نداء فيلبس

نداء فيلبس
1: 43- 44

لقي يسوع فيلبس، فقال له: "إتبعني".
وبعد اندراوس وسمعان بطرس، كان فيلبس التلميذ الثالث الذي دُعي باسمه. فالثلاثة جاؤوا من بيت صيدا، وهي مدينة صيادين واقعة في شرقي الاردن على شاطىء البحيرة.
لا يُذكر اسم فيلبس في الإزائيين إلا في لائحة الاثني عشر (مر 3: 18): اندراوس، فيلبس، برتلماوس... ولكن كان في متناول يوحنا ينبوع معلومات شخصي حول فيلبس فذكره مراراً. بمناسبة تكثير الخبز (ف 6) سأله يسوع: "من أين نشتري لهؤلاء، خبزاً ليأكلوا"؟ ويزيد يوحنا: "قال هذا امتحاناً لفيلبس. وكان هو يعلم، ما سوف يفعل". قال فيلبس: "لا يكفي خبز بمائتي دينار ليصيب كل منهم كسرة" (آ 5: 7). ويُذكر فيلبس وتذكر بلدته (بيت صيدا) في 12: 21. دنا منه اليونانيون وسألوه: "يا سيّد، نريد أن نرى يسوع". فذهب فيلبس وقال لاندراوس، وفيلبس واندراوس ذهبا وقالا ليسوع (آ 22). وأخيراً، كان فيلبس أحد التلاميذ الذين طرحوا سؤالاً على يسوع في خطبة العشاء السرّي. قال فيلبس:أ يا رب، أرنا الآب ونكتفي". قال يسوع: "أنا معكم كل هذا الزمان وما عرفتني، يا فيلبس؟ من رآني رأى الآب" (14: 8).
يروي يوحنا دعوة فيلبس حسب رسمة نجدها عند الإزائيين. مثلاً في مر 2: 14: رأى لاوي. قال له: إتبعني. قام فتبعه. نجد الجزكين الأول والثاني عند يوحنا: لقي فيلبس. قال له: إتبعني. لم يكتفِ فيلبس بأن يتبع يسوع، بل صار رسولاً. حدّث صديقه نتنائيل عن يسوع. جاء به إلى يسوع.
نقرأ في آ 42: خرج أو أراد الخروج (أو: مضى). يُستعمل هذا الفعل مراراً في إنجيل يوحنا. الخراف "تخرج" من الحظيرة (10: 9). الابن "جاء من الله" (13: 3)، "خرج من الله" (16: 28). من جنب المصلوب "خرج" دم وماء (19: 34). هل نفهم بالفعل هنا أن يسوع خرج من بيت من البيوت لأنه يزيد أن يذهب إلى الجليل، أم أنه ترك المنطقة المحاذية للاردن؟ هل التقى يسوع فيلبس حين خروجه، في الطريق، أم في الجليل؟ هذا ما لا يقوله النص.
هناك من اعتبر أن آ 43 زيدت فيما بعد على النص لتكمل رسمة السبعة أيام. فإن تبعنا هذه النظرية وأزلنا آ 43، صارت آ 44 موازية مع آ 40. وصار فيلبس ثاني التلميذين اللذين سمعا كلام يوحنا المعمدان (هذا هو حمل الله) وتبعا يسوع. وهكذا يكون التلميذ المجهول الذي كان مع اندراوس، فيلبس لا يوحنا: وكما قاد اندراوس سمعان إلى يسوع، كذلك قاد فيلبس نتنائيل. فمهمة هذين التلميذين اقتياد الناس إلى المسيح. ففي 6: 7 ي، اقتيد إلى يسوع بواسطتهما ذاك الصبي مع خبزاته وسمكاته. وبواسطتهما جاء الوثنيون إلى يسوع (12: 21 ي). وفي مشهد الصيد العجيب، يمكننا أن نقول إن "التلميذين الآخرين" (21: 2) هما اندراوس وفيلبس اللذين لم يُذكرا في اللائحة.
ولكن سواء "الغينا" آ 43 أو تركناها، تبدو أولوية اندراوس وفيلبس واضحة في الإنجيل الرابع. ولماذا نلغيها؟ ففيها إشارة إلى دعوة. "يوحنا" وأخيه يعقوب اللذين وجدا يسوع، كما تقول الأناجيل الإزائية.
"اتبعني". هذا ما نجده عند الإزائيين. ولكن لماذا يبدو يوحنا وكأنه يعارضهم حين يقول إن بيت صيدا، لا كفرناحوم، هي موطن اندراوس وبطرس (رج مر 1: 29)؟ هل عاد إلى تقليد أصحّ، أو تقليد يكمّل ما في الإزائيين؟ ولماذا لا يقول الكاتب من هو الشخص الذي لقي فيلبس (آ 43)؟ هل هو يسوع، اندراوس، سمعان أو التلميذ الذي أغفل اسمه؟
لقد حافظ الكاتب على رسمة الخبر الذي يجعل التلاميذ يتزايدون يوماً بعد يوم. في آ 29: في الغد، رأى يوحنا يسوع. في آ 35: في الغد كان يوحنا ثانية. والآن، في آ 43: في الغد خرج يسوع. فاذا أردنا أن نحافظ على الرسمة نقول: سمعان جاء بفيلبس، كما جاء اندراوس بسمعان، وكما جاء المعمدان باندراوس، وكما سيجيء فيلبس بنتنائيل (1: 45). هذه نظرة "منطقية" بحسب منطقنا. أما يوحنا فتبع تقليداً لا يقول إن كيفا هو الذي جاء بفيلبس إلى يسوع. بل شخص آخر. وقد يكون يسوع دعاه مباشرة.
ما هو قصد الكاتب اللاهوتي؟ أن يعلن عن يوم جديد، فيصل هكذا إلى العدد 7 (رمز الكمال). وفي الوقت عينه، هو يوجّه أنظارنا نحو هدف جديد، نحو الجليل. وهكذا يربط عمداً بين نداء التلاميذ وعرس قانا. فما نجده في آ 43 يهيّىء الطريق أمام 2: 1 ثم 4: 46. إن هذه الآية تقيم رباطاً روحياً وثيقاً بين دعوة التلاميذ ومعجزة الماء المحوّل إلى خمر.
عبارة صغيرة ومهمة: لقي فيلبس. ولكن لها معنى عميقاً. ها هو تلميذ جديد، هو الخامس، يدخل في حلقة التلاميذ، حول يسوع. وسيتبعه سادس هو نتنائيل، ذاك الإسرائيلي الذي لا غشّ فيه. وسيشير الكاتب بشكل رمزي (2: 6) إلى هؤلاء التلاميذ الستة بواسطة الجرار الست. تحوّل الماء في هذا الجرار إلى خمر، وانتقل هؤلاء التلاميذ من العهد القديم إلى العهد الجديد، فتحوّلوا من اللاإيمان إلى الإيمان: "أظهر مجده فآمن به تلاميذه" (2: 11).
والنقطة الهامة هي: اتبعني. حسبنا في البداية أنه يجب أن نتبع يسوع اتباعاً خارجياً، أن نسير وراءه على الطريق التي تقود إلى الجليل (1: 37). ولكننا رأينا الآن بوضوح أننا أمام فعل ديني، فعل التلميذ الذي يتبع معلّمه. قد يكون الانسان مستعداً لكي يؤمن بالمسيح. ولكن ما يحسم الامور ليس ما يفعله الانسان، بل ما يفعله "المعلّم". هو الذي يدعو، يطلق نداءه. ليس فيلبس هو الذي اختار يسوع. بل يسوع هو الذي اختار فيلبس ليجعله تلميذاً له. فساعة النعمة الكبرى في حياة هؤلاء الرجال، هي ساعة نداء يسوع لهم. "لستم أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتمضوا وتثمروا ويدوم ثمركم، فيعطيكم الآب كل ما تسألون باسمي" (15: 16). هذا ما قاله يسوع بعد خطبة الكرمة والاغصان. وسيقول لهم في الساعة الحرجة التي تتبع تكثير الخبز وتراجع عدد من التلاميذ: "لا يستطيع أحد أن يجيء إليّ إلا إذا أنعم عليه الآب" (6: 65).
نجد في هذا النداء المعنى الذي نجده في الأناجيل الإزائية. إتبعني، أي كن تلميذي. لقد دُعي فيلبس ليخدم معلمه، ليتكرّس لمشروع بدأ به معلمه. وها هو حالاً يبدأ في العمل. "سيصطاد" نتنائيل، ويأتي به إلى يسوع.
يبدأ يوحنا جمله مراراً بفعل "كان". في 13: 30: "وكان الوقت ليلاً" (الليل هو ساعة عالم الظلمة والخطيئة. في تلك الساعة خرج يهوذا). في 18: 28: "وكان الصبح". في 18: 40: "وكان برأبّا لصاً" (وُضع تجاه يسوع الذي هو الحقيقة التي لم يستطع بيلاطس أن يتعرّف إليها). في 19: 14: "وكانت تهيئة الفصح، وكان نحو الساعة السادسة" (أي الظهر. في ذلك الوقت، يبدأون بذبح الحملان). فهذه العبارات البسيطة تدفعنا إلى التفكير، وهي تعطي الحدث الخارجي معنى عميقاً.
وفي آ 44 نقرأ: "وكان فيلبس من بيت صيدا". قال الإزائيون إن الرسل الأولين كانوا صيادي سمك. فبيت صيدا باسمها (بيت الصيد، بيت السمك) وبموقعها (حيث يصب الاردن في بحيرة جناسرت) هي مدينة الصيادين النموذجية. وهكذا تتحقق رؤية حزقيال في النداء الموجّه إلى سكّان هذه المدينة: في الأزمنة المسيحانية يحمل "الصيّادون" صيداً وفيراً (47: 70).
هناك رباطات على مستوى "البلدة" بين فيلبس واندراوس وبطرس. ولكن ليس هذا هو الأهم. والإشارة إلى صداقة طبيعية بين هؤلاء الثلاثة لا يمكن إلا أن تكون إيجابية. وفي 1: 40- 41، يشدّد النص على قرابة اندراوس إلى سمعان: وكان اندراوس، أخو سمعان". "لقي أولا أخاه سمعان". إن هذين النصين يتعارضان تعارضاً خاصاً مع رفض رباطات الدم عند الإزائيين. قال يسوع: "من هي أمي؟ من هم إخوتي؟ كل من يعمل مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي" (مر 3: 33- 35 وز).
ترى الأناجيل الإزائية أن يسوع جاء ليحمل السيف الذي "يفصل الآب عن ابنه، والأم عن ابنتها" (لو 12: 53؛ رج مت 10: 35). فالشرط الضروري لكي نتبع يسوع حقاً هو التالي: "إذا جاء أحد إليّ ولم يبغض أباه وأمه وامرأته وبنيه وإخوته وأخواته حتى نفسه، لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً" (لو 14: 26؛ رج مت 10: 37). أما إنجيل يوحنا فيقدّم لنا وجهاً آخر. فبالنسبة إلى المسيح هناك صداقات وقرابات تساعدنا على الذهاب إلى يسوع.
في الأناجيل الإزائية، نرى يسوع يرفض الرباطات التي تمنع الانسان من أن يعطي ذاته له بلا قيد ولا شرط. في إنجيل يوحنا، حبّنا للرب صريح وهو يسمو على كل حبّ، بحيث لا يهدّده أي حبّ أرضي. فالتناسق الاصلي بين حبّنا للخالق وحبّنا للخليقة قد عاد إلى ما كان. ولكن يجب أن لا ننسى ان "النعم" الكامل والذي لا تحفّظ فيه لإرادة الله، هو السبيل الوحيد الممكن لكي نستعيد حباً للعالم يكون على مثال حيث الله: أحبّ العالم حتى أرسل إبنه الوحيد

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM