إيمان وتواضع
17: 5- 10
نحن خدّام بسطاء. ما فعلنا إلا ما كان علينا أن نفعل.
في المقاطع السابقة، جعل لوقا على شفتي يسوع كلمات متطلّبة حول خطر الغنى، حول الشكوك التي نسبّبها للصغار. فالتفت التلاميذ إلى يسوع وسألوه القوّة لكي يتجاوبوا ومتطلّبات الإنجيل الجذرية. طلبوا إيماناً لا يطالب بشيء. إيماناً لا يطالب "بأعماله الصالحة". إيماناً لا يطالب بالمجازة، بل يحبّ معلمه ويفرح بخدمته.
يقوم الإيمان بأن نثق بشخص آخر هو الله. بأن نستند إلى قدرة كلمته. فالذي يؤمن بيسوع يستطيع المستحيلات: يقتلع بقوة كلمته توتة خضراء ويغرسها في البحر. وقد عرف التلاميذ بخبرتهم أنهم فشلوا بسبب قلّة إيمانهم. وهذا ما حدث لهم حين لم يقدروا أن يطردوا الشيطان من الولد المصروع (9: 40).
أما المثل التالي فيصوّر موقف الإنسان تجاه الله. إنطلق يسوع من خبرة ملموسة لسيد تجاه عبده. فالعبد يقوم بأعمال عديدة ومتنوّعة: فبعد أن يشتغل في الحقل يهيّىء الطعام لسيده ولا ينتظر منه شكراً خاصاً أو عرفان جميل. وزاد يسوع: أنتم مثل هذا العبد: عملنا ما كان يجب علينا أن نعمل. نحن خدّام بسطاء. نحن عبيد بطّالون (لا نفيد في شيء).
يشدّد هذا المقطع الخاص بلوقا على سرّ الله الذي يتجاوز محاولات البشر لفهمه. فنحن لا نستطيع أن نضع الله على مستوى الإنسان. لا شكّ في أن العهد مبادلة، ولكنّ هذه المبادلة هي ميثاق بين شخصين ليسا على مستوى واحد. لقد بادر الله ودخل في علاقة مع الإنسان. قال: "أنا الرب الذي أخرجك من أرض العبودية". وقال يوحنا في رسالته الأولى: "الله أحبنا أولاً". قد يكون يسوع يشير هنا إلى تصرّفات شريعانية (تتعبّد للشريعة) فتقيس درجة بر الله تجاه الله بمقياس الشريعة.
هذا النص هو مثل. فلا نستنتج منه أن الله هو إنسان مستبدّ وقاس يتصرّف تجاه البشر بشكل اعتباطي. لا شك في أنه يجب على الإنسانً المؤمن أن يعي المسافة التي تفصله عن الله. ولكن لا بدّ من إنارة هذا النص بمجمل نصوص الوحي. فالله الذي نعرفه في الكتاب المقدّس هو الذي صار قريباً. هذا الإله اتخذ في يسوع وجه بشر. ويسوع صار خادم البشر. قال في يو 13: 13: "أنتم تدعونني معلّماً وسيداً، وحسنا تفعلون لأني كذلك. فإذا كنت أنا المعلم والسيد غسلت أرجلكم، فيجب عليكم أنتم أيضاً أن يغسل بعضكم أرجل بعض".
العلاقة بين الله والإنسان، كما يجسّدها يسوع، ليست على شكل علاقة العبد بالسيد. فيسوع قدّم لنا صورة أخرى عن السيد الذي يعود فيرى عبيده ساهرين. حينئذ يشدّ وسطه ويجلسهم إلى المائدة، ويخدمهم الواحد بعد الآخر (12: 37). نحن خدمة بطّالون. لا شك. ولكن يسوع يقول هنا: "هنيئاً لهؤلاء العبيد".
شجرة مزروعة في البحر. هناك سفينة نوح (تك 6- 9). لقد احتاج هذا البار إلى إيمان عميق وثقة تامة بالله، لكي يبني سفينة الخلاص هذه أمام هزء المستهزئين، ولكي يجابه طوفاناً لا ينتهي فيتيح لله أن يثبّت ميثاقه. ثم عصا موسى التي بها ضرب البحر ليفتح فيه طريق الخلاص (خر 14- 16): بالإيمان جابه النبي وشعبه مياه البحر المدمّرة. وبعد هذا هناك تابوت العهد الذي عبر الأردن قرب أريحا. حمله إيمان يشوع وشعبه ففتح الطريق إلى أرض الموعد وحقق العهد.
واستعمل يسوع بدوره الخشب (الشجرة) لكي ينتصر على قوى البحر المدمّرة. كم مرة زرع قاربه في قلب البحر لكي يلقي تعليمه، فسيطر على أمواج الجهل. ولكي يسود على قوى العاصفة الشريرة. ولكي يقيم بطرس الذي كاد يغرق، أو لكي يتيح له صيداً عجيباً وثمار رسالة مثمرة.
وبعد كل فعلات الخلاص هذه، حمل يسوع بنفسه خشب الصليب، لكي يتغلّب على أمواج الموت، ويقودنا في مياه العماد المسيحية. وفي كل هذا، عملَ الإيمانُ عمله. وذلك في ثقة كاملة ليسوع بأبيه، وفي جهوزية الآباء والأنبياء والرسل لكي يلبّوا النداء.
والكنيسة، جماعة المؤمنين، هي تلك الشجرة المزروعة في قلب البحر: وأمواج الشر العاتية، ومدّ العداوة واللامبالاة، لا يستطيعان أن يغرقا السفينة التي يقودها يسوع حتى وإن كان نائماً (8: 22- 25).
حينئذ نفهم كلامه حول "العبيد البطّالين"، حول العبيد البسطاء. كل واحد منا فريد في عين الرب. ولكن يُستغنى عنا إن نحن تراخينا. لم يتصرّف نوح وموسى ويشوع بمبادرة منهم. بل الله هو الذي أرسلهم. ومع ذلك، فهو يستطيع أن يستغني عنهم. غير أنه لا يفعل. نحن أشخاص يُستغنى عنهم، ومع ذلك فالرب يدعونا لكي نكون رسله ووسطاءه. خيارات الله تدهشنا، لأنه يتمّ بواسطة مؤمنيه الوضعاء والبسطاء أشياء عظيمة. وإن ارتفع بعض منهم على مثال صموئيل وداود ومريم، إلا أن الإنجيل يذكّرنا أن الله يحطّ الأعزاء عن الكراسي ويرفع المتواضعين.
وفي أي حال، إنه لا يعاملنا كعبيد بطّالين بل كأصدقاء. إنه يختلف عن السيد الذي نقرأ عنه في هذا المثل. فهو يجلسنا إلى مائدته، ويشركنا في جسده ودمه.
كيف تستطيع يا رب إن تشبّه نفسك بهذا السيد الذي يخدمه عبدٌ طوال النهار؟ وبدل أن يشكره يسميه عبداً وحسب، عبداً بطالاً. إذا كنتَ من هذا النوع، فأنا أفضّل أن أشتغل لحسابي.
ولكنك تجيبني: أنا لا أتوجّه إلى البشر كما إلى عبيد أو مرتزقة. ولكن في كل واحد، يرقد فريسي يعتبر أن له حقوقاً عليّ بسبب بعض ممارساته الدينية. لا تنسَ أن أعمالك وفضائلك لا تستحق لك الحياة والخلاص. فأبي يعطيك كل شيء بمجانية مطلقة. كل ما لك هو عطية. كل ما لك هو نعمة