الفصل الـخامس عشر: الدينونة الأخيرة

 

الفصل الـخامس عشر

الدينونة الأخيرة  25: 31-46

نصّ مهمّ جدًا في نهاية خطبة النهاية. لسنا أمام مثل كما في سائر الأمثال التي وردت في ف 24-25 (الوكيل الأمين، العذارى العشر، مثل الوزنات)، بل أمام صورة نبويّة عن الدينونة الأخيرة.كأني بيسوع يقرأ حياة المؤمنين على ضوء كلام الله. يأتي ابن الانسان في مجده مع ملائكته (16: 27، ليجازي كل واحد بحسب أعماله، 19: 28)، فيجلس كما يجلس الملك للقضاء، ويدين جميع البشر ويجازيهم على سلوكهم، سواء كان شرًا أو خيرًا. أما موضوع الدينونة فهو أعمال الرحمة التي مارسوها تجاه المحتاجين. ويكشف لنا يسوع عند ذاك (بل منذ الآن) المعنى العميق لأصغر الأعمال التي قمنا بها. قد نكون جهلناه. فيأتي هو ويربطه بشخصه: مهما فعلتم لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فمعي فعلتموه. وكل ما لم تفعلوه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي لم تفعلوه. فيذهب هؤلاء إلى الهلاك الابدي. وأولئك إلى السعادة. وكل واحد منا، سواء كان مؤمنًا أم لا، يعرف منذ الآن مكانه: مع الخراف (اللون الأبيض يدلّ على الانتصار. هو لون القيامة) أو مع الجداء (اللون الأسود، لون الموت، لون الظلمة والبعد عن يسوع نور العالم).
بعد نظرة عامّة إلى هذا النصّ، نعود إلى التفاصيل، وننهي مع الخلاصة اللاهوتيّة والروحيّة.

1 - نظرة عامّة
حين نقرأ هذا المقطع الذي يتحدّث عن مجيء ابن الانسان والدينونة الأخيرة، نسوق الملاحظات التالية:
أ - الملاحظة الأولى
في البنية العامة لانجيل متّى الذي يتألّف من خمس خطب (عظة الجبل، 5-،7 عظة الرسالة، 10، خطبة الأمثال، 13، خطبة الرسالة، 18، خطبة نهاية العالم، 24-25)، تحتلّ هذه المقطوعة موضعًا محدَّدًا جدًا: هي تختتم الخطبة الخامسة والأخيرة التي تصوّر العبور من ملكوت الله الخفي الذي تكرز به الكنيسة، إلى ملكوت يظهر في ((نهاية الأزمنة)). هنا نتذكَّر 24: 3ي حيث مجيء ابن الانسان ونهاية العالم (أو تتمّة الأزمنة) يرتبطان ارتباطًا وثيقًا.
افتُتحت هذه الخطبة (مت 24-25) بسؤال طرحه التلاميذ حول تاريخ هذه الأحداث الأخيرة (24: 3). ولكنّنا لاحظنا من خلال قراءتنا ف 24-25، أنّنا لم نجد عناصر الجواب على هذا السؤال. غير أننا قرأنا على مدّ هذين الفصلين، أن المجيء (باروسيا) ونهاية العالم هما حاضران دومًا. لا في ذاتهما (رغم ما نقرأ في 24: 15-22، 29-31)، بل لكي يُسندا النداءات المتكرّرة إلى السهر (24: 42: فاسهروا إذن لأنكم لا تعلمون) والأمانة (24: 45: العبد الأمين الحكيم؛ 25: 21: العبد الصالح الأمين). لهذا، نستطيع أن نقول إن التذكّرات الاسكاتولوجيّة حول نهاية التاريخ التي قرأناها في هذين الفصلين، والتذكّرات الجليانيّة التي تشير إلى هذه النهاية، كانت في خدمة أخلاقيّة خاصّة بمتّى تشدّد على ضرورة الأعمال (لا التوقّف على الكلام، 7: 21: ليس من يقول، بل من يعمل؛ 23: 3: الكتبة يقولون ولا يعملون).

ب - الملاحظة الثانية
وما قلناه عن مت 24-25 نقوله عن مت 25: 31-46 الذي يتوافق كل التوافق مع السياق الذي جاء فيه: إن مرمى هذه المقطوعة هو التعليم والارشاد الخلقيّ في إطار نبويّ. صوّر مت مجيء ابن الانسان ليدلّ على أهميّة أعمال المحبّة في الساعة الأخيرة، على أهميّة العون الذي حملناه إلى إخوتنا الصغار. وقد يكون التلاميذ هم هؤلاء الصغار، على مثال اللاويين في العهد القديم، الذين طلب الرب الاهتمام بهم كالاهتمام بالغريب والفقير واليتيم والأرملة.
ج - الملاحظة الثالثة
وهذا ما يطرح سؤالاً حول الفن الأدبي لهذه الآيات (آ 31-46). لا نستطيع أن نسمّيها مثلاً من الأمثال كما يقول عددٌ من الشرّاح، بل نحن لا نستطيع أن نجعلها مع أي فن أدبيّ معروف. لسنا أمام نص استعاريّ ولا أمام خبر تقويّ ولا أمام قصّة قريبة من السطر وعالم الميتولوجيا. هذا النصّ هو قول نبويّ ليسوع جُعل في إطار جليانيّ. وما يميّزه ليس فنّه الابديّ بل مضمونه الذي يجعله في خطّ أقوال نبويّة عديدة عرفها العهد القديم. كما عرفها العالم اليهوديّ. وقد يكون حلّ ابنُ الانسان محلّ الله.
هي تحريضات تدعونا إلى الاقتداء بأعمال الرحمة التي ((يقوم)) بها الله. وصورة الراعي واضحة مع الخراف والجداء في خط حز 34: 11-12: ((سأسأل عن غنمي وأتفقّدها كما يتفقّد الراعي قطيعه يوم يكون في وسط غنمه المنتشرة)). هي تحريضات تأتي في نهاية عدد من الأمثال التي تدعونا للتطلّع إلى النهاية، نهاية كل شخص (في ساعة موته) ونهاية العالم مع عودة الربّ.
ولكن الاطار الذي جُعلت فيه هذه الدينونة هو إطار جلياني. نحن مع دا 7: 13-14: ((ورأيت في منامي ذلك الليل، فإذا بمثل ابن انسان آتيًا على سحاب السماء، فأسرع إلى الشيخ الطاعن السنّ. فقرِّب إلى أمامه وأعطي سلطانًا ومجدًا وملكًا حتى تعبده الشعوب من كل أمّة ولسان ويكون سلطانه سلطانًا أبديًا لا يزول، وملكه لا يتعدّاه الزمن)). يأتي ابن الانسان على السحاب، شأنه شأن الله في العهد القديم (خر 34: 5؛ لا 16: 2؛ عد 11: 25...). يأتي إلى الله ليُجعل على عرشه بشكل احتفاليّ. هو يمثّل شعب قديسيّ العليّ، وسيشارك الله في ملكه. سيكون على عرش الله كما يقول سفر الرؤيا.
في هذا الخطّ نقرأ في أمثال كتاب أخنوخ حول ابن الانسان الآتي كديّان في نهاية الأزمنة. ((سألت الملاك الذي كان يسير معي ويعرّفني بجميع الأسرار حول ابن الانسان هذا: من هو ومن أين يـأتي؟ لماذا يمشي مع رأس أيام (الله)؟ فأجابني وقال لي: هو ابن الانسان الذي يمتلك البرّ ويقيم مع البرّ، الذي يكشف جميع كنوز الأسرار لأن ربّ الأرواح اختاره، فانتصر نصيبه بالحقّ أمام ربّ الأرواح إلى الأبد. إن ابن الانسان الذي رأيته يقيم الملوك والمقتدرين عن فراشهم، والأقوياء عن عروشهم ويحطّم كوابح الأقوياء ويكسر أسنان الخطأة... يكون عصا للأبرار فيستندون إليها ولا يسقطون. يكون نور الشعوب، ويكون رجاء المتألّمين في قلوبهم... حفظ حصّة الأبرار لأنهم أبغضوا واحتقروا عالم الجور هذا وأبغضوا كل أعماله وطرقه باسم ربّ الأرواح. فباسمه يخلَّصون وهو المنتقم لحياتهم... المختار في هذه الأيام يجلس على عرشي، وكل أسرار الحكمة تخرج من أقوال فمه، لأن رب الأرواح منحه هذه العطيّة ومجّده. في تلك الأيام تقفز الجبال كالكباش... وكل الأبرار يصيرون ملائكة في السماء. يشعّ وجهُهم فرحًا لأن المختار يقوم في تلك الأيام. وتبتهج الأرض فيسكنها الأبرار، ويمشي عليها المختارون ويسيرون)).

2 - الدراسة التفصيليّة
نبدأ فندرس البنية والمراجع والتأويل قبل أن نصل إلى تفسير النصّ آية آية.

أ - البنية (25: 31-46)
تجعل آ 31-32 المشهد أمامنا من أجل ذروة شعرية ودراماتيكيّة هي الجزء الأخير في الخطبة الأخيرة الكبرى التي وضعتنا في إطار نهاية العالم ومجيء المسيح. بعد هذا، نكون أمام حوارين (آ 34-45). في الحوار الاول (آ 34-40) نجد الديّان والذين عن اليمين. وفي الحوار الثاني (آ 41-45) نجد الديّان والذين عن اليسار. ويشمل كلّ حوار (1) إعلان الملك (2) جواب الأبرار، الأشرار (3) تبرير الاعلان (كل ما فعلتموه، كل ما لم تفعلوه). في القول الأول وفي الجواب نجد لفظة ((توتي))، حينئذ. ((حينئذ يقول الملك للذين عن يمينه)) (آ 34). ويأتي الجواب: ((حينئذ يجيبه الأبرار)) (آ 37). ونجد الشيء عينه حين يتوجّه الملك إلى الأشرار: ((حينئذ (توتي) يقول للذين عن يساره)) (آ 41). ((حينئذ يجيبه الأشرار (آ 44). وتأتي الاداة ((توتي)) (حينئذ) مرّة أخيرة في كلام يبرّر فيه الملك عمله: ((حينئذ يجيبهم قائلاً)) (آ 45). هي ترد خمس مرّات ونحن نعرف أهميّة الرقم 5 في مت. ونشير أيضًا إلى عبارة ((الحقّ أقول لكم)) التي ترد في كل مرّة يبرّر الملك موقفه. ((الحق أقول لكم: كل ما صنعتموه)) (آ 40). ((الحقّ أقول لكم: كل ما لم تصنعوه)) (آ 45).
والسمة النبويّة الظاهرة هي تكرار مربّع للضيق الذي أمامنا، وما عملناه وما لم نعمله لتخفيف هذا الضيق. والتكرار يفعل فعله في الذاكرة
خطبة الديّان الاولى الذين عن اليمين
جائع/ أطعمتموني جائع فأطعمناك
عطشان/ فسقيتموني أو عطشان فسقيناك
غريب/ فآويتموني غريب فآويناك
عريان /فكسوتموني أو عريان فكسوناك
مريض/ فزرتموني مريض
سجين/ فأتيتم إليّ و سجين فأتينا إليك.

خطبة الديّان الثانية الذين عن اليسار
جائع/ فما أطعمتموني جائع
عطشان/ فما سقيتموني أو عطشان
غريب/ فما آويتموني أو غريب
عريان/ فما كسوتموني أو عريان
مريض أو مريض
وسجين/ وما زرتموني أو محبوس وما خدمناك.
لنا هنا ملاحظتان. الأولى، إن خطبة الذين عن اليمين تتوزّع على ستة ظروف في ثلاثة مواقف وكل موقف ينقسم إلى اثنين: جائع أو عطشان. غريب أو عريان. مريض أو سجين. الثانية، يزداد الايجاز بعد ذلك. في خطبة الديّان الأولى نجد ست حالات من التعاسة وستة أدوية. في الخطبة الثانية (مثل كلام الذين عن اليمين) يخرج عملان من الحنان: أتيتم إليّ تقابل المريض والمحبوس في جواب أهل اليمين. و((ما زرتموني)) في خطبة الديّان الثانية. وفي التعداد الأخير الذي يقوله ((الهالكون))، لا نجد تفاصيل في أعمال الرحمة. قد أجملت كلِّها في جملة واحدة انتهت مع ((ما خدمناك)).

ب - المراجع
نحن هنا في مت 25: 31-46 أمام تأليف متاويّ، وليس له ما يقابله عند مر ومت. كما أنه يتضمّن سمات عديدة خاصة بمتّى. وما نستطيع أن نقوله هو أن المواضيع الحاضرة في هذه المقطوعة نجدها في الخطبة الاسكاتولوجيّة (ف 24-25).
- مجيء ابن الانسان (آ 31). رج 24: 27، 30، 37، 39، 44.
- المجد الاسكاتولوجي (آ 31). رج 24: 30.
- الملائكة (آ 31). رج 24: 31، 36.
- جميع الأمم (آ 32). رج 24: 9، 14.
- الدينونة الاسكاتولوجيّة (آ 32ي). رج 24: 37؛ 25: 30.
- الملكوت (آ 34). رج 24: 14؛ 25: 1.
- عقاب الأشرار (آ 41، 46). رج 24: 51؛ 25: 30.
وهناك أمور ترتبط بالتقليد المتّاويّ. مثل ((الجداء)) (إريفوس، آ 32) (إريفيون، آ 33)، ((عريان)) (غمنوس، رج آ 36، 38، 43، 44). ((آوى)) (ابسكبتوماي، آ 36-43). ((لعن)) (كاتاراأوماي). ((عذاب)) (كولاسيس). وهناك عبارات لا نجد ما يوازيها في سائر الأناجيل: ((الملكوت المعدّ منذ انشاء العالم)) (آ 34). ((واحد من إخوتي هؤلاء الصغار)) (آ 40). ((والشيطان وملائكته)) (آ 41). ((العقاب الابدي)) (آ 46). ثم يقوم متّى بتعداد أعمال الرحمة على مستوى الجسد. أو يجمع مجيء ابن الانسان مع لقب ((ملك)). وهكذا نظنّ أن مت دوّن هذا المثل منطلقًا من تقليد شفهيّ وصل إليه. وما أبرزه هو عدم وعي أولئك الذين قاموا بأعمال الرحمة (أو ما قاموا) فتساءلوا: متى رأيناك يا ربّ؟
ج - التأويل
مع أن 25: 31-46 هو في خط عدد من الأمثال التي يتمّ فيها الفصل بين الأخيار والأشرار (13: 24-30، 36-43، 47-50)، فهذا النص ليس مثَلاً بالمعنى الحصري بل ((صورة عن الدينونة الأخيرة)). أما قوّته فتأتيه من موقعه في نهاية رسالة يسوع العلنيّة، وفي نهاية الخطبة الاسكاتولوجيّة.
إن 25: 31-46 هو من عدة وجهات مشهد اصطلاحيّ حول الدينونة

د1 1أخنوخ 1أخنوخ رؤ 2 با وصيّة ابراهيم أقوال سبيلة
جلوس الديّان
على العرش 7: 9-10 62: 2-3 90: 20 20: 11 (73: 1) 11: 4 2: 239ي
حضور الملائكة 7: 10 62: 11 90: 21-22 11: 5 2: 242 12: 1-8
تجمّع الأمم 62: 3 20: 12 72: 2
فصل في
مجموعتين 62: 5 20: 12-15 72: 2 11: 1ي 2: 252-254
مجازاة الأبرار 7: 18 62: 8، 13-16 90: 23-27 (20: 15) 73: 1-74: 4 2: 313-338
عقاب
الأشرار 7: 26 62: 10-12 90: 28-36 20: 15 72: 6 11: 11 2: 249-251
63: 1-12 13: 12 283-312
إن الحوار بين الديّان والمدانين (مت 7: 22-23: كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم؛ 25: 11-12) هو أيضًا اصطلاحي (1أخنوخ 63؛ يوستينوس، حوار 76؛ دفاع أول 16؛ مدراش مز 118: 17). نقرأ في مدراش مز 118: 7 مقابلة لافتة: ((في العالم الآتي يُقال له: ماذا كان عملك؟ فإن قال: أطعمت الجائع، يقال له: هذا هو باب يهوه (مز 118: 20). أنت الذي أطعمت الجائع أدخل في ذات (الباب). وإن قال: سقيت العطشان، يقال له: هذا هو باب يهوه. أنت الذي سقيت العطشان أدخل في ذات (الباب). وإن قال: كسوت العريان، يقال له: هذا هو باب يهوه. أنت الذي كسوت العريان أدخل في ذات (الباب). وكذلك ذاك الذي ربّى اليتامى، والذي أعطى صدقة، والذي مارس أعمال المحبّة)).
قال بولتمان: إن 25: 31-46 هو قراءة مسيحيّة لأصل يهوديّ ويسوع لم يؤلّفه. وقال آخرون: الجماعة المسيحيّة ألّفته. ولكن لماذا لايكون يسوع هو الذي جعل في هذا الحوار أعمال الرحمة التي عرفها العالم اليهوديّ. فالدرس الذي يقول إن من لا يعمل الخير يكون وكأنه يعمل الشرّ يظهر أيضًا في لو 10: 25-37 (السامري الصالح). أعلن يسوع دينونة الله الآتية، وحثّ المؤمنين على محبّة المهمّشين محبّتهم لأنفسهم (رج مر 9: 41 مع الزيادة المسيحيّة: فيسوع الديّان هو الله).

د - تفسير الآيات (25: 31-46)
أولاً: مسرح الدينونة (آ 31-33)
هي مقدمة تقول لنا ((متى)) ولا تقول لنا ((أين))، تجعل من آ 31-33 عرضًا لما في 24: 29-31 (يشاهدون ابن البشر آتيًا على سحاب السماء في كثير من القدرة والمجد). ((ومتى جاء ابن البشر في مجده)) (آ 31). رج 16: 27؛ 19: 28؛ 24: 30. كل هذا يرتبط بابن الانسان في المجد. إن دا 7: 14 قد أعلن أن هذا المجد يُعطى لابن انسان. وهذه الفكرة تظهر في أمثال أخنوخ. وهكذا تمّ الانتقال من ابن الانسان إلى الملك. فالذي هو مثل ابن انسان في دا 13: 14 ينال المُلك.
((وجميع الملائكة معه)) . رج زك 14: 5 حسب السبعينيّة (جميع القديسين)؛ رج مت 27: 51-53. في ف 25، يرافق الملائكة ابن الانسان في النهاية. وفي ف 27، يقوم القدّيسون ويرافقون يسوع في قيامته. رج 24: 31؛ 1أخنوخ 1: 9؛ 1تس 3: 13 (مع تلميح إلى زك 14: 5)؛ 2تس 1: 7، يهو 14، صعود أشعيا 4: 14؛ رؤيا إيليا 3: 4. وهناك نصوص عديدة تتحدّث عن الملائكة الذين يشاركون في دينونة البشر (1أخنوخ 1: 9؛ 53: 3؛ 54: 6.... وصيّة لاوي 3: 2-3؛ وصيّة ابراهيم أ 12: 1-18).
((حينئذ يجلس على عرش مجده)). ق 5: 1-2؛ 15: 29. قد تكون هذه العبارة تدوينيّة، شأنها شأن 19: 28.
ماذا نقول في فعل ((جلس)) (كاتيساي)؟ نلاحظ (1) أن الملائكة يقفون وابن الانسان يجلس (خر 18: 13-14، كما في بلاط ملكي؛ 1مل 22: 19؛ زك 4: 14؛ 1أخنوخ 39: 13؛ لو 1: 19؛ رؤ 8: 2؛ 11: 4؛ 4عز 8: 21). (2) إن التقليد اليهودي لا يجعل أكثر من عرش في السماء. ولكن دا 7 يتحدّث عن ((عروش)). فرأى رابي عقيبه عرشًا لله وعرشًا لداود (بابل حج 14أ). هناك نصوص تتحدّث عن عروش في السماء لا تتضمّن عرش الله. قمران 215: 4، 9 (عرش المسيح). وصيّة أيوب 33: 3-5 (عرش أيوب مجيد في السماء)؛ وصيّة ابراهيم 11: 4 (عرش آدم)؛ 12: 3؛ 13: 4 (عرش هابيل)؛ رؤ 4: 4؛ 11: 16 (عروش للشيوخ الأربعة والعشرين)، رؤيا ايليا 1: 8 (عروش في السماء للأبرار)؛ وصيّة اسحاق 2: 7 (عرش اسحاق)...
إن موضوع البشر الذين يدينون بشرًا آخرين بعد الموت أو في سياق اسكاتولوجي، نجده في التقليد اليهودي. وصيّة ابراهيم 12: 4-13: 4: جلس هابيل على عرش سماوي ودان الخليقة كلها، الأبرار والأشرار. في 2با 72: 2-6، سيدعو مسيح الله كل الأمم فيصفح عن البعض ويقتل البعض الآخر (رج أش 11: 4).
((وتُحشر لديه جميع الأمم)) (آ 32). هذا يفترض قيامة الموتى. ق أش 66: 18 حسب السبعينية: أتيت لأجمع كل الأمم والألسن. فيأتون ويرون مجدي؛ يوء 3: 2، 11-12؛ صف 3: 8؛ زك 14: 2؛ 4عز 7: 37؛ لو 21: 36؛ 2برنابا 72: 2؛ وصيّة بنيامين 9: 2.
من هم الأمم؟ هناك آراء
- كل الذين ليسوا بيهود
- كل الذين ليسوا بمسيحيين
- اللايهود واللامسيحيون
- كل المسيحيين
- المسيحيون الأحياء عند عودة المسيح
- كل البشريّة (ايرونيموس، أوغسطينس، الذهبيّ الفم...).
أما نحن فنأخذ بالرأي الأخير في خطّ آباء الكنيسة. البشريّة كلها وخصوصًا المسيحيين المدعوّين لأن يعيشوا هذه المحبّة العمليّة في حياتهم اليوميّة. والصغار ليسوا فقط المسيحيين. وليسوا التلاميذ. بل كل انسان معذّب (جائع، عطشان...).
((فيفصل بعضهم عن بعض كما يفصل الراعي الخراف عن الجداء)). ق 13: 40، 49؛ حز 34: 17، 20. الخراف التي هي بيضاء عادة، تمثّل الأبرار كما في 18: 12؛ 26: 31؛ رج 10: 16؛ 2صم 24: 1؛ إر 23: 3-4. أما الجداء فهي عادة سوداء، فتدلّ بالتالي على الأشرار.
((ويقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره)) (آ 33): عرف الديّان حالاً (لم ينتظر كما في مشاهد دينونة أخرى) من ينتمي إلى اليمين ومن ينتمي إلى اليسار. يبدو الملك وكأنه يعرف كل شيء. أو بالأحرى يعرف كلُّ واحد نفسَه بعد أن يظهر في كل عريه بدون أي قناع. نحن هنا في دينونة لا في محاكمة. لهذا اجتمع ((البلاط الملكيّ)). هناك مقابلات بين اليسار واليمين. رج 6: 3؛ 20: 21، 23؛ 27: 38؛ 1مل 22: 19. هذا يفترض أن الذين على اليمين يفضَّلون على الذين على اليسار.
ثانيًا: مع الأبرار (آ 34-40)
ويبدأ العرض الآن بشكل حوار. المتكلّم الأول (الملك) هو أيضًا ذاك الذي يروي المثل (يسوع). ((حينئذ يقول الملك)) (آ 24). الراعي، مثل موسى وداود، هو أيضًا الملك. في 2: 2، يسوع هو الملك. وفي 21: 5 هو ابن داود؛ رج 27: 11، 29، 37 حيث يُهزأ من يسوع الملك. ونتذكر 22: 11-14 حيث الملك الاسكاتولوجي يحكم على الذي لم يلبس ثياب العرس. ولكن إن كان الملك يمثّل هنا الله، فيسوع هو الملك في ملكوت الله (كو 1: 13: ملكوت ابنه الحبيب).
((تعالوا يا مباركي أبي)). ق 20: 23. هذه الدعوة تذكّرنا بما في 11: 28؛ 22: 4، ساعة تشير مباركة الآب إلى مشاهد البركة في العهد القديم (تك 27: 1-40؛ 48: 10-20؛ 49: 1-28). والبركة تترافق مع ميراث الأرض (رثوا الملكوت). رج تك 22: 17؛ 49: 3-4؛ مز 37: 22؛ طو 4: 12؛ رج تث 23: 20؛ 30: 16؛ يش 17: 14. ((منذ انشاء العالم)). ما وعد به الله لا يتبدّل. هو هو في البداية وفي النهاية.
المتكلّم الذي ليس بغريب عن الجائع والعطشان (آ 35)... يقدّم لائحة بأعمال الرحمة في هذه الدنيا. ((جعت فأطعمتموني)). ق 14: 16 (يسوع يطعم الجمع)؛ مز 146: 7؛ ((عطشت فسقيتموني)). ق 10: 42: وصيّة اسحاق 6: 21. ((كنت غريبًا)). ق أي 31: 32؛ وصيّة أيوب 10: 1-4؛ عب 13: 2؛ رج تك 18: 1-8 (ابراهيم)؛ وصيّة ابراهيم 2: 2.
لاحظ الذهبي الفم في آ 36 (عظة 79: 1) أن لائحة الخدم لا تتضمّن معجزات: نزور المرضى والسجناء. ولا نشفيهم أو نحرّرهم. ((كنت عريانًا)). ق أش 58: 7 (حسب السبعينية)؛ 2عز 2: 2؛ وصية زبولون 7: 1-2 (نحن نقتدي بالله كما فعل مع آدم وحواء في تك 3: 21). ((كنت مريضًا)). ق اكلمنضوس الأول 59: 4؛ رؤ صفنيا 7: 4؛ تلمود بابل نديم 49ب، 40أ (مجازاة كبيرة لمن يزور المرضى). هذا عمل قام به يسوع (8: 14-17). ((كنت محبوسًا)). ق مز 69: 33؛ عب 10: 34؛ 13: 3. لم تكن زيارة المرضى موضوعًا معروفًا في لائحة الأعمال الصالحة في العالم اليهوديّ. قد يكون المسيحيون الأولون تذكّروا يوحنا المعمدان الذي كان في السجن فتأثّروا بهذا الوضع.
((حينئذ يجيبه الصديقون)). دهش الأبرار، كما دهش ذاك الذي لم يكن عليه لباس العرس. وذاك الذي أخفى وزنته في الأرض. ((لا تعرف شمالك ما فعلته يمينك)). رج 6: 3. الأبرار ليسوا فقط تبّاعَ يسوع، بل كل انسان. قال تلمود بابل سنهدرين 13: 2: ((هناك أناس أبرار بين الوثنيين يشاركون في العالم الآتي)).
((كل ما فعلتموه لأحد إخوتي)) (آ 40). من هم هؤلاء الصغار؟ هناك إمكانيّات:
- كل من كان في حاجة، سواء كان مسيحيًا أو لا (غريغوريوس النيصي، الذهبي الفم).
- المسيحيون. التلاميذ (أوريجانس، باسيليوس، أوغسطينس، توما الأكويني).
- المسيحيون الذين من أصل يهودي.
- المرسلون المسيحيون، المسؤولون في الكنيسة.
- مسيحيون عاديون لا مسؤولية لهم في الكنيسة.
لا شكّ في أن الموقف الأول هو الصحيح (طوبى للرحماء، فإنهم يرحمون) وإن كانت مجازاة لمن يستقبل تلميذًا من تلاميذ المسيح (10: 40-42).
ثالثًا: مع الأشرار (آ 41-46)
عند الدينونة يعرف الانسان ما كان يجب عليه أن يعمل. فعند ذاك يكون قد فات الأوان (آ 41). لهذا سيقول الملك للذين عن يساره: ((إذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار الأبديّة)). ق 7: 23؛ 18: 8؛ 25: 34؛ مز 6: 18 (أبعدوا عني)؛ أش 30: 33؛ 1أخنوخ 10: 13؛ 67: 13؛ رؤ 19: 20؛ 20: 10؛ يوستينوس، الحوار 76: 5 (إذهبوا إلى الظلمة البرانيّة التي أعدّها الآب للشيطان وملائكته)؛ 2أخنوخ 10: 4-6.
ونقرأ في آ 42-43 خطايا الإهمال: ما لم نعمله للجائع والعطشان والغريب... ولكن الأشرار لم يروا الملك في حياتهم كما لم يرهَ الأبرار.
((ويذهب هؤلاء إلى العذاب الابدي)) (آ 46). ق 7: 23؛ 2با 51: 6 (يذهبون بعيدًا إلى العذاب). لا يُذكر الهلاك الابدي إلاّ هنا في مت. وتُذكر الحياة الابديّة في 19: 16، 29. رج دا 12: 2-3 (حسب السبعينية): ((والذين يرقدون في تراب الأرض يقومون، بعضهم للحياة الابدية، والبعض الآخر للرذل والعار الابدي)). ولكن مت ينهي كلامه بذكر ((الحياة الابديّة)).

3 - القراءة اللاهوتيّة والروحيّة
تبدأ ((الدينونة الأخيرة)) (آ 31-46) بآيات ثلاث (آ 31-33) تجعلنا على مسرح ((الحدث)) لنسمع حُكم الملك الجالس على عرشه مع ملائكته. ما يهمّ مت ليس إطار الدينونة. فهو يصوّره بإيجاز مستعينًا ببعض المواضيع الجليانيّة اليهوديّة. فحين يتكلّم عن ابن الانسان يدلّ على الديّان الاسكاتولوجي، الديّان السماوي والمسكوني بحسب أمثال أخنوخ. ومن خلال هذا الديّان يشير بشكل خفيّ إلى يسوع المسيح في مجيئه المجيد (رج 8: 10؛ 9: 6؛ 16: 13). هذه الصورة السريّة قد ارتدت سلطة الملك (هناك العرش، والله هو الذي جعل من ابن الانسان الملك). ستمارَس هذه الوظائف في المسكونة كلها (جميع الأمم). لا في الشعب المختار فقط (مر 14: 62). في حز 34، الملك الراعي المنتظَر يجمع بشكل خاص شعبه. ولكن يسوع يجمع حميع الشعوب والأمم.
ويدخلنا متّى في عالم واقعيّ كما اعتاد أن يفعل. فيرينا الشقاء البشري من أناس جياع وعطاش، عراة ومنفيّين من بلدهم، لا حقوق لهم ولا حماية. وهكذا نكون في مناخ التطويبات وعظة الجبل. هؤلاء المعذّبون هم أولاً تلاميذ المسيح الذين أصابهم الاضطهاد فخسروا كل شيء وعرفوا الجوع والعطش والعري والسجن. هم الضعفاء في الجماعة المسيحية، الذين يحتاجون إلى عناية خاصة. وهم في النهاية كل جائع وغريب ومريض وسجين... فيسوع قد تضامن مع البشريّة ولا سيّما الصغار. لقد أخذ على عاتقه الشقاء الانساني لكي يرفعه ويفتديه. هذا الشقاء هو ثمرة الخطيئة.
عملَ الأبرار ما عملوا. ولكنهم جهلوا أن ما عملوه إنما عملوه لابن الانسان. فالمعنى الكامل لأعمالهم لن يكشف إلاّ في الساعة الأخيرة. تلك هي روحانيّة مت. تلك هي الخلقيّة المسيحيّة. ((أبوك يرى في الخفية)) (6: 1-6). وإخوة ابن الانسان هؤلاء هم أصغر الصغار. هم الذين يحسبهم البشر كلا شيء. ونلاحظ فعل ((صنع)). لسنا على مستوى النوايا، على مستوى العواطف، على مستوى الكلام... هناك العمل، هناك المحبّة اليوميّة التي يُحسب لها حساب في يوم الدينونة. ما يقابل فعل عمل ((بويايو)) في اليونانيّة هو ((ع ب د)) الآرامي الذي يعني الخدمة. يسوع جاء ليخدم. وجاء يعلّمنا الخدمة.
وكما جُوزي الابرار الجزاء الحسن، عوقب الاشرار كما في كل ف 24-25. هم أشرار لأنهم لم يمارسوا الرحمة (5: 7). وسيكون عقابهم قاسيًا. فمن لم يساعد الجائع، كان وكأنه قد قتله.كان عالم الجليان اليهودي يحكم بالهلاك على الوثنيين، على أعداء اسرائىل، على اليهود الذين خانوا العهد (في نظر الفريسيين أو الاسيانيين). أما في مت، فسيعاقب ديّان نهاية الأزمنة أولئك الذين لم يمدّوا يد العون إلى إخوتهم. من رفض أن يخدم أخاه قتله. في هذا المجال نقرأ 1يو 3: 14ي. ((من لا يحبّ يثبت في الموت. كل من يبغض أخاه فهو قاتل. وتعلمون أن كل قاتل ليست له الحياة الابدية ثابتة فيه)).
خاتمة
جاءت المقطوعات السابقة فدعت القارئ إلى الأمانة والاستعداد والمتاجرة بالوزنات. ولكن ماذا تعني هذه الأمور وماذا تتضمن؟ هذا ما لم يكن واضحًا. وجاء 25: 31-46 فجعل كل هذا واضحًا، فأوصلنا إلى الذروة في إرشاد متّى الاسكاتولوجيّ. يستعد المؤمنون للمجيء حين يعيشون وصيّة المحبّة تجاه القريب ولا سيّما المعذّب والمهمّش والصغير.
واكتشفنا في هذه المقطوعة وجهة كرستولوجيّة في انجيل متّى. فيسوع هو ابن الانسان كما في دا 7. والملائكة يحيطون به. وهو سيكون ملك العالم وديّانه. هذا ما يعدّنا لخبر الآلام. فالذين يحكمون على يسوع لا يعرفون ماذا يفعلون. ذاك الذي يهزأون منه على أنه ((ملك اليهود)) سيصير ملك الكون. فليس مصيره في أيديهم، بل مصيرهم في يده. وما يلفت النظر بعد خبر الدينونة هذا هو أن يسوع يعلن: ((ابن الانسان يُسلم للصلب)) (26: 2). أجل، إن الظلمة (27: 45) ستغلّف مجد ابن الانسان. ولهذا ندخل مع يسوع في آلامه مع ف 26. ونحن ننتظر أن يزول هذا الحجاب فنكتشف مجده.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM