الفصل الحادي والعشرون: وكان يكلّمهم بالامثال

 

الفصل الحادي والعشرون
وكان يكلّمهم بالامثال
24:13-43

1- فصل كامل عن الامثال (مت 13، مر 4)
إن المقطع الطويل الذي ندرسه الآن (مت 13: 24-43) يجد موقعه في وحدة تدوينية في خطبة الامثال (13: 1-52). مع هذا الفصل نبلغ الى محطة جديدة في رسالة يسوع. فإن متّى قد زاد على خاتمة الامثال القصيرة (آ 51-52) خاتمة أخرى (آ 53-58) على ف 11-13. ويمتدّ بعد هذه الخاتمة على المجمل الذي نقرأه في 4: 12-13: 52 فحتى الآن، لم يُقبل يسوع لدى أخصّائه، لدى قرابته في الناصرة. فالشعب الذي تسلّم الوعد، ما زال يجهل أن الوعد قد تمّ في شخص يسوع. وخلال الجيل المسيحي الثاني ما زالت الشعب اليهوديّ خارج الطريق. إنه شكّ وعثار يكشف مت ومر السبب العميق والسريّ فيهما.
رأى مرقس في التعليم الأمثالي وسيلة يستعملها الله بواسطة يسوع لكي "يعمي" الشعب. هذا لا يعني أن الامثال غامضة في حدّ ذاتها. بل بما أنها أداة وحي، فقد صارت لغزًا للذين لم "يعطَ لهم سرّ ملكوت الله" (مر 4: 11). فهي تعمل لتزيد عماهم بشكل حاسم، وتتحوّل بالنسبة إليهم إلى أداة حكم وشجب. غير أن هذه الأمثال تمنح في الوقت عينه وحي الملكوت لمجموعة من المميّزين: الاثنا عشر والذين يحيطون بهم.
أما متّى فتجنّب أن يقول إن يسوع يعلّم مستعملاً الامثال. بل كتب: يسوع كلّم الجموع بأمثال. نحن أمام فرق هام: ففي نظر متّى، لم تتوخَّ كرازة يسوع أن "تعمي" السامعين. فالمسيح يتوجّه الى الجموع بأمثال لأنها عمياء. هكذا تتمّ نبوءة أش 9:6- 10. اختلف مت عن مر، فأهمل توبيخ يسوع
لتلاميذه، لأنهم لا يفهمون (مت 18:13؛ ق مر 4: 13). بل رأى فيهم أول الذين يسمعون الكلمة ويفهمونها (13: 23). وتفسير الامثال يثبّتهم في نعمة كانت قد بدأت تحمل فيهم ثمرًا، ولم يعطهم حلاً للغز كان سيبقيهم في اللافهم. فالتلاميذ "قد أعطي لهم أن يعرفوا أسرار ملكوت السماوات" (11:13).
استعمل مت 13 مرقس (4: 1-34) ومراجع أخرى، فبنى بناءه بشكل مصطنع بعض الشيء، ولكنه طبع هذا النصّ بيد كاتب عظيم. وإليك التصميم.
المقدمة (آ 1-3 أ): يسوع يكلّم الجموع كثيرًا بأمثال.
- مثل الزارع (آ 3 ب-9؛ رج مر 4: 3-9): هوذا الزارع قد خرج ليزرع.
- لماذا يكلّم يسوع الجموع بأمثال (آ 10-17). طرح التلاميذ على يسوع هذا السؤال على انفراد، لا أمام الجمع. فأجاب يسوع موردًا نصّ أشعيا (9:6-10) كله (آ 14-15؛ رج مر 4: 12). غير أن مت تجنّب الأداة الغائية (هينا، لكي) كما سبق له وفعل في آ 13: "لهذا أكلّمهم بأمثال: لأنهم يرون دون أن يروا". وزاد قولاً (لا نجده عند مر، بل عند لو 23:10-24) ليدلّ على عظمة امتياز التلاميذ الذين أنعم عليهم بأن "يفهموا" (آ 16-17؛ رج التوبيخ في مر 4: 13).
- تفسير مثل الزارع (آ 18-23): فاسمعوا أنتم مثل الزارع (رج مر 4: 13- 20).
- مثل الزؤان (آ 24- 35. خاص بمتّى). يتبعه مثل حبّة الخردل (رج مر 4: 30-32) ومثل الخمير في العجين. هذه الامثال تتوّجه إلى الجموع.
- ملاحظة تقول إن يسوع يكلّم الجموع بأمثاله لكي تتمّ الكتب (آ 34- 35).
- تفسير مثل الزؤان (آ 36-50). يتبعه مثل الكنز، مثل الدرّة، مثل الشبكة. السامعون هم التلاميذ كما في مثل الزارع.
- خاتمة خطبة الامثال (آ 51-52): أفهمتم هذا كله؟ قالوا له: نعم.
توّجهت الامثال إلى الشعب الاعمى، أما الشروح فإلى التلاميذ الذين يفهمون. هذا التناقض بين وضعين يدور حول السبب الذي لأجله تكلّم يسوع بأمثال. وهكذا تظهر مرتين الرسمة عينها.
أ- عرض المثل على الجمع (آ 3 ب-9، آ 24-30).
ب- سبب الكرازة بأمثال (آ 10-17، آ 34- 35).
أ أ- تفسير المثل للتلاميذ. مثل الزرع (آ 18-23)، مثل الزؤان (آ 36- 43). في التوّسع الثاني لهذه الرسمة، يتبع المثل (أ) مثلان هما حبّة الخردل والخمير. وعلى التفسير المعطى في أ أ تزاد أيضًا ثلاثة أمثال (آ 44-50) هي الكنز واللؤلؤة والشبكة. أما مثل الشبكة فيكوّن تضمينًا مع مثل الزؤان. وتظهر القرابة بينهما في الألفاظ التي استعملت في تفسيرهما حول موضوع الدينونة الأخيرة. وبين هذين المثلين، يطرح مثلُ الكنز واللؤلؤة الكثيرة الثمنَ الذي يجب أن ندفعه لننال حقًا كلمة الملكوت، وهكذا نفلت من الدينونة. أما مثلا حبّة الخردل والخميرة فيتوخّيان، شأنهما شأن مثل الزارع والزؤان، أن يبدّدا عثار ملكوت السماوات: ارتبط اعلانه بظروف بسيطة وموقتة، فبلبل العقول المتشرّبة من الاسكاتولوجيا اليهوديّة التقليديّة.
إذن، تستعيد رسمة المقطع الذي ندرس (آ 24-43) رسمة القسم الأول من خطبة الامثال (آ 1- 21). أما الهدف اللاهوتيّ هنا وهناك، فهو أن يظهر امتياز التدرجّ على أسرار ملكوت السماوات. هذا ما ينعم به التلاميذ تجاه الذين لهم آذان ولا يسمعون، تجاه الذين لا يعرفون افتقاد الله لشعبه في شخص يسوع المسيح.
ونستطيع أن نلاحظ تطورًا في النص. إن آ 34-35 اللتين تتكلّمان عن سبب الخطبة بالأمثال، تؤكّدان وتكمِّلان آ 10-17. وفي منظار الدينونة وفصل الابرار عن الاشرار، يتوضّح المصير المحفوظ للذين "يفهمون" ومصير الذين "يرون دون أن يروا". فقوّة الملكوت تعمل منذ الآن في ظواهر متواضعة، بل متضاربة (مثَل الزارع وتفسيره، آ 1-23). كما أن قبول هذه "القوة" تقرّر مصير سامعي الكلمة حين يظهر هذا الملكوت في المجد (مثَل الزؤان، 13: 24- 50).

2- مثل الزؤان (24:13- 30)
اختلف مثل الزؤان عن أمثال الزرع وحبة الخردل والخميرة والشبكة، لأنه لا يصوّر مسيرة طبيعيّة ولا نشاطًا بشريًا عاديًا، بل يورد دراما قصيرة. فالقسم الاول (آ 24-26) يرسم مراحل الدراما. والقسم الثاني يورد الحوار الذي يشكّل خاتمة المثل (آ 27-30).
إن وجود الزؤان في حقل تلقّى زرعًا جيدًا، أثار الدهشة عند عبيد ربّ البيت. فسألوه: "ما الذي حصل لكي يكون زؤان في حقلك"؟ أجاب: "إنسان عدوّ فعل هذا". قالوا: "أتريد أن نقتلع الزؤان"؟ قال: "لا، لئلاّ تقلعوا الحنطة مع الزؤان. دعوهما ينبتان معًا حتى الحصاد". كان بالامكان أن يتوقف الجواب هنا، أو أن يزيد النصّ بعد، أن الحب الجيّد سيُذرى ويغربل. ولكن ربّ البيت يوضح أن الحصّادين سيحرقون الزؤان بعد أن يربطوه حزمًا. هذا الجواب الاخير يلفت الانتباه. فهو يحتلّ ثلث النصّ. ثم إن "المصير" المحفوظ للزؤان هو مصير لم نعتد على سماعه.
ما معنى هذا المثل من أمثال الملكوت؟ ما زالت الله بواسطة يسوع يدعو أولئك الذين أعدّوا للدخول إلى الملكوت. فبكلمة يسوع وتقبّل هذه الكلمة في حياتنا، بدأت مسيرة إقامة الملكوت عملها بطريقة سريّة. فكيف يمكن للخطيئة أن تتابع عملها؟ لماذا لا يُشجب الخطأة ويُدّمرون؟ لماذا يتواجدون مع أبناء الملكوت؟ هذا ما يشكّك المؤمنين. بدأ الملكوت يفعل بحضوره، فلماذا تتأخّر الدينونة الحاسمة التي تفصل الأشرار عن الأبرار؟ فجاء الجواب من مثل الزؤان: لا نستبق الدينونة التي تأتي في أوانها. لقد عيل صبرُنا لتأخر الدينونة. يجب أن يحلّ محلّ هذا الموقف الصبرُ في انتظار اليوم الذي فيه يقوم الله بالتمييز اللازم لكي يقيم ملكوته المجيد بشكل نهائي.
وقد نستشفّ في هذه الدعوة إلى الصبر نداء إلى المخافة والتواضع في انتظار الدينونة. إذا كان من الواجب أن نتخلّى عن اقتلاع الزؤان، فلأنه لا يحقّ لنا أن نتعدّى على امتياز إلهيّ فنحكم بسلطان على الناس ونعتبر أننا نعرف الزرع الجيّد من الزؤان. لهذا يليق بنا أن نعيش في الامانة لكلمة الملكوت. لا أن نجد في هذه الأمانة طمأنينة كاذبة تنمّ عن كبرياء عظيمة.
وفي أي حال، نكون من البساطة بمكان إن حصرنا تعليم المثل في تحريض على الصبر. فقبول الوضع المشكّك الذي يجب أن نعيش فيه على هذه الأرض، يعني بالنسبة إلى تلاميذ يسوع التمسّك بالصبر. كما يعني الحياة في الامل والرجاء، والاقرار بسلطان الله المطلق الذي سيتجلّى في نهاية الأزمنة. ما يهمّ على الأرض هو أن نحمل ثمرًا من أجل الملكوت. وما يجب أن نستبعده هو طموحنا المتكبّر بأن نفصل الاشرار عن الاخيار. لا تدينوا لئلا تُدانوا، لئلا يدينكم الله.
لا يقدّم لنا متّى أية إشارة حوله الظروف التي فيها قدّم يسوع مثل الزؤان. ولكن نستطيع أن نقدّم فرضيّة معقولة. كان قد أعلن يوحنا المعمدان للفريسيين والصادوقيين (3: 7) مجيء من هو أقوى منه: "يمسك بيده المزراة وينقّي بيدره. فيجمع الحبّ في الاهراء، ويحرق التبن في نار لا تطفأ". نلاحظ أن هذا الاسلوب المصوّر موجود في 13: 30. فالانتظار الذي حرّكه يوحنا المعمدان قد قاد إلى الخيبة بسبب الطريق التي اتّبعها يسوع.
أما سبب هذه الخيبة (التي دفعت يسوع إلى قول المثل)، فليس الاستقبال الذي احتفظ به يسوع للخطأة، بل رفضه بأن يؤسِّس جماعة من "الأتقياء" تستبعد جميع "الآخرين" وترسلهم إلى الهلاك. فالاهتمام بالنقاوة "التامة" يقابل إفناء الزؤان. فعبيد رب الكرم ذكَّروه أنه زرع زرعًا جيدًا (آ 27). فلا بدّ من المحافظة على نوعيّته الطيّبة. وقد يكون دخل في جماعة التلاميذ بعض الفريسيين والغيورين (رج لو 9: 54). لهذا جاء مثل الزؤان يشجب هذه الغيرة الكاذبة والشكّ الذي تسبّبه.
وإذا أردنا أن نتجنّب ظاهرة الاستعارة التي تشدّد على أن السؤال (27:13) قد طرحه على ربّ البيت العبيد لا الجيران، نستطيع الظنّ أن أشخاصًا تأثّروا بكرازة يوحنا المعمدان قد يكونون السبب الذي دفع يسوع ليقول مثله: أأنت هو الآتي؟ إذا كان نعم، فلماذا تتأخّر؟ ماذا تنتظر لكي تنقّي بيدرك؟
مهما يكن من أمر، إن مثل الزؤان يلامس نقطة هامة في الانتظار الاسكاتولوجي لدى اليهود الذين عاصروا يسوع. لهذا أعطى متّى هذا المثل مكانة هامة وسط أمثال الملكوت.

3- حبّة الخردل والخميرة (13: 31-33)
أورد متّى ولوقا هذين المثلين معًا. أما مرقس فذكر فقط مثل حبّة الخردل. هل وُجد هذان المثلان معًا منذ البدء؟ هل قدّم يسوع الواحد لكي يسند الآخر ويعطيه قوّة؟
أ- مثل حبّة الخردل (آ 31-32)
إن مرقس قدّم مثل حبّة الخردل بشكل تصويريّ: زرع، نما، ارتفع. أما متّى ولوقا فاعطياه شكلاً سردياً: رجل زرع (رمى) حبّة خردل في حقله (في بستان). وهكذا يكون المثل وكأنه خبر من الأخبار.
إذن، نحن أمام فرضيتين: أو أن مرقس هو الأقدم. ثمّ جاء المعين الذي استقى منه متّى ولوقا فضمّ مثل الخميرة إلى مثل حبّة الخردل. أو أن مرقس أعطى شكلاً تصويريًا لمثَل كان في الاصل سردًا وخبرًا. أما نحن فنأخذ بالفرضيّة الثانية عالمين أن يسوع قال أمثاله بشكل متقطّع وبحسب الظروف. فلم يكن تعليمه منهجيًا كما يفعل المعلمون اليوم. ونشير هنا إلى أن انجيل توما المنحول فصل بين المثلين. ولكنه يرتبط بالاناجيل الازائية في تقديمه للامثال.
عندما استعان متّى بما في مر 4: 30-32 فكتب مثَل حبّة الخردل الذي وجده في المعين (مشترك بينه وبين لوقا)، قدّم تعارضًا بين قطعتين مختلفتين: صغر حبّة الخردل في البداية. وفي النهاية نموّ هذه الحبّة بحيث صارت أكبر البقول جميعاً، بل شجرة. قد نوجز المعنى الأولى للمثل كما يلي: مع أن ملكوت السماوات يبدو في الاصل صغيراً "حقيراً" متواضعاً، إلاّ أنه في يوم من الأيام سيظهر في عظمة ومجد. وهو حاضر منذ الآن في كلمة يسوع، في الحدث الذي تشكّله هذه الكلمة لسامعي يسوع.
يجب أن لا نُسقط نظرات التطوُّر عندنا على تعليم المسيح. فملكوت الله ليس عطيّة سلّمها الله إلى البشر. وهي ستمدّ شيئًا فشيئًا الغنى الموجود فيها. إن حبّة الخردل تعلمنا أن هذا العمل الذي يبدو حقيرًا في ظاهره والذي بدأه الله منذ الآن بواسطة يسوع، سيتمّ في يوم من الأيام في المجد.
فعلى الانسان منذ الآن أن يخضع لإرادة الله السامية. بهذه الارادة يرتبط المصير المحفوظ له ساعة تخضع لها كل شيء. وهكذا يصبح ممكناً بل ملحاً أن نرى ملكوت الله، لأن المسيح حمل إلينا كلمة الملكوت. فبين هذا الاعتراف الفعلي والوقت الذي نجد فيه "ملجأ لنا" في أغصان الشجرة الاسكاتولوجيّة، يوجد تواصل ستكشف عنه الدينونة المقبلة.
هل نستطيع أن نبيّن أن متّى الذي كان شاهداً لكنيسة تمتد وتنتشر، قد أعاد صياغة المثل وأوّنه؟ هل الكنيسة هي على هذه الأرض الشجرة التي تأتي عصافير السماء وتستظلّ في أغصانها؟ أو بعبارة أخرى، هل تشكّل الكنيسة أول إزهار للتعليم الانجيلي قبل أن يأتي ملكوت السماوات؟ هذا ما يراه متّى.
ب- مثل الخميرة (آ 33)
إن مثَل الخميرة في مت يشبه ما في لو مع اختلافين بسيطين. فهذا المثل، شأنه شأن مثل حبّة الخردل عند لوقا (18:13-19)، قد خسر تعارضًا، وُجد في "النصّ الاولاني". فهو يُبرز، في شكله الحالي، إمكانيّة الخميرة بأن تخمّر كميّة كبيرة من الدقيق.
في الاصل، والقول الذي يورده بولس يسمح لنا بهذه الفرضيّة (1 كور 5 :6؛ غل 9:5)، كان التعارض واضحاً بين قليل من الخمير وبين عجين يتخمّر كله بفعل هذه الخميرة. وانجيل توما (المنحول) يقدّم أيضًا تعارضًا مماثلاً: "أخذت امرأة قليلاً من الخمير وخبّأته في العجين وصنعت منه أرغفة كبيرة" (القول 96). فإذا عدنا إلى المقاطع البيبيليّة (تك 18: 6؛ قض 6: 19؛ 1 صم 1: 24) التي تذكر ذات الكيلة من الدقيق التي نجدها في مثل الخميرة، يجعلنا المثل أمام وليمة كبيرة جدًا، بل أمام ملء ملكوت السماوات.
إذًا كان المرمى الاساسي للمثل شبيهًا بمرمى مثل حبّة الخردل. أما غيابُ التعارض فيدلّ على تفسير كنسيّ: تطلّع متّى الى القدرة العجيبة التي بها دخل تعليم الانجيل في العالم. وهكذا أكّد على تفسير مثل حبّة الخردل في الكنيسة.

4- لماذا الامثال (13: 34- 35)
هذا المقطع القصير الذي يوازي آ 10-17 يُؤكّد مدلوله الجوهري. ما زلنا أمام الواقع السريّ عينه: كلّم يسوع الجموع بأمثال. لسنا أمام تعليم بالامثال لا في آ 10-17 ولا في آ 34-35، بل أمام ما "قاله يسوع للجموع".
إن الاستشهاد الكتابي يطرح بعض المسائل على مستوى النقد النصوصي كما على مستوى التفسير. ففي الشطر الثاني من مز 7:78 استعمل متّى فعلاً له دلالته: أخبر، أعلن، أذاع. هكذا تجنّب ما في السبعينيّة يدلّ على الوحي. فالشعب بحسب اللاهوت المتاوي في خطبة الامثال لا يستطيع بل لا يستحق الوحي بسبب عماه.
وترك متّى لفظة "بروبليماتا" أو ترجم "هيدوت" بـ "أشياء خفية، مكنونات. "لقد أراد أن يدلّ بذلك على أن أسرار ملكوت السماوات تبقى مخفيّة عن أعين الجميع، ولا كشف إلاّ للتلاميذ. وهذا الرأي يجد سندًا له إذا قرأناه على ضوء عبارة "منذ إنشاء العالم" (رج 25: 34).
ونسب متّى النصّ الذي استشهد به إلى النبيّ، مع أنه أخذه من مز 78. وهناك اختلافة تتكلّم عن "النبيّ إشعيا". هل هناك خطأ كما في مت 27: 9 مع نسبة القول إلى إرميا. في الواقع، أراد متّى أن يعود إلى المرجع اللاهوتي، لا إلى المرجع الأدبي. فالتوراة كلها هي في نظره نبوءة تدلّ على المسيح.

5- تفسير مثل الزؤان (13: 36-43)
أ- الحديث عن الزؤان (آ 36)
أعطي تفسير مثل الزؤان للتلاميذ على انفراد وبناءً على طلبهم "آ 36). ولكن الطريقة التي بها أغفل متّى ذكر التلاميذ وجعل يسوع يترك الجموع ويأتي إلى البيت، تدلّ على أنّ المبادرة تأتي من المعلّم. فيسوع هو ذلك الذي به يجعل الله التلاميذ يعرفون أسرار ملكوت السماوات (13: 11).
لا نتوقّف عند العنوان الذي أعطاه التلاميذ للمثَل. لأنه لا يتوافق كلّ التوافق مع مضمون المثل. فكلمة "زؤان" هي كلمة عاكفة: ترد خمس مرّات في المثَل.
ثم إن وجود الزؤان في الحقل كان المناسبة بل سبب الحوار بين ربّ البيت وعبيده.
ب- تقابلات (آ 37- 39)
إن تفسير مثَل الزؤان يرد في قسمين مختلفين بعض الاختلاف. فإن آ 37- 39 تقدّم لنا سلسلة من التقابلات. وهكذا نجد في المثَل عددًا من الاستعارات (الحقل هو العالم...). ولكن بعض العاملين في المثل (عبيد ربّ البيت) لبثوا في الظلّ. والحوار الاساسي في المثل لم يفسّر. من أجل هذا نعتبر نفوسنا أننا أمام مثَل لا أمام خبر استعاري.
بالاضافة الى ذلك، لا يفرض المفسّر على نفسه أن يستعيد في القسم الثاني (آ 40-43) التقابلات التي أعطاها في القسم الاول (آ 37-39). فهو لا يذكر أبناء الملكوت وأبناء الشرير كما ذُكروا من قبل. والشيطان لا يعود يظهر. ويصبح الملائكة ملائكة ابن الانسان. ثم إن "ملكوته" (آ 41) لا يحلّ محل العالم. فنحن أمام جماعات تتكوّن في العالم ولسنا أمام العالم نفسه حتى لو فهمنا بلفظة العالم "جميع الأمم".
ج- مقابلة بين مسيرتين (آ 40-43)
إن آ 40-43 تتضمّن مقابلة بين مسيرتين. وهكذا تنال آ 30 ج هنا تفسيرها. ركّز المفسّر المقابلة على آ 37-39 حين استعمل "اون" في بداية آ 40. والعنصر الثاني من المقابلة مع "هوتوس" يجد توسيعه في آ 41-42، ويتداخل مع العنصر الأول. إن آ 43 لم تعلن في آ40. وهي لا تستند إلى آ 37-39، مع أنه من الواضح أن "الأبرار" يتماهون مع "بني الملكوت". ولكن يبقى أن هذه الآية الأخيرة تعتبر تفسيرًا كما في آ 30 د.
إن مجمل آ 40-43 يبدو بشكل رؤيا صغيرة تتركّز على الدينونة الرهيبة التي تنتظر فاعلي الاثم. فالموضوع رؤيوي وكذلك الألفاظ. وكذلك آ 43 التي تجيب على السؤال التالي: متى وكيف يُنتزع بنو الملكوت بشكل نهائي من عالم الشر، لكي ينعموا بملء سلام الله؟ قد لا تكون هذه الآية قد اندمجت دمجًا طبيعياً في النصّ، إلا أن لها أهمية كبيرة من الوجهة اللاهوتيّة.
لا شكّ في أن العلاقة بين قسمي التفسير تدلت على أن مت (تكثر عنده صور الدينونة الأخيرة) استعمل المعين في خطّ لاهوته. هل يعود هذا المعين إلى المسيح؟ قد نعود إلى هذه المسألة فيما بعد.
انتقل الاهتمام من المثل إلى تفسيره، من الوجهة الكرستولوجيّة (على مستوى يسوع المسيح) إلى الوجهة الاكليزيولوجيّة (على مستوى الكنيسة). صوّر المثلُ الدينونة التي ننتظرها في الصبر والتواضع. أما التفسير فركّز الانتباه على المصير المحفوظ للأشرار، ثم خفّف ألوان هذه اللوحة المظلمة برؤية مجد الابرار في النهاية. إذن، يجب أن نتساءل عن هويّة فاعلي الاثم في آ 41.
ماهى عدد من الشرّاح بين ملكوت ابن الإنسان والكنيسة، فرأوا فاعلي الاثم والمسيحيّين الاردياء، والأنبياء الكذبة، والمرائين ... والدينونة تنهي هذا المزج بين فاعلي الاثم وبني الملكوت الذين نجدهم في الكنيسة. ولكن التماهي بين ملكوت ابن الانسان والكنيسة لا يبدو صحيحًا كل الصحّة.
هل نؤكّد أن العالم يشكّل ملكوت ابن الانسان لأنه خليقته؟ لا ننسى أن ابن الانسان قد نال بقيامته كل سلطان في السماء وعلى الأرض (مت 18:28). ملكوته قد وصل إلى أصقاع العالم، إلى جميع الأمم (مت 28: 19)، بالقوّة لا بالفعل. والكنيسة لا تتطابق كل المطابقة مع هذا الملكوت، مع أن رسالتها تقوم بأن تصل إلى هذه المطابقة التامة. نستطيع القول إن الكنيسة هي سرّ (كما المعموديّة سرّ) يدلّ على ملك المسيح دون أن يتماهى مع ملكوت المسيح. والانجيل الذي أعلن في العالم كله، فقُبل هنا ورُفض هناك، يتيح لابن الانسان في يوم الدينونة أن يرث جميع الأمم. "حينئذ يستبعد من ملكوته كل المعاثر وفاعلي الاثم" (آ 41).
إن اعلان الدينونة الأخيرة والتذكير بها يوجِّهان إلى المسيحيين نداء ملحًا ليعيشوا بحسب دعوتهم. فالدينونة تهمل الانتماء إلى طائفة، أو إلى مذهب، وتتّخذ لها معيارًا واحدًا هو تتميم شريعة المسيح التي تتلّخص في شريعة المحبّة. "كل ما فعلتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي فعلتموه" (مت 25: 40).

خاتمة
أمثال ثلاثة وتفسير للمثَل الأول. هذا ما كشفناه في هذا النصّ المتّاويّ الذي هو جزء من أمثال الملكوت. فمثَل الزؤان يختلف عن مثَل الزرع، لأنه لا يتكلّم إلاّ عن الأرض الطيّبة، ويمدّ عمله حتى الحصاد. هو يدعو الذين لا صبر عندهم مثل تلاميذ يوحنا، أن يتعرّفوا إلى الزمن الذي يتوسّط زمن الزرع وزمن النهاية، أن ينتظروا الدينونة الأخيرة وانتصار الله. والمثل الثاني يشدّد على التعارض بين صغَر البداية وعظمة النهاية. عاد الانجيل إلى حزقيال ودانيال، فدعا القرّاء إلى أن يروا في عمل يسوع وبدايته "الحقيرة" جمال النهاية. أما مثَل الخمير فيزيد على مثَل حبّة الخردل، ما تفعله الخميرة في كيس من الدقيق. وسائل بسيطة وضعيفة ولكن النتائج ستكون رائعة. تلك هي طريقة عمل الله في كنيسته، أجل، الامثال طريقة بها يُوحي يسوع أسرار الله. ويوحيها للتلاميذ الذين يرون، ويسمعون، ويفهمون. وما زال يوجّهها إلى كنيستنا وإلى كل واحد منا، علّنا نكون نحن أيضًا من هؤلاء التلاميذ.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM