور يسوع التاريخيّ بين تلاميذه والجموع.
ج- من آية ابن الانسان إلى وحي الآب (ف 16)
يجعلنا ف 16 نكتشف الايمان في محنة حاسمة هي محنة وحي الآب. فقد رأينا الفريسيّين منذ البداية يدخلون على المسرح برفقة الصادوقيّين (آ 1). لن يلبثوا هناك طويلاً. لأن يسوع تركهم (آ 4) وأخذ يهتمّ فقط بتلاميذه لكي يعمّقوا إيمانهم، ويجدوا نوراً يُفهمهم طبيعة رسالته (اَ21). اختفت الجموع (15: 39). واستعدّ بطرس لكي يتدخّل في هذا المشهد.
الموازاة مع مر 8: 11-9: 1 متواصلة، ونحن من خلال التضمينات والكلمات العاكفة نكتشف هنا أيضاً خمس وحدات.
أولاً: آية من السماء أو آية يونان: جيل فاسق (16: 1-4): في وسط تضمين كبير تحدّده عبارة "الفريسيين والصادوقيين" (آ 1، 12). وفى تضمين صغير: "آية" (آ 1، 4).
ثانيًا: خبز أو خمير: ماذا فهم التلاميذ القليلو الايمان (16: 5-12)؟ "الأرغفة" (آ 5، 12). "إحذروا خمير" (آ 6، 12).
ثالثًا: وحي الآب أو وحي اللحم والدم: بطرس صخرة (16: 13- 20). يشير التضمين الكبير إلى ابن الانسان (آ 13، 20). ويتحدّث تضمين قصير عن "البشر" (الناس) (آ 13، 23). وهناك تضمين ثالث يتحدّث عن "تلاميذه" (آ 13-20). هذه اللفظة الأخيرة هي كلمة عاكفة (آ 20، 24). ونقول الشيء عينه عن لفظة "المسيح" (آ 20- 21).
رابعًا: أفكار البشر وأفكار الله: بطرس والشكوك (16: 21-23). نلاحظ كلمة "المسيح" (آ 21) و"خلفي" (آ 32) و"تلاميذه" (آ 21)، و"البشر" (آ 23).
خامسًا: يخلّص حياته أو يجدها: مجيء ابن الانسان (16: 24-28). نلاحظ ألفاظًا مثل "خلفي" (آ 24) "تلاميذه" (آ 24)، "ابن الانسان" (آ 28).
تبدأ كل من الوحدات الثلاث الأولى بفعل يدلّ على الحركة: "وتقدّم إليه الفريسيّون" (آ 1). "وفيما التلاميذ يعبرون إلى الشاطىء الآخر" (آ 5). "ولما انتهى يسوع إلى ضواحي قيصريّة فيلبس" (آ 13). ويرد اسم يسوع في آ 13: "ولما انتهى يسوع". وفي آ 17: "أجاب يسوع". وفي آ 21: "ومنذئذ شرع يسوع". وفي آ 24: "حينئذ قال يسوع لتلاميذه" (نلاحظ مع يسوع في الوحدتين الاخيرتين وجود ظرف زمان).
أولاً: آية من السماء أو آية يونان (16: 1-4)
يذكّرنا الحدث القصير حول آية يونان بما في 12: 38-39. وقد بناه الانجيلي بالشكل ذاته، فبدا النصّ الثاني وكأنه تكرار للنصّ الأول. مع اختلافة بسيطة وهي أن بعض المخطوطات تتحدّث عن علامات الزمن (آ 2-3) بشكل يوازي لو 12: 54-56.
نلاحظ أولاً أن الفريسيين والصادوقيين حزبان متناقضان. ومع ذلك فقد جمعهم متّى (رج 3: 7) مع أل تعريف واحد. لا شكّ في أنه أراد أن يشير إلى العالم اليهوديّ الرسميّ من خلال المسؤولين فيه. هناك التباس في عبارة "آية من السماء". هذا ما تدلّ عليه الإضافات في مختلف المخطوطات. في الواقع لسنا أمام آية يجترحها يسوع في قبّة السماء (تسودّ الشمس مثلاً، تختفي النجوم)، بل أمام آية تأتي من الله. ولكن كما أن لون السماء يعلن الطقس، كذلك آية القيامة، آية يونان، لا يفسّرها إلا الذين يفهمونها، ويتقبّلون من الله التمييز. لقد جاءت الأزمنة المسيحانيّة، وموتُ يسوع يعلنها: فمن لم يدرك ذلك، يأخذ مكانه وسط "جيل شرير وفاسق" (رج 11: 16؛ 12: 39)، وسط جيل لا يؤمن، فيرفض الملكوت الذي صار قريبًا في شخص يسوع.
ثانيًا: الخبز أو الخمر (16: 5-12)
كان سؤال الفريسيين والصادوقيين "تجربة" وامتحانًا (آ 1): فعلى التلاميذ أن يتذكّروا ذلك، لأن لا مناعة لهم. واستفاد يسوع من جدال بينهم حول خبز نسوا أن يأخذوه معهم لكي يعلّمهم. إذ كانوا يعبرون إلى شاطئ الآخر (14: 22، 34)، قال لهم: "احذروا خمير الفريسيين والصادوقيين" (آ 5).
في الكلام الذي قاله يسوع لهم، نجد نقطتين. الأولى، لو أدركوا (15: 17) وتذكروا (آ 9) خبري تكثير الأرغفة، لعرفوا أن معهم من يشبع جوعهم بطريقة تختلف عن زاد يحمله الانسان في طريقه. الثانية، لو أدركوا (آ 11) بُعد الجدال بين الرب من جهة والفريسيين والصادوقيين من جهة أخرى، لأخذهم الحياء من اهتماماتهم. في الواقع إيمانهم قليل (اوليغوبستوي) كما يقول متّى.
ولكن كلام يسوع وصل إلى هدفه، فبلغ التلاميذ إلى مستوى "الفهم". "عندئذ فهموا" (آ 12). فالعبرة التي توخَّاها يسوع من الامثال بدأت تحمل ثمارها. وقد جاءت الساعة ليُمتحن الايمان في آية يونان، في موت المسيح وقيامته.
ثالثًا: وحي الآب أو وحي اللحم والدم (16: 13- 20)
حين وصل يسوع إلى الجهة المقابلة من البحيرة، جاء (آ 13) إلى أرض وثنية، في ضواحي قيصريّة فيلبس. في نهاية ف 16، سيقوله لنا متّى إن هناك من "يرون ابن البشر آتيًا في ملكوته" (آ 28). إن الواقع الطبيعيّ هو رمز إلى واقع عميق. وفي نظر الايمان، نحن أمام مسيرة واحدة تُفهم على مستويين. هذا ما يريد يسوع من التلاميذ أن يدركوه من خلال تكوينه لهم.
فهو الذي بادر وسألهم: "ماذا يقول الناس في ابن البشر"؟ من هو في نظرهم؟ ذاك هو السؤال الوحيد والحاسم الذي به يتعلّق مصير كل انسان: حين يقول المؤمن من هو يسوع، يحدّد في الوقت عينه حياته الخاصة، ويثبّتها على صخر لا يزعزعه أحد. وارتبط جواب التلاميذ بمعلومات صحيحة: إن هيرودس رأى في يسوع يوحنا المعمدان الذي قام من بين الأموات (14: 2). واعتبر آخرون أن يسوع هو نبيّ الأزمنة المسيحانيّة (رج ملا 3: 23- 24). ورأى فيه آخرون صورة عن أنبياء ظهروا في تاريخ شعب الله. وتفرّد متّى فتحدّث عن إرميا (رج 17:2) بسبب طبعه القويّ الذي عرف أن يُمَّحى، وبسبب روح المعارضة عنده. لقد عادوا كلّهم إلى الماضي. وليس هناك من اعتبر أن يسوع لا يتمّ الوعد، وليس هو الوعدَ الذي تمّ، والملكوت الذي اقترب من البشر.
وجاء جواب بطرس واضحًا، وقد زاده متّى إيضاحًا بكلمة وحي من يسوع تدارسها الشرّاح ولاهوتيّو الكنيسة. ففي الحوار الذي كان بين يسوع وبطرس الذي تكلّم باسم التلاميذ، نُبرز فقط بعض النقاط.
فعل متّى هنا كما في التطويبات (5: 11). جعل يسوع ينتقل من صيغة الغائب (يقوله الناس عن ابن البشر) إلى صيغة المخاطب (وأنتم ماذا تقولون). ثم إلى صيغة المتكلم (من أنا) (آ 15). ونلاحظ أن فعل "قالت" يحمل في طيّاته "عمل". هنا نفهم خطورة كلمة لا تتحقّق (رج 36:12). حين قال بطرس ليسوع: "أنت المسيحً ابن الله الحي" (آ 16)، دلّ على أن يسوع هو في حياته المسيح وابن الله. وحين جعل متّى ال التعريف أمام الالفاظ الأربعة، أكّد على مسيحانيّة يسوع، كما اعترف بلاهوته (رج 26: 63). إذن، ليس "المسيح" لقبًا من الألقاب، أو شخصًا نُسقطه على مستقبل لا محدود. إنه ابن الله الحيّ، مع أنه ذاك الذي سُمّي يسوع الذي من الناصرة.
نتائج هذا الاعلان هائلة: فهو يعني أن يسوع كابن الله، له المبادرة المطلقة والأخيرة: فالطريقة التي بها يحيا ويخلّص البشر، تفرض نفسها بشكل مطلق. هو عبد الله المتألم الذي يحكم على آيات الزمن. إنه حقًا "ابن الانسان".
بدأ جواب يسوع "بتطويبة" في صيغة المخاطب، فكشف لبطرس بُعد ما قاله واعترف به. فالخيار الذي اتّخذه حين قال ما قال، لا يعود إلى "اللحم والدم" (آ 17، أي الضعف البشريّ)، لا يعود إلى قواه البشريّة (سي 18:14). لقد تقبّل في ذاته الايمان الذي هو عطيّة الآب. فبركة يسوع (11: 25، 27) تتمّ في هذا الرجل الذي بدأ قليل الايمان (14: 31؛ رج 16: 8)، ولكنه انفتح على "الفهم" (15: 16؛ 16: 12).
وبفضل هذا التقبّل، جعل يسوع من بطرس "صخرة" (بترا) كنيسته. فالبيت المؤسسّ على الصخر، بدأ يأخذ مدلوله الحقيقيّ. واسم شخص من الاشخاص في العالم الساميّ، يعبّر عن واقع كيانه العميق، عن شخصيّته الأساسية. سمعان أي ذلك الذي يسمع ويطيع. كان ابن يونا (أي الحماقة). لقد صار منذ الآن "صخر" الشعب الذي يدعوه الله. في العهد القديم، بدا الله صخرة اسرائيل (2 صم 22: 2، 32) وعلامة الثبات والمتانة (مز 18: 3، 32؛ 31: 4؛ 61: 4؛ 144: 1) والأمانة (تث 32: 4؛ مز 92: 16). هذا الصخر يسقي (مز 78: 6؛ رج 1 كور 10: 4) شعبه ويشبعه (مز 81: 17). من استند إليه لا يتزعزع (أش 28: 16). وسيرى العهد الجديد في يسوع صخرة اسرائيل السائرة نحو الملكوت.
أما اسم النبيّ يونان فرمز إلى الجماعة اليهوديّة التي غطست في عالم الشتات لكي تحمل كلمة الله إلى العالم الوثنيّ. خان رسالتَه، ولكنه اكتشفها من خلال عاصفة في البحر تدلّ على قوّة الشرّ والموت. وآية يونان التي ربطها يسوع بشخصه (16: 4؛ رج 12: 38-39)، هي آية عبوره في الموت. فعلى سمعان بن يونا بدوره، أن يمرّ في الموت ويخلّصه المسيح القائم من الموت (14: 30- 31) ليتكرّس تلميذاً ويصبح مع يسوع ابن الآب (12: 50) في امتداد السلطة المعطاة للتلاميذ (10: 21). أعطى يسوع بطرس سلطان "الحلّ والربط" أي سلطان التحرير المرتبط بملكوت السماوات (آ 19). فسلطان المفاتيح يقال عن سلطة مؤسَّسة على تعليم. بعضهم رأى فيه تلميحًا إلى مفتاح "بيت داود" (أش 22: 22). وفهمه التقليد سلطان الحلّ من الخطايا. إن تكرار آ 19 في 18:18 يقودنا في هذا الاتّجاه.
نستطيع أن نتساءل وبحق: هل وعى بطرس كل الوعي ما قاله وما أوحي إليه؟ منذ آ 22 نفهم أنه لم يعِ شيئًا. فمن الواضح أن شخص يسوع وحياته لا يستطيع أحد أن يتقبلهما ملء التقبّل إلا بعد مروره في الموت والقيامة (آ 21). فكل حياة (حياة بطرس وحياتنا) هي قصّة حريّة تتألف من التزامات ترتبط بعضها ببعض. والتزام بطرس باسم جميع التلاميذ، يعمّق علاقته بيسوع. وهذا التقبّل يهيّيء المستقبل الذي يتثبّت فيه. غير أن الكنيسة الأولى التي اكتشفت سعادتها في وحي الآب الذي قرأته في قيامة يسوع، قد رأت نفسها على حقّ حين رأت جذورها في اعتراف بطرس.
ونشير هنا إلى ما قاله النقّاد عن صحّة هذا النصّ (آ 17- 19) في متّى. فيبدو مثلاً أن إيريناوس لم يمتلك في إنجيله آ 18. ومع ذلك، فهذا لم يمنعه أن يعتبر التسلسل الرسولي مؤسّسة أرادها المسيح، مستنداً إلى مجمل الانجيل. فالطابع الكنسي في متّى لا يرتكز فقط على هذا المقطع من انجيله. واتّفق الشرّاح على القول بالطابع الساميّ لكلام يسوع إلى بطرس. قال النقّاد: قد نكون أمام إضافة! ولكن البراهين ليست حاسمة. ولكن مهما يكن من أمر هذه المسألة، فنحن نستطيع أن نفهم أن الجماعة المسيحيّة الأولى عرفت في الروح أنها جماعة يسوع الرسوليّة، فاكتشفت في هذا القول تعبيراً حقيقياً عن هدف يسوع في ما يخصّ كنيسته وحياتها على الأرض.
رابعًا: أفكار البشر وأفكار الله (16: 21-23)
بعد أن أمر يسوع تلاميذه بشدّة (دياستالستاي) أن لا يقولوا لأحد إنه المسيح (آ 20)، لأن نظرتهم إلى المسيح لم تتنقّ بعد كل التنقية، بدأ منعطفًا جديدًا في حياته العامّة. ونلاحظ هذا المنعطف مع بداية آ 21: "ومنذئذ شرع يسوع يبيّن لتلاميذه أنه ينبغي له أن يمضي إلى أورشليم". هذا ما يذكّرنا بعبارة 17:4 (ومنذئذ طفق يسوع يعظ ويقول: توبوا، فقد اقترب ملكوت السماوات) التي تدلّ على بداية رسالته في الجليل وذلك بعد التجربة في البريّة (والآن انطلقت رسالته نحو أورشليم). ونلاحظ أيضًا أن هذا "عندئذ" (توتي) في آ 21، يستعيد آ 20 (حينئذ أوصى التلاميذ) ويعلن بداية آ 24 (حينئذ قال يسوع لتلاميذه). إن التعرّف إلى يسوع على أنه المسيح كما أنبأ به المعمدان في كرازته (3: 2) وموته (14: 3-12)، يدلّ على أن ساعة الآلام والقيامة قد دقّت.
إذن تدخل آية يونان والثلاثة أيام (آ 4، 12: 38- 40) في مرحلة التتمّة. ذاك هو معنى إنباء يسوع بآلامه وقيامته الذي هو في الوقت عينه انطلاق نحو اورشليم. في مر 8: 31، "علّم" يسوع تلاميذه "ضرورة" (داي) مروره في الموت. في مت 16: 21، "بيّن" (دايكنياين) قراره، وموقفُه برهن على ذلك أكثر من خطبة كبيرة. فهل نستطيع بعد هذا أن لا نتكلّم عن "إنباء" حقيقيّ بالآلام (رج 17: 22- 30؛ 20: 17- 19)
يشكّل إعلان يسوع هذا تجربة حقيقية لبطرس الذي "بدأ" يزجر "يسوع" (آ 22): هو لا يحتمل فكرة مسيح متألّم. وبدلاً من أن يظلّ في إطار وحي الآب (آ 17)، ويتصرّف بحسب أفكار الله (آ 23)، فقد أسقط على يسوع نظرته الخاصة إلى المسيح (أفكار الناس): إذ جعل نفسه أمام يسوع (ليعلّمه، لا وراءه كالتلميذ)، فصار مرجعُه نظرةً بشريّة (آ 23)، أصبح شيطانًا ومجرّبًا لربّه. لهذا أجابه يسوع كما أجاب إبليس في البريّة (4: 10) وأمره بأن "يذهب خلفه" أي أن يتبعه في طريق الحاش والآلام.
وتساءل الشرّاح: كيف قرّب الانجيليون اعتراف بطرس من معارضته له في تجربة "شيطانيّة"؟ لن ندخل في هذا الجدال. إنما يكفي أن نلاحظ أن موضوع "الشك" للانسان البيبلي قريب من "الصخر". فالشكّ هو فخّ وعائق (حجر نعثر به). يُوضع في طريق انسان فيجعله يقع (لا 19: 14؛ يش 13:23؛ مز 13:49). هنا نتذكر نصّ أشعيا الذي يقدّم الله كسبب شكّ وعثار من أجل شعبه: "يكون حجر شكّ وصخر عثار لبيتي اسرائيل... فيعثر به كثيرون وينحطمون" (أش 8: 14-15). على المستوى الأخلاقيّ والدينيّ، نحن دومًا أمام معثرة للايمان بالله. عندئذ ندرك أن ايمان بطرس والتلاميذ الذي لم يتثبّت بعد بما فيه الكفاية في الله، قد قبل مسيحانيّةَ يسوع، ولكنه اصطدم بطابع الألم الذي يرافق هذه المسيحانية.
خامسًا: يخلص حياته أو يجدها (24:16-28)
ارتدى السؤال الذي طرحه يسوع على تلاميذه (آ 13) أهمّية كبرى، لأنه يعني مصير كل انسان. وما زالت يُطرح على التلاميذ وعلى الجماعة المسيحيّة الأولى بقوة: كيف نعيش في وحدة الايمان بيسوع الناصري، المسيح وابن الله الحيّ؟
بثلاثة أقوال (وكل واحد يبدأ بالأداة "لأن"، "غار" في اليونانية)، أعلن يسوع لتلاميذه أن عليهم أن يعبروا معه في الموت (خسر نفسه، حياته، آ 25 أ) ليصلوا إلى القيامة (وجد نفسه، حياته، آ 25 ب). وأوضح متّى: "من أجلي". وانتقل من "خلّص" حياته إلى "وجدها"، لأنه ينبغي أن نكتشف بشكل محسوس ما معنى المخاطرة بالحياة من أجل يسوع المسيح. ليست هذه الفعلة عملاً من الكبرياء البطوليّة ولا يأسًا محتومًا: إنها عمل تواضع عميق يقبل بأن يتسلّم التلميذُ حياته من آخر، تاركًا كل اكتفاء ذاتي، وكل محاولة امتلاك من أجل المسيح الذي يستطيع وحده أن يجعل كلاً منا في الحياة الحقّة (آ 21). فمصير الانسان ينكشف أمام الآب (6: 4 ,6، 18، أبوكم يرى في الخفية). وعمل كل واحد منا يأخذ أبعاده الحقيقيّة (رج إر 17: 10؛ أم 24: 12؛ سي 35: 22) في علاقته بيسوع في الدينونة الأخيرة (رج 7: 21- 23؛ 13: 41، 49).
غير أن حياة كل انسان مسألة مستقبليّة وحسب. فهو يعيشها منذ الآن (آ 28: أودي؛ رج 24: 24؛ 26: 38): فالواقع الحاضر هو اسكاتولوجيّ كله بمعنى أن لكل عمل بُعدًا حاسمًا بالنسبة إلى الملكوت. ولكن، يتحقّق مجيء ابن الانسان في التسلسل التاريخيّ لالتزامات كل واحد منا. بعد هذا يكون التعلّق بالمسيح تأكدًا بأننا لن نذوق الموت. فالذي يكتشف مع بطرس الوحدة العميقة في سرّ يسوع الناصري (هو المسيح المخلّص لأنه ابن الله الحيّ)، يدرك منذ الآن أن "ابن الانسان" "المتألم والممجد" قد أخذه معه منذ الآن وأشركه معه في حياته بشكل نهائي.
من أجل هذا يكفي التلميذ أن يكون مثل معلّمه، والعبد مثل سيّده (10: 24-25): يكفر بنفسه، يحمل الصليب ويتبع (آ 24). تلك هي العناصر التي تكوّن حياة التلميذ. وما طُلب من بطرس يُطلب من الجميع: نقبل بمخطّط الله الخلاصيّ كما ظهر في حياة يسوع. وبالتالي نقبل أن يكون الآب غير ما يتخيّله ويتصوّره "اللحم والدم". نجد في بداية آ 28 "الحق أقول لكم"، وهي عبارة قويّة لم نسمعها منذ خطبة الامثال (13: 17).
إذن، ما يكون نسيج ف 16 هو آلام يسوع وقيامته: منذ آية يونان حتى مجيء ابن الانسان، تُدعى جماعةُ التلاميذ إلى أخذ قرارها والالتزام على خطى المسيح. ماذا يقول الناس عن ابن الانسان، وكيف يرونه؟
د- من مخافة التلاميذ إلى حريّة الابناء (ف 17)
طُرح سؤال جذري، وها هو ف 17 يجيب عليه مبيّنًا عبر مسيرة جديدة، طابع البنوّة الذي هو أساسيّ في حياة الايمان. فلفظة "ابن" تعود مرارًا في ف 17. تعود سبع مرات. ونحسّ بالانتقال من "الابن الحبيب" (آ 15) إلى "أبناء الملوك" (آ 25-26) عبر "ابن الانسان" (آ 9، 12، 22) وابن انسان من الناس (آ 15) أصيب بداء الصرع.
وهكذا تتحدّد خمس وحدات أدبيّة، إمّا بتضمينات خفيّة (الوحدتان الاوليان)، وإمّا بواسطة اسم الفاعل في بداية المقطع.
أولاً: تجلّي الابن واستيقاظ التلاميذ الخائفين (17: 1- 8). تضمين مع الجبل في آ 1 وآ 9 أ.
ثانيًا: ابن الانسان المتألّم ومجيء إيليا: لقد فهم التلاميذ (17: 9-13). بداية اسماء الفاعل: وفيما هم نازلون (آ 9). تضمين مع "ابن الانسان" (آ 9، 12). أما فعل "استيقظ" (آ 7، 9)، فيشكّل كلمة عاكفة تربط أولاً مع ثانيًا.
ثالثًا: استحالة شفاء ولد (ابن انسان من الناس) وقوّة الايمان (17: 14- 21). مع اسم الفاعل: "وفيما هم آتون إلى الجمع" (آ 14).
رابعًا: ابن الانسان يسلّم إلى البشر.. حزن التلاميذ (17: 22-23). اسم الفاعل: "وفيما هم عائدون إلى الجليل" (آ 22).
خامسًا: ضريبة الهيكل وحرّية الأبناء (17: 24- 27). اسم الفاعل: "وفيما هم آتون إلى أورشليم" (آ 24).
إذا وضعنا جانبًا الحدث الأخير الذي تفرّد متّى في ايراده، تبقى نصوص متّى موازية لنصوص مر 9: 2-32 ولو 9: 23- 45. أما الاشارات الخاصّة بالنصّ المتاويّ، فتُبرز بشكل خاص موقفَ التلاميذ: مخافتهم (آ 6-7) وفهمهم (آ 13) وقلّة إيمانهم (آ 23) وحزنهم (آ 23).
أولاً: تجليّ الابن (17: 1-8)
تقدّم لنا الوحدة الأولى "تيوفانيًا" (ظهورًا إلهيًا) أعلنت عنها نهاية ف 16 (آ 28): "يرون ابن البشر آتيًا في ملكوته". والتلميح إلى "المظال" (أو: الاكواخ) الثلاثة، يشير إلى عيد المظال (في العبرية "سكوت"): عيد القطاف في الخريف (لا 33:23-36). يذكّر العبرانيين بإقامتهم في البرية 40 سنة، كما يذكّر الانسان بضعفه. في كل يوم من أيام العيد السبعة، كانوا يطوفون مع الاغصان (كما في عيد الشعانين في المسيحية، مز 118). وفي اليوم الأخير، اليوم الثامن، كانوا ينشدون فرح التوراة.
أما العبارة "بعد ستة أيام" فهي تعود بنا إلى خر 16:24 حيث "بعد ستة أيام"، أي في اليوم السابع، "دعا الرب موسى من وسط الغمام إلى جبل سيناء". وعلى جبل مرتفع ومنفرد (كما قال مر 2:9 ومت 17: 1؛ رج 13:14، 23)، أخذ يسوع الذي هو موسى الجديد الذي يحرّر شعبه، أخذ ثلاثة تلاميذ اختارهم. ولن ندهش إن رأينا مع موسى إيليا الذي يعتبر نموذج المسيح وسابقه. فعلى جبل الله أقام إيليا فثبّت جذور نبوءته (1 مل 8:19). حضر هذان الوجهان (من العهد القديم) قرب يسوع المتجلّي، لا كرمزين للشريعة والانبياء وحسب، بل كالوسيطين الاخيرين للعهد أيضًا. وهكذا مثَّلا بداية ونهاية التاريخ الذي تمّ في يسوع، ديّان نهاية الأزمنة.
غير أن بطرس أراد أن يثبّت هذا التاريخ في موضع محدّد (آ 4). فمنعه الصوت والغمام: فمحلَّ مظال صنعتها أيدي البشر، يحلّ حضور الله الحقيقيّ الذي يرمز إليه الغمام الذي هو موطن الله ومسكنه (شكينه في العبرية، خر 40: 34-35؛ حز 10: 3-4؛ مز 18: 2). وحلّ محلّ صوت التلاميذ صوت آت من السماء. واستعادت آ 5 ما صوّره عماد يسوع في 3: 16-17، ما عدا ذكر السماوات المفتوحة والروح الحالل بشكل حمامة. أما الشمس والنور اللذان ارتداهما يسوع (آ 22)، فدلاّ على أن واقع السماء حاضر فيه. والكلمات التي تلفّظ بها الصوت تستعيد عند مت حرفيَا ما قيل في الرواية العماديّة: "هذا هو ابني الحبيب، به سررت" (جمع ثلاثة استشهادات من العهد القديم، مز 2: 7؛ تك 22: 2؛ أش 42: 1). وزاد متّى، شأنه شأن مرقس ولوقا: "اسمعوا له". هذا ما يذكّرنا بالنبيّ "الشبيه" بموسى الذي سيقيمه الربّ (تث 18: 15).
هنا أوقف مرقس ولوقا خبرهما. أما متّى فزاد: "فلما سمع التلاميذ سقطوا على أوجههم" (آ 6) بسبب خوف قويّ سيطر عليهم حين سمعوا الصوت، أو بسبب ما يتطلّبه سماع المسيح. فمنذ الخطبة بالامثال نعرف أهمية هذا السماع (تث 6: 4) والفهم الذي يتبعه (13:13، 14، 15، 19، 23؛ 15: 10). هذا الخوف هو علامة الموت الذي يجب أن يمرّوا فيه قبل أن "يوقظهم" يسوع.
في هذا الوقت، تركّز الخبر فجأة على يسوع "وحده" (23:14؛ رج 4: 10= تث 13:6)، لأنه يُتمّ العهد القديم الذي يأخذ منه واقعه الوحيد، ولأن التاريخ البشريّ يأخذ منه معناه وقيمته. فإذا أراد التلاميذ أن يكشفوا هذا المحور الذي هو يسوع، يجب أن يأتي هو إليهم (14: 12؛ 18:28)، ويلمسهم لمسة الشفاء التي تحمل الخلاص (رج 3:8، 15؛ 9: 20، 21-29؛ 14: 36).
تدعونا كل هذه العناصر التيوفانيّة والجليانيّة أن لا نتمثّل مشهد التجليّ على مثال "صوت وضوء"! فإذا أردنا أن نتأمّل في يسوع المتجليّ، وإذا أردنا أن لا نذوق الموت ونرى ابن الانسان آتيًا في ملكوته (16: 28)، يجب أن يلامسنا سرّ التجليّ، أي أن نؤخذ في نور ابن الآب الحبيب (آ 5) المدعو إلى الآلام (آ 12). حتى الآن (اودي، آ 4)، لم يستطيع بطرس أن يضمّ الآلام إلى المجد: غير أن التجليّ سيعطيه أن يكشف أن ابن الله الحيّ (16:16) مدعوّ إلى أن يسلّم ويتألم ليقوم بعد ثلاثة أيام (16: 21؛ 17: 22-23). حدثَ التجليّ هنا لكي يختبر التلاميذ الثلاثة الذين سوف نراهم على جبل الزيتون (37:26)، ملكوتَ يسوع الاسكاتولوجي عبر آلامه. هذا هو الثمن لكي يتقوّى إيمانهم ويصبح إيمان الأبناء.
ثانيًا: ابن الانسان المتألم ومجيء إيليا (9:17-13)
إذا كان يسوع قد طلب من تلاميذه أن لا يتكلّموا عن هذه الرؤية، فلأن هويّته المسيحانيّة الحقيقيّة لا تُدرك إلاّ بعد القيامة. والسؤال حول إيليا (آ 10) يدعوهم إلى أن يماهوا بين إيليا ويوحنا المعمدان (آ 13) الذي عرف ألم السجن والموت (14: 1-12) لأنهم لم يعرفوه. وعلى ابن الانسان أن يتألم هو أيضًا (آ 12). وإذ فهم (آ 13) التلاميذ من هو يسوع، فهموا في الوقت عينه من هو يوحنا، وأدركوا من هو موسى ومن هو إيليا على ضوء المسيح المتجليّ. على إيليا أن يعلن ديّان نهاية الأزمنة (آ 11، ملا 23:3-24). ويسوع يكشف أنه هو ملك ذلك الملكوت الذي أعيد بناؤه. إنه الابن الحبيب المدعو إلى أن يتألم. وهكذا كان يوحنا سابقاً للمسيح حتى في ألمه، ومعنى حياته يستضيء بنور ابن الانسان المتألم. بما أن يسوع هو هنا، فهذا يعني أن إيليا قد أتى (آ 12). هكذا لم يعد ابن الانسان انسانًا عاديًا: إنه منذ الآن ديّان نهاية الأزمنة الذي أخبر عنه الآب السماويّ.
و"فهمُ" التلاميذ (آ 13؛ رج 13: 51؛ 15: 10، 16؛ 16: 12) يدلّ على مرحلة في مسيرة الايمان الطويلة (58:13؛ 14: 31؛ 28:15؛ 8:16). فوسط شعب لا يستطيع أن يفهم (رج أش 1: 3؛ 9:6-10؛ مز 28: 5؛ 82: 5؛ 6:92؛ 106: 7)، فتحت خبرةُ التجليّ فتحةً واسعة للتلاميذ، فاكتشفوا خائفين أنهم في مواجهة الألم والموت، يعطى لهم أن يعرفوا أسرار الملكوت (13: 11).
ثالثًا: استحالة شفاء (14:17- 21)
وعاد يسوع مع جماعة التلاميذ الصغيرة، وانضمّ إلى الجموع التي تركها بعد تكثير الأرغفة الثاني (15: 39)، وذلك قبل أن يبدأ عودته إلى الجليل (آ 22) ثم إلى كفرناحوم (آ 24).
في ذلك الوقت، اقترب رجل منه وطلب من أجل ابنه المصاب بداء الصرع. لا نتوقّف عند تكوين النصّ، بل نحاول أن ندرك هدف متّى انطلاقًا من العناصر الخاصّة به. فالخبر يتمحور حول عجز التلاميذ عن شفاء الولد (آ 16-19) بسبب قلة إيمانهم (آ 20) وسط جيل لا إيمان له (آ 17)، وحوله قدرة الايمان الحقيقيّ (آ 20).
يرمز هذا الولد في نظر متّى إلى اسرائيل اللامؤمن، الذي لم يدرك حضور الله في وسطه مثل "الجيل الكافر والفاسد"، جيل العبرانيين في البريّة (رج تث 32: 5). لهذا قال يسوع: "أيها الجيل الغير المؤمن، الأعوج، إلى متى أكون معكم" (آ 17)؟ إن عمانوئيل الهنا معنا، لم يعرفه الناس. لا شكّ في أن التلاميذ فهموا عنه بعض الشيء، ولكن إيمانهم لم يكن بكاف. فبعد أن كلّم يسوع الشعب، طلب الولد: "إليّ به إلى ههنا" (آ 17). تلك العبارة سمعناها في أول تكثير للأرغفة (18:14). شفى يسوع هذا الولد من دائه بعد أن انتهر الشيطان فخرج منه (رج 8: 26؛ 16: 20).
ولكن لا بدّ أيضًا من شفاء إيمان التلاميذ المترجرج. جاؤوا إلى يسوع (آ 19) كما فعل والد الولد (آ 14). ساعة كان يسوع على انفراد كما على جبل التجليّ (آ 1). تحيَّروا من ضعفهم وعجزهم. "لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه" (نخرج الشيطان، آ 20)؟ أجاب يسوع: "بسبب قلّة إيمانكم" (اوليغوبستيا). أورد متّى وحده هذا الجواب الذي يتوافق كل الموافقة مع مخطّطه. وإذ تحدّث مرقس عن شيطان لا يخرج إلا بالصوم والصلاة (9: 29= مت 17: 21) في بعض المخطوطات، توّسع متى في جواب يسوع، في قول حول الايمان الذي يستطيع كل شيء.
وذكر متّى من جديد خطبة الامثال ولاسيّما حبة الخردل (13: 31-32) التي يتعدى نموّها الأخير كل ما ظهر من صغرها في البداية. فالتزام الايمان يستطيع كل شيء، شرط أن نتخلّى عن نفوسنا. فهو يستطيع أن "ينقل هذا الجبل" (آ 20)، جبل التجليّ. كما يستطيع أن يزيل العوائق التي تظهر في نهاية الأزمنة، لأن الله الآتي قد مهّد الجبال وسوّى الوديان (أش 40: 4-5؛ رج 49: 11؛ 54: 10). هنا نتذكّر أن التقليد اليهوديّ كان يرى جبل سيناء يتحرّك مع الشعب المؤمن. هكذا يكون الانسان دومًا أمام الله. وما حدث مرّة لموسى وشعبه من ظهور، يحدث كل يوم في حياة المؤمن. والتجليّ لن يكون ظهور "لحظة"، بل ظهورًا متواصلاً في حياة التلاميذ يصل بهم إلى الآلام والموت والقيامة.
ولكي ينمو ايمان التلاميذ، يجب أن يموت يسوع لكي يبقى دومًا معهم (18: 20). غير أن الكنيسة الأولى قد اختبرت أنها لا تستطيع أن تطرد اللاإيمان إلاّ بالصلاة والصوم اللذين يوحّدانها بموت المسيح وقيامته (9: 15).
رابعًا: ابن الانسان يسلم إلى البشر (22:17-23)
إن جماعة يسوع التي تتكوّن شيئًا فشيئًا كتلميذة لمعلّمها، قد أنهت مسيرتها: ها هي تعود إلى الجليل (3: 13؛ 4: 12، 15، 23، 35) من حيث جاء يسوع تاركًا وطنه (53:13-58). وهذا الجليل سيتركه يسوع بشكل نهائي في 19: 1. فالعودة إلى الجليل، شأنها شأن عودة التلاميذ إلى هناك بعد القيامة (32:26؛ 28: 7 ,10 ,16)، لا تأخذ معناها الرمزي بما فيه من شموليّة إلا عبر موت يسوع. و"الحزن الكبير" (آ 23) الذي أصاب التلاميذ، يرجع لا إلى إعلان ألم وموت ابن الانسان وانفصاله عن أحبّائه، بل إلى عجز التلاميذ الذين لم يفهموا أن القيامة التي أشارت إليها تيوفانية التجليّ، يجب أن تمرّ في الألم والموت. غير أن التلاميذ لا يرفضون الألم هنا، شأنهم شأن بطرس في الانباء الأول (16: 22)، بل هم يتألمون مسبقًا من هذا الألم الذي لا يستطيعون بعد أن يقبلوه.
خامسًا: ضريبة الهيكل وحريّة الأبناء (24:17-27)
حين وصل التلاميذ إلى كفرناحوم "مدينة" يسوع الخاصة (9: 1)، جرى حدث تافه في ظاهره. ولكن متّى أورده وحده: جاء جباة الضريبة إلى بطرس ليأخذوا "الدرهمين" عن يسوع. تدخلّ يسوع ووسّع النظرة متحدّثًا عن الضرائب بشكل عام. تكلّم عن ملوك الأرض الذين يرهقون الشعوب التي احتلّوها بما يفرضون عليهم من مكوس وضرائب من أجل رفاههم وكبريائهم. ولكن سوف نرى أن لفظتي "أبناء" و "غرباء" ستأخذان في فم يسوع مدلولاًَ رمزيًا.
يشدّد هذا المقطع على أن التلاميذ والجموع والناس استقبلوا ابن الآب بحسب ما أعطي لهم بأن يخضعوا لله وحده الذي يحرّرهم. فبنو الملك الحقيقيون أي بنو الملكوت الذين رأوا في يسوع ابن الآب الحبيب (آ 5) هم معفون من "الضريبة": فيسوع الذي هو أعظم من الهيكل (12: 6) حرّرهم منها وجعلهم بدورهم أبناء الآب. ولكن يسوع يأخذ بعين الاعتبار الشكوك التي قد يحدثها موقف من المواقف. هو يحترم السلطات المقامة، ويريد أن يتجنّب قطيعة مع هذه السلطة في نقطة ثانويّة.
والطريقة التي بها دفع يسوع ما يتوجّب عليه، تبدو غريبة. دعا بطرس أن يدفع الضريبة من ثمر عمله، من صيده. أما الفنّ الادبي لهذا الخبر فنجده في حياة القديسين. والسمكة التي وجدها بطرس بشكل غير متوقّع، هي عطاء مجانيّ يعينه على دفع الضريبة عنه وعن يسوع: وهكذا دلّ مت على مصير مشترك بين بطرس والربّ.
وهكذا نكتشف في نهاية ف 17 أن المسيرة التي رسمها متّى، هي مسيرة فصحيّة. فاكتشاف الرب القائم من الموت كابن الآب الحبيب، يتيح للتلاميذ أن يعمّقوا إيمانهم تعميقاً جديداً. فيصبح فيهم هذا الايمان قوّة تحرير لا تُقاوم. فالجماعة المسيحية تكوّنت انطلاقاً من يسوع وحده. وهي تستطيع بعد اليوم أن تشاركه في مصيره بما فيه من ألم وموت، لأنها تشاركه في بنوتّه بالنسبة إلى الآب. ولكن التحرّر البشري لا يعفينا من الوساطات البشريّة. يبقى علينا أن نكتشف في عبوديّات وضعنا البشري، كيف يعطينا يسوع أن نعيشها كأبناء أحرار.

4- البعد اللاهوتي في ف 14-17
إن البنية التي قدّمناها حاولت أن تأخذ بعين الاعتبار أكثر العناصر التي اكتشفناها. وهكذا بدا فكرُ متّى حول السرّ الفصحي الذي كشفه يسوع شيئًا فشيئًا لجماعة التلاميذ، متماسكًا جدًا. وهكذا ظهر البُعد الفقاهي في الانجيل الأول الذي حاول أن يصوّر مسيرة إيمان حقيقيّ لمسيحيين جاؤوا من العالم اليهوديّ كما من العالم الوثنيّ، تجمعهم افخارستيا واحدة في تعلّق واحد بيسوع الناصريّ. هو ابن النجار وهو في الوقت عينه المسيح وابن الله الحيّ، ابن داود وابن اسرائيل، ابن الانسان المتألم والرب القائم من الموت والابن الحبيب للآب.
هذه الألقاب الكرستولوجيّة التي اكتشفناها في قراءتنا ف 14-17، تبيّن المدلول العميق "لأسرار ملكوت السماوات" (13: 11) التي أعطي للتلاميذ أن يعرفوها. وتشير إلى مراحل ايمان يبقى دوماً ناقصاً، ولكنه ينفتح على وحي الآب السماوي وما فيه من سعادة (16: 17؛ 17: 5)، شرط أن نتركه يشفينا ويعلّمنا ويشبعنا من خبز البنين، من كلمة الآب الحيّة.
ويبرز الرباط بين التلاميذ والجموع من جهة، وبين ربّهم ومعلّمهم من جهة ثانية، بواسطة حروف الجر التي تتكرّر، أو أفعال ترد في صيغة الفاعل.
فالتلاميذ والجموع والفريسيون يأتون إلى يسوع. ولكن يسوع يأتي إليهم مرتين (14: 25؛ 7:17). وهذا ما لن يفعله إلا بعد القيامة (18:28). ستأتي جماعة التلميذ كلها مرة واحدة إلى الجموع (17: 14) بعد عودة يسوع من الجليل، وهكذا يدلّ متّى على أهمية العلاقات بين يسوع والناس، وهي علاقات يعبَّر عنها بالايمان الذي يسير خطوة خطوة، في الألم، ولا يستطيع أن يتعمَّق الآن إن لم يتوارَ يسوع (13:14؛ 15: 21؛ 4:16). فهو بعد كل غياب يعود إلى تلاميذه (14: 25؛ 27:16-28؛ 7:17) أو إلى الجموع (17: 14)، ولكنه يقدّم نفسه بوجه جديد، بوجه قد تجلّى.
إن طريق الايمان الذي يحوّلنا، يتواصل رمزيًا من خلال مسيرة تلعب فيها السفينة دورًا هامًا (13: 2؛ 14: 13، 22، 24، 29، 32، 33؛ 1: 39). أما "خرج" يسوع من البيت مثل زارع (13: 1)؟ ولقد بيّنت لنا ف 14-17 كيف يُرمى الزرع في الملكوت. وبأي شروط يثمر الزرع. ننتقل من موطن يسوع (53:13-57) إلى موضع قفر (13:14، 15) فنعبر البحيرة (13:14) قبل أن نصعد الجبل (3:14) ونصل إلى بحر (14: 24) جنسارت (14: 34). بعد ذلك هو انطلاق في مناطق صور وصيدا الوثنيّة (15: 21) ثم شواطىء البحيرة، وعلى الجبل (15: 29) قبل الوصول إلى مغادن بعد عبور آخر للبحيرة (15: 39). وبعد ذهاب مع التلاميذ وحدهم إلى منطقة قيصريّة فيلبس (13:16)، نجد نفوسنا أمام جبل عالٍ (17: 1) قبل أن نذهب إلى الجموع (17: 14) ونذهب إلى الجليل (7: 22) ونعود إلى كفرناحوم، مدينة يسوع (24:17).
مسيرة جغرافيّة. لا شكّ في ذلك. فالتقليد الرسولي قد ربط أفعال يسوع وأقواله بأمكنة محدّدة، فدلّ على طابعها البشريّ. وفي الوقت عينه مسيرة روحيّة لايمان الكنيسة الأولى، مسيرة تتلمّس طريقها فتمرّ من جليل طفولة يسوع إلى جليل حياته العامة. ومن جليل حياته العامّة إلى القيامة بطريق الآلام والموت، بالطريق التي تقود إلى أورشليم.
قدّم متّى مسيرة الايمان هذه منذ الخطبة بالامثال، على مستوى السماع والفهم، والنموّ والخصب. فالامثال المذكورة في ف 13، سيشير إليها الكاتب في ف 14-17، بحيث لا نستطيع أن نفصل مسيرة يسوع عن الخطبة الامثاليّة.
ومن فهم الامثال (13: 51)، سار وراء يسوع منكرًا نفسه حاملاً صليبه وتابعاً إياه (16: 24). هكذا تتحدّد حياة التلاميذ في هذا الوقت من الانجيل. فحقل العالم قد زُرع (13: 38). فماذا ينفع إن ربحنا العالم كله (6 1: 26)، إذا كنا لم نقتبل الكلمة فتثمر بالشكر (23:13)؟ فحين يأتي ملكوت الله في مجد الآب مع ملائكته القديسين، سيجازي كلاً بحسب أعماله (7:16؛ رج 41:13، 49).
فالشرير يعمل في هذا العالم (13: 15 ,38-39) والصخر (بطرس) قد يتحوّل إلى شيطان (16: 18 ,23) وسط جيل شرير وفاسق يطلب آية (16: 4) لانه فاسد ولان لا ايمان فيه (17:17). في الملكوت نما الحبّ الجيّد والزؤان معًا، وسيبقيان كذلك حتى زمن الحصاد (13: 30). في تلك الساعة الحاسمة، يُقتلع فاعلو الاثم والشكوك (13: 41؛ رج 29:13؛ 13:15). بانتظار ذلك، ينزع يسوع الأقنعة عن الوجوه (23:16). فمن تشكّك بتصرّفه (13: 21، 57؛ 15: 12)، مع أنه يسهر لئلاّ يشكّك أحدًا حتى في أمور تافهة (27:7)، دلّ على أن تطويبة الملكوت لم تلج قلبه بعد (11: 6؛ 17:6)، أنه لم يلتزم بعدُ حقًا (29:5-30) كما يلتزم التلميذ الحقيقيّ.
وإن كان من خمير يجب أن نحذر منه، فهو تعليم الفريسيين والصادوقيين (16: 12). غير أن هناك خميرًا آخر يخمّر العجين كله (13: 33): هو كلمة الله التي وحدها تشبع القلب الذي تطهّر في الداخل مما ينجّس الانسان، وبلغ إلى فهم "أسرار الملكوت" ورأى الله الحاضر في ابن الانسان الذي يأتي في ملكوته (28:16؛ 8:17).

خاتمة
إن التجذّر التاريخّ لجميع الاحداث المرويّة، يعطي لما يعمله يسوع اليوم معناه. فالانجيل يجعلنا أمام جماعة فيها يعطي يسوع ذاته، يُزرع ويُحول إلى خبز. غير أننا لا نستطيع أن نشرح ذلك لجماعة لا تعرف ما هو الاحتفالي الافخارستي، ما هو الملكوت، من هو يسوع الذي يعطي ذاته طعامًا. وهكذا فحياة الجماعة اليوم تضيء معنى الانجيل. والانجيل بتجذّره في تاريخ يسوع والكنيسة الأولى، يكشف لنا حقيقة ما نعيش. نحن نشبه الفريسيين، فنطلب اليوم آية دون أن نستطيع أن نقرأ تلك المعطاة لنا: يسوع الحاضر في جماعته. وبقدر ما نبحث عن آيات على "قياسنا"، ننغلق على الآية التي أعطيت من السماء والتي تتجاوزنا دائماً: آية موت يسوع وقيامته.
ولكي نذهب إلى يسوع ونراه، هل يجب علينا أن نمرّ بالعهد القديم، أما زلنا نحتاج إلى موسى وإيليا؟ المسيرة "البيبلية" ضروريّة حتى للكنعانيّة الوثنيّة. يجب علينا أن نتحسّس الخبرة التي عاشها شعب اسرائيل وأوردتها التوراة. فالجماعة الحيّة هي موضع خبرة الروح في كتاب مفتوح على حضور المسيح الذي يتمّه ويؤوّنه.
إن كلمة يسوع جعلت الجماعة الملتئمة تسمع أسرار الملكوت. فنزعت القناع عن شكوكنا، عن قلة إيماننا وتجاربنا وخوفنا من الألم. ورمتنا مثل جموع حائرة في وسط بريّة العالم، على العشب حيث يجمع الراعي خرافه. وتُعطى لنا الافخارستيا، الخبز الذي يجمع البشر، لهذا يجب أن نسير على طرقات الجليل كما على طرقات الأمم التي توصل كلها إلى أورشليم وتمرّ كلها في الألم والموت بانتظار القيامة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM