الفصل الثالث والعشرون: لا كرامة لنبيّ في وطنه

الفصل الثالث والعشرون
لا كرامة لنبيّ في وطنه
13: 53- 58

جاء يسوع إلى وطنه، إلى الناصرة. كان الناس هناك قد سمعوا بما صنعه في كفرناحوم التي صارت "مدينته" بعد أن أقام على ما يبدو في بيت سمعان بطرس. اندهشوا من هذا الذين يعرفون أمَّه وأباه وإخوته وأخواته. "من أين له هذه الكلمة وهذه المعجزات"؟ وظلّ الناس عند هذا الحدّ. رفضوا أن يخطوا خطوة الايمان. فتركهم يسوع.
إلى هذا الحدث نتعرّف بشكل عام قبل أن ندرس التفاصيل وننهي الدراسة الروحية واللاهوتية.

1- نظرة عامّة
يسوع هو في الناصرة. يرفضه أهله وسكان مدينته الناصرة، هذه القرية التي لا يرد اسمها في العهد القديم، بحيث قال الناس: "أمن الناصر يخرج شيء فيه صلاح" (يو 1: 46)؟ هذا النصّ قد أورده مر 6: 1-6 في السياق الذي عرفه مت. أما لو 4: 16-30 فجعله في بداية عمل يسوع الرسوليّ مع برنامج يقول فيه يسوع عن نفسه إنه أرسل ليبشِّر المساكين وينادي للعميان بالبصر، ويعلن سنة نعمة من قبل الربّ.
إذا أخذنا بتصميم مت مع خطبه الخمس، وإذا عرفنا أن هذه الخطبة الثالثة، خطبة الامثال (13: 1-52) قد انتهت مع الخاتمة التي اعتدنا أن نقرأها في خاتمة كل خطبة (آ 53: ولما فرغ يسوع من ضرب هذه الامثال، رج 28:7؛ 11: 21). نعتبر أن هذه المقطوعة تبدأ قسمًا جديدًا هو المرحلة الثامنة. أو إذا شئنا القسم الرابع، لأن كل قسم يتضمّن الشقّ الاخباري (ف 14-17) ثم الشقّ التعليميّ. أما إذا جعلنا الشقّ التعليمي (ف 13) يسبق الشقّ الاخباري (ف 14- 17)، نكون هنا في القسم الثالث مع العلم أن المرحلتين الأولى (ف 1-2) والثانية (ف 3-4) تثكّلان مدخلاً إلى إنجيل متّى بأقسامه الخمسة.
ما يميّز هذا القسم هو أن الاهتمام يتركّز كله، وبشكل تدريجيّ على تصرّف التلاميذ أنفسهم. سمع الجموع كرازة الملكوت (ف 5-7)، وجعل يسوع الرسلَ منادين بالملكوت (ف10) كان لم يذهبوا. فقد ذهب يسوع حين رآهم غير مهيّأين بعد. ورفض الفريسيون سرّ الملكوت، فظلّوا خارجًا (ف 13). ها نحن نصل الى المرحلة الثامنة التي تبيّن لنا حيرة تلاميذ يسوع (14: 22-23؛ 15: 32-39؛ 17: 1-8): لقد اعترفوا بسلطة يسوع وكرامته المسيحانيّة، ولكن سوء التفاهم تغلغل بينهم وبين المعلّم (13:16-23). سمعوا الانباءين الأول (16: 21-23) والثاني (17: 22-23) بالآلام، ولكنهم لم يفهموا. فلا بدّ لهم أن يسمعوا تعليم يسوع حول التصرّف الاخويّ في الملكوت الذي دشَّنه يسوع. فإذا أرادوا أن يكونوا أهلاً لهذا الملكوت، لا يكفي أن يسيروا بحسب نظام أخلاقي مثل نظام الفريسيين أو الاسيانيين أو الغيورين. بل يجب أن يتبعوا معلماً يهدّده رؤساء الشعب بالموت، أن يتخلّوا عن روح العظمة ويغفروا الاساءات ويهتموا بالضعيف، وكل هذا غريب عن التعليم الرسميّ في العالم اليهوديّ. ولكننا وصلنا هنا إلى ف 18 الذي سنعود إليه في المرحلة التاسعة وخطبة الرسالة.
هناك آراء في النظر إلى ف 13-17. فهناك من أراد أن يجعل من اعتراف بطرس (13:16-23) ذروة فيم حياة يسع العلنيّة، فقسم الخبر الانجيليّ قسمين، قبل هذا الاعتراف وبعده، على ما في انجيل مرقس حيث يشكّل اعتراف بطرس بالرب (8: 27- 30) الذروة الأولى في الانجيل الثاني. وتكون الذروة الثانية مع اعتراف قائد المئة بيسوع: "في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله" (15: 39). إذا وضعنا مقطوعة اعتراف بطرس (مت 16: 13-23) في سياق ف 14-17، فهي تبدو رئيسيّة. ولكن إذا جعلناها في السياق العام، بدت محدّدة في جزء خاصّ من الانجيل.
أما آ 53-58 التي تقع في بداية هذه المرحلة الثامنة والتي ندرسها الآن، فهي خاتمة ف 13 والخطبة بالامثال. بعد أن رُذل يسوع من محيطه الروحيّ، من قبل الفريسيين، ها هو يُرذل الآن من محيطه الجغرافيّ، من مدينته الناصرة، من بين أقاربه وأهل عشيرته. وضع متى هذه المقطوعة في سياق الخبر، فتبع مرقس بشكل عام فقط. فالانجيل الثاني أدخل بعد مجموعة الأمثال عن الملكوت (4: 1-34) ثلاثة أخبار هي: تسكين العاصفة (35:4- 41). مجنون الجراسيين (5: 1- 20). شفاء المنزوفة وابنة يائيرس (5: 21- 43). وعند ذاك يأتي خبر "طرد" يسوع من الناصرة (6: 1-6).
استند بعض الشرّاح إلى هذا الوضع لينكروا كل ارتباط أدبيّ لمتّى بمرقس. ولكن هذا لا يكفي ليجعلنا نقول هذا الكلام. ان مرقس قد أدرج هذه الأخبار الثلاثة في هذا الموضع، ساعة جعلها متّى بين المعجزات العشر (ف 8-9) ليدلّ على أن يسوع قدير بالقول والعمل. أما لوقا فقد جعل الحدث في موضع آخر من سرده، وطبعَه بطابعه الخاصّ. بدأ لوقا بمقطع طويل من العهد القديم (أش 61: 1، 2؛ 58: 6)، فصار الخبر الذي أورده في بداية رسالة يسوع، مثالاً عن تتمّة النبوءات في حياة يسوع: "اليوم تمّت هذه الكتابة التي تُليت على مسامعكم" (لو 4: 21). هذه الكلمة الهامّة التي جعلها لوقا في فم المسيح، لم يوردها مرقس، ولم يوردها متّى الذي يجعل ذروة خبره في رفض أهل الناصرة ليسوع. تشكّكوا من تصرّفه. صار لهم حجر عثار (مثل مرقس)، فرذلوه. وفي النهاية التقت الاناجيل الازائية الثلاثة في الاشارة إلى الهوّة التي فصلت يسوع عن مدينته.

2- الدراسة التفصيليّة
أ- وفرغ يسوع من ضرب الامثال (آ 53)
هنا نتذكّر 28:7: "ولما فرغ يسوع من خطابه". مثل هذا القول يفترض أن مادة ف 13 قيلت مرّة واحدة. نقول هنا ما قلناه عن عظة الجبل. لقد تفوه يسوع بهذه الامثال في مناسبات متعدّدة. فتعليمه يرتبط بالحياة والملاحظة اليوميّة. رأى الزارع يلقي زرعه، فقال: خرج الزارع ليزرع. أما متّى فجمع من الامثال سبعة (رقم الكمال) في ف 13. وسيورد عدداً آخر من الامثال ترتبط بظروف رسالته.
"مضى من هناك". رج 11: 1 حيث نقرأ نهاية خطبة الرسالة: "ولما فرغ يسوع من توصياته لتلاميذه، مضى من هناك". وفي 19: 1 وبعد أن انتهى من خطبة الكنيسة، "انطلق، مضى يسوع من الجليل". ما إن ينتهي يسوع من خطبة من خطبه الكبرى، حتى ينتقل إلى مكان آخر (رج 8: 1؛ 26: 6). فالخطب والأعمال لا تتمّ في مساحة جغرافيّة واحدة.
ب- "جاء إلى وطنه" (آ 54)
رج مر 6: 1 مع "جاء" (ارخاتاي). فمتّى تجنّب صيغة الحاضر التاريخيّ التي يستعملها مرقس عادة. ذكر "وطنه" مستبقاً القول المأثور في آ 57 (رج مر 6: 1، 4). "باتريس" تعني الوطن، وتعني الموضع الذي وُلد فيه الانسان. حين نعود الى 22:2-23، نفهم أن الكاتب يشير إلى الناصرة لا إلى كفرناحوم (رج لو 4: 16).
"وكان يعلّم الناس في مجامعهم". يرتكز النصّ على مر 6: 2 (بدأ يعلّم يوم السبت في المجمع). أوجز مت نصّ مر، واستغنى عن "السبت". أما الضمير "هم" في مجمعهم (رج 23:4) فيدلّ على الفصل التام بين العالم اليهوديّ والعالم المسيحيّ. كان المسيحيون يجتمعون في بيوت ستصبح فيما بعد كنائس. هي المرة الاخيرة يقول فيها متّى إن يسوع يعلّم في المجمع. ولكن هذا لا يعني انقطاعًا عن التعليم في المجامع رغم معارضة الرؤساء له، فيسوع لا يترك شعبه. فسوف يكلّمهم فيما بعد. ويشفي مرضاهم (14: 34-36؛ 15: 1-20، 29- 31؛ 26: 55). وهكذا نحسّ أن متّى يدوّن انجيله منطلقاً من المحيط الذي تعرفه كنيسته. ولكنه لا ينسى واجب الكنيسة تجاه الشعب اليهوديّ وتجاه جميع الشعوب. فالمسيح أرسلها إلى جميع الأمم.
"بُهتوا وقالوا". ق 15: 31؛ 27: 14 (فعل تومازو)؛ لو 4: 22. ترك مت لفظة "مستمعين" لأنه عرف أنهم يسمعون ولا يسمعون (13:13). رج 28:7-29. "من أين له هذه الحكمة وهذه العجائب"؟ ق السبعينية في أي 13:12؛ أش 2:11. نقرأ في يو 15:7: "كيف يعرف الكتب ولم يتعلّم"؟ دمج مت ثلاث جمل عند مر وأوجزها في جملة واحدة. هذا السؤال وما فيه من تعجّب يعني: هل كلمات يسوع وأقواله هي من الله أم من الشيطان؟ هنا نتذكَّر 21: 23-27 عن معموديّة يوحنا. هل هي من السماء أم من الناس؟ وفي 22:12-30: بمن يطرد الشياطين؟ بقوة الله أم ببعل زبوب؟ رج 9: 43؛ 10: 24- 25. "المعجزة" (ديناميس). رج 11: 20.
ج- ابن النجار وابن مريم (آ 55)
وواصل الجمع تساؤلاته ليفسّر هذه العظمة تجاه أصول يسوع الوضيعة (تلك كانت عائلة يسوع). "هو ابن النجار". رج يو 6: 42: "أما هو يسوع؟ فنحن نعرف أباه وأمه". تحدّث يوستينوس عن يوسف الذي كان يصنع النير والصند. قال مر 3:6: هو النجار. قال مت: هو ابن النجار. الاب كان نجارًا. والابن أخذ مهنته من أبيه. فيسوع لم يحتقر مهنة من المهن. وعلى كل حال، تدلّ هذه المهنة على وضاعة حاله. وقد تعني "ابن النجّار" ذاك الذي هو نجّار أبًا عن جدّ. قال مرقس: هو ابن مريم. وقال متّى: هو ابن النجّار. أجل، يوسف هو أبو يسوع على مستوى العرف والشريعة (رج 1: 18. هي حبلى بيسوع قبل أن يعرفها يوسف). "أليست أمّه تسمّى مريم"؟ ق 46:12، 48- 49؛ يو 2: 12؛ أع 1: 14 (تذكر أم يسوع واخوته). قال مر 6: 3: "هو ابن مريم، وإخوته هم يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان". أما متّى، فقدّم ثلاثة أسئلة وكتب يوسف بدل يوسي، وجعل سمعان قبل يهوذا. قد يكون وصل إلى متّى تقليد يعتبر سمعان أكبر من يهوذا.
كان يعقوب رئيس كنيسة أورشليم. ذُكر اخوة يسوع في 13: 35. وفي يهو 1. بالنسبة إلى يعقوب رج أع 17:12؛ 13:15؛ 18:21؛ 1 كور 15: 7؛ غل 1: 19؛ 9:2، 12؛ يع 1: 1؛ يهو 1. تحدّث بولس عن اخوة الرب في 1 كور 9: 5. أما يو 7: 5 فقال إن اخوة يسوع لم يكونوا يؤمنون
كان جدال حول اخوة يسوع. حين نعرف أن مريم كانت عذراء كما قالت الأناجيل بعد موتها لسنوات عديدة، لا نستطيع أن نقول بعد ذلك إنه كان ليسوع اخوة واخوات من مريم ويوسف. بل أبناء عمّ. تحدث ابيفانيوس مثلاً عن أولاد يوسف في زواج أول. نشير هنا إلى أن اخوة يسوع هم أبناء مريم أخرى كانت قرب الصليب وهي زوجة كلاوبا. فنحن نقرأ يو 19: 25 كما يلي: كان عند الصليب يسوع: أمه، أخت أمه (سالومة والدة يعقوب ويوحنا)، مريم زوجة كلاوبا، ومريم المجدليّة.
د- "من أين له هذا" (آ 56)
ظلّ الجمع على عدائه يطرح الاسئلة حول أخواته أيضًا. كان اليهود يعتبرون أن المسيح حين يأتي لن يعرف أحد من أين جاء (يو 7: 27).
لا نقرأ عن أخوات يسوع إلاّ في مت 13: 56 ومر 3:6. لا نعرف شيئًا عنهن. إذا كان العهد الجديد لم يذكرهنّ، فهذا قد يعني أنهن لم يصرن مسيحيات. غير أن هناك تقليدًا يربط بين اخوة يسوع والنساء اللواتي تبعن يسوع (لو 8: 2-3) وصرن بعد ذلك شماسات.
* "من أين له هذه كلها"؟ رج آ 54 ج. أي الحكمة والأعمال القديرة أو المعجزات.
هـ- كان لهم شكًا وعثارًا (آ 57)
قابل وصيّة يهوذا: "هو ما أطاع النبيّ حين تكلّم، وقد تشكّك بكلمة تقوى". ق مت 6:11: "فطوبى لمن لا يشك فيَّ" (يعثر بسببي). إن مر توافق مع مت بالنسبة الى الفعل "سكنداليزو". رج 5: 29 (إن شككتك يدك، إن قادتك إلى الخطيئة). نحن هنا أمام عدم إيمان له أهميّة على المستوى الاسكاتولوجيّ. حين تشكّك أهل الناصرة بسبب يسوع، نبيّ آخر الأزمنة، الذي جاء إليهم ليجري المعجزات ويُشركهم في حكمته، عرَّضوا نفوسهم للدينونة الاسكاتولوجيّة لأنهم لم يؤمنوا.
"أما يسوع فقال لهم". ترد هذه العبارة بهذا الشكل 4 مرات في مت، 5 في مر. ولا ترد أبدًا في لو. في مر 6: 4 أ: "وقال لهم يسوع إن". "لا يكون النبي مكرّمًا". أوجز مت ما في مر فحذف "بين أهله". قد يدلّ البيت على الوطن والبلدة (إر 22: 5 حسب السبعينيّة؛ مت 38:23) وهكذا يكون "وطنه" مرادفًا لـ "بيته".
إن القول حوله النبيّ الذي لا يكرّم في وطنه، يرد أيضاً في لو 4: 24؛ يو 4: 44. كما يرد في الادب الدنيوي. مثلاً. ابكتات: "نصحَنا الفلاسفةُ أن نترك وطننا. لا نستطيع أن نحتمل أولئك الذين يلتقون بنا فيقولون: صار فيلسوفاً وهو الذي كان في الماضي كذا وكذا".
"لا يكرّم نبيّ". هذا يعني في مت أنهم لم يتعرَّفوا إلى يسوع كما هو. لم يروا فيه النبيّ الحقيقيّ. هنا نتذكّر وضع إرميا الذي قاومه أهله في عناتوت موطنه (إر 1: 1؛ 11: 21؛ 12: 6). بما أن يسوع تلّفظ بهذا القول المأثور، فهذا يعني أنه وعى مهمَّته النبويّة.
و- لم يصنع عجائب (آ 58)
كتب مر 6: 5: "ولم يستطع هناك أن يصنع شيئًا من العجائب. ما خلا أنه شفى بعض المرضى". أوجز مت نص مر. فالربّ هو سيّد الموقف، ولا أحد يفرض عليه موقفًا. قالت مر: "لم يستطع". أما مت فقال: "رفض أن يصنع عجائب".
بسبب لا إيمانهم (أبستيا). هذا ما قاله يوسيفوس عن موسى الذي واجه اللاايمان. قال مر 6: 6 أ: "وكان يتعجّب من عدم إيمانهم": في الواقع صنع بعض المعجزات بسبب عدم الايمان لدى الشعب. فكما أن اللاايمان دفع يسوع إلى أن يتكلّم (13:13)، فقد دفعه أيضًا لأن يصنع بعض العجائب فقط. قيل عن التلاميذ أن إيمانهم قليل (أوليغوبستيا، 6: 30). عندهم بعض الايمان. أما أهل الناصرة فلا إيمان عندهم (أبستيا).
بعد أن رُفض يسوع في ف 11 (مدن الجليل) وفي ف 12 (مع الفريسيين)، وبعد التعليم بأمثال عن أسرار الملكوت (13: 1-52)، ها قد جاء مت 53:13-58، فقدّم لنا مثالاً حيًا عن الشعب الذي يسمع ولا يسمع، الذي يرى ولا يرى (13: 13) فبيّن لنا أن اللاايمان (عدم الايمان) لا يقابل مساحة جغرافيّة معيّنة ولا شعبًا محدّدًا. فيسوع قد رُفض في الشمال وفي الجنوب، في مواطنه الناصرة وفي عاصمة البلاد أورشليم. ليس من موضع لم تصل إليه العداوة. وليس من شعب تعلّق كله بيسوع. هناك مسيرة شخصيّة يقوم بها كل إنسان بالنسبة إلى المسيح. فلا فرق بين يهودي ويوناني، بين رجل وامرأة، بين غنيّ وفقير، بين هذا الشعب أو ذاك. على كل حال، جاء يسوع إلى خاصته وخاصته لم تقبله. جاء إلى بلدته فرفضته بلدته. حتى اخوته لم يؤمنوا به. وهكذا ارتسمت الطريق تجاه يسوع. بما أنه النبيّ فسيُرذل ويتألم. بل سيموت، ولكن موته سيكون حياة لشعبه.

3- النظرة اللاهوتيّة والروحيّة
أ- يسوع يعلّم (آ 53-54)
يقول النصّ إن يسوع فرغ من التعليم بالامثال. ثم يقول بعد ذلك: "وكان يعلّم". أجل يسوع هو المعلّم بدرجة سامية في انجيل متّى. فحتّى الامثال لم يقلها يسوع مرّة واحدة. بل هي توزَّعت هنا وهناك حسب الظروف والحاجات. وما يربط بين الامثال وخبر مجيء يسوع إلى الناصرة، هو أن المقاومات العديدة للكلمة كما صوّرتها الامثال، ستجد تثبيتًا لها الآن في فشل يسوع في وطنه. قد يعني الوطن "موطن الآباء" (2 مك 8: 21؛ يو 4: 44) وقد يعني الموضع الذي وُلد فيه الانسان كما هو الامر هنا. وحده لوقا ذكر اسم الناصرة. أما مرقس ومتّى فافترضا أن الاسم كان معروفًا (2: 23؛ 4: 13؛ 11:21).
أوجز مت نصّ مر فلم يقل إنه كان يعلّمهم (أي أهل بلدته) يوم السبت. فقد افترض ذلك. فالجمع يأتي الى المجمع يوم السبت، ليسمع الكتب المقدّسة وكلام الوعظ. احتاج مرقس أن يشير إلى السبت وهو الكاتب لمحيط وثنيّ. أما متّى فاعتبر أن هذا الأمر معروف في محيط مسيحيّ متهوّد. ماذا علّم يسوع؟ هذا ما لا يقوله مر، كما لا يقوله مت (23:4؛ 2:5...). أما لو فتوّسع مطوّلاً في تعليم يسوع.
يتّفق التقليد الإزائي على القول إن يسوع علّم في المجامع (4: 23) وذلك لسببين رئيسيين. الأول، أراد يسوع أن يجذّر تعليمه في حياة شعبه الدينية. الثاني، هناك يستطيع أن يلتقي بجميع الشعب الذي أرسل إليه. هو ما جاء لكي يؤسّس حزبًا جديدًا، ولا ليحمل بعض الأفكار الثورويّة. بل جاء يطرح السؤال حول شخصه، على أبناء شعبه الذين يلتئمون يوم السبت لقراءة الكتب المقدسة وتفسيرها.
لا نفهم الدهشة الممزوجة بالحيرة لدى السامعين، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار كل نشاط يسوع السابق. ما عمله. ما علّمه. فأبناء الناصرة لا يعجبون من سلطة يسوع في حدّ ذاتها. بل يبحثون عن أصل هذه السلطة، عن ينبوع هذه الحكمة. هذا ما اعتادوا أن يفعلوا في خطّ العهد القديم مع كل انسان يعتبر نفسه "نبيًا". هذا ما فعلوا مع يوحنا المعمدان: "من أنت؟" هكذا نعطي الجواب لمن أرسلونا (يو 1: 22). وهكذا تساءل أبناء الناصرة عن أصول يسوع. نقرأ "بوتان"، من أين؟ رج آ 56، نحن لسنا هنا أمام مدلول محليّ (مثلاً في 15: 33: من أين أنت، من أي مكان). ولا تعني "بوتان" لماذا، لأي سبب (مر 12: 37؛ يو 1 :48)؟ بل ممّن تسلّم يسوع هذه السلطة التي بيده، من أعطاه إياها؟ هذا ما يقوله مر 6: 2: "هذه الحكمة التي أعطيها" (المجهول، وفي فكر الانجيلي هو المجهول الالهي: الله هو الذي أعطاه إياها).
إن يسوع كما تصوّرته الاناجيل الازائية، وكما يصوّره الانجيل الرابع (يو 7: 15 ي؛ رج 42:6 ي)، لا يطرح بتعليمه ومعجزاته وآلامه سؤالاً عن "شخصيّة" غنيّة، هي شخصيّته، بل عن سلطته: هل تسلّم من الله أم من الشيطان سلطان الكلام واجتراح المعجزات؟ إن لفظتي "حكمة" و"معجزات" (ديناميس، تدلّ على القدرة) لا تكمّل الواحدة الأخرى، بمعنى أن الواحدة تتحدّث عن وجهة باطنيّة، هي حكمة ولدت في قلب الانسان، والاخرى تتحدّث عن وجهة خارجيّة هي أعمال تدلّ على قدرة يسوع. فهاتان اللفظتان تلمّحان إلى الوجهتين الرئيسيتين في رسالة يسوع اللتين حيّرتا معاصري يسوع: تعليمه ومعجزاته.
ترد لفظة "حكمة" أيضًا في مر، لا في لو. ولكن إذا وضعنا جانبًا مت 19:11 (تبرّرت الحكمة بأعمالها. يسوع هو الحكمة وأعماله تشهد له)، لا تطبّق أبداً على يسوع في الاناجيل. فهذه الحكمة هي التعليم الذي تلقّاه يسوع من الله (يقول خصومه: من إبليس) من أجل البشر. وانطلق الانجيليّ من خبرات مواهبيّة في الجماعات المسيحيّة (1 كور 12: 8؛ كو 1: 28؛ 3: 16)، ففهم هذه الحكمة كإحدى السلطات العجائبية (ديناميس، عمل قوّة) التي منحها الروح للمؤمنين. انطلق متّى من سمات تقليديّة لمفسّر يهوديّ للشريعة، فقدّم لنا في شخص يسوع مثالاً لجميع المسيحيين الذين نالوا مواهب الحكمة والعلم والنبوءة (1 كور 12: 8 ي).
ب- أسئلة تطرح (آ 55-56)
"من أين له هذه الحكمة؟ أما هو ابن النجار؟ أليست أمه تُسمّى مريم؟ أو ليست أخواته معنا"؟ أسئلة تتزاحم في هاتين الآيتين. ولكنها في الواقع ليست تساؤلات. فإن آ 57 تدلّ على أن أبناء الناصرة تشككوا، لأن سؤالاتهم هي في الواقع نفيٌ لحكمة يسوع وعجائبه. نفي للصفة السامية التي يتمتَّع بها يسوع. فيكون معنى هذه التساؤلات: بما أن يسوع واحد منا، بما أنه خرج من بلدتنا ومحيطنا، فلا يمكن أن تكون هذه السلطة التي له من الله. إذن، أنكر مواطنو يسوع أن يكون يسوع في الوقت عينه واحدًا منهم، وصاحب كل هذه السلطة من الله. هناك خيار لا بدّ منه: أو هو من الناس، أو هو من الله.
لا يُفهم هذا النفي رفضاً مبدأيًا لحضور الله في الانسان، بل إن يهود ذلك الزمان، رفضوا تدخّل الله التاريخيّ في ظروف بشريّة خاصة هي عائلة يسوع الناصريّ. فالنبيّ (آ 57) أو محرّر الشعب في الأيام الأخيرة، لا يظهر في مثل هذه الظروف. ولكن لم ينكر أحد أن يسوع كان انسانًا كسائر الناس. بل هو من الوضعاء من الناس. قال عنه مرقس: هو النجار. ومتى: هو ابن النجار، يعمل في النجارة، في البناء (سطح البيت من خشب مع تراب).
لم يذكر مت ولا مر يوسف على أنه أب يسوع عكس لو 23:3؛ 4: 22 (رج يو 1: 45؛ 42:6). لكن هذا لا يعني أن يوسف مات يوم كان يسوع بعد ولداً. أما مسألة اخوة يسوع، رج 12: 46-50. إنهم أبناء عمه وأبناء كلاوبا ومريم التي كانت على الصليب مع أم يسوع، وأم يعقوب ويوحنا، ومريم المجدليّة (يو 19: 25).
ج- تشكّكوا وما آمنوا (آ 57-58)
لاحظ الشرّاح من خلال قراءتهم للأناجيل الإزائية أنه كل مرّة تشكّك (عثروا، وجدوا ما يسبّب لهم عثارًا وسقوطًا) الناس، فهذا الذي يشكّكهم هو دومًا يسوع. في مت 6:11، يبدو أن يوحنا المعمدان تشكّك بسبب تصرّف يسوع. انتظر منه أن يرسل الفأس على أصل الشجرة فلم يفعل. لهذا أعاده يسوع إلى ما تقول الانبياء عن المسيح. رج لو 23:7. أجل استصعب يوحنا، واستصعب معاصرو يسوع أن يروا فيه المسيح. وفي مت 26: 31، 33، قال يسوع: ستشكّون فيّ هذه الليلة، ستسقطون بسببي. فموت المسيح الذي انتظره التلاميذ منتصرًا ظافرًا، صار حجر عثرة يصطدمون به، وهنا تشكّك أهل الناصرة (رج مر 3:6)، لا لأن يسوع، لا سمح الله، عمل عملاً سيّئًا فشكّكهم، بل لأنه أظهر حكمة لا تأتي إلاّ من الله، وعملَ معجزات لا يمكن أن يكون مصدرها إلاّ الله.
في هذه النصوص، من تشكّك بسبب يسوع أظهر أنه لم يؤمن به. أظهر أنه رفضه حين رفض طريقة تفكيره، حين رفض تصرّفاته (هكذا تشكّك الفريسيون حين رأوا يسوع يؤاكل الخطأة). أما لفظة "به" (إن أوتو) فنأخذها بمعناها القويّ. شكّوا بشخصه وبما يصدر عنه. فأهل الناصرة لم يقعوا فقط في خطأ عام سبّبه يسوع، فجعلهم يضلّون في عقيدتهم الإلهيّة، بل وجدوا في شخص يسوع نفسه ما يصدمهم كما رأوا وفسّروا أقواله وأعماله عبر الاسئلة التي أوردها هذا النصّ، فوجدوا فيها أسبابًا لكي لا يؤمنوا به. اذن، تشككوا بيسوع. أو صُدموا حين نظروا الى يسوع (ان اوتو: فيه. رج 18: 6-9؛ 26: 31، 33).
في الشقّ الثاني من آ 57، يبدو أن يسوع كما يحدّثنا عنه متّى، يورد قولاً مأثورًا عرفته الاناجيل الاربعة (لو 4: 24؛ يو 4: 44). إن هذا القول قد ارتدى مدلولاً صار جديدًا حين ردّده يسوع وطبّقه على نفسه. تكلّم يسوع عن مصيره بلغة الحكمة والامثال، فدلّ على أنه حقاً ينتمي إلى تاريخ البشر: فهو يحسّ في لحمه ودمه بالمحدودات السوسيولوجيّة التي كرّستها الأقوال الشعبيّة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يدلّ هذا القول على أن مصير يسوع حين رذله أهل بلدته، لم يكن عن طريق المصادفة. فتجاه يسوع، نجد البشر الذين يرفضون أن يؤمنوا. هذا ما حدث للانبياء. وهذا العناد من جيل إلى جيل في رفض مرسلي الله، قد شدّد عليه الفكر اليهوديّ في أيام يسوع. هنا نتذكّر ما قاله العهد الجديد في هذا المعنى: "طوبى لكم إذا عيّروكم... هكذا اضطهدوا الانبياء الذين قبلكم" (مت 5: 11-12). رج 33:21-44 ومثل الكرّامين الذين يمثلّون الانبياء. وفي 33:23، قال يسوع: "ها أنا أرسل إليكم أنبياء... فتقتلون وتصلبون...". رج أع 7: 1-53 وخطبة اسطفانس أمام الذين سيرجمونه.
قال مر إن يسوع لم يقدر أن يجترح معجزات. أما مت فقال: "لم يصنع هناك عجائب كثيرة لعدم إيمانهم". ذاك الذي يستطيع أن يفعل المعجزات، رفض هنا بإرادته أن يفعل. ولفظة "أبستيا" (ترد هنا وفي مر 6: 6؛ 9: 4). أما الصفة "ابستوس" فنقرأها في 17: 17 وز. لا تدلّ هاتان اللفظتان على سمة من طباع أهل الناصرة، ولا على حذر خاصّ بهذه البلدة تجاه كل ما هو جديد، بل على واقع لمسه يسوع حين رفضوا أن يؤمنوا به. رج 17:17 حيث قال يسوع: "أيها الجيل الغير المؤمن، الأعوج"!

خاتمة
جاء مت 53:13-58 بعد أحداث بيّنت لنا كيف رُذل يسوع (ف 11- 12)، وبعد نظرة إلى الله اكتشفناها في خطبة الامثال (ف 13)، فقدّم لنا مثالاً ملموسًا عن شعب يسمع ولا يسمع، يرى ولكنه لا يرى، لا يُبصر (13:13). وهكذا ترتبط هذه المقطوعة بما سبق فتحدّد مساحة جغرافيّة من اللاإيمان. هي الناصرة. وقد تكون جماعة من جماعاتنا. كما ترتبط بما يلي. ففي 57:13 أعلن يسوع بشكل ضمنيّ أنه "نبيّ". وفي 14: 5 اعتبر الشعب ولم يخطئ أن يوحنا المعمدان هو نبيّ. ما ينتظر يوحنا هو الموت لأنه قال كلام الحقّ. وما ينتظر يسوع بعد هذا الرذل "العام" هو الألم والموت. فرفضُ الناصرة ليسوع مقدّمة لرفض أورشليم له. وهكذا يستشفّ الطريق التي سيسير عليها يسوع.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM