الربّ يتكلّم بالسلام

الربّ يتكلّم بالسلام
المزمور الخامس والثمانون

1. موضوع هذا المزمور انتحاب جماعي، فيه يصرخ المؤمنون إلى الله ويشكون إليه الحالة التي يتخبَّطون فيها. مناسبة الانتخاب احتفالات التوبة الجماعية، والاطار التاريخي فترة ما بعد الرجوع من المنفى، وكانت قاسية جدًا.
- فرجوع شعب اسرائيل إلى أرضه بعد منفى طويل في بابل كان مزيجًا من الحماس وخيبة الآمال. صوّر القسم الثاني من سفر أشعيا هذا الرجوع بشكل تطواف حماسي عبر الصحراء؛ يسير الرب في مقدمته، أو بشكل ليتورجية مهيبة ومجيدة تحتفل برجوع اسرائيل وتدشّن نهاية الازمنة وارتداد الشعوب إلى الإله الواحد. ولكن الواقع لم يكن كذلك. فالرجوع لم يتمّ دفعة واحدة، بل على دفعات. وفوق ذلك بقي في بابل عدد كبير من بني اسرائيل رفضوا الرجوع، أقلّه في الوقت الحاضر، فنظموا حياتهم هناك وجمعوا المال واقتنوا البيوت والضيع.
- ولم يكن للراجعين الاستقبال الذي انتظروه من قبل اخوتهم الذين بقوا في الأرض. كما أن الغرباء الذين سكنوا في كنعان أظهروا لهؤلاء "الاغراب" ضروبًا من العداوة. ومن يقرأ سفر نحميا وعزرا يعرف مدى الصعوبة التي لاقاها هؤلاء الراجعون. الشعوب الوثنية لم ترجع إلى الرب. وشعب اسرائيل ابتعد عن الله. المدينة خراب والهيكل دمار، فكيف الحياة في هذه الحالة؟ فقر وذلّ، بؤس وشقاء. وفوق هذا جاءت المحاصيل عاطلة بسبب قلّة الأمطار والضربات. أرض صارت أطلالاً وشعب مسكين فقير يحيط به جيران يضمرون له الشر، هذا هو الاطار الذي أنشد فيه المزمور 85.

2. صلاة الشعب لكي يحصل على الخلاص التام: تأرجح بين الماضي والمستقبل. في القسم الأول (آ 2- 4) يتذكّر المرتّل خلاص الازمنة الماضية لما غفر الله لشعبه وأعاد إليه نعمته وبركته. في القسم الثاني (آ 5- 8) نرى الشعب يتوسّل إلى الرب طالبًا منه عونًا جديدًا. في القسم الثالث (آ 9- 14) نسمع صوت الله يعلن وعده بالخلاص الآتي: خلاصه قريب ممّن يحبونه.

3. في القسم الأول نرى أن الخلاص تمّ جزئيًا بالنسبة إلى يعقوب (يعقوب عبارة مفضلة في القسم الثاني من سفر أشعيا تدلّ على شعب الله).
لقد غفر الله الخطايا الفظيعة التي قادت شعبه إلى الكارثة، فتمّ ما قاله سفر أشعيا (54: 8): "في سورة غضب حجبت وجهي عنك (يا صهيون) لحظة، وبرحمة أبدية أرحمك". لقد انتهى زمن العقاب الذي أقرّه الله في شعبه، وعلى هذا يقول أشعيا (40: 1): "عزّوا عزّوا شعبي، خاطبوا قلب أورشليم ونادوها بأن قد تمّ وقت تسخيرها، وأخذت عقابها ضعفين من يد الرب عن جميع خطاياها". انتهى زمن السبي بعد أن سمح كورش الملك الفارسي للمنفيّين بالرجوع إلى بلادهم (سنة 538 ق. م).
- في القسم الثاني: نرى أنه رغم هذه التسهيلات فالحال ليست على ما يرام. يقول النبي حجاي (1: 6): "زرعتم كثيرًا واستغللتم قليلاً. أكلتم ولم تشبعوا. شربتم ولم ترتووا. اكتسيتم ولم تستدفئوا. والذي يأخذ أجرة يأخذها في صرَّة مثقوبة". غلال عاطلة من السماء. وعداوة الامم المجاورة الذين رأوا اسرائيل يعيد بناء الهيكل (عز 4: 1 ي) والاسوار (نح 4: 1)، وقساوة السلطة الفارسية الحاكمة (نح 9: 36 ي). أيكون الله لم يغفر لشعبه كل خطاياه؟ أتكون مغفرته لم تصل إلى تمامها؟ ولهذا يصلي الشعب ليهدأ غضب الله (زك 1: 12)، فيستعيد اسرائيل حياته السابقة كما وعد الرب على لسان هوشع (6: 1 ي): "يحيينا بعد يومين وفي اليوم الثالث يقيمنا". إذا كان الله لم يغفر تمامًا، وإذا كانت إعادة بناء الشعب لم تكتمل، فهذا يعني أن غضب الله لم يزل متوقّدًا على شعبه. يجب على اسرائيل أن يرجع (يا اله الجنود أرجعنا 80: 8). ويجب على الله أن يرجع: ألا تعود تحيينا (آ 7)؟ يتكرَّر فعل رجع خمس مرات في هذا المزمور: رجوع الشعب إلى الله، رجوع الله إلى الشعب، لتكون للشعب الحياة من جديد. وتنتهي الصلاة الجماعية بطلب أخير: أرنا يا رب بسمتك ومحبتك. الشعب لا يكتفي بمحبة غير منظورة، بل يريد محبّة تتجسّد في خلاص يتمّ على يد الرب في التاريخ.
- في القسم الثالث نرى رسولاً من الله ونسمع صوتًا يتلو كلامه. أيكون صوت الكاهن جواب الله إلى المؤمنين يشجعّهم ويقويهم؟ الرب يتكلم بالسلام، والسلام ليس فقط نفيًا للحرب، ولكنه عطيّة الغنى والسعادة والخير والغلال. والرب يعلم أن الخلاص التام والبناء التام قريبان. سيرجع الرب قريبًا ومعه الرحمة والحق والعدل والسلام، سيرجع الرب إلى شعبه ويتزوّجه بالحق والعدل والرأفة والرحمة، يتزوَّجه بأمانة لا تتبدل (هو 2: 19- 20). مع هذه الصفات التي ستأتي في اسرائيل سيكون للشعب الغلال الوفيرة. سيحلّ مجد الرب (44: 4، 7) وستقطر السماوات من فوق وتمطر الغيوم العدل (أش 54: 8).

4. إن الجماعة التي تصلي المزمور 85 تجعلنا ندخل في تاريخ الخلاص، لأنها تسير بين خلاص أول تمّ في الماضي، وخلاص نهائي تنتظره في نهاية الازمنة. هكذا كانت جماعة العهد القديم. وهكذا تبدو جماعة العهد الجديد التي تعيش وتسير بين مجيء يسوع في الاتضاع ورجوعه في المجد. يقول القديس بولس في الرسالة إلى أهل رومة (8: 23): "نحن الذين لنا باكورة الروح نئنّ في أعماق نفوسنا منتظرين من الله التبنّي وافتداء نفوسنا (الفداء جاءنا بالمسيح ونحن نعيش بين فداء أول وفداء نهائي). ويقول في الثانية إلى أهل كورنتوس (5: 6): "ما دمنا مقيمين في هذا الجسد، فنحن متغرّبون عن الرب". وهكذا نستطيع أن نصلّي المزمور كأنه كُتب لنا. في القسم الأول نتذكّر النعم التي جاءتنا من الرب المسيح. في القسم الثاني نتذكّر آلام الكنائس المسيحية المضطهدة (1 كور 12: 26: "إذا تألّم عضو، تألّمت الاعضاء كلها معه"). وفي القسم الثالث نجد قوى الخلاص أولاً في يسوع الذي جاء (تي 2: 11: "تجلّت نعمة الله وهي مبدأ خلاص للبشر). وننتظرها في العام الآتي، في السماء الجديدة والأرض الجديدة (أش 65: 17 ي؛ رؤ 21: 1 ي).

5. تأمل
إن موضوع عودة الإنسان إلى الله والله إلى الإنسان، هو في قلب هذا المزمور. عاد الله، وهو يعود الآن. وسوف يعود. وسيرد فعل عاد خمس مرّات في هذا المزمور. في الواقع، نحن تجاه الخلاص الذي يحمله الله العائد إلينا، لا ذلك الآتي بغضبه. ويتحدّث النصّ عن ثلاث وجهات للخلاص: خلاص أجراه الله حين حرّر شعبه من المنفى. خلاص مسيحاني يعلنه قول إلهي: "أسمع الرب الاله حين يتكلّم بالسلام". وهذا الخلاص يراه الجميع ساعة يظهر "الحب والحق" معًا، "والعدالة والسلام" يطأان أرضنا. والوجهة الثالثة ترينا خلاصًا يقدَّم للجميع في نهاية مسيرة البشريّة حين يتمّ كل برّ وينتصر السلام. في النهاية، "المسيح هو سلامنا" كما قال بولس الرسول في أف 2: 14.
"رضيت يا ربّ عن أرضك". الكلمة الأولى في هذا المزمور هي فعل شكر. فعبر الاختبارات السعيدة والتعيسة التي عرفها المرتّل، فهو متأكّد كل التأكيد أن الله ما زال يحبّ أرضه حتى في أحلك الساعات. هذه الأرض هي أرض الرب. هو الذي اختارها. هو خلقها وهي تخصّه. هي أرض أعطاها بسخاء لآبائنا. وهي أرضك يا ربّ بعد أن خطبتها كما العريس يخطب عروسه. وهي أرضك المحبوبة، لأنها ستصير بالتجسّد أرض ابنك "بكر كل خليقة... الذي فيه خُلق كل شيء... لأن كل شيء خُلق به ولأجله" (كو 1: 15- 17).

6. ما إن تبدأ ببغض خطاياك والاعتراف بها لله، وإن اجتذبتك ملذّات خاطئة وحملتك إلى "الموت"، ألق بنظرك إلى الله وتوسّل إليه باكيًا. وحين تعترف بذنوبك تستحق أن يمنحك أن تتمّ كلّ برّ براحة وفرح. ويجعلك تحبّ البرّ أنت الذي كنت حتى الآن تحبّ الشرّ. كنت تلتذّ باللاعفة وها أنت تلتذّ بالاعتدال. كنت تلتذّ بالسرقة فتأخذ من الآخرين ما لم تكن تملكه. وها أنت تبحث كيف تعطي خيراتك لمن لا يملك منها. ذاك الذي كان يلتذّ بالاختلاس، ها هو يلتذّ بالعطاء. ذاك الذي كان يلتذّ بالتسليات المريبة يلتذّ الآن بالصلاة... (أوغسطينس).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM