شهادة المعمدان

شهادة المعمدان
1: 19- 34

ها هو حمل الله الرافع خطيئة العالم.
يمتدّ هذا الفصل من إنجيل يوحنا على سبعة أيام، يتوّجها عرس قانا الجليل. في اليوم الأول، شهد يوحنا المعمدان لنفسه (1: 19- 28): "أنا صوت صارخ في البرية، قوّموا طريق الرب". في اليوم الثاني، شهد المعمدان ليسوع (1: 29- 34): "هذا هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم". في اليوم الثالث، نقرأ عن دعوة تلميذين سمعا كلام يوحنا المعمدان، فتبعا يسوع (1: 35- 39). في اليوم الرابع، دعا يسوع بطرس (1: 40- 42)، وفي الخامس فيلبس (1: 43- 44)، وفي السادس نتنائيل (1: 45- 51). وفي اليوم السابع نقرأ عن عرس قانا (2: 1- 12) الذي تمّ "في اليوم الثالث" فربط كل الخلق بالقيامة. وهكذا ننتقل في هذه المتتالية من إنجيل يوحنا (1: 19- 2: 12)، من اسبوع خلق أول (تك 1) إلى اسبوع الخليقة الجديدة التي ستشهد ظهور الله الكلمة في العالم.
ونتوقف في المقطع الذي نقرأ عند اليومين الثالث والرابع، عند نداء تلميذين كان أحدهما اندراوس. ثم عند نداء بطرس بواسطة أخيه اندراوس: لقينا مشيحا، أي المسيح.
إن مطلع الإنجيل (1: 1- 18) حلّ محل إنجيل الطفولة الذي نجده عند متى ولوقا. أما بالنسبة إلى يوحنا، فنحن هنا أمام البداية الحقيقية ليسوع: هو الكلمة الذي صار بشراً. وينضمّ يوحنا إلى الإزائيين فيحدّد موقع بداية حياة يسوع العلنية مع كرازة يوحنا المعمدان. غير أنه لا يحتفظ بشيء من كرازة المعمدان. إن يوحنا المعمدان يحقّق ما قاله عنه المطلع: إنه يشهد ليسوع. "ظهر رسول اسمه يوحنا. جاء يشهد للنور".
يوحنا المعمدان هو الشاهد. شاهد أمام العالم اليهودي الرسمي (1: 19- 28)، شاهد أمام التلاميذ (1: 29- 34)، وشهادته ستكون السلّم التي عبر عليها التلاميذ ليصلوا إلى يسوع (آ 35- 51).
من هو المعمدان؟ هو صوت الكلمة (1: 19- 28).
جاء اليهود (أي: السلطات اليهودية) وسألوا يوحنا أن يحدّد موقعه من الإنتظار المسيحاني. فجاء جوابه سلبياً على ثلاث دفعات: لست المسيح. لست إيليا. لست النبي. انه فقط صوت يفتح الطريق (يهيّئها) للمسيح.
في زمن يسوع، إنتظر اليهود مجيء المسيح. إنما اتخذ هذا الإنتظار أشكالاً مختلفة. وهكذا نفهم أن يكون اليهود اعتبروا المعمدان كالمسيح. فنشاطه كمعمّد يدلّ على مجيء الأزمنة الأخيرة. وارتباطه مع الاسيانيين في قمران قد يفسّر هذه الالقاب الثلاثة. فلقد انتظر الاسيانيون حوله المسيح المنتظر ثلاثة أشخاص.
نفى المعمدان أن يكون إيليا الذي ينتظرون عودته حالاً قبل برء المسيح. واختطاف إيليا في العربة (2 مل 2: 11) ولّد أخباراً واساطير عن حياة النبي العظيم وعودته. ولقد اعتبر بعضهم أنه ما زال حياً. وإن 2 أخ 21: 2 يتحدّث عن رسالة بعث بها إيليا إلى يورام بعد اختطافه. وبعد المنفى، وُلدت أسطورة تقول إن إيليا سيعود في الأزمنة الأخيرة. فأكد ملاخي (3: 23): "ها أنا أرسل إيليا النبي، قبل أن يأتي يوم الرب العظيم والرهيب". ثم إن شكل يوحنا الخارجي كان يشير إلى إيليا الذي لبس "ثوباً من شعر، وشدّ حقويه بمنطقة من جلد" (2 مل 1: 8).
والنبي المنتظر يدلّ على شخص أعلن موسى عن مجيئه في تث 18: 15- 18: "نبي مثلي يقيمه لك الرب من بين اخوتك".
وطالب المعمدان بدورين بالنسبة إلى ذاك الآتي.
أولاً: انه صوت يفتح الطريق لذاك "الذي لا يعرفونه". وهكذا يعود إلى أش 40: 3 الذي يعلن عن مجيء مرسَل يعدّ طريق العودة لمنفيّي بابل. أورد يوحنا، شأنه شأن الإزائيين، نصّ أشعيا لا في اللغة العبرية بل في الترجمة اليونانية، المسمّاة سبعينية. جهل اليهود المسيح، فلم يكن جهلهم له خطيئة. فيوحنا نفسه هو من الذين لا يعرفونه (1: 33). نحن هنا أمام تلميح معقول إلى اسطورة تقول بأن المسيح يبقى خفياً ويظهر فجأة لشعبه.
ثانياً: إنه يعطي يوحنا معمودية تهيّىء الطريق لمعمودية الروح. ويرى المعمدان أنه يجب ان نستقبل يسوع كعطية الله السرية التي لا يعرف أحد أصلها. وهو نفسه لا يستحق "ان يحل سير نعليه"، وهذا عمل لا يقوم به حتى العبيد. هذا يدلّ على المسافة التي تفصل يسوع عن المعمدان.
هذه الشهادة الأولى هي بداية رسالة يوحنا. أعطاها الراوي طابعاً احتفالياً فحدّد موقعها: "في بيت عنيا، في عبر الاردن، حيث كان يوحنا يعمد" (1: 28). إن بيت عنيا هذه (قال بعضهم على خطى اوريجانس: بيت عبّاره) هي غير بيت عنيا مدينة لعازر. في ف 10، سيذكّرنا الإنجيلي بهذا المشهد ليدلّ على نجاح مهمّة يوحنا المعمدان:
"ورجع يسوع الى عبر الاردن حيث كان يوحنا يعمّد من قبل، فأقام هناك. فجاء إليه كثير من الناس وقالوا: ما عمل يوحنا آية واحدة، ولكن ما قاله في هذا الرجل كان كله صحيحاً". هذا ما يؤكّد على ان مهمة المعمدان كانت مهمة شهادة.
ومن هو يسوع؟ هو حمل الله، هو ابن الله (1: 29- 34).
هو أولاً حمل الله.
فبعد شهادة أدلى بها يوحنا في إطار معادٍ، ها هو يشهد الآن أمام تلاميذه. يسوع هو حمل الله (رج 1: 36). فالعودة إلى الحمل لها ثلاثة أسس في العهد القديم. حمل أش 53: 7: "كحمل سيق إلى الذبح وكشاة أمام الذي يجزها". في هذه الحالة، يرى يوحنا في يسوع صورة عبد الله المتألم الذي يتخذ حالة الخطيئة التي في العالم. والأساس الثاني هو الحمل المذبوح والمنتصب الذي يتغلّب على الخطيئة. نقرأ في رؤ 5: 6: "رأيت بين العرش والكائنات الحية الاربعة وبين الشيوخ (الاربعة والعشرين)، حملاً واقفاً كأنه مذبوح" (رج 14: 10؛ 17: 14). والأساس الثالث هو الحمل الفصحي. حسب يو 19: 14، صُلب يسوع ساعة بدأ الكهنة يذبحون الحملان لعيد الفصح. لا ننسى أن الإنجيلي يحدّث المؤمنين بعد القيامة، ولهذا نستطيع أن نتحدّث عن ثلاثة معانٍ دون أن نعرف معنى العبارة كما استعملها المعمدان.
وهو ثانياً ابن الله.
قدّم الإنجيلي هنا نسخة شخصية عن معمودية يسوع، وهي تختلف كل الاختلاف في الأناجيل الازائية الثلاثة. فيوحنا المعمدان هو الذي يرى الروح ينزل ويحلّ على يسوع. فعينا الجسد عنده رأيا انساناً (يأتي بعدي رجل كان قبلي). أما وحي الله فأعطاه أن يرى في يسوع ابن الله. نجد في بعض المخطوطات عبارة "مختار الله" بدل "ابن الله". هكذا نستطيع أن نرى تواصلاً بين عبد الله المتألم وخادم الله المختار. ولكننا نحتفظ بعبارة "ابن الله".
إختلفت قراءة حدث المعمودية في يوحنا وفي الإزائيين. فيوحنا الإنجيلي ينسب الى المعمدان إيماناً يستحيل وجوده قبل وحي الفصح والقيامة: فيسوع هو في نظره حمل الله، ذاك الذي وُجد قبل العوالم، ابن الله الذي يملاه الروح القدس.
ونصل إلى نداء يسوع لأثني عشر كما في إنجيل يوحنا.
نجد في 1: 35- 51، نداء خمسة تلاميذ: اندراوس، تلميذ نجهل اسمه، بطرس، فيلبس، نتنائيل. وفي مكان آخر، يُذكر يهوذا الاسخريوطي. ثم يهوذا آخر (أو: يودا) وتوما. يتحدّث يوحنا عن الاثني عشر (6: 67؛ 20: 24). بيد أننا لا نجد عنده لائحة بالاثني عشر كما في الأناجيل الإزائية.
ونداء التلاميذ الأولين عند يوحنا، يختلف كل الإختلاف عما نقرأ في الأناجيل الإزائية. فالإزائيون يخبروننا أن بطرس واندراوس ويعقوب ويوحنا كانوا يصطادون حين دعاهم يسوع. أما عند يوحنا، فالمدعوّون الأولون كانوا في البداية تلاميذ يوحنا المعمدان.
تتفق الأناجيل الأربعة على القول بوجود تلاميذ تربّوا تربية دينية على يد المعمدان. تحدّث مر 2: 18 ي عن "تلاميذ يوحنا" وهكذا فعل لوقا (5: 33) الذي جعل أحد التلاميذ يسأل يسوع: "علّمنا أن نصلّي كما علّم يوحنا تلاميذه" (لو 11: 1). ويورد مت 11: 2- 6 ما عمله المعمدان وهو في سجنه: أرسل بعضاً من تلاميذه ليسأل يسوع. أما يوحنا الإنجيلي فينفرد بتصوير هذا المشهد الذي فيه ينتقل بعض تلاميذ يوحنا المعمدان إلى يسوع. يبدو أنه حصل على معلومات دقيقة عن علاقات المعمدان بيسوع. وهكذا يلمّح إلى نشاط عمادي ممكن لدى يسوع كمعمّد (3: 22؛ 4؛ 1- 2). أيكون يسوع والمعمدان قد انخرطا في حركة العماديين التي انتشرت خلال القرن الأول فبدت تياراً إصلاحياً يعارض شعائر العبادة، ينعم بالمواهب، ويتوجّه الى العالم كله؟ الأمر ممكن. وقد يكون أن يسوع فعل ما فعله يوحنا في البداية فاجتذب الناس إليه. كان المعمدان قبل يسوع. ولكن بعد الآن سيكون بعده. سيمّحى أمام الذي جاء يعلن عن مجيئه.
وننطلق من هنا حتى 2: 12 لنرى كيف يصوّر الإنجيلي نموّ الإيمان لدى التلاميذ. فيقدّم لنا في خلاصة كرستولوجية عدداً من ألقاب يسوع: رابي ومسيح (آ 35- 42)، الشخص الذي تحدّثت عنه الشريعة والانبياء، ابن الله وملك اسرائيل (آ 43- 51)، ابن الانسان (آ 51). وفي النهاية، في 2: 11: "أظهر يسوع مجده فآمن به تلاميذه". هذا النموّ والتدرج لم يتمّا في بضعة أيام (لا ننسى أن العدد 7 يدلّ على الكمال، ونمو الايمان عملية طويلة). إن الإزائيين يروون بطريقة واقعية ولادة الايمان الصعبة والبطيئة، إيمان التلاميذ بيسوع. في هذا المجال، هم أقرب من يوحنا إلى ما حدث حقاً في حياة الرسل الأولين

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM