التلاميذ الأولون
1: 35- 39
ذهبا ونظرا أين يقيم. وأقاما عنده ذلك اليوم. وكانت الساعة العاشرة.
تكلّم يوحنا، فسمعه تلميذان، فتبعا يسوع (آ 35- 39).
أعلن المعمدان أنه صوت يعلن مجيء الرب: "يجب أن ينمو وانا أنقص" (3: 30). واستخلص من هذا الاعلان النتائج، فوجّه اثنين من تلاميذه نحو يسوع. سمّاه مرّة ثانية "حمل الله". وهذا اللقب له صداه في قلب جماعة العماديين (وفي الكنيسة). لهذا تحرّك التلميذان. تركا المعمدان وذهبا إلى يسوع. اسم الأول اندراوس (1: 40). والثاني لا يُذكر اسمه. ولقد ظنّ كثيرون أنه التلميذ الذي كان يسوع يحبه. أنه يوحنا بن زبدى.
هذا المقطع المؤلّف من 4 آيات (آ 35- 39) يتضمّن مواضيع هامة في الإنجيل. الموضوع الأول: إتباع يسوع وتعلّق به. ونجد لغة هذا التعلّق في آ 37، 38، 40، 43: "اتبع". وسنجد هذه اللفظة أيضاً في 8: 12 (من يتبعني لا يمشي في الظلام)؛ 10: 4 (الخراف تتبعه؛ رج آ 27)؛ 12: 26 (من أراد أن يخدمني فليتبعني)؛ 13: 36؛ 21: 19، 22.
والتعلّق بيسوع ليس فقط حصيلة مبادرة يوحنا الممدان. بل يسبقه خيار حرّ ونداء يرسله يسوع إلى التلاميذ. ليس المعمدان إلا وسيطاً. تلميذان يبحثان. قدّم إليهما يسوع إمكانية المجيء إليه لكي يلبّي انتظارهم ويشبعه (15: 16).
والتلميذ هو الذي "يقيم" مع يسوع. يستعمل فعل "أقام" هنا ثلاث مرات. هذه لفظة لاهوتية تدلّ على كمال الإيمان وعلى التعلّق بيسوع تعلّقاً نهائياً (رج 6: 56؛ 8: 31؛ 10: 10؛ 15: 4). تلك هي المراحل في المسيرة التي تكوّن الإيمان: جاء إلى يسوع، رأى أين يقيم، أقام عنده.
أقاما معه منذ الساعة العاشرة، أي الرابعة بعد الظهر. لا يُذكر اليوم الذي فيه تعرّفا إلى يسوع (يوم سبت؟). لا يُذكر المكان الذي فيه تعرّفا إلى يسوع. وهذا الخفر يعطي الخبر بعداً سرياً ومنفتحاً: فكل مؤمن مدعو، ساعة يشاء وأينما يشاء، ليقوم بالمسيرة نفسها فيقيم مع يسوع. فالإيمان يتجاوز مراراً الوساطات البشرية. ولكن الجوهر يقوم في نداء الرب والتعلّق بيسوع تعلقاً حراً نرضى به رضى كاملاً. ويعلمنا وليْ النص (آ 41) أن التلاميذ رأوا في يسوع، المسيح، أي ذاك الذي تكلّمت عنه شريعة موسى وأسفار الانبياء (آ 45).
إن لقب رابي يعني حرفياً: رئيسي، ربي، سيدي. ولكن الإنجيلي يترجمه: "يا معلّم". وفعل أقام يعني: سكن، بات، لبث. إن فعل "تبع" (آ 37) أخذ في آ 38 معنى: تتلمذ، صار تلميذاً. وسؤال يسوع: "ماذا تطلبان، ما تبغيان"؟ يعني أيضاً: "ماذا تريدان؟ ما هي رغبتكما"؟.
يبدو هذا المقطع (آ 35- 39) في جزئين. الأول (آ 35- 37) قد ألّفه الكاتب حسب مخطّط محدّد. والثاني (آ 38- 39) يفجّر الرسمة المعروفة فيبدو نتيجة التقليد التاريخي.
ونبدأ بالجزء الأول.
ذهب الناس إلى يسوع بناء على شهادة المعمدان. المعمدان أقنع اندراوس. اندراوس أقنع بطرس. وفيلبس، الذي هو من بلدة اندراوس وبطرس، أقنع نتنائيل وجاء به إلى المسيح. والكلمات التي تتحدّث عن يسوع تبدأ مع "حمل الله" (1: 29) وتجد ذروتها حين يدل يسوع على نفسه أنه "ابن الانسان" (1: 51). وهكذا تدخل آ 35- 37 في هذا الاطار الإجمالي. كان المعمدان (1: 29- 34) قد "شهد للنور" (1: 17)، فجدّد في 1: 36 شهادته، وقام بالمهمة الثانية الملقاة على عاتق السابق (أي: يوحنا المعمدان): "ليؤمن الجميع على يده" (1: 7 ب). إذن، كان باستطاعة الكاتب أن ينتقل حالاً إلى دعوة سمعان (1: 40- 42) دون الحاجة إلى آ 37: "تبعا يسوع". فلماذا أقحم هنا آ 38- 39؟
حين نقرأ هذه الآيات دون فكرة مسبقة، نحس أننا أمام ذكريات في خبرة شخصية. تفاصيل زمنية ومكانية أكيدة وصحيحة. نحن أمام أساس تقليدي تاريخي مبنيّ على تذكّر لأحداث جرت عند الاردن: "رجع إلى عبر الاردن حيث كان يوحنا يعمّد" (10: 40). مثل هذه الملاحظة لا يكتبها إلا تلميذ كان في السابق مع يوحنا المعمدان عند الاردن.
في هذا المقطع يبرز بصورة خاصة شخص محدّد. في آ 35 تحدّث الكاتب عن "تلميذين" كانا مع المعمدان. في آ 37، تكلّم عنهما من جديد فقال: "التلميذان". وفي آ 40، كتب "كان اندراوس أحد التلميذين اللذين سمعا كلمات يوحنا". فمن كان التلميذ الثاني ولماذا لا يذكر الإنجيل اسمه؟ لماذا لا نجد في كل الإنجيل الرابع ذكراً لاسم يعقوب ويوحنا؟ لماذا لا نجد ذكراً لاسم امهما "سالومة" (19: 25؛ ق مر 15: 40؛ مت 27: 56)؟ لماذا لا يذكر زبدى ابوهما إلا في ف 21 (آ 2) الذي هو امتداد لإنجيل يوحنا؟
كل هذا يوجّه أنظارنا لكي نرى في التلميذ الثاني يوحنا الإنجيلي نفسه. وهناك ملاحظات هامة على المستوى التاريخي. سار المعمدان حسب التقليد اليهودي، فبدا معلّما في شعبه وكارزاً نبوياً بالتوبة. لهذا جمع حوله "بعض التلاميذ" الذين سمّوه "رابي". وهكذا يكون لهذه اللفظة المعنى اليهودي المسيطر، قبل أن يكون لها المعنى المسيحي.
نندهش أمام خبر الإزائيين الذين يصوّرون يسوع وهو يدعو التلاميذ: يقتلعهم من قارب الصيد أو من مكتب الجباية. ويوحنا أبرز هو أيضاً في مقاطع فكرية ولاهوتية أن لا أحد يأتي إلى المسيح إن لم يجتذبه الآب، إن لم يختره الابن (15: 16). فلماذا قدّم التلميذان الأولان نفسيهما ليسوع (آ 37)؟
وهناك سلسلة ردّات الفعل. شهادة، نداء، شهادة جديدة. فالمعمدان بكلمة شهادته ولّد حياة جديدة عند تلميذيه. وشهادة هذين التلميذين اللذين ذهبا إلى يسوع، اجتذبت آخرين. ولكن يُطرح سؤال: من "وجد" فيلبس (آ 43)؟ لا شكّ في أن يسوع نفسه هو الذي دعاه.
لا يتوافق خبر النداءات عند الإزائيين (مر 1: 16- 20؛ مت 4: 18: 22) مع ما نجده عند يوحنا. فعند يوحنا لا نجد مكاناً لنداء ثانٍ على شاطىء بحيرة جناسرت. لقد اهتمّ الإزائيون بأن يرونا التلاميذ الاولين كصيادين، وهكذا تتمّ كلمة النبي حزقيال. رأى المياه تتفجّر من الهيكل وتجري إلى المياه المالحة في البحر الميت، التي ستصبح حلوة. وحيث يمرّ السيل يحيا كل كائن. ويكون السمك وفيراً جداً. "ويقف على هذا البحر صيّادون من عين جدي إلى عين عجلائيم، ويكون سمكه على أصنافه كسمك البحر العظيم كثيراً جداً" (حز 47: 8- 10).
كيف بنى يوحنا هذا المقطع؟ بناه موازياً للمقطع السابق (آ 29- 34). وشدّد على المعمدان الذي شهد، فجلب بشهادته اناساً إلى الإيمان. وهؤلاء المؤمنون شهدوا بدورهم فجاؤوا بأناس آخرين إلى الإيمان.
ولاحظ في آ 38 موضوعاً سيعود بقوة في كل الخبر الإنجيلي: يسوع يعرف كل شيء ويلج إلى قلوب البشر. ونحسّ أنه حين سأل التلميذين "ماذا تطلبان"، فهو يعرف أكثر من اللذين سألهما ما هو موضوع طلبتهما ورغبتهما. إنهما يبحثان عن الحقيقة. فأول كلمة تلفّظ بها يسوع في الإنجيل الرابع، تعني في العمق الرغبة العظيمة التي ترفع الناس إلى الله. وسؤالاً يتضمّن دعوة إلى هذا البحث، وتشجيعاً لمتابعة البحث. غير أن يسوع لا يفرض نفسه. فهو يحترم احتراماً كبيراً قرار خليقته الحر، فلا يعطينا إلا ما نطلب: "تعاليا وانظرا".
لم يجد الإنجيلي الالفاظ الجديدة التي تصوّر عواطف هذين الرجلين. إنهما مع يسوع منذ الساعة العاشرة. ويجعلنا يوحنا نحسّ بأهمية هذه الأقوال التي تبودلت في ذاك المساء، بعرض بسيط يفرض علينا أن نتوقّف ونفكّر. وحوار تلك الليلة قد ينعكس إلى حدّ ما في حوار يسوع مع نيقوديمس. ماذا قيل؟ لا نعرف. كل ما نعرف هو النتيجة: صيحة الفرح التي بها أعلن اندراوس لأخيه سمعان الجديدَ الذي اكتشفه: "لقينا المسيح".
ونعود إلى النصوص الكتابية فنتعمّق في نكرة المسيرة على خطى المسيح (آ 37). فالكلمة العبرية تعني: سار وراء... تبع. ثم خدم، تعلّق قلبه بـ... هناك عبارة معروفة: "خدمة البعل" (1 مل 18: 18؛ رج تث 4: 3؛ 1 مل 14: 8). وطبيعة المتبوع تؤثر على التابع. تبع بنو اسرائيل الباطل، فصاروا باطلاً (إر 2: 5؛ 2: 23- 25؛ هو 5: 11). وتلامذة الانبياء "يتبعون" معلّمهم و"يخدمونه" (1 مل 19: 19- 21): هكذا يتبع اليشاع إيليا النبي. ويستعيد التلميذ نهج معلّمه (2 مل 2: 8، 14): تبع اليشاع مثال معلمه فضرب بمعطفه مياه الاردن.
وفي جو العالم الراباني (المعلمين عند اليهود)، لم يتجرّأ التلاميذ أن يمشوا بجانب معلمهم، بل كانوا يتبعونه عن بعد. وهكذا صارت كلمة "تبع" تعني "صار تلميذاً" وتصرّف كتلميذ تجاه معلمه. وهكذا نستطيع القول إن فكرة اتباع يسوع والاقتداء به تعود إلى حلقة التلاميذ قبل عيد الفصح. واهتمت الكنيسة منذ البداية لتقدّم يسوع التاريخي كمثال لجميع المسيحيين في فقره وتواضعه وجهوزيته للتضحية بذاته. منذ البداية سمعت الكنيسة صوت المسيح: "من أراد أن يتبعني، فليكفر بنفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني" (لو 9: 23). وهكذا صار اتباع يسوع يعني التلمذة، يعني أن يكون مسيحياً.
ولفكرة اتباع يسوع في اللاهوت اليوحناوي مدلول عميق جداً. فمن يتبع يسوع لا يصير فقط تلميذه، بل يشارك معلمه في مصيره (12: 26؛ 13: 36- 37). وهكذا، فالإيمان يميّز التلاميذ الحقيقيين. فالذين دُعوا من الخارج ليسوا كلهم تلاميذ حقيقيين ليسوع (رج 6: 67- 71 وعلاقة يهوذا بيسوع). فيوحنا يرى أنه يستحيل أن نكون تلاميذ يسوع دون أن نؤمن به. فالذي يريد أن يتبع الرب عليه أن يعترف به. ووحدها الشهادة التي نؤدّيها ليسوع تجعلنا قادرين على اتباعه. بعد أن اعلن المعمدان من هو يسوع (هذا هو حمل الله، آ 36)، تحرّك التلميذان.
إن الإيمان هو ميزة التلاميذ الحقيقيين (في يوحنا)، بحيث إن فكرة اتباع يسوع بشكل خارجي (شخص يتبع شخصاً) تُترك جانباً حين يقول يسوع لليهود الذين آمنوا به: "إذا ثبتم في كلمتي كنتم حقاً تلاميذي" (8: 31). والحبّ قد يكون، شأنه شأن الإيمان، وبمعزل عن كل رباط خارجي، البرهان بأننا تلاميذ حقيقيون: "بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إذا كنتم تحبون بعضكم بعضاً" (13: 35). غير أن يوحنا لا يتخلّى عن صورة التلميذ الذي يتبع معلمه بشكل خارجي. بل إن في هذه الصورة، يتخذ مفهوم تلميذ يسوع أكبر عمقه اللاهوتي.
فإذا عدنا إلى خطبة الراعي الصالح، نرى أن الراعي يعرف خرافه، وخرافه تتبعه لانها تعرف صوته (10: 4، 27). فالذي يتبع يسوع، نور العالم، على هذه الأرض، لا يمشي في الظلام (8: 12). والآب يكرم على هذه الأرض ذاك الذي تبع ابنه ماراً في الموت مثل حبة الحنطة (20: 12). ونقرأ أخيراً في سفر الرؤيا (14: 4) عن اتباع يسوع: "يتبعون الحمل أينما يذهب".
وهكذا فبداية حياتنا الجديدة تشبه نهايتها: نتبع الحمل. فبالعماد صرنا شبيهين بالحمل على شاطىء الاردن. وفي نهاية حياتنا، نرجو أن نشارك الحمل المنتصر في مجده الملوكي في صهيون، فنتبعه بفرح ولا نملّ. فنحن مدعوون إلى اتباع المسيح لا خلال حياتنا على الارض، بل في الأبدية