الفصل الثاني والعشرون: الكنز واللؤلؤة والشبكة

الفصل الثاني والعشرون
الكنز واللؤلؤة والشبكة
44:13-52

تنقسم خطبة الامثال قسمين كبيرين متوازيين. في القسم الاول (آ 1- 23) يُروى مثل الزارع للجموع (آ 1-9) وتتبعه ملاحظات تتوّجه إلى التلاميذ حول السبب الذي لأجله كلّم يسوع الجموع بأمثال (آ10-17). ويلي هذا تفسيرٌ مفصّل للمثل (آ 18-23). في القسم الثاني يُروى مثل الزؤان للجموع (آ 24- 30) ويُزاد عليه مثلان قصيران (آ 31-33) ثم ملاحظة للتلاميذ حول الباعث على الكلام بأمثاله (آ 34-35). وبعد تفسير مفصّل لمثل الزؤان (آ 36-43)، تأتي ثلاثة أمثلة إضافيّة (آ 44- 50) وخاتمة الخطبة كلها (آ 51-52).
نلاحظ أول ما نلاحظ أن المقطع الذي ندرسه الآن يشكّل زيادة بالنسبة إلى ف 13. فإضافة آ 44-50 تتيح للانجيليّ أن يصل إلى الرقم 7 الذي هو رقم الكمال (سبعة أمثال). والخاتمة التي تبدو بشكل مقابلة أو مثَل، تعود مرّة أخيرة إلى التعارض المهمّ جدًا في هذه الخطبة، وتقابل بين التلاميذ الذين فهموا والجموع التي لا تستطيع أن تفهم.
ونلاحظ أيضًا حين نتمعّن في النصّ، أن مثلي الكنز المخفى في حقل (آ 44) واللؤلؤة الثمينة (آ 45-46) تشكّلان مثلين زوجين. إنهما يودّان أن يقدّما عبرة واحدة، مع أنهما انطلقا من صورتين تتكاملان: تنطلق الصورة الأولى من أجير فقير يشتغل الأرض عند شخص آخر. وتضع الصورة الثانية أمامنا تاجرًا تفترض تجارتُه امكانيّات ماليّة كبيرة.
ونلاحظ ثالثًا أن مثل الشبكة (آ 47-50) يستعيد كلمات وصور مثَل الزؤان وتفسيره (آ 24- 30، 36-43)، ويتوخَّى تقديم التعليم عينه. فلو عدنا إلى المنطق السليم، وجب على هذا المثل أن يكون بقرب مثل الزؤان. لهذا نتساءل: لماذا فصل متّى بين المثلين فأدرج بينهما مثلي الكنز واللؤلؤة؟
ونلاحظ رابعًا أن "خطبة الامثال" هي في قسمها الأكبر عمل تدوينيّ. فقد تألفت عند مرقس من أجزاء تقليديّة إضافيّة أخذها الكاتب من تقاليد أخرى. ولم تتمّ عمليّة الجمع صدفة واتفاقاً. أراد الكاتب أن يوضح العناصر التي تؤلّف الأمثال. وقدّم تفسيراً لهذه العناصر لا يتوافق بالضرورة مع مدلولها لو أنّها وردت في سياق آخر. وهكذا يُطرح السؤال على مستويين: مستوى المثل في حدّ ذاته وبمعزل عن سياقه الحاليّ، وقد وُضع في الإطار العام لحياة يسوع العلنيّة. ثم معناه في السياق الانجيلي الحاليّ الذي يدلّ على التفسير الخاصّ الذي يقدّمه الانجيليّ لقرّائه.

1- العامل والكنز وتاجر اللآلىء (44:13- 46)
منذ البداية، بدا هذان المثلان مترابطين. لهذا ندرسهما معاً. فنتساءل اولاً حول مرمى الخبرين: ما الذي يبرزه الراوي، وما هي العبرة التي نستنتجها؟ ونسعى بعد ذلك الى تحديد هذه العبرة التي تعطي الخبر تطبيقه الديني. وفي نقطة ثالثة نتوقّف عند الطريقة التي بها أراد متّى أن يُفهم قرَّاءه المسيحيين آنيّة هذه العبرة التي يقدّمها.
أ- مرمى الخبرين
أولاً: الاشخاص
تركّز الخبران أولاً على الشخصين: العامل في الحقل، والتاجر الكبير. لا شكّ في أن الخبر الاول يلفت انتباهنا بادئ ذي بدء إلى الكنز. "يشبه ملكوت السماوات كنزًا مدفونًا في حقل". ولكن الخبر لن يتحدّث بعد ذلك إلاّ عن الرجل الذي اكتشف الكنز، وعمّا فعله بعد هذا الاكتشاف. لا نجد كلمة واحدة عن طبيعة هذا الكنز ولا عن قيمته. كما لا يقول لنا الكاتب شيئاً عن اللؤلؤة سوى أنها "نفيسة". هذا ما يكفي ليفهمنا لماذا فعل التاجر ما فعل. وهكذا أراد الراوي أن ينبّه سامعيه لا إلى الكنز ولا إلى اللؤلؤة، بل إلى ما فعله هذان الشخصان حين اكتشفا ما اكتشفاه بشكل لا يصدّق.
ثانيًا: اكتشافان
ولا يقدّم لنا الخبران أي تفصيل عن الظروف التي فيها اكتشف العاملُ كنزه، والتاجر لؤلؤته. في الحالة الاولى، يصوّر لنا النصّ ما فعله العامل بعد اكتشافه غير المباشر، ساعة كان يفلح حقل رجل آخر. ولا تُعطى لنا أية معلومة عن الطريقة التي بها وُجد الكنز. هنا نتذكّر الأخبار الرابينية حول الموضوع نفسه: سقطت بقرة الفلاح في حفرة وكسرت رجلها (يعود هذا الخبر إلى رابي يهودا الذي عاش في أنطاكية حوالي سنة 90 ب م). كما لا يعلمنا المثل بشيء عن الظرف الذي جعل التاجر يكتشف تلك اللؤلؤة الثمينة. الاكتشاف فرضيّة تتيح لنا أن نفهم فيما بعد السلوك الذي سلكه هذان الرجلان.
ثالثًا: تصرّف الرجلين بعد اكتشافهما
وإذ أراد هذان المثلان أن يصوّرا سلوك هذين الرجلين بعد اكتشافهما، استعملا التعابير نفسها. "من فرحه مضى وباع كل ما له واشترى ذلك الحقل". "مضى وباع كل ما كان له واشتراها". فالاختلافات في الاسلوب والالفاظ تُبعد كل رتابة عن التكرار. ومن الواضح أن هاتين النهايتين تشكّلان في الوقت عينه ذروة الخبرين. هنا يجب أن نتوقّف بعض الوقت عند الوضع، لا سيّما وأن الاشارة ليست طبيعيّة: أما يبدو غريباً أن يحتاج هذان الرجلان إلى كل ما يملكاه ليقتنيا الخير الذي رغبا فيه، وأن يكون ما يملكانه كافياً بدون زيادة ولا نقصان. فما هو غير طبيعيّ ينتج من واقع يجعل الراوي يكيّف خبره مع التعليم الدينيّ الذي لأجله قدّم هذين المثلين.
رابعًا: حكم السامعين
والتطبيق لا يتبع الخبر بشكل مباشر. بل هو يأتي فيما بعد، ويرتبط مع الحكم الذي اليه يقود الخبرُ السامعين. فالسامعون موافقون على السلوك الذي صُوِّر أمامهم. والتوافق المطلوب لا يعني الوجهة القانونيّة أو الأخلاقيّة لما فعله هذان الرجلان. من هذا القبيل يحرّك سلوكُ العامل صعوبات في نظرتنا الحاليّة (لو أخذ الكنز لكان سارقًا. ولكنه اشترى الحقل). ولكن ليست هذه وجهة نظر الراوي. فهو يبغي بخبره أن يسأل السامعين: هل الطريقة التي سلكها هذان الرجلان حين تخليا عن كل ما يملكان ليقتنيا خيرًا آخر ذا قيمة سامية جدًا، هي حكيمة؟ فالحكم يصيب بشكل مباشر القرار ببيع كل شيء. وهذا القرار لا يتّخذ كامل معناه إلاّ في هذا الوضع الذي صوّره المثلان: نحن أمام اكتشاف لم يكونا يتوقّعانه. ونحن نجد مرمى الخبر في هذه العلاقة بين الاكتشاف والقرار الذي حرّكه فيهما هذا الاكتشاف: هل هذا ما وجب أن يعملا فيستفيدا من ظرف فريد ليتّخذا قرارًا ترتبط به حياتهما.
قد نظنّ أنه انطلاقًا من هذا الحكم، لا يتضمّن التطبيق على المستوى الديني نقل سلوك هذين الرجلين إلى جميع أوضاع الحياة بلا تمييز. بل إلى وضع يوافق وضعهما: نحن أمام سلوك يجب أن نتبعه ساعة نكتشف اكتشافًا لم نكن نتوقّعه.
ب- تطبيق المثل في كرازة يسوع
أولاً: ظرف لم يتوقّعانه
يتوقَّف الشرّاح مرارًا على الكنز واللؤلؤة: إنهما صورتان عن الملكوت وعن قيمته التي تفوق كل ثمن. هذه الوجهة ليست بالضبط وجهة الخبر الذي لا يهتمّ بالكنز واللؤلؤة، بقدر ما يهتمّ بالوضع الملموس والمباشر لدى الرجلين اللذين اكتشفاهما. هذا الوضع هو الوضع الذي فيه جُعل سامعو يسوع: شكلت رسالته بالنسبة إليهم فرصة عجيبة يجب الإفادة منها. فساعة كان يسوع يتكلّم، كان ملكوت الله هنا، كفرصة يجب أن لا نضيّعها.
ثانيًا: السلوك الواجب اتباعه
إن الصورة في هذين المثلين قريبة من النداء الذي وجّهه يسوع إلى الرجل الغنيّ. "إذهب فبع ما لك، وأعطه للمساكين فيكون لك كنز في السماء، ثم تعال اتبعني" (مر 10: 21 وز). هل نستنتج أن المثلين توخّيا إفهام السامعين قساوة المتطلّبات التي يفرضها يسوع على تلاميذه؟ في هذه الحالة، لا تحتاج نهاية المثل انتقالاً من مستوى إلى آخر. فمعناها على المستوى الدينيّ يتماهى مع معناها على مستوى الصورة. قد يكون ذلك ممكناً ولكنه ليس طبيعيًا.
لنفترض أن القسم الأخير من الخبرين يحافظ على نفسه في لغة أمثاليّة محضة. فهو يعبّر حينئذ عن السلوك الذي ينتظره يسوع من الذين يتقبّلون بشرى ملكوت الله. وهكذا نكون أمام جواب على تعليم. وهو جوابٌ رفضَ أن يعطيه أولئك الذين دُعوا إلى الوليمة في مثَل الدعوة إلى الملكوت (لو 14: 15-24 وز). وقد يتنوعّ الجواب حسب أوضاع كل شخص ودعوته الخاصّة. ولكن من لم يفعل ما هو ضروري ليؤمّن الدخول إلى الملكوت، من لم يستفد من الفرصة الاخيرة التي تقدّم له، يدلّ على بلادة لا تُغتفر. فلا شيء يوازي الخير الذي يقدّم لنا: حين نرهن من أجل هذا الخير كل ما نملك، بل ذاتنا كلها، فتجارتنا رابحة جدًا. بعد ذلك كيف نتباخل، كيف نتأخّر، كيف نترّدد أمام هذا الالتزام الكامل؟
وهكذا حين نفهم هذين المثلين بهذا الشكل، نرى فيهما صرة عن كرازة يسوع في بداية حياته الرسوليّة: "توبوا لأن ملكوت الله صار قريبًا جدًا" (مت 17:4).
ج- وجهة نظر متّى
لا يدلّ نصّ المثلين على تصحيحات هامة تُنسب إلى عمل الانجيلي التدوينيّ. فوجهة نظر متّى لا تظهر إلاّ في الاطار الذي فيه وضع مثليه. لماذا أدرجهما بين تفسير مثل الزؤان ومثل الشبكة الذي هو استعادة للموضوع ذاته؟ إذا أردنا أن نعرف، يجب أن نلقي نظرة إلى هذا الاطار الواسع الذي هو خطبة الامثال.
إن تفسير مثل الزارع قد هيّأته إضافة تفصيل في خاتمة الخبر نفسه. فبداية آ 30 هي أيضًا جزء من الخبر الامثالي الاولاني: "دعوهما ينبتان (الزؤان والقمح) كلاهما معًا حتى الحصاد". ففي الوضع الحاليّ يُنسب وفي الآية إلى الانجيلى: "في زمن الحصاد أقول للحصّادين: اجمعوا أولاً الزؤان واربطوه حزمًا ليُحرق. أما الحنطة فاجمعوها إلى أهرائي". في هذه اللغة المميّزة، أراد متّى أن يقول كيف تتمّ الامور في الدينونة. إن هذا المنظار يشرف على تفسير المثل (آ 36-43) حيث نلاحظ التشديد على مصير الزؤان الذي يحرق أولاً، على العقاب المحفوظ لفاعلي الاثم (آ 40-42). غير أن آ 43 تضيف كلمة حول مصير المختارين المقبل دون أن تأخذ بعين الاعتبار الصور التي في المثل. فمثل الشبكة (آ 47-48) يتبعه تطبيق (آ 49-50) يتحدّث بشكل حصريّ عن العقاب الذي ينتظر الأشرار، ولا يقول كلمة واحدة عن المصير المحفوظ للابرار.
إن سياق مثَل العامل الذي وجد الكنز ومثل التاجر الذي اكتشف اللؤلؤة الثمينة، تُشرف عليه فكرُة الدينونة التي ترسل الخطأة إلى أتون النار حيث يكون البكاء وصريف الاسنان (آ 42-50). هذه النظرة المهدّدة قد تحلّ محل البهجة بالبشارة التي يشكّل هذان المثلان صدى لها. وإذ أراد متّى أن يؤثّر على تصرّف قرّائه، أبرز فكرة الدينونة الرهيبة لا الفرح الذي يحدثه إعلان ملكوت الله.
ولكنه في النهاية ترك التهديد جانبًا. ففي آ 43 التي لا علاقة لها بمثَل الزؤان، يعد الانجيلي الابرار بأنهم "سيضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم". وهكذا يُعدّ الطريقَ لإدراج المثلين اللذين ندرس. فالعامل الذي يبيع كل ماله، والتاجر الذي يتخلّى عن جميع خيراته، صارا نموذجين للمسيحيّين الذين يُطلب منهم أن يجعلوا البحث عن الملكوت يسبق كل اهتمام آخر (رج مت 6: 36). لا شكّ في أنه لا يطلب منهم التخليّ التام عمّا يملكون. بل عليهم أن يتذكّروا أن "لا أحد يستطيع أن يخدم سيّدين: أو أنه يبغض الواحد ويحبّ الآخر أو أنه يتعلّق بالواحد ويحتقر الآخر. لا تستطيعون أن تعبدوا الله والمال" (6: 24). هناك خيارات لا نستطيع أن نتهرّب منها. فبها يرتبط مصير كل واحد منّا ساعة الدينونة.

2- الشبكة المملوءة سمكًا (13: 47-50)
أ- المثل (آ 47-48)
"ويشبه ملكوت السماوات أيضًا شبكة...". قد تغشّنا مقدمة المثَل هذه. ولكن يجب أن نفهم أن العبارة الأولى لا تعني أن الملكوت يشبه شبكة، بل أن وضع الملكوت يشبه وضع شبكة مملوءة سمكاً وقد بدأ الصياّدون يفصلون الجيّد عن الرديء. أجل يشبّه الملكوت بمجمل اللوحة، ولا يتحقَّق التشبيه حقاً إلاّ في النهاية: وهنا يتحقّق ساعة يتمّ الفصل بين الأخيار والاردياء.
تتألّف هذه اللوحة الامثالية من مشهدين متعارضين. يصوّر الأول شبكة كبيرة: "ألقيت في البحر فجمعت سمكًا من كل صنف". في المشهد الثاني، اجتذب الصيّادون الشبكة المملوءة إلى الأرض. وضعوا في الأوعية ما هو صالح، وألقوا على الأرض أو في الماء ما لا يساوي شيئاً. إن مرمى المثل يكمن في التعارض بين زمنين. في الزمن الاول، يُخرج الصالحُ مع الرديء. في الزمن الثاني يتمّ الفصل بينهما ويحتفظ الصيّادون بما هو صالح.
هذه الصورة تعكس وضعًا ومسألة لعبا دورًا هامًا في تعليم يسوع، وشكّلا خلفيّة مثَل الزؤان. لقد أعلن يسوع أن مجيء ملكوت الله قريب. والجميع يعرفون أن هذا المجيء يبدأ بتطهير واسع: يزول الخطأة، وينعم الابرار وحدهم بحسنات الملكوت. هذا ما ذكَّر به يوحنا المعمدان الناس بلهجة قويّة (مت 7:3-12). إذن نحن ننتظر أن نرى يسوع يباشر عمل التطهير: يحكم على الخطأة، ويجمع الابرار حول شخصه. غير أن رسالته لم توافق أبدًا هذا الانتظار. فتنازله تجاه الخطأة كان موضع شكوك. ويوحنا نفسه لم يفهم (مت 11: 2-6). فوجب على يسوع أن يشرح موقفه. فقام بهذا العمل بطرق مختلفة: إن رسالته تعني الخطأة (مر 17:2 وز) الذين يريد الله خلاصهم (مت 20: 1-5؛ لو 15: 1 ي). ليس له أن يستبق ساعة الدينونة. فالله يتصرّف مثلَ ربّ البيت الذي ينتظر الحصاد ليفصل الزرع الجيّد عن الزؤان. ومثلَ الصيادين الذين يجمعون كل شيء في شباكهم ثم يقومون بفصل الأخيار عن الأردياء.
إن الرأفة التي برهن عنها يسوع تجاه الخطأة، لا يجب أن تكون سبب شكّ: ففي تدخّل الله الاسكاتولوجيّ، تمثِّل رسالتُه الزمنَ الأول حيث تمتلىء الشبكة سمكاً من كل صنف. أما ساعة الفصل بين الأخيار والأردياء، فلم تأت بعد. ولكنها ستأتي. فلا نشكّ في ذلك.
ب- تطبيق المثل (آ 49-50)
تشكّل بداية آ 49 انتقالاً: "كذلك يكون في منتهى الدهر" (عبارة خاصّة بمتّى. رج آ 39، 40؛ 3:24؛ 28: 20). أما ما يلي فيقدّم شرحًا نجد فيه جوهر تفسير مثل الزؤان. الصيادون صاروا الملائكة (آ 39، 41). فعليهم أن يفرزوا الاشرار (آ 41) ويلقوهم في أتون النار. هناك يكون البكاء وصريف الاسنان (آ 50= آ 42). لم تعد الصورة ترتبط بصورة المثَل الذي لم يتحدّث عن طرح السمكات الرديئة في النار. لقد اكتفى متّى أن يستعيد صور مثَل الزؤان. وتسري الملاحظة أيضًا على ما تقوله آ 49 عن الملائكة الذين "يخرجون": الصيادون لا "يخرجون" ليفصلوا السمك، بل الحصّادون ليقوموا بعمل الحصاد.
نعود هنا إلى عبارة "أتون النار" التي هي خاصة بمتى (13: 42-50). هي قريبة من "جهنم النار" الخاصة بمتّى (5: 12؛ 18: 9)، ومن "النار الأبدية" (18: 8؛ 25: 41). والعبارة "هناك يكون البكاء وصريف الاسنان" تظهر مرّة واحدة عند لوقا (28:13)، ولكن ست مرات عند متّى (8: 12؛ 13: 42، 50؛ 13:22؛ 24: 51؛ 25: 30). وهناك عبارة خاصة عزيزة على قلب متّى، وهي لا ترد إلاّ عنده: هي تتحدّث عن الظلمة البرّانيّة (12:8؛ 13:12؛ 25: 30). من الواضح أننا لا نستطيع أن نعود إلى ما وراء العمل التدويني الذي قام به الانجيليّ.
لا شكّ في أن المنظار قد تبدّل. في المثَل سعى يسوع الى الكلام عن وضع حاليّ: مزيج الأخيار والاشرار. أما التفسير الذي قدّمه متّى فهو يبرز فقط الحكم الذي يصيب الخطأة في نهاية العالم. أشار المثل إلى صبر الله ورحمته ليبرّر تصرّف يسوع تجاه الخطأة. أما التفسير فشدّد على عدالة الله وانتقامه والتهديد الرهيب الذي ينتظر الخطأة. نرى في هذا التحذير القاسي الاهتمامات الفقاهيّة لدى الانجيلي، الذي قلق حين رأى عدداً من المسيحيّين ظلّت فيهم كلمة الله عقيمة. فعملَ على تذكيرهم بأن كل واحد سوف يدان على أعماله (27:16).

3- سيّد بيت غنيّ (13: 51-52)
أ- الصورة
التشبيه في آ 52 قصير جداً بحيث لا نستطيع أن نتكلم عن مثل. بل هو يقدّم الخليّة الاولى للمثل." يشبه سيد بيت يخرج من كنزه كلَّ جديد وقديم". وهكذا نستطيع أن نسميّ المقطوعة التي ندرسها في هذا الفصل (آ 44-52) "إنجيل الكنزين". هذا مع العلم أن اللفظة في آ 52 تحمل معنى يختلف كل الاختلاف عن ذلك الذي كان في مثل العامل (آ 44). فالكنز يدلّ هنا على المكان الذي نحتفظ فيه بشيء ما: الصرّة، الوديعة. وسيّد البيت الذي تتحدّث عنه هذه الآية، قد وضع جانباً "أشياء جديدة وأشياء قديمة". قد نفكِّر بزاد من أجل المائدة (رج لا 16: 10؛ نش 7: 14)، أو بأدوات أو ألبسة. إذ أراد عبدملك أن يخرج إرميا من الجبّ ذهب الى "كنز" (أي صندوق) بيت الملك ليأخذ منه "الثياب الرثة والخرق البالية" (إر 38: 11). فإن كنا وجدنا مثل هذه الأشياء في كنز الملك، فلا نتعجّب إن وجدنا مثلها في كنز شخص عاديّ. مثل هذه الأشياء المختلفة هي هنا لكي تستعمل حسب حاجات البيت. وهكذا نكون في الكنز أمام أشياء معدّة للاستعمال اليوميّ.
نجد مرمى هذا التصوير القصير في الجمع بين "الجديد" و"القديم". فلأن سيّد البيت يحتفظ في "صندوقه" الواحد والآخر، يستطيع أن يواجه كل الاحتمالات. لماذا وضع "الجديد" قبل "القديم"، مع أن بعض الشرّاح يبدل ترتيب الكلمتين؟ أما كان يجب عليه أن يذكر القديم أولاً؟ ولكن حين ذكر الجديد أولاً لفت إليه الانتباه: فلدى سيّد البيت أشياء قديمة ولديه أيضاً أشياء جديدة. قد لا تكون هناك أهميّة لهذه الاختلافة على مستوى الصورة، ولكن ستظهر الأهميّة على مستوى التطبيق.
اذن تقدّم لنا هذه اللوحة الصغيرة (آ 52) ربَّ بيت ميسور: ففي خزانته ما يكفي جميع حاجات بيته.
ب- التطبيقات
رأى بعضهم في كنز سيّد البيت الغنيّ صورة لها ذات البعد الذي نجده في مثل الشبكة (آ 47-48): فكما أننا نجد في الشبكة كل شيء، الصالح والرديء، هكذا نجد في الكنز أشياء جديدة كما نجد أشياء قديمة لم نعد نستعملها. هي فرضيّة غير مقبولة، لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار مرمى اللوحة: فربّ البيت مستعدّ لكل الاحتمالات لأن في "صندوقه" الجديد والقديم. فالجديد والقديم مفيدان كل بطريقته وبحسب الظروف. فلا حاجة إلى الكلام عن مزج ثم عن فصل.
إذن، نكتفي بالتطبيقات التي يعرضها النصّ الانجيليّ، فهي تكوّن طبقتين: وضعُ رب البيت الميسور هو أولاً صورة عن الكاتب الذي صار تلميذًا في ملكوت السماوات. ووضعُ هذا الكاتب يُلقي الضوء على الوضع الذي نجد فيه تلاميذ يسوع الذين فهموا كل ما أراد يسوع أن يقول لهم في أمثال.
تحدّثت الاناجيل مرارًا عن "الكتبة" (أو: السفرة): هم رجال الكتاب المقدّس، معلّمو الشريعة. لقد لاقى يسوع عندهم مقاومة دائمة له. غير أنه وجد بينهم أشخاصًا صادقين مستقيمين مثل ذاك الذي أعلن له يسوع: "لمست بعيدًا عن ملكوت الله" (مر 12: 34). من الأكيد أن يسوع لم يزدر بعلمهم. ولقد حلم مرارًا بأن يربح بعضًا منهم للانجيل: فالكاتب الذي يضيف على تربيته الرابينية تعليمًا متينًا عن الملكوت يشبه ربّ بيت اغتنى بكل شيء، فكان له الجديد والقديم معاً. هذا "الكاتب" لم يجده يسوع خلال حياته على الأرض. ولكنه وضع عليه يده بالقوّة بعد قيامته: فالمثال الذي تشير إليه آ 52 قد تحقّق في شخص بولس.
ولكن متّى لم يكن يفكّر ببولس: فهو يريد أن يطبِّق آ 52 على تلاميذ يسوع المباشرين. إن هذه الآية تبدأ بلفظة "لهذا" التي تربط آ 52 ربطًا حميمًا بما في آ 51. فالتلاميذ قد فهموا الامثال التي بها عرض يسوع "كلمة الملكوت" (آ 19)، وكشف "أسرار الملكوت" (آ 11) التي بدت بشكل تشابيه تتعلَّق بالملكوت (آ 24، 31، 33، 38، 41، 43، 44، 45، 47، يشبه). وها هم قد تدرَّجوا في الملكوت، فجعلت منهم تنشئتهم "كتبة" في معنى جديد: لقد صاروا كذلك حين فهموا أسرار الملكوت بمعزل عن كل تربية رابينيّة.
ولكن إن عاد هذا اللقب إليهم، ففي منظار مهمّة تعليميّة. ففهمُ أسرار الملكوت الذي منحه الله لهم (آ 11) يجعلهم يملكون كنزًا يجب أن لا يبقى عقيماً. من هذا الكنز يستقون "الجديد والقديم" بحسب الظروف والحاجات. يستقون جديد الانجيل ولا ينسون الشريعة والانبياء، التي ما جاء المسيح يلغيها بل يكمّلها (17:5). كما أنهم لا يستطيعون أن يكتفوا بوحي منحه الله لموسى والانبياء، فيفصلونه عن تتمّته، عن وحي الملكوت الذي منحناه بواسطة ابن الله. فبفضل هذين الوحيين يستطيع الكاتب المسيحيّ أن يواجه جميع حاجات تعليمه.

خاتمة
نحن هنا كما في الفصل السابق أمام ثلاثة أمثال، يتوّجها مثَل رابع هو في الواقع خاتمة خطبة الأمثال كلّها. نكتشف في المثَلين الأوّلين القيمة العظيمة للكنز واللؤلؤة، وفرح اكتشافهما، وواجب بيع كل ما نملك لكي نحوزهما. يسوع هو الكنز وهو اللؤلؤة. ومن أجله نترك كل شيء. لا يهمّ أن يكون ما نملك قليلاً أم كثيرًا، فالشابّ الغنيّ طُلب منه أن يبيع ما يملك. وطيما بن طيما لم يكن لديه سوى ردائه الذي يضع فيه نتيجة ما تصدّق عليها الناس، طرح عنه هذا الرداء وما فيه وقفز ذاهبًا إلى يسوع، بانتظار أن يسير معه في الطريق. بين تفسير مثَل الزؤان الذي يحمل أتون النار والبكاء وصريف الاسنان، وبين مثَل الشبكة الذي فيه يُفصل الابرار عن الاشرار، يحمل هذان المثلان فرح التلاميذ الذين تركوا كل شيء وتبعوا الربّ. أما المثَل الذي يختتم خطبة الامثال السبعة الكاملة، فهي بداية جديدة بها نتعلّق بالجديد دون أن نترك القديم، بها نحافظ على ما تعلّمه من العهد القديم كتبة في كنيسة متّى، ونكمّل هذا التعليم بما حدّثنا به يسوع عن ملكوت السماوات. عند ذاك وعند ذاك فقط نتحلّى حقًا بالحكمة التي اقتناها التلاميذ والفهم الذي وصلوا إليه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM