الكنيسة التي ولد فيها إنجيل يوحنا

الكنيسة التي ولد فيها إنجيل يوحنا
9: 22

كل من يعترف بأن يسوع هو المسيح، يُخرج من المجمع
في نهاية القرن الأول المسيحي، كان المسيحيون موجودين في كل بلدان حوض البحر المتوسط. ولقد ساعد على هذا الانتشار الطرقات الرومانية الجميلة وحضور جماعات يهودية في المدن. إنطلق فيلبس (أع 8) ثم بولس ورفاقه والاثنا عشر ومن رافقوهم، وعدد آخر كبير، فحملوا الإنجيل داخل هذا العالم الروماني. وما يحرّك هذا العمل في نظر المؤمن، هو الروح القدس الذي يرى فيه سفر الأعمال روح الرسالة المسيحية.

1- المسيحيون ينفصلون عن المجمع
حين انطلق بولس برسالته، كان يبدأ فيكرز في المجمع. ولكنه كان يُطرد من هناك مراراً. ولكن بعد دمار هيكل أورشليم (70 ب. م.) ببضع سنوات، اجتمع الرابانيون (المعلمون) الفريسيون في يمنية واستعادوا المبادرة بعد أن زال الهيكل واختفى معه الكهنة. فلم يبقَ للشعب اليهودي إلا دراسة التوراة ولا سيما أسفار الشريعة. وكبر دورُ الكتبة والمعلّمين الذين ينسخون الكتب المقدسة ويفسرّونها. فحدّدوا لائحة (قانون) الاسفار المقدسة. وأطلقوا لعنة على "الجاحدين، والناصريين والهراطقة" أدخلوها في الصلاة اليومية التي يتلوها اليهودي. أصابوا المسيحيين وبالتالي طردوهم من المجمع. وسوف نرى أن مقاطع عديدة في إنجيل يوحنا تشير إلى هذا الوضع.

2- مجموعة مضطهدة
لم يعد المسيحيون جزءاً من الجماعة اليهودية. هذا يعني أن وضع "الديانة المسموح بها" لم يعد يشملهم داخل الامبراطورية الرومانية. حينئذٍ أجبر المسيحي، شأنه شأن كل مواطن (غير يهودي)، أن يذبح للآلهة المحامية عن النظام الاجتماعي، أن يشارك في عبادة الامبراطور. حول القاضي الروماني لبوليكربوس، تلميذ يوحنا: "أي شر في أن حول مصر هو ربّ، لكي تنجو بحياتك"؟ رفض بوليكربوس أن يتلفّظ بهذه الكلمة فحكم عليه القاضي بالموت. وإستشهد سنة 155.
بدأت الاضطهادات باكراً. منذ اسطفانس (أع 7) الذي رُجم، إلى انتيباس "الشاهد الامين" الذي قُتل في برغاموس، كما يقول رؤ 2: 13. في أورشليم، قُطع رأس يعقوب، شقيق يوحنا، بالسيف. وفي رومة استشف بطرس وبولس في عهد نيرون. كما مات عدد كبير من المسيحيين الذين إتُهِموا بانكار الالهة، ببغض الجنس البشري، بإشعال الحريق في رومة (هذا ما قاله تاقيتس وسواتانيوس).
وبعد قرار يمنية، لم تعد شريعة تحمي الجماعة المسيحية التي تخطئ حين لا تشارك في احتفالات المدينة. ففي سنة 110 كتب بلينوس الحاكم إلى الامبراطور ترايانس. تحدّث عن ممارسة القضاء وطلب تعليمات بالنسبة إلى المسيحيين. ولكن إن اشتكى أحد عليهم نستجوبهم. فإن لم يجحدوا إيمانهم حينئذٍ يقتلون.
إن إنجيل يوحنا يشير مراراً إلى الاضطهادات، لا سيما في الجزء الثاني، في كتاب الآلام والمجد. وسفر الرؤيا قد كتب في هذا الإطار من الضيق. كان الاضطهاد تهديداً مستمراً وإن لم يشتعل إلا بين الحين والآخر. جاءت معلوماتنا قليلة عن دوميسيانس (81- 96) وإن كان قد ترك ذكراً سيئاً في الكنيسة.

3- في أفسس
يبدو أن كنيسة هذه المدينة لم تتأسّس على يد يوحنا ولا على يد بولس نفسه. فحين وصل إليها رسول الامم للمرة الأولى حوالي سنة 52، قام بكرازة في المجمع لم نعرف نتائجها. أيكون التجار والجنود والعبيد قد قاموا بالرسالة كما فعلوا في انطاكية والاسكندرية ورومة؟ الامر ممكن.
لقد رافق بولسَ في أفسس اكيلا وبرسكلة اللذان طُردا من رومة مع من طُرد من اليهود بعد قرار الامبراطور كلوديوس (سنة 49) الذي يتحدّث عنه المؤرخ سواتانيوس. هذا يعني أن المسيحيين وُجدوا في رومة منذ ذلك الوقت. تحدّث أع 18: 2 عن هذه الأسرة التي تابعت العمل في أفسس بعد أن تركها بولس، فبشرت أبلوس الذي هو من تلاميذ يوحنا المعمدان ومن الاسكندرية في مصر. وقام أبلوس بدوره فحمل الإنجيل إلى كورنتوس. وسيعود بولس إلى أفسس ليثبّت الكنيسة فيها. ظلّ هناك سنتين ونيّف "إنفرد بالتلاميذ يحادثهم كل يوم في مدرسة تيرانوس" (أع 19: 9).
والتقى بولس هناك جماعة من تلاميذ يوحنا المعمدان. هذا يعني أن الحركة العمادية انتشرت في عدة مجموعات يهودية في حوض البحر المتوسط. وعمّد بولس باسم الرب يسوع هذه الجماعة (19: 3). وثار الصاغة عليه دفاعاً عن هيكل أرطاميس، فلاقى اضطهاداً يشير إليه في 1 كور 15: 32 ("صارعت الوحوش في أفسس"). حينئذٍ ذهب الرسول إلى فيلبي وتسالونيكي وكورنتوس. وجمع التبرعات من أجل كنيسة أورشليم التي تعرف العوز. حمل هذه المساعدات مع موفدي الكنائس ونفسُه تحدّثه بأنه سيكون أسير المسيح.
ومرّ بميليتس قرب أفسس، فدعا إلى هناك شيوخ كنيسة أفسس التي كانت منظّمة تنظيماً دقيقاً. وجعل صاحب سفر الأعمال على شفتي بولس خطبة وداعية مؤثّرة تدلّ على الصعوبات الداخلية التي ستواجه هذه الكنيسة. "وأنا أعرف أن الذئاب الخاطفة ستدخل بينكم بعد رحيلي ولا تشفق على الرعية. ويقوم من بينكم أنتم أناس ينطقون بالأكاذيب ليُضلّلوا التلاميذ فيتبعوهم" (أع 20: 29- 30).
وفي سفر الرؤيا، توجّهت أولى الرسائل إلى كنيسة أفسس. حين نقرأها نفهم أن الجماعة تواجه بشجاعة أولئك الذين يكرزون بالتعاليم الضالّة. حدّث يوحنا ملاك (اسقف) كنيسة أفسس فقال له: "أنا أعرف أعمالك وجهدك وصبرك، أعرف أنك لا تطيق الأشرار، وأنك امتحنت الذين يزعمون أنهم رسل وما هم رسل، فوجدتهم كاذبين. أنت صبور. جاهدت من أجل اسمي وما تعبت. ولكني أعتب عليك لأنك تركت محبتك الأولى. فاذكر من أين سقطت وتبْ وعد إلى أعمالك الماضية. فإن كنت لا تتوب جئتك وأخذت منارتك (أي كنيستك. أي: إستغنيت عنك) من مكانها. ولكن يشفع فيك أنك تمقت أعماله النقولاويين التي امقتها أنا" (رؤ 2: 2- 6)
هذه الصعوبات التي تعرفها كنيسة أفسس هي أيضاً صعوبات سائر كنائس آسية الصغرى. بعد بضع سنوات، سيكون اغناطيوس، أسقف إنطاكية، أسيراً. أُخذ إلى رومة وألقي أمام الوحوش في عهد الامبراطور ترايانس (98- 117) كما يقول أوسابيوس القيصري. خلال "رحلته" إلى رومة كتب رسائل إلى كنائس آسية الصغرى ومنها التي تساعدنا على فهم أفسس الصراعات التي تهزّ الكنيسة.

4- صعوبات في الكنيسة
كان القديس بولس قد كتب حوالي سنة 60 إلى كنيسة كولسي القريبة من أفسس: "لا يحكم عليكم أحد في المأكول أو المشروب، أو في الأعياد السنوية والأهلية (ظهور الهلال) والسبوت... لا يسرّ أحد بعبادة الملائكة" (كو 2: 16). فعلى تيموتاوس أن يمكث في أفسس لكي يواجه الذين يعتبرون نفوسهم "معلّمي الشريعة" فيتعلّقون بالأنساب التي لا نهاية لها (1 تم 1: 2- 7). وسيوبّخ اغناطيوس المسيحيين الآتين من الوثنية لأنهم يبحثون عن الخلاص في الممارسات اليهودية.
وهناك أخطر من هذا: إنسحر هؤلاء المسيحيون بأمور "العالم الروحي"، بالملائكة ومختلف الوسطاء بين الله والبشر، فمالوا إلى عدم الاهتمام بـ "جسد" المسيح. قال بعضهم إننا أمام "ظاهر" الجسد. وقال آخرون إن لا علاقة لهذا الجسد بخلاصنا. حينئذٍ ذكّر اغناطيوس الافسسيّين، فقال لهم: "ليس هناك إلا طبيب واحد (يسوع) بشري (من لحم ودم) وروحي، مولود وغير مولود، الله الذي جاء في الجسد. فهو في الموت الحياة الحقة. وُلد من مريم ووُلد من الله. بدأ فخضع للآلام وهو يسوع المسيح ربنا". نحّس وكأننا نقرأ في 1 يو 4: 3 (حسب بعض المخطوطات) التي تقول لنا بأن لا "نجزّئ" يسوع.
نرى عبر هذه الامثلة أن الاتجاهات الغنوصية لم توفّر العالم المسيحي. وقد طبعت هذه الظاهرة الحضارية العالم اليهودي أيضاً: فالذين كتبوا أسفار رؤى بحثوا في أسرار الله، وانتظروا الخلاص منه وحده حين واجهوا هذا "العالم المعادي". فسيخطو المانويون في نهاية القرن الثاني خطوة أخرى فيقولون إن هذا العالم هو شرير في جذوره، وينتج عن مبدأ شرير. وانتظرت تيارات هامشية في العالم اليهودي، كما انتظرت الشيع العمادية مثل المندعيين، الخلاص فقط في "المعرفة" التي ينقلها المرسل الالهي.
وتنوّعت الغنوصية تنوعاً كبيراً لدى الغنويين. فابيفانيوس الاسقف (القرن الرابع) قد أورد 20 هرطقة (بدعة) مختلفة. وقد عرفناها بواسطة الاساقفة الذين انتقدوها ولا سيّما ايريناوس اسقف ليون (في فرنسا) في كتابه "ضد الهرطقات" (سنة 180). ونحن نملك الآن عدداً من النصوص الغنوصية. مثلاً: كودكس برلين (وُجد في صعيد مصر سنة 1895، وحُفظ في متحف برلين). إنه يتضمن بشكل خاص "كتاب اسرار يوحنا" الذي يعود بنا إلى إنجيل يوحنا وكتاب زرادشت. وفي سنة 1948 اكتشف في نجع حمادي (صعيد مصر) مكتبة غنوصية تتضمّن 45 نصاً مكتوباً في القبطية وعائداً إلى القرنين الثاني أو الثالث. إنجيل توما، إنجيل فيلبس، إنجيل الحقيقة، اللوغوس (الكلمة) الحقيقي، وعدد من كتب الرؤى. كل هذا يساعدنا على ادراك اهتمامات هؤلاء المسيحيين في القرن الثاني، ويفهمنا الاتجاهات التي كانت حاضرة في الجماعة اليوحناوية.
كيف تعبّر المسيحية عن نفسها عبر الرؤية الغنوصية: نورد هنا مقطعاً من "اللوغوس الحقيقي": "إن عريس النفس يحمل إليها سرّاً اللوغوس غير المنظور. يعطيها إياه في فمها لتأكله كأنه طعام، ويجعله على عينيها كبلسم به ترى بروحها وتعرف ما يشبهها وتعي جذورها. وهكذا تنضم إلى الغصن الذي أخذت منه فتنال ما يخصّها وتترك المادة".

5- كنيسة تستعد للاستمرار
إذن، هناك صراعات داخلية عديدة تحرّك الكنيسة في القرن الأول. ولكن هذا لا يخفي عنّا ديناميتها. لقد فهمت أن عودة يسوع لن تكون قريبة فواجهت المدى الزمنيّ. لقد مات معظم الرسل، وهي لا تستطيع أن تستند إلى الذين رأوا القائم من الموت. واجهت الكنيسة هذا الوضع فدوّنت شهاداتهم عن يسوع. فكانت أناجيل متى ومرقس ولوقا. كل واحد له نظرته في استعمال وثائق قديمة. عرفت كنيسة يوحنا هذه الوثائق، وكانت نقاط مشتركة بين إنجيل لوقا وإنجيل يوحنا.
لا بدّ من الاستمرار. لهذا فكّرت الكنيسة في المسؤوليات. وضع بولس يديه على مشاركيه في العمل مثل تيموتاوس (1 تم 4: 14؛ 2 تم 1: 6). وفعل الاثنا عشر كما فعل بولس. وبعد موت بولس، تابع تيطس أو تيموتاوس الخدمة الرسولية من مدينة إلى مدينة. ثم إن "حلقة الشيوخ" ساست كل جماعة مسيحية محلّية. تلك كانت طريقة الجماعات اليهودية في توجيه المؤمنين. والتحم هذان النمطان من المسؤولية فاعطيانا "الوظيفة الاسقفية" التي عرفها اغناطيوس الانطاكي. وذكر الإنجيليون الاربعة، كل بطريقته، أن يسوع أقام سمعان بطرس كحجر الأساس في كنيسته. وسيشدّد إنجيل يوحنا على هذه الخدمة حتى بعد موت بطرس.
وتعيش كنيسة أفسس، شأنها شأن سائر الكنائس، الاسرار. فهناك إشارات عديدة إلى العماد المسيحي وإلى الافخارستيا في إنجيل يوحنا. ويعلن القائم من الموت للتلاميذ بأن لهم سلطاناً بأن يغفروا الخطايا أو يبقوها (20: 23). كنيسة واحدة، لا ذات شكل واحد. فهي متنوّعة تنوّع الجماعات وواحدة بإنجيل المسيح

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM