طعن يسوع

طعن يسوع
19: 31- 37

طعنه واحد من الجند بحربة، فخرج للوقت دمّ وماء.
نودّ أن نقرأ هنا خبر الآلام على ضوء سفر زكريا الذي قال في نهاية كلامه: "ينظرون إلى الذي طعنوه" (زك 12: 10).
شكّل موت يسوع على الصليب شكاً كبيراً بالنسبة إلى المسيحيين الأولين. فبحثوا عن معنى مثل هذا الحدث خلال قراءتهم للتوراة. مثلاً، أورد لوقا في بداية خبر الآلام (23: 27) عبارة قصيرة من أشعيا (53: 12): "أحصي مع الأثمة". وأورد في أعمال الرسل فصل أشعيا هذا بشكل موسّع: فسرّ فيلبس هذا المقطع الأشعيائي ثم حدّث الحبشي عن بشارة يسوع (أع 8: 26 ي).
ما يدهشنا هو أن الإنجيليين الآخرين لا يوردون هذا النصّ الأساسي، بل يستعملون أكثر من مرة القسم الثاني من سفر زكريا الذي يتضمّن سلسلة من التعاليم المختلفة. أعاد النبي قراءة الأنبياء الذين سبقوه فتحدّث عن عمل اله (الدينونة، الخلاص) من أجل شعبه العائش في الضيق. ليس الخلاص إنتصاراً سهلاً. إنه يتمّ عبر أزمة يمرّ فيها الراعي أو الملك.
* الدخول إلى أورشليم
حين دخل يسوع باحتفال إلى أورشليم، وهو راكب على ظهر جحش، قام بفعلة نبوية. فاستطاع جميع اليهود أن يفهموا ما عمل بسبب الكلمة التي تفتتح القسم الأول في سفر زكريا (9: 9): "لا تخافي، يا ابنة صهيون! هوذا ملكك يأتي راكباً على جحش ابن اتان". أورد متى ويوحنا هذا القول بشكل واضح، واختلفا في ترجمة التفاصيل. تحدّث متى عن الملك "الوديع" فأجمل ثلاث مفردات نجدها عند زكريا: "صدّيق، مخلّص، وديع". لم يحتفظ يوحنا بهذا التفصيل، بل أبرز لقب "الملك" كما ردّدته الجموع (12: 13). وبدأ كلامه بعبارة "لا تخافي"، فأوحى أن الله نفسه يكشف عن ذاته في فعلة يسوع هذه.
* إعلان يوم الله
إن سفر زكريا ينتهي بإعلان يوم الله: فالربّ سيجمع كل الأمم على جبل الزيتون ليحتفلوا فرحين بعيد المظال (أو: اكواخ). "حينئذٍ يكون الرب ملكاً على الأرض كلها" (زك 14: 9). "في ذلك اليوم، لن يكون تاجر في بيت الربّ" (14: 21). إن هذا الفصل يشكّل خلفيّة مقاطع عديدة في الأناجيل. فعند الإزائيين، طرد يسوع الباعة من الهيكل بعد أن دخل على ظهر جحش. وأعطى تعليماته عن اليوم الأخير وهو جالس على جبل الزيتون. وفي يوحنا، تمّ تطهير الهيكل منذ البداية (ف 2) وفي إطار عيد المظال. فقدّم يسوع نفسه على أنه الماء الحقيقي والنور الحقيقي (زك 14: 7- 9).
* هرب التلاميذ
فسرّ متى ومرقس هرب التلاميذ حين أوقف يسوع، فجعلا في فمه هذا التنبيه: "أَضربُ الراعي فتتبدّد خراف القطيع" (مت 26: 31؛ مر 14: 27؛ نجد تلميحاً إلى ذلك في يو 16: 32). في زك 13: 7، نجد الربّ غاضباً على عدد من الرعاة الأردياء، على عدد من الأنبياء الكذبة. وفي غضبه، لن يضربهم فقط، بل يضرب الراعي الحقيقي ووضعاء الأرض. وهكذا يرى النبي أن الراعي المقبل والملك المقبل سوف يواجه الألم.
* موت يهوذا
وأورد متى أيضاً زكريا بعد موت يهوذا (يوضاس)، وذلك حين اشترى عظماء الكهنة بمال الخيانة حقل الفخّار لدفن الغرباء. في نصّ زك 11: 12 يتماهى الله مع نبيّه التي تساوي كلمته 30 من الفضّة. ضمّ متى هذا الفول إلى عدّة مقاطع من إرميا (ف 30)، وأشار إلى حقّ الغرباء بالإقامة في الأرض المقدّسة (تك 23) بفضل هذا المال الذي دُفع كـ "ثمن" النبي.
* المطعون
ويعود التقليد اليوحنّاوي (يو 19: 37؛ رؤ 1: 7) إلى نصّ آخر من زكريا، ليتكلّم عن يسوع المصلوب. ماذا يقول النصّ؟ "أفيض على بيت داود وعلى سكّان أورشليم روح النعمة والتضّرعات. فينظرون إليَّ أنا الذي طعنوه، وينوحون عليه كما على ابن وحيد. ينوحون عليه بمرارة كما على ابن بكر. في ذلك اليوم يكون النوح عظيماً في أورشليم كالنوح على هدد- رمون في سهل مجدّو" (12: 10- 11). "في ذلك اليوم يخرج ينبوع لبيت داود ولسكّان أورشليم كدواء للخطيئة والنجاسة" (13: 1)
يعلن الله أنه قد أُصيب بالموت الذي أصاب مرسله. ولكن من هو هذا المرسل الذي يخبر عنه النبي؟ ربما يوشيا جديد، هذا الملك الصدّيق الذي طُعن في سهل مجدّو (2 مل 23: 29). وقد يشير الإطار إلى تفسير جمَاعي: تحدّث النصّ عن مدن يهوذا المضطهدة وعن سكّان أورشليم... مهما يكن من أمر، لقد قرأ التقليد اليهودي في هذا النصّ إعلاناً عن المسح، إبن افرائيم، الذي مات بسبب خيانة شعبه.
في الواقع، على مرسل الله في سفر زكريا (الراعي، النبي) أن يواجه الألم. والملك سيكون وديعاً ومخلَّصاً بيد الله. وهكذا نفهم أن يكون متى ويوحنا قد فكّرا بيسوع، لا سيما وأن الله يتضامن مع مرسله.
إنّ الأحداث التي تلي مباشرة موت يسوع، يوردها يوحنا بطريقة خاصة: طلب اليهود من بيلاطس أن يكسروا سوق المصلوبين لكي يعجّلوا في موتهم (قبل أن يبدأ عيد الفصح) وينزلوهم عن الصليب. أعطى بيلاطس اليهود ما طلبوا، مع أن الرومان اعتادوا أن يتركوا الجثث على الصلبان ليزرعوا الرعب في القلوب.
نستطيع أن نقرأ هذه الأحداث على مستويين (هكذا اعتاد أن يفعل يوحنا). يبدو اليهود (حين طلبوا ولبُّيَ طلبهم) وكأنهم ربحوا القضية: سيستطيعون أن يحتفلوا بالفصح في ظروف عادية. ولكن في الواقع، هناك "سلطة" سرّية "تحرّكهم". فتدخّل الجنود الذي قرّره (في الظاهر) الوالي الروماني بناءً على طلب اليهود، يحمل معنى يتجاوزهم جميعاً فلا يفهمه إلاّ المؤمنون وحدهم. ظنّ اليهود انهم يستطيعون أن يهيّئوا فصحهم الخاص. ولكنهم يفتحون في نظر المؤمنين الطريق أمام فعلة ترمز إلى الفصح الجديد.
أولاً: لم يكسر الجنود ساقَي يسوع كما فعلوا للمصلوبين معه. ويتوضّح المعنى بالعودة إلى الحمل الفصحي الذي "لا يكسر له عظم" (عد 9: 12). وهكذا مات يسوع ساعة تذبح حملان الفصح وفي موضع قريب من موضع ذبحهم، فصار بشكل سرّي حمل الفصح الجديد، ذاك الذي به يصبح عيد التحرير العظيم حاضراً الآن وفي هذا المكان.
ثانياً: لم يكسر الجنود ساقَي يسوع، فلو فعلوا لأزالوا كل سند للمصلوب فيموت خنقاً. بل إن جندياً طعن جنبه بحربة فخرج دمّ وماء. لا يعتبر الإنجيلي أنّ في الأمر معجزة (لا معجزات عنده خلال الآلام). فقد نشرح الواقع إنطلاقاً من طبّ ذلك الزمان. فالضربة الموجّهة إلى القلب تجعل الجندي يتأكّد أن يسوع مات حقاً. ولكن من القلب المطعون خرج دمّ وماء. كان بالإمكان التوقّف على المستوى التشريحي (الطبّي). أما الإنجيلي فاستخلص شهادة رفيعة أبرزها هنا. لقد دلّ على أن التجسّد أمرٌ واقع، وأن موت يسوع يفتح في حقيقته الطريق على سرّ الخلاص الذي أعلن في 7: 38: "كما قال الكتاب، تجري من جوفه أنهار مياه حيّة". ففي موت يسوع، جاءت ساعة تمجيده، وأعطي الروح للمؤمنين (7: 39). وقد أوّن القارىء المسيحي هذه الحياة التي أعطاها يسوع في سرَّيْ المعمودية (ميلاد من الماء والروح، 3: 5) والافخارستيا (6: 54).
في آ 35 (حسب اليونانية) نقرأ: "هذا" (أو: ذاك). هل هذا يعني: الربّ يعلم أنه يقول الحق؟ أو: هل نحن أمام الإنجيلي نفسه الذي يريد أن يشدّد على صحة شهادته وحقيقتها العميقة؟ ولكن بما أننا أمام سلطة يحقّ لها أن تسند شهادة، فلفظة "هذا" تدلّ على يسوع نفسه.
حين شدّد الإنجيلي على هذه الأمور، فقد توخّى أن يجذّر قرّاءه في إيمان يعلن أن موت يسوع هو ينبوع خلاص. ويرد استشهادان يؤكّدان أن فيه تمّت الكتب المقدّسة. الأول (آ 36) يشير إلى ثلاثة مقاطع في العهد القديم. المقطعان الأولان يعلنان أن يسوع لم يُكسَر له عظم، شأنه شأن الحمل الفصحي (خر 12: 46؛ عد 9: 12). والمقطع الثالث (مز 34: 21) يشهد أن يسوع وصل "سليماً" إلى القيامة على مثال البار المؤمن.
وأخذ الإستشهاد الثاني من زك 12: 10 حيث يتماهى الله مع البار المضطهد. إن هذه النظرة إلى المصلوب تعني فئتين من المشاهدين: أولئك الذين رذلوه فدعوا إلى التوبة. وجماعة المؤمنين الذين وقفوا مع مريم والتلميذ الحبيب لكي ينالوا في موت يسوع الروح الموعود به.
ينطلق يوحنا من الأحداث، فيصبح خبره واقعياً جداً. يذكّرنا أن اليهود يهتمون بممارسة الشريعة ممارسة تامة، ساعة يصلبون بريئاً فيتجاوزون الوصية التي تمنع من القتل. والحال أن الشريعة تطلب أن لا تبقى الجثث على صلبانها خلال الليل، بل تدفن، وخاصة إذا كانت هذه الليلة هي بداية السبت. وفوق ذلك، إذا كان يتوافق ذلك السبت مع عيد الفصح.
إذن، جاء الجنود ينهون حياة المصلوبين. وكسر الساق هو عذاب خاص بالعبيد والجنود الهاربين من الخدمة. ولكن هذا الكسر كان يعجّل في موت المصلوبين. وهكذا تحاشى الرومان الصدام مع الشريعة اليهودية، فقصّروا عذابات المحكوم عليهم بالإعدام. أما يسوع فمات قبل المصلوبين معه. لهذا اكتفى الجندي بطعن قلبه بحربة ليتأكّد من موته.
حين قدّم لنا يوحنا خبر الآلام، لمّح إلى الفصح مراراً. فهو يرى أن يسوع مات ساعة تذبح حملان الفصح في الهيكل. ما أراد اليهود أن يدخلوا إلى بيلاطس لئلاّ يتنجّسوا فلا يعودوا يستطيعون أن يأكلوا الفصح (18: 28). في الواقع، إن حمل الله الحقيقي الذي يؤمّن لنا الحرية، هو يسوع نفسه.
وتوقّف الإنجيلي عند الدمّ والماء اللذين سالا من جنب يسوع. إنه الشاهد الذي ينظر إلى رمزية الحدث. فيسوع الذي ارتفع عن الأرض سيقدّم الآن الروح. هذا الروح الذي يتيح للمؤمنين جميعاً أن يحيوا من هذه الوفرة ويحملوا ثماراً.
من يعرف الكتب المقدّسة يفكّر طوعاً بالينبوع الجاري من الجهة الشرقية في الهيكل (حز 47). هذه المياه هي حقاً مياه حيّة تحوّل كل شيء في طريقها. هنا نقرأ رؤ 22: 1- 2: "ثم أراني نهر ماء الحياة صافياً كالبلّور، خارجاً من عرش الله والحمل. وفي وسط ساحة المدينة وعلى جانبَيْ النهر شجرة حياة تعطي إثنتي عشرة غلّة. في كل شهر غلّة. ويستعمل ورق الشجر شفاء الأمم" (رج 7: 17؛ 22: 17).
وهكذا يبدو يسوعُ المصلوب الهيكلَ الجديد الذي منه يخرج ظهر الماء المحيي. كان يسوع قد قال: "أنقضوا هذا الهيكل وأنا أقيمه في ثلاثة أيام... كان يتكلّم عن هيكل جسده" (2: 19- 21).
تحدّث يوحنا عن الدمّ والماء. فالرمز يشير إلى الإثنين. تقول 1 يو 5: 6: "إن يسوع جاء مع الماء والدمّ. لا مع الماء فقط، بل مع الماء والدمّ. والروح هو الذي يشهد" تشدّد الرسالة على الدمّ المراق فتردّ على المسيحيين الذين لم يفهموا هذه العطية. قد تردّ على عماديين لم يتعمدّوا إلاّ عماد الماء. أما يسوع فطلب في خاتمة خطبته على خبز الحياة بأن "نأكل جسده ونشرب دمه". فهمَ المسيحيون أنهم أمام الافخارستيا. وحين يؤكّد الشاهد أن الدمّ والماء جريا من جنب المسيح، فهمَ المؤمنون أن الافخارستيا والمعمودية تنبعان من جنب يسوع المصلوب.
فالمعمودية والافخارستيا تصنعان الكنيسة. لهذا بدأ آباء الكنيسة منذ القرن الثاني يقولون في خطّ هذه الرمزيّة: إن الكنيسة خرجت من جنب المسيح النائم في الموت، كما خرجت حوّاء (تدل المرأة على الشعب والأمّة، من جنب آدم النائم). حجرة حياة الصليب هي موضع الخليقة الجديدة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM