مرحلة جديدة في الإنجيل
12: 23
لقد أتت الساعة التي فيها يتمجّد ابن البشر.
في كتاب سابق توسّعنا في الفصول الاثني عشر الأولى لدى يوحنا. وتوقّفنا عند الخاتمة الموقتة التي نقرأها في 12: 27- 50. وها نحن نعود إلى القسم الثاني الذي عنوانه "الآلام والمجد"، والذي يبدأ بمقدّمة إحتفالية إلى خبر الآلام. فقد رأى يسوع أن قد جاءت ساعة عودته إلى الآب.
1- القسم الثاني من إنجيل يوحنا
ماذا في هذا القسم من الإنجيل؟
- عشاء يسوع الأخير مع تلاميذه، تليه خطبة طويلة، هي خطبة الوداع (13: 1- 17: 26).
- خبر الآلام (18: 1- 19: 42).
- ظهورات القائم من الموت وهي تبدو في مرحلتين. الأولى (20: 1- 29) مع خاتمة أولى (20: 30- 31). والثانية (21: 1- 24) مع خاتمة ثانية (21: 25).
تفرّد يوحنا عن سائر الإنجيليين، فأورد خطبة وداع تحتلّ مكانة هامّة جدًّا. لم تتضمّن خطبة لوقا إلاّ بضعَ آيات (لو 22: 34- 38). تركّزت على الخدمة، وقابلت مع ما قاله يوحنا من خلال فعلة كسل الأرجل. لقد سجّل يوحنا في هذه الخطبة جميع النقاط البارزة في تعليمه: المحبة والخدمة الأخوية. تجذّر المؤمنين في شخص يسوع. الشهادة التي نشهدها بقوّة الروح المعزّي. وحدة الجماعة. الرباطات الوثيقة بين يسوع والآب.
نجد في هذا النص أقوالاً تصدمنا وتلتقي مع خبرتنا اليومية. "أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم". نشعر أننا أمام تأكيدات ذات بعد مسكوني، تأكيدات تحتفظ بقيمتها في كل العصور. ولكن لا ننسَ أنها وُلدت في كنيسة محدّدة في التاريخ. وإذ أبرز يوحنا هذه المواضيع المختلفة، ربط ما قاله بما يعيشه المؤمنون في المحيط الذي فيه يكتب. حين نقول هذا الكلام، لا نريد أن نتناسى العمق الروحي لهذه النصوص ولا قوة السحر التي تشّع منها، بل نريد أن نتذكّر أن الله، منذ الإبتداء، يكلّم البشر إنطلاقاً من أحداث تطبع التاريخ بطابعها.
ولهذا أردنا في هذا الجزء اليوحناوي الثالث أن نبدأ قراءتنا بإلقاء الضوء على وضع هذه الكنيسة التي نبت فيها إنجيل يوحنا.
2- جماعة مطبوعة بالنزاعات
لاحظنا في "كتاب الآيات" مجموعات عدّة يعتبرها الإنجيلي معارضة لإنجيل: هناك اليهود، والعالم، والمنشقّون، وتلاميذ يوحنا المعمدان.
أ- اليهود
يبدو إنجيل يوحنا بشكل دعوى كبيرة بين يسوع واليهود. فالجماعة اليوحناوية، أو جماعة تلاميذ يوحنا، قد أصابتها إجراءات طرد المسيحيين من المجامع، من الجماعات اليهودية. نحن نقرأ في 9: 34 عن الأعمى منذ مولده. شفاه يسوع فدافع عن الذي شفاه. حينئذٍ طرده اليهود من المجمع. ولقد كانوا اتفقوا على أن يطردوا من المجمع "كل من يعترف بأن يسوع هو المسيح" (9: 22). وفي 12: 42، نعرف أن كثيراً من رؤساء اليهود آمنوا بيسوع، ولكنهم لم يعلنوا إيمانهم "لئلا يُطردوا من المجمع". وسيقول يسوع لتلاميذه: "سيطردونكم من المجامع" (16: 2). هذا ما حدث للمسيحيين في نهاية القرن الأول وبعد إجراءات مجمع "يمنية" (قرب يافا).
مسافة شاسعة بين العالم اليهودي والعالم المسيحي. وما يدلّ على هذا الوضع هو عبارة "شريعتكم" (أنتم) التي جُعلت في فم يسوع. في 8: 17 تقول "شريعتكم إن شهادة شاهدين صحيحة" (رج تث 19: 15). وسأل يسوع اليهود: "أما جاء في شريعتكم" (10: 34)؟
ب- العالم
عارض اليهود المسيحيين، ولم يكونوا وحدهم. فقد عارضهم الوثنيون أيضاً واستبعدوهم عن مجتمعهم. ثم إن الجماعة المسيحية شابهت خارجياً أية جماعة أخرى وُجدت في أيامها: أمانة لله، عضويّة في تجمّع واحد، تعاون مشترك. وجاء أعضاء الجماعة المسيحية من مختلف الطبقات الاجتماعية، من الفقراء والأغنياء. وقد وجد أولئك مكاناً يختبرون فيه الأخوّة الحقيقية ساعة يرفض المجتمع العادي أن يعترف بوجودهم.
خافت السلطة من هذه التجمّعات فحاولت أن تمنعها. وأصاب المنعُ المسيحيين أيضاً. زد على ذلك، أن المسيحيين انفصلوا عن العالم اليهودي فلم يعد يحميهم الوضع الذي عرفه اليهود في العالم الروماني، وفيه ما فيه من إمتيازات: عليهم أن يكونوا مثل جميع المواطنين في الامبراطورية فيشاركون في الديانة الرسمية ويتعبّدون للامبراطور. والويل لهم إن لم يقدّموا البخور! فالموت ينتظرهم. لأن امتناعهم عن مثل هذا العمل الديني يعتبر نقصاً في الولاء وخيانة على المستوى الوطني.
ج- المنشقون
هناك تلاميذ رافقوا يسوع ثم تخلّوا عنه في الطريق. هذا ما نفهمه من المناخ الذي أحاط بخطبة خبز الحياة. كان يسوع في مجمع كفرناحوم فقال: "من أكل جسدي وشرب دمي، يثبت فيّ وأنا فيه" (6: 52). إستصعب كثير من تلاميذه هذا الكلام. تخلّوا عن يسوع "وانقطعوا عن مصاحبته" (آ 66). فجاء كلام يسوع إلى الاثني عشر: "وأنتم، أما تريدون أن تتركوني مثلهم" (آ 67)؟
وفي حوار يسوع مع اليهود، نفهم أن كثيراً من الناس آمنوا به (8: 30). حينئذٍ قال يسوع للذين آمنوا به: "إذا ثبتم في كلامي صرتم حقاً تلاميذي" (آ 31). ونفهم أن عدداً من الناس لم يجسر على التظاهر مع يسوع خوفاً من اليهود. هناك والدا الأعمى منذ مولده. تحاشيا الجواب عن وضع ابنهما: "لا نعلم، لا نعرف من فتح عينيه" (9: 21). وهناك الرؤساء الذين أرادوا مسايرة الفريسيين، فما أعلنوا إيمانهم (12: 42). لقد فضلوا رضى الناس على رضى الله (آ 43). فيهم يقول يوحنا في رسالته الأولى: "خرجوا من بيننا وما كانوا منا. فلو كانوا مّنا لبقوا معنا. ولكنهم خرجوا ليتّضح أنهم ما كانوا كلهم منا" (2: 19).
د- تلاميذ يوحنا المعمدان
اعتبر تلاميذُ يوحنا المعمدان أن معلّمهم هو المسيح. ولهذا عاد الإنجيلي مراراً إلى تحديد مهمة يوحنا المعمدان وشهادته. قال في مطلع الإنجيل: "ظهر رسول من الله اسمه يوحنا. جاء يشهد للنور حتى يؤمن الناس على يده. ما كان هو النور، بل شاهداً للنور" (1: 6- 8). يوحنا هو الشاهد. أما يسوع فهو وحي الآب في العالم. "الكلمة هو النور الحقّ الذي جاء إلى العالم لينير كل إنسان" (آ 9).
ونقرأ في 3: 28- 30 بلسان المعمدان: "أنتم أنفسكم تشهدون بأني قلت: ما أنا المسيح. من له العروس فهو العريس. وأما صديق العريس، فيقف بجانبه يصغي فرحاً لهتاف العريض. ومثل هذا الفرح هو فرحي، وهو الآن كامل. له هو أن يزيد، ولي أنا أن أنقص. يوحنا هو الخادم الذي يخضع لسيده. يوحنا هو التلميذ الذي يصغي إلى المعلّم.
منازعات مع الذين من الخارج. منازعات مع الذين في الداخل. فالمنازعات تخترق الجماعة المسيحية. ولهذا يندّد الإنجيلي بالذين يؤمنون سرًّا ويخافون أن يجاهروا بإيمانهم لئلا يُطردوا من المجمع. هذا هو وضع نيقوديمس الذي "جاء إلى يسوع ليلاً" (3: 2). هذا هو وضع الذين يمارسون المسايرة على حساب تعلّقهم الجذري بالإيمان الجديد.
3- شخص يسوع
ما هو موضوع الخلاف؟ شخص يسوع. هذا ما يشير إليه إنجيل يوحنا ورسائله.
أ- ابن الله
هناك من يقول بأن يسوع هو نبي وحامل كلام الله. ولكنهم لا يستطيعون أن يقبلوا بأنه "الابن"، بأنه الله وابن الله. فالمسيحيون الذين من أول يهودي يرون أن مثل هذا التأكيد يعارض إيمانهم بالله الواحد. لهذا شدّدت الخاتمة الأولى على هذه الحقيقة، فقالت: "لكي تؤمنوا أن يسوع هو ابن الله" (20: 31).
ب- واقع التجسد
وأنكر آخرون واقع التجسّد. يقولون: لا يُعقل أن يكون ابن الله قد اتخذ جسداً مثل جسدنا، أن يكون بشراً، أن يكون من لحم ودم مثلنا. وآخرون قبلوا بتجسّد ابن الله، ولكنهم لم يروا في التجسّد أمراً جوهرياً. المهم هو تعليم الخلاص الذي يحمله، الحياة التي ينقلها إلى البشر. ما همنا كيف عاش يسوع ومات. مثل هذه المواقف مطبوعة بالتيارات الغنوصية. يقولون: العالم السفلي، عالم المادة هو عالم شّرير. فيجب أن نتفلّت منه. كيف؟ بواسطة مخلّص يحمل وحياً، يحمل معرفة محفوظة لفئة صغيرة من المميّزين. فهؤلاء وحدهم يستطيعون أن يعاودوا الصعود إلى العالم العلوي، إلى العالم الروحي.
ردّ الإنجيلي على هذه المواقف منذ السطور الأولى في إنجيله: "والكلمة صار بشراً، صار من لحم ودم، إتخذ جسداً" (1: 14). ثم إن إنجيل يوحنا يسمّي يسوع "رجلاً". وبصورة إحتفالية في فم بيلاطس: "هوذا الرجل" (19: 5). إنه إنسان ضعيف وسيشهد يوحنا على بشريّة يسوع حين يطيل الحديث عن الحربة التي اخترقت قلب يسوع فأخرجت منه دماً وماء (19: 34). هذا ما يدلّ على حقيقة موت يسوع. وبالتالي على أنه بشر من لحم ودم.
ودوّنت رسائل يوحنا بعد الإنجيل، فجاءت تصحّح تفاسير خاطئة للإنجيل. وهي تشدّد على واقع حياة يسوع وموته. نقرأ في 1 يو 4: 2- 3: "كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه جاء في الجسد يكون من الله. وكل من لا يعترف بيسوع لا يكون من الله". وتحدّثت 2 يو 7 عن "المضلّلين الذين لا يعترفون بمجيء المسيح في الجسد". حين دوّنت هذه الرسائل، عرفت الجماعة اليوحناوية أزمة خطيرة، بعد أن انقطع عنها قسم من أعضائها (1 يو 2: 18- 19). وقد وُجد هذا التوتر داخل الجماعة ساعة دوّن الإنجيلي ف 13- 21.
4- كنيسة تعرف المنازعات
لا يستطيع الإنجيلي أن يفكّر في الكنيسة خارجاً عن الوضع الخاص الذي فيه يعيش. ولا يقدر كتاب من كتب العهد الجديد أن يقول لنا كل شيء عن الكنيسة. فكل كتاب يشدّد على ناحية ويترك في الظلّ نواحي أخرى. منذ البداية تألّفت الكنيسة من كنائس مختلفة، واحتاجت كل واحدة أن تقف تجاه الأخرى لتحمل إليها ما هو خاصة بها، وتتقبّل منها خبرة مختلفة. لم يترك يسوع لتلاميذه مخطّطات جاهزة لبناء الكنيسة. خاطر، فاتكل على حريتهم وإمكانية الاستنباط عندهم والمشاركة مع روحه الذي أعطاه لهم. فما هي الأمور التي شدّد عليها يوحنا خصوصاً في القسم الثاني من إنجيله، في كتاب الآلام والمجد؟
أ- تعلّق شخصي بيسوع
هذا ما يجب على كل مؤمن أن يفعله. نتقبّل الملكوت الآتي والدخول في الجماعة يعنيان أننا نكون واحداً مع يسوع كما كان هو واحداً مع أبيه. وإن في مثل هذه العلاقة وهذا التجذّر، ما يساعدنا على حمل الثمار، على الثبات بوجه الاضطهاد، على تجنّب تفكّك الجماعة. وسيشدّد الإنجيلي أيضاً على هذه الوجهة بالوعد عن عون الروح البارقليط ومجيئه إلى التلاميذ.
ويبرز يوحنا هنا أموراً أساسية في حياة المؤمن: رباط مع شخص يسوع، قرار حرّ وشخصي يتخذه كل واحد منا. ولكن الخطر يكمن في أن "نقوي" هذه العلاقة الشخصية ونستبعد كل بعد جماعي في الشعب فنسقط في الفردية. نقول: "أنا والله فقط". لا نهتمّ بالقريب. أو: "نحن والله فقط" فنجعل من "رعيتنا" جماعة مقطوعة عن سائر الكنيسة.
ب- المحبة وخدمة الأخوة
تعرف الجماعة اليوحناوية شعوراً كبيراً بالمشاركة، بالانتماء إلى عائلة واحدة. فعلى الحياة بين المؤمنين أن تحقّق هذه الأخوة التي يرذلها العالم مفضلاً عليها المنفعة والإفادة. وتكون هذه المحبة حسب "كما أنا أحببتكم". إن حب المسيح يذهب بعيداً: إنه يعمل أعمال الله. إنه يبذل حياته.
ولكن الخطر يكمن في أن لا نمارس المحبة إلاّ داخل الجماعة: وأن نبقى في "خط الدفاع" أمام هذا العالم الخارجي الذي "يتعدّى" علينا، والذي أحبّه الله حتى انه أرسل إليه ابنه الوحيد، وأن نتجاهل الجماعات الأخرى.
ج- وضع التلميذ
في النصوص التي نقرأها لدى يوحنا، هناك شخص يلعب دوراً هاماً: التلميذ الحبيب. هذا التلميذ هو شاهد تاريخي ليسوع، وهو في أساس إنجيل يوحنا. "هذا التلميذ هو الذي يشهد بهذه الأمور ويدوّنها" (21: 24). هذا الشاهد بارز وهو صورة نموذجية عن المؤمن الذي هو تلميذ يسوع وموضوع حبّه.
حين نصير تلاميذ حقيقيين نبني الكنيسة. في هذا المجال نكون متساوين مهما كانت مسؤولياتنا. إن يوحنا لا يسمّي الاثني عشر الرسل. لا شكّ في أنه يشير إلى الدور الرسولي بعبارات عميقة جداً (13: 16- 20؛ 20: 21). غير أنه يعتبر الرسل أولاً أنهم تلاميذ. وهذا ما يتيح له أن يبرز دور النساء في حياة الجماعة.
د- تجذّر في الكنيسة
مساواة أساسية بين المسيحيين. ومع ذلك فإن ف 20- 21 يشيران إلى مكانة بطرس الخاصة قرب التلميذ الحبيب. هذا ما يدلّ على تطوّر في الجماعة اليوحناوية: ساعة عرفت الأزمة والانقطاع، أحسّت بالحاجة إلى التأكيد على مكانة بطرس، وإلى تقوية علاقاتها بسائر الكنائس التي اختلفت عنها أو ولدت في نشاط بولس الذي يبرز بشكل خاص الوظيفة الرسولية. ففي الأوقات الصعبة، هناك في الكنيسة مسؤولية خاصة تحافظ على الأمانة لتقليد تسلّمناه. وفي ف 17 يبرز الإنجيلي إهتمام يسوع بوحدة أخصّائه. "إجعلهم كلّهم واحداً ليكونوا واحداً فينا، أيها الآب، مثلما أنت فيّ وأنا فيك، فيؤمن العالم أنك أرسلتني" (آ 21).