دخول يسوع إلى أورشليم

دخول يسوع إلى أورشليم
12: 12- 19

لا تخافي، يا ابنة صهيون، هوذا ملكك يأتي راكباً على جحش ابن أتان.
أورد الإنجيليون الأربعة دخول يسوع المسيحاني (أي كالملك المسيح المنتظر) إلى أورشليم. ولكن ما يورده يوحنا يختلف عمّا في الإزائيين الثلاثة. خبر مقتضب. وهو يتركّز كله على يسوع الذي هو الرب، والذي يحدّث الناس بتصرّفه وأفعاله فلا يحتاج إلى أن يكثر من الكلام.
ونبدأ بحدث الدخول إلى أورشليم (آ 12- 14 أ). نحن في غداة الدهن بالطيب في بيت عنيا (آ 12). إذن، قبل الفصح بخمسة أيام (آ 1). ويرتبط الإستقبال الحافل ليسوع ارتباطاً مباشراً بقيامة لعازر.
حملت الجموع أغصان النخل. هذا ما يشير إلى عيد تجديد الهيكل بعد أن دنسه انطيوخس ابيفانيوس. نقرأ في 2 مك 10: 7: "يحملون في أيديهم غصوناً مورقة وجذوعاً خضراً وسعف نخيل ويسبّحون للرب الذي يسرّ لهم تطهير هيكله". بعد هذا، يمكن أن تكون الجموع قد جاءت إلى لقاء يسوع كما إلى لقاء ملك.
شدّد يوحنا على البعد المسيحاني للمشهد، فجعل في فم الجموع مز 118، شأنه شأن الإزائيين. كان مز 118 يُستعمل في الأعياد الكبرى، في عيد المظال، في عيد الفصح، في عيد التجديد. "مبارك الآتي باسم الرب" (مز 118: 26). بهذا الكلام، كان الكهنة يباركون الحجّاج الصاعدين إلى الهيكل. واستعيدت هذه الكلمات وطبّقت على يسوع الذي هو أرفع "الآتين"، الذي يحمل مهمة سامية، الذي يرتدي قدرة الله.
هوشعنا. معناها: هب الخلاص (مز 118: 25). كانت في البداية صرخة استغاثة تُرفع للملك (2 صم 14: 4). وكانت تُطلق في اليوم السابع من عيد المظال. يطلقها الناس وهم يحرّكون أغصان النخيل. أطلقتها الكنيسة الأولى للمسيح المخلّص، ولا سيّما في بداية أسبوع الآلام.
أطلقت الصرخة في متى للمسيح "ابن داود". وتحدّث لوقا عن "الملك" الذي يأتي باسم الرب. أمّا يوحنا فقال: "ملك إسرائيل". سيشدّد يوحنا في خبر الآلام على أنّ يسوع هو "ملك اليهود". وسيفهم المسيحيون أنه ملك إسرائيل الجديد، أي الكنيسة.
في الأناجيل الإزائية، نقرأ أن يسوع أرسل اثنين من تلاميذه ليجدوا الجحش والأتان. أما في يوحنا، فلا نجد شيئاً من ذلك. غير أن الإيجاز في الخبر لا يخفّف من مجد يسوع، بل يزيده مجداً على مجد. يقول النصّ فقط، "وجد يسوع حماراً فركبه". هي فعلة لا ترافقها كلمة. ولكنها فعلة لها مدلولها بالنسبة إلى الجموع، وخاصة التلاميذ الذين سيعيدون قراءة الحدث على ضوء الأسفار المقدّسة، وعلى ضوء القيامة.
وكانت فعلة قرأها التلاميذ على ضوء الفصح وعلى ضوء الكتب المقدّسة (آ 14 ب- 16)
إعتاد يوحنا أن يذكّرنا بأنّ القيامة وحدها أتاحت للتلاميذ بأن يعيدوا قراءة الأسفار المقدّسة التي تساعدهم على إلقاء الضوء على تصرّف يسوع، وعبر هذا التصرّف على سرّ يسوع. "ولم يفهم تلاميذه ذلك، بادىء ذي بدء" (رج 2: 22). وهذا الفهم صار ممكناً بفضل الضوء الذي ألقته الكتب المقدّسة. نقرأ مثلاً بعد طرد الباعة من الهيكل: "فذكر تلاميذه أنه مكتوب". ثم: "ولما قام يسوع من بين الأموات، تذكّر تلاميذه أنه قال هذا، فآمنوا بالكتاب وبالكلام الذي فاه به يسوع" (2: 17، 22). أجل، سيفهم التلاميذ أحداث حياة يسوع على الأرض وأقواله على ضوء القيامة وبمعونة الروح.
ويمكن هنا أن نفسّر تصرّف يسوع ككشف عن هويته المسيحانية: إنه ملك. ولكن حين ركب على جحش ابن أتان، أشار إلى ما قاله زك 9: 9 الذي تحدّث عن مجيء مسيح مسالم ومتواضع. "إبتهجي جداً، يا بنت صهيون، واهتفي، يا بنت (أي: مدينة) أورشليم. هوذا ملكك يأتيك صدّيقاً مخلّصاً وديعاً راكباً على أتان وجحش ابن أتان". وكأني بالنبي زكريا يعود إلى تك 49: 11 ليتكلّم عن يهوذا، جدّ يسوع المسيح: "يربط بالجفنة جحشه وبأفضل كرمة أتانه" (هذا يدلّ على الغنى).
والجموع التي جاءت إلى لقائه، هتفت لذاك الآتي باسم الرب، ملك إسرائيل. وتجاه هذه الطلبة المطبوعة بالنمط السياسي والروح الوطنية، قام يسوع بفعلة رمزية لم ترافقها أية كلمة. بل رافقها فكر يتضمّنه كتاب النبي زكريا الذي كان في متناول معاصريه القريبين جداً من الكتب المقدّسة.
حين كتب الإنجيلي هذا المشهد، كان كل التباس قد زال. لهذا استطاع أن يوضح المعنى الأخير للحدث، إنطلاقاً من تمجيد يسوع. ويمكننا أن نلاحظ كيف ان يوحنا يربط (بعد أن قرأ الواقع من جديد) ربطاً عجيباً الأزمنة الثلاثة في تاريخ الخلاص: العهد القديم، الزمن التاريخي ليسوع (كما عاش خلال حياته العلنية)، الحدث الفصحي.
وإذا أراد المؤمن أن يفهم يسوع، إنطلق من تمجيده عبر الصليب والقيامة وأعاد قراءة مسيرته التاريخية يرافقه الكتاب المقدّس.
واستقبل الناس يسوع استقبالاً حافلاً (آ 17- 19) فجاء هذا الإستقبال كنتيجة لظهور يسوع وتجلّيه. حدث هنا كما حدث في المشهد السابق: بسبب آية لعازر (12: 11، 18) آمن الجمع (12: 9، 12)، وسار وراء يسوع (12: 11، 18). أما الرؤساء والفريسيون، فتصلّبوا في معارضتهم له (12: 10، 19). كل شيء صار مجهّزاً من أجل المواجهة الحاسمة.
نظر الإنجيلي الرابع إلى الحدث بشكل شخصي. ولهذا تحدّثت آ 16 عن تفسير الوقائع على ضوء الكتب المقدسة. وشدّدت آ 17- 18 على العظمة التي تلقيها إقامة لعازر على هذا المشهد. تحدّث يوحنا عن الوقت الذي فيه "سيمجّد يسوع"، فدلّ على الوقت الذي فيه سيُعطى الروح (7: 39) ويدخل التلاميذ إلى الحقيقة كلها (16: 13). وجاءت الهتافات بشكل مديح وإعجاب لذلك الآتي باسم الرب، للملك المسيحاني. وهكذا استقبل الشعب يسوع كمحرّر وطني. إنه سيحتاج إلى طريق طويلة، هذا إذا وصل، لكي يرى فيه مخلّصاً من نوع آخر.
ويأتي نصّ كتابي آخر (آ 15) فيدلّ على الإستقبال الذي لقيه يسوع. إذا عدنا إلى إنجيل يوحنا، نجد أنّ يسوع لم يهيّىء بنفسه دخوله إلى أورشليم. فالشعب الذي شهد قيامة لعازر، أو سمع بها (آ 17- 18)، جاء طوعاً إلى لقائه (آ 12- 13). حينئذ وحينئذ فقط، ركب يسوع جحشاً. لم يذكر يوحنا الثياب الملقاة على الأرض (مر 11: 8)، على مثال ما فعل الشعب لياهو (2 مل 9: 13). فهو لا يريد أن يتحدّث عن يسوع كداود جديد ومحارب، بل كملك السلام والتواضع.
وتعلمنا آ 17 (خاصة بالإنجيل الرابع) بالمعنى الحقيقي لهذا الطواف الملكي. قبلَ يسوع بهتافات هوشعنا ليدلّ على أنه المنتصر الاسكاتولوجي على الموت بالنسبة إلى جميع البشر. دخل ملتحفاً بشارات ملوكية إلهية "عالمية"، ولم يحصر نفسه في إطار وطني ضيّق. وذكر "العالم" في آ 19، وما فيه من مداعبة يوحنّاوية، يدلّ على هذا الطابع الملوكي. إن يسوع يدخل إلى مدينته كملك. ولكن لا كملك أرضي ووطني. بل هو ملك. لم تصدر مملكته من هذا العالم (18: 36)، مع أنها تتجلّى في هذا العالم بالآيات والعجائب (11: 43). وفي النهاية يرى يوحنا أن الله يأتي في يسوع لكي يتسلّم سلطته الملوكية المطلقة (12: 44- 45). وهكذا بدأت نهاية الأزمنة التي أعلنها الأنبياء: "في ذلك اليوم" يقال (الله يقول) لأورشليم: "لا تخافي. يا صهيون، لا تسترخِ يداك. إن في وسطك الرب إلهك الجبّار والمخلّص. يسرّ بك فرحاً ويجدّدك في محبته، ويرقص لأجلك بهتاف الفرح كما في أيام العيد" (صف 3: 16- 18). ونحن نعيش نهاية الأزمنة هذه.
إعتاد الناس في الأزمنة القديمة على تكريم الملوك والإحتفاء بهم حاملين تيجان الذهب وأغصان الغار والنخيل. هكذا فعل عظيم الكهنة الكيمس في محاولة ليربح ودّ ديمتريوس، ملك السلوقيين. يقول 2 مك 14: 4 إنه "أهدى إليه إكليلاً من ذهب، وقضباناً من النخل، وأغصاناً من زيتون".
وإذا عدنا إلى العهد القديم، وجدنا أربع مرات ذكراً "للنخيل" الذي لا يقدّم إلاّ للملوك: مرتين في سياق الإستعدادت لعيد المظال. يقدّمون ثمر أشجار نضرة وسعف نخل وأغصان أشجار كثيفة وصفصافاً نهرياً (لا 23: 40؛ نح 8: 15). وإن عدنا إلى 2 مك 10: 7، كانوا يحملون إلى عيد تجديد الهيكل (أو: تقديسه وتكريسه) وإلى عيد المظال سعف النخل وسائر الأغصان. أما في 1 مك 13: 51، فإن سمعان يدخل (سنة 142 ق. م.) منتصراً إلى مدينة أورشليم مع "سعف النخل والهتافات". هذا النصّ الأخير هو أقرب ما يكون للصورة التي أعطاها الإنجيل الرابع عن دخول يسوع إلى أورشليم.
وحينئذ تبدو الصورة التي يقدّمها الإنجيل رسمة عن لوحة كبيرة يقدّمها سفر الرؤيا (7: 9- 10): "ثم نظرت فرأيت جمهوراً كبيراً لا يحُصَى، من كل أمّة وقبيلة وشعب ولسان، وكانوا واقفين أمام العرش وأمام الحمل يلبسون ثياباً بيضاء ويحملون بأيديهم أغصان النخل وهم يصيحون بصوت عظيم: النصر لإلهنا الجالس على العرش وللحمل".
لا نجد إلاّ في إنجيل يوحنا وفي سفر الرؤيا "الجمهور الكبير" الذي يحمل سعف النخل بيديه ويفرح بالإنتصار، ويعلن المنتصر دون أن يقدّم له سعف النخل. إنتصر هو فانتصر أخصّاؤه أيضاً. ونصّ سفر الرؤيا يبيّن لنا ماذا يعني الإنجيل الرابع حين يروي الدخول إلى أورشليم: أمام أورشليم، تستبق الجموعُ بشكل رمزي انتصارَ يسوع على الموت، غلبته النهائية والشاملة، والسلام الذي يقيمه. فبعد أن دار الكلمة بشراً، بدأت نهاية الأزمنة. وبما أنّ المسيح ينتصر في بشريّته، نحن مهيّأون لكي ننتصر مثله. لهذا نسمع صوت بولس يقول: "لا تدع الشر يغلبك، بل أغلب الشّر بالخير" (روم 12: 21). والقدّيس يوحنا: "فالمولود من الله يغلب العالم، وإيماننا انتصارنا على العالم. من الذي يغلب العالم إلاّ الذي آمن بأن يسوع هو ابن الله" (1 يو 5: 4- 5)؟ وأخيراً ينادي يسوع كنيسته في سفر الرؤيا (3: 21) فيقول: "من غلب أعطيه أن يجلس معي على عرشي، كما غلبت أنا فجلست مع أبي على عرشه".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM