أنا هو خبز الحياة

أنا هو خبز الحياة
6: 24- 35

أبي وحده يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء.
ونبدأ هنا بقراءة الخطبة عن خبز الحياة. بدأ يسوع فأزال سوء التفاهم. كثّر الخبزات، فظلَّ المعجبون به على مستوى الخبز الذي يشبع جوع البطن. أما يسوع فيريدهم أن ينتقلوا إلى الخبز الحقيقي، الذي يأتي من السماء والذي يعطي الحياة للعالم. وهذا الخبز هو يسوع نفسه.
الحنين في قلب الإنسان يبقى تطلّعاً إلى الماضي. "أباؤنا أكلوا المنّ". من يستطيع أن يفعل مثل ما فعل موسى معهم؟ واتّخذ المنّ في العالم اليهودي المتأخر طابعاً عجيباً، بينما كان في البداية محنة وتجربة. قال حك 16: 20: "وزّعت على شعبك طعام الملائكة". وقال حك 16: 26: إن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بالكلمة. وفي إنجيلنا تحوّلت الجموع تحوّلاً تاماً. بدأت متحمّسة. وها هي الآن ترى في تكثير الخبز آية بسيطة وقريبة من الإهتمامات البشرية. إنهم يريدون "آية من السماء". لا شكّ في أن يسوع هو الذي سبّب هذا "الإنقلاب". وبّخهم لأنهم لم يروا وراء الخبزات آية طعام آخر أكثر تقوية وأكثر روحانية.
وعلى هذا المستوى لا يستطيع يسوع أن يزاحم الماضي. وفي أي حال، فالتاريخ في تراجع كما يراه يهود ذاك الزمان. فلا تقدّم ولا تطوّر. والفردوس هو وراءنا، في البدايات. إذن لا بدّ من آية أقوى لكي نؤمن أن التاريخ يتقدّم. لما حسبوا يسوع ملكاً، لم يكونوا بعد قد رأوا فيه المسيح. وها هو يسوع يعتبر نفسه خبز الحياة. فهو وحده يستطيع أن يعطي معنى لحياة البشر، ويطفىء عطشهم إلى السعادة. وهذا الإعتبار الهائل يدهشنا. العمل هو شيء صالح. ولكن لا يكفي أن نعمل لكي نكتفي بتأمين لقمة العيش. إذن، كيف نعمل عمل الله؟ هو الذي يعمل في قلوبنا لكي نحيا، يعمل في العالم لكي يحيا.
في قانا أعاد النظر في شرائع التطهير التي تمنع الإنسان من الحياة. وحين طهّر الهيكل، أراد عالماً أكثر حناناً من أجل الفقراء. وحين تحاور مع السامرية، أعاد النظر في الفرائص المادية والخلقية والدينية التي تلقي بثقلها على أكتافنا. كل هذا يعرفه قارئو يوحنا. ولكن كيف يؤمنون أنه "نزل من السماء،؟ لا نعرف من أين يأتي المسيح (7: 27). أما هذا فكل الناس يعرفون من أين يأتي: إنه إبن يوسف (آ 42). ها هو أب جديد يقف بين الآباء والآب السماوي. هذا هو الحاضر بعد الماضي. ولكن حاضر الله وحده هو الذي يعطي الحياة. يستطيع يسوع أن يسمّي نفسه خبز الحياة الذي يُقيت البشر بكلامه وأفخارستيته التي تدفعنا إلى الأمام.
وأخيراً بحث الناس وتحيرّوا. لا يستطيعون أن يجدوا يسوع لا على المستوى الروحي ولا على المستوى المادي. "متى جئت إلى هنا"؟ إستعاد نشاطه كأنّ شيئاً لم يكن. ولكن لماذا يمتزج بهذا الشعب الحقير، شعب الجليل؟ يجب عليه أن يذهب إلى أورشليم ليظهر سمّو مقامه. ولكن هنا أيضاً، ليس هدفه طعام الأرض. ما هو جوهري في نظره هو صنع "الأبدية"، صنع أمور لا تفنى. كان المنّ طعاماً مؤقتاً، أما الإنسان الجديد فهو نهائي.
ونحن نطرح دوماً السؤال على نفوسنا: إلامَ نحن جائعون؟ ما الذي يحيينا؟ هناك جواب واحد يدلّ على تعلّقنا الكبير بالمسيح وبكلمات الحياة الخارجة من فيه.
من الجوع البدائي إلى الخبز والطعام، إلى الجوع إلى الحرية والحنان والكرامة، يتّخذ جوع البشر صوراً متعدّدة.
وفي هذا المجال نجد نموذجاً في مسيرة شعب التوراة "في الصحراء" مدة أربعين سنة. هذا زمن رمزي، يدلّ على حياة يكتشف فيها الإنسان تدريجياً، وعبر جوعه المختلف الأشكال، أن حبّ الله، يسوع، خبز الحياة، هو الغذاء الوحيد الذي يشبع جوعه إلى الحياة والحبّ، جوعه إلى أن يحب ويكون محبوباً.
هذه هي وقفة الحقيقة. فأي كنيسة وأي شعب لم يختبر يوماً في تاريخه عبور "البرية"، لم يكتشف فقره الجذري لكي يكون مستعداً لتقبّل عطايا الله! هناك "عبور صحراء" دراماتيكي: محنة أدبية أو صحية، فترة من الشكّ والإرتياب، جفاف وانفصال عن الآخرين، الشعور بأننا ندور في حلقة مفرغة.
وعلى المستوى الكنسي، قد تكون الرعية "ميتة" أو متراخية. وعلى مستوى الجماعات، قد نكون أمام أقلّية مسحوقة، أو شعب يمزّقه الحرب أو التخلّف... هناك صحراء الزوجين، صحراء الراهب والراهبة، صحراء المرض والعزلة. صحراء العقل والقلب.
بعد عبور البحر الأحمر، واجه الشعب صحراء الحياة اليومية. مسيرة طويلة إلى أرض الميعاد تتوزّعها التذمّرات التي تعلن: كفى! إلى أين نحن ذاهبون؟ لماذا هذه الطريق؟ من هو الله؟ أين هو الله؟ لماذا جعلنا في هذه "المعمعة"؟ أية آية يصنعها من أجلنا؟ وفي النهاية هذه الأسئلة هي أسئلتنا.
وسيتحسّر العبرانيون على الطمأنينات الكاذبة في عبوديّتهم القديمة. قالوا: كم مرة فضّلنا أن نأكل خبزاً طعمه طعم العبودية. أرغفة العبودية متعدّدة: خبز السهولة، خبز الراحة والرخاء، خبز الرتابة، خبز التراخي والتخاذل، خبز المساومات.
وهكذا تكون عظمة الإنسان بأن يسير ويتقدّم من "مخيّم" إلى "مخيّم" ليجعل جوعه رحيلاً إلى المطلق. قلما يختار الإنسان "الصحراء". فصحراء الواحد تختلف عن صحراء الآخر. ولكن لا بدّ من عبورها عاجلاً أم آجلاً. إنها مدرسة نتعلّم فيها الحياة، نتعلّم فيها أن نفكّر ونصلّي دون أن "نتلبّك" بزاد نكدّسه. وهكذا نتقبّل المنّ، عطية الرب اليومية. حين أتجرّد عن كل أجوبتي الجاهزة والسطحية، عن طمأنيناتي القديمة، يجب أن "أجوّع نفسي" لأتقبّل بتواضع كسرة "الخبز"، كسرة الإنجيل، كلمة الحياة التي تمنعني من أن أموت أو أيأس في "صحرائي". "من جاء إليّ لا يعطش".
نشكرك أيها الرب الإله على صبرك على أولادك، على إصغائك إلى ندائهم. فأنت إله أمين ما زلت تصنع المعجزات. تذمّر شعبك في البرية فأجبت على تذمّره بعطية الخبز وطلبت منه أن يتابع المسيرة. وعلى شاطىء البحيرة أشبعت جوع الراغبين بك وأعطيتهم خبزك. لهذا، بعد أن تغذَّيْنا من كلمتك وشبِعْنا من حياتك نريد أن ننشدك ونسبّحك من الآن إلى الأبد

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM