العالم ويسوع

العالم ويسوع
15: 18- 27

إن كان العالم يبغضكم، فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم.
بُني ف 14 على موضوع السفر مع ألفاظ مثل: مضى، انطلق، عاد، الطريق. سفر الابن نحو الآب ودوره الفريد بأن يقود تلاميذه إلى الآب. كل هذا الفصل يشدّد على الإنطلاق القريب، ويلّح على التلاميذ بأن لا يقفوا بجانب الوحي السامي عن يسوع (أنا معكم كل هذا الزمان ولم تعرفني، 14: 9)، بل يعرفوا أن يسوع يواصل حضوره وسط تلاميذه (لا أترككم يتامى، 14: 18)، لا في العالم (العالم لن يراني، 14: 19). تلك كانت خطبة يسوع الوداعية الأولى.
وتأتي الخطبة الوداعية الثانية (15: 1- 16: 33) فتطرح علينا بعض الاسئلة. أيكون ف 16 هو قراءة جديدة لنص ف 14؟ هناك ضرورة ذهاب يسوع، عودته القريبة إلى البشر، مجيء الروح الفاعل، عطية السلام. أما ف 15 فيعالج موضوعاً جديداً: فعبر استعارة الكرمة نتعرّف إلى وضع الجماعة خلال غياب يسوع. نقرأ اولاً مثل الكرمة ثم تطبيقه على التلاميذ مع وصية المحبة التي تتكرّر اثنتي عشرة مرة. لن يكون هذا الحب نتيجة قرار يتخذه المؤمن: يسوع هو الذي يختار أحبّاءه (6: 70؛ 13: 18). وحبّه عطيّة مجّانية لا يستطيع الانسان أن يفتخر بها وكأنها منه.
"إن كان العالم يبغضكم". تتكرّر لفظة "بغض" سبع مرات لا سيما في وحدة تتألف من آ 18- 25 (في البداية والنهاية). تتعارض هذه المتتالية مع التي سبقتها، كما يتعارض الظلّ مع النور. إن العالم يبغض المسيحيين لأنه يبغض يسوع ايضاً: هو ليس من "العالم"، وهم ليسوا من "العالم". وبغضُ العالم هذا تجاه التلاميذ ليس بغضاً عابراً: إنه يمتدّ ما بقي جزء من البشرية رافضاً أن يتقبّل تعليم يسوع.
لقد أظهر يوحنا طوال إنجيله أن العالم يعارض يسرع. فالعالم يبغضه لأنه شهد عليه (7: 7: أشهد عليه بأن أعماله شريرة). وهذا التعارض ينتج من لا توافق بين عالمين، عالم علوي، وعالم سفلي (8: 23: أنتم من أسفل وأنا من فوق). فمن اختاره يسوع إقتلعه من عالم الظلمة هذا. منذ الآن، فالمؤمنون، بما أنهم تلاميذ، ينخرطون في حرب يسوع ضد العالم.
إذن، سيكون مصير التلاميذ كمصير المعلّم (1 يو 3: 13: لا تتعجبوا إذا كان العالم يبغضكم).
وتستعيد آ 20 (العبد ليس أعظم من سيده) ما قيل في 13: 16 ساعة غسل الأرجل: لقد دعي التلميذ أن يقتدي بالمعلّم في امحائه في الموت، فعليه أن يعبر في الاضطهادات. وهو يتحمّلها من أجل اسم يسوع (آ 21).
وهنا تبدو الثنائية واضحة عند يوحنا. ينقسم العالم إلى مملكتين لا تتوافقان: من جهة مملكة النور والحب المؤلّفة من يسوع وتلاميذه. ومن جهة أخرى، عالم ابليس الذي يسود عليه سلطان الظلمة. أما تلاميذ يسوع فهم أبناه النور (1 يو 4: 5- 6: هم من العالم. نحن من الله).
ويبيّن الإنجيلي "منطق" هذا البغض (ويشجّع في الوقت عينه أولئك الذين هم موضوع هذا البغض) الذي يصيب على التوالي الآب (آ 24: أبغضوني أنا وأبي) وأتقياء العهد القديم (أبغضوني مجّاناً، مز 69: 5) والمسيح (يو 15: 18: أبغضني قبلكم) والتلاميذ أنفسهم (15: 18- 19: لستم من العالم، لهذا يبغضكم العالم).
إن هذا المقطع يعكس وضع "الحصار" الذي يعيشه المسيحيون في نهاية الفرن الأول المسيحي. رذلَتهم الجماعة اليهودية وطردتهم من مجامعها. هذا ما تدّل عليه عبارة "في ناموسهم" (آ 25) فتبيّن جوّ الانقطاع النهائي بين الجماعتين. ورذل العالمُ الوثني المسيحيين. نحن هنا أمام نظرة متشائمة عن العالم وقيمه بسبب مناخ ديني لا يعرف التسامح. ولكن لا ننسَ أن النور والظلمة يقيمان معاً في قلب كل إنسان.
ولكن في هذا الجوّ المظلم يطلّ "وجه" الروح القدس، إنه البارقليط والمحامي والمدافع والمعزّي. فعلى التلاميذ أن يعرفوا أنهم ليسوا وحدهم في الاضطهاد: فالمدافع سيكون بجانبهم. إنه روح الحق الذي يشهد ليسوع. وبما أن التلاميذ يشهدون الشهادة عينها، نستنتج أن الروح يحمل شهادته بواسطة المؤمنين.
لقد بدأت "دينونة" هذا العالم. والدينونة لا تعني فقط أن نلفظ حكماً في المحكمة. فهي تثبّت الحق، وتصلح الأخطاء، وتعبد العدالة، وتتّخذ قرارات من أجل الشعب. الدينونة هي عمل الله الذي وحده يعرف قلب كل انسان. يصعب علينا أن نتخيّل الدينونة الاخيرة التي تجعل كل انسان في مكانه، ساعة يزدهر الشرير ويعرف البار الإساءة في حياته. لهذا جاءت صور مأخوذة من الخبرة البشرية. وان مت 25: 31- 46 يتصوّر الدينونة بشكل محكمة في نهاية الأزمنة: ما يحسم الحكم هو الطريقة التي بها نتصرّف تجاه الجائع والسجين...
وتحدّث يوحنا عن الدينونة التي بدأت في التاريخ، وخصوصاً ساعة تمجيد يسوع على الصليب. فمنذ ذلك الوقت حضر كل ما يجب أن يحصل من أجل خلاص العالم، وبدأت الأزمنة الجديدة، "الأزمنة الأخيرة". والاحداث التي صوّرها الانبياء من أجل نهاية الأزمنة قد حصلت وتركّزت حول صليب يسوع.
"الآن دينونة هذا العالم. الآن رئيس هذا العالم يلقى خارجاً. وأنا متى رُفعت عن الأرض إجتذبت إليّ الجميع" (12: 31). منذ الآن عاد الحقّ إلى نصابه، وطُرد المُضايق الاكبر إلى الخارج. هذه نهاية مملكته وبداية مملكة يسوع مع كل سلطان ابن الانسان (دا 7: 13- 14).
لا شكّ في أن هذا يرتبط بجواب كل واحد منّا. فعند يوحنا ليست الدينونة حكماً يعلنه قاضٍ يضع الصالحين في جهة والاشرار في جهة أخرى. فالناس أنفسهم هم الذين يختارون. إما أن يعملوا الشّر، وحينئذٍ يرفضون المجيء إلى النور، وإما أن يتصرّفوا بحسب الحقّ، وحينئذٍ يأتون إلى النور (3: 19- 21).
هذا ما نراه في مطلع الإنجيل (1: 1- 18). إن مجيّ ابن الله الذي هو النور والحق والحياة، يتوّجه إلى البشر ويطلب منهم أن يختاروا. وهذا الخيار لا يتم بدون أزمات وصراعات وتمزّق. وفي النهاية، على البشر أن يختاروا أمام المسيح المصلوب الذي هو الوحي الاخير لوجه الله.
لقد تبدّلت اللهجة في هذه الآيات: بعد الحب والفرح والديمومة، جاء البغض والاضطهاد والاستبعاد والقتل. فالرسالة ليست نزهة في مرج من الزهور. ويبدو كلام الإنجيل هنا صدى للصعوبات التي جابهت المجموعة. وحاول الإنجيلي أن يفهم الأسباب لكي يقوّي التلاميذ في إيمانهم. إن كلامهم يثير المعارضة، لا القبول. فجاءت مثلّثة.
* "لقد أبغضني العالم قبلكم".
بدأ يوحنا فذكر مثل يسوع نفسه. فكلامه وموقفه قد أثارا المعارضة. وارتبط مصير التلاميذ ارتباطاً وثيقاً بمصير معلّمهم: "إذا كانوا إضطهدوني فسوف يضطهدونكم أيضاً". إنهم تجذّروا فيه، فلا يستطيعون أن يفلتوا من مصيره. تاريخه هو تاريخهم.
* "لستم من العالم".
عن أيّ عالم يتكلّم يوحنا؟ يؤكّد النصّ على فصل تامّ بين يسوع والتلاميذ من جهة، والعالم من جهة أخرى. إذن، يدّل العالم على كل القوى التي تعارض كلام يسوع وتلاميذه.
هل نستطيع أن نحدّد هذه القوى التي يتحدّث عنها النصّ؟ تشير نهاية المقطع إلى مجموعتين. المسؤولون اليهود هم الذين يستبعدون المسيحيين وينفونهم. والامبراطورية الرومانية ترسلهم إلى القتل. إما بشكل مباشر وإما بشكل غير مباشر (لا يتدّخلون حين يُضايق المسيحيون). إذن، نحن أمام فئات عديدة من الخصوم. وتدّل 1 يو على أن مثل هؤلاء الخصوم قد يأتون من داخل الجماعة. وفي النهاية إن الحدود بين العالم والتلاميذ تمّر في داخل كل من المؤمنين.
إن كلمة يسوع وتلاميذه تدوّي في عوالم لها منطقها وفي أنظمة تطمئنها وتسجنها. فهذه الكلمة ليست حيادية، بل هي تفجّر الأطر الجامدة. وحين لبّى التلاميذ نداء يسوع قبلوا أن ينفتحوا على كلمة جديدة، أن يبدّلوا طريقهم في النظر إلى الأمور، أن يفهموا بشكل آخر من هو الله وكيف تكون علاقاته مع البشر. وحين اندفعوا في هذه المغامرة، إنفصلوا عن الذين لبثوا منغلقين على ذواتهم وعلى مصالحهم، عن الذين لا يعترفون إلا بما يسير في الخطّ الذي رسموه لنفوسهم. إن العالم يحبّ أولئك الذين يفكّرون مثله.
ويجب على المزمن أن يعرف أن إيمانه يتحّداه ويدفعه إلى أن يحيا حياة أصيلة تخلق له المتاعب، خاصة حين يعارض الأفكار التي يأخذ بها الجميع والنظام المتفق عليه. في هذا المعنى يجعله إيمانه على هامش العالم. غير أن هذا لا يعني أن عليه أن يتهرّب من العالم ويتخلّى عن مسؤولياته.
* "لا يعرفون الآب.
ومن خلال التلاميذ ويسوع، يصاب الآب نفسه في الصميم ببغض هذا العالم. وهناك من يظنّ أن الاماتة له، تقدمة الذبائح له، تقوم بأن نزيل أولئك الذين نحسبهم نحن شهوداً كذبة. فنحن في الواقع مخطئون، وضلالنا يتخذ وجهاً مأساوياً. هل هم مسؤولون عن هذا الوضع؟ أجل، يقول النصّ، ولا عذر لهم في خطيئتهم بسبب العمى الذي برهنوا عنه تجاه عمل يسوع. فهم لم يقدروا أن يتعرّفوا إلى العطية الكبرى التي منحها الله للبشر. لقد انتظروا تحقيق الوعد. وساعة تحقّق ذلك لم يعرفوا أن يروه. لقد أبغضوا بلا سبب (آ 25).
لقد تكاثرت الصعوبات وبدت ثقيلة. ولكن هذا يجب أن لا يقود التلاميذ إلى الاعتزال والتخلّي عن مسؤولياتهم.
* اولاً، بسبب المسيرة الطويلة التي ساروها مع يسوع. "إنهم معه منذ البدء. ويستطيعون أن يشهدوا على أمانة حياته وحقيقة تعليمه. قبلوا أن يغامروا في طرق ليست طرق سائر الناس، وهم يستطيعون أن يستعيدوا اعلانات الايمان التي تتوزّع المشاهد الكبرى في إنجيل يوحنا: منذ التلاميذ الأولين حتى اليونانيين الذين صعدوا إلى أورشليم، مروراً بنيقوديمس وسمعان بطرس والمولود أعمى ومرتا ومريم...
* ثانياً هم يستطيعون أن يشهدوا بسبب عطية الروح القدس الذي أعطي لهم. هم ليسوا متروكين، هم ليسوا عزلاً أمام المعارضة. ويقابل النصّ بين شهادة يؤدّيها روح الحقّ وشهادة يؤدّيها التلاميذ. هما في الواقع شهادتان لا تنفصلان. فالروح يجعل التلاميذ يتقدّمون في اكتشاف يسوع وفهم كلمته. ويؤكّد لهم حقيقة إيمانهم. فاعلان الإنجيل هو في الوقت عينه عملهم وعمل الروح الذي ينعشهم. فعمل الروح يتمّ في التلاميذ كما يتمّ في قلب العالم.
واليوم لماذا هذه اللامبالاة؟ لماذا يُرفض الإنجيل؟ ليست الرسالة سهلة. فالمرسلون يواجهون المقاومة وينالون الفشل. والمقاومة ليست فقط من الخارج، بل هي في أعماق قلوبنا. وهناك ضعف شهادتنا وشهادة جماعتنا ومجمل الكنيسة. لا نعرف كيف نتصرّف. صارت لغتنا غير مفهومة، وعارضت أعمالُنا أقوالنا. وتأتي الصعوبات أخيرا من "جنون" تعليم الإنجيل. فكلمة المسيح تطرح على بساط البحث أموراً عديدة، لهذا نتقبلها بصعوبة، نضع العراقيل في وجهها

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM