من الحزن إلى الفرح

من الحزن إلى الفرح
16: 16- 24

ستحزنون، ولكن حزنكم سينقلب فرحاً.
نجد في آ 17 وفي 16: 29 حوارين بين يسوع وتلاميذه، وذلك بعد مونولوج طويل تحدّث فيه يسوع وحده منذ بداية ف 15. فالحزن والفرح هما العاطفتان اللتان يثيرهما ذهاب يسوع.
أعلن يسوع في لغز أنه سيختفي ثم يظهر من جديد. عمّا قليل لا ترونني. ثم عفا قليل ترونني. هذا ما ينطبق على آلامه وموته. فرح عابر من أجل العالم، وحزن من أجل التلاميذ. ولكن ستنقلب الأمور بعد القيامة (20: 20).
لم يفهم التلاميذ كلمة يسوع، أو اختلفوا على فهمها فتجادلوا وأعلنوا أنهم لم يفهموا في العمق. "لا نفهم ماذا يريد" وبدأ شرحُ يسوع بشكل احتفالي مع عبارة "الحق الحقّ أقول لكم" (آ 20).
أمّا المقابلة مع المرأة الحبلى فهي تقليدية في العالم اليهودي، وتنطبق على الأزمنة الأخيرة (هو 13: 13؛ أش 26: 17؛ إر 6: 24). واستعمل سفر الرؤيا الصورة عينها عن المرأة الحبلى التي تلد الولد المسيحاني (رؤ 12: 2). هذا الإنفتاح الاسكاتولوجي يتيح لنا أن نقرأ عبارة "عمّا قليل" بطريقتين. تدلّ على القيامة كظهور عابر وعلى نهاية الأزمنة كحدث يسوع النهائي الذي تدشّن في الآلام.
نحن أمام لغز، ثم أمام مثل، وينتهي النصّ بنداء جديد إلى الثقة بصلاة نرفعها إلى الآب.
ونبدأ باللغز (آ 16- 20). "عمّا قليل ترونني، عمّا قليل لا ترونني. يتحدّث يسوع عن الوقت القصير الذي تشكّله آلامه وموته قبل اللقاء الجديد بعد القيامة. غير أن هذا اللقاء الجديد سيكون عابراً. ولكنه يترك في قلب الرسل الفرح. فيقول لهم يسوع: "لا ينتزع أحد فرحكم منكم". ويتحدّث يسوع أيضاً عن عودته في نهاية الأزمنة. فتاريخنا البشري كله هو وقت قصير. هذا ما تقوله أسفار الرؤى التي تعرف أن ألف سنة في عين الله كيوم أمس الذي عبر (2 بط 3: 8). تاريخنا هو في الخارج زمن حزن، ولكن يرافقه نداء دائم إلى الفرح نجده في إنجيل يوحنا كما في رسائله.
يتطلّع يسوع إلى تاريخنا كوقت فيه يكون غائباً، كوقت من الحزن. ومن جهة ثانية كوقت فيه يفتقدنا ويزورنا، كوقت من الفرح. وحين صوّر سفر الرؤيا زمن الكنيسة ضمّ في واحد بُعدي الفرح والحزن. جاء يسوع يتّكىء إلى مائدتنا (رؤ 3: 20). جاء يقيم عندنا مع الآب (يو 14: 23). وهكذا يكون عبور يسوع إلى الآب إنطلاقاً حقيقياً يترك التلاميذ "منفيّين بعيداً عن الربّ" (2 كور 5: 6). ونكون أمام طريقة جديدة نحيا بها علاقتنا مع الرب: بالإيمان، بفضل الروح، بكلمة الله، بخدمة الاخوة، بالعشاء الافخارستي... بكل هذا ننظر إلى مجيء يسوع بفرح يستبق فرح نهاية الأزمنة.
ويأتي المثل (آ 21- 22) بعد اللغز، فيدلّ على الزمن الذي نعيشه. "المرأة، إذا ما حان وضعها، تحزن، لأن ساعتها قد أتت، ولكنها متى وضعت الطفل لا تعود تذكر شدّتها، فرحة بأن إنساناً وُلد في العالم" (آ 21).
تبيّن لنا الفصول الأولى في سفر التكوين أن حوّاء ستلد في الآلام: "بالأوجاع تلدين البنين" (تك 3: 16). وتبيّن لنا فرحها فتصرخ حين ولدت قايين: "رزقني الرب ابنا" (إنساناً) (تك 4: 1).
واستعاد الأنبياء مراراً هذه الصورة ليشدّدوا على الأزمنة الصعبة التي سيعيشها شعب الله. نقرأ في أش 26: 16- 17: "في ضيقنا افتقدناك (طلبناك) يا رب، فكنّا أمامك كامرأة فاربت الولادة. تتوجّع وتصرخ في مخاضها" (رج هو 13: 13). ونجد الصورة عينها بمناسبة الحديث عن هزيمة الأمم حين يخلّص الله شعبه. "يستولي عليهم الرعب، وتأخذهم أوجاع وآلام، فيتلوّون كامرأة في المخاض" (أش 13: 8). "بهتوا عندما رأوا أورشليم، وفزعوا وأسرعوا إلى الفرار. أخذتهم هناك الرعدة وتوجّعوا كالتي تلد" (مز 48: 6- 7). وقد استعاد يسوع هذه اللغة ليحدّثنا عن محن نهاية الأزمنة: ستكون مفاجئة فلا يفلت منها أحد. "هذا كله أولا الأوجاع. حينئذ يسلمونكم إلى الضيق ويقتلونكم" (مت 24: 8- 9؛ مر 13: 8؛ رج 1 تس 5: 3).
غير أن هناك نصوصاً عديدة تشدّد على الوجهة الإيجابية: فهذه الأوجاع هي أوجاع الولادة. فامرأة سفر الرؤيا (ف 12) التي تمثّل شعب الله، تلد في الأوجاع الولد المسيح. ويرى بولس أن الخليقة كلها تعيش ألم المخاض (روم 8: 22). وقد قال إلى الغلاطيين: "يا أولادي الصغار الذين اتمخّض بهم من جديد إلى أن يتصوّر المسيح فيهم" (4: 19). وأعلن اشعيا من جهته اليوم الاسكاتولوجي الذي فيه تلد أورشليم البنين والبنات بدون أوجاع المخاض (66: 5- 14).
كل هذا غذّى المثل الذي أورده يوحنا. وهو يبرز فرح المرأة التي تنسى أوجاعها لأن إنساناً وُلد في العالم. هذه المرأة (كما في رؤ) هي شعب الله، شعب الميثاق الجديد. هي الجماعة اليوحناوية التي تعيش المحن العديدة.
وهذه المحن تشبه آلام الولادة. والفرح سيكون في لقاء الرب (سوف أراكم) في اليوم الأخير، بل منذ الآن ساعة تلد الكنيسة إنساناً وتلميذاً لذاك الذي سمّاه بيلاطس الرجل" (19: 5).
هذا العمل يتعدّى إمكانيات الجماعة، فلا تستطيع أن تستند إلى قواها وحدها. لهذا يدعوها يسوع بإلحاح إلى الصلاة. يستعيد الإنجيل هنا كلمة من يسوع عرفها التقليد الإزائي: "سلوا تعطوا" (رج مت 7: 7؛ لو 11: 9). ولكنه حدّد: نحن نطلب من الآب، نطلب وننال باسم يسوع. نطلب وننال بحيث يكون فرحنا كاملاً.
نلاحظ هنا أن الفرح هو ميزة الحقبة الحاضرة: إنه ثمرة صلاة الطلب التي تتجدّد دوماً في الكنيسة. وهذا ما يثبت الشرح الذي أعطي في الآيات السابقة: إن الفرح بولادة إنسان في العالم يصوّر أيضاً النشاط الحاضر في الكنيسة. وعمل المخاض القاسي الذي نعيشه في الثقة والصلاة إلى الآب، الذي نعيشه في الروح القدس الذي يعطى لنا باسم يسوع، هذا العمل هو منذ الآن ينبوع فرح.
عالم جديد يولد. هل نعرف أن نكتشفه؟ ولهذا يمتزج في حياتنا الألم والفرح، القلق والسلام، الشك والألم. لا يأتي الواحد بدون الآخر، وليس من السهل أن نحمل الوجهات المتناقضة في حياتنا، كما ليس من السهل أن يكون يسوع ذاك الذي لا نراه وذاك الذي نعود فنراه. هناك تمزّق في أعماقنا والربّ يساعدنا على عيش هذا التمزّق

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM