ولد لنا مخلّص
2: 1- 14
أبشرّكم بخبر عظيم يفرح له جميع الشعب.
جاء الله يرتبط بالبشر ارتباطاً لا يحلّ. جاء من عليائه ليلتقي بالبشرية، ليكون انساناً بين الناس. جاء يتضامن مع البشر فدلّ على حبّه وسخائه. عيد الميلاد هو عيد ارتباط اللاهوت بالبشرية، هو عيد التجسّد. والتجسّد يدلّ على ارتباط الله الكامل بالبشر. منذ الآن، إتحدّت البشرية بالله جسداً وروحاً وعقلاً وحياة، وهكذا تمّ الخلاص.
وُلد يسوع في أيام الامبراطور أوغسطس. فالعالم الذي وُلد فيه تسود عليه سلطة رومة. وسيولد يسوع في المكان الذي حدّدته رومة بمناسبة أحد الإحصاءات. كانت هذه الممارسة بالنسبة إلى القوة الحاكمة سبيلاً ناجحاً للتحقّق من غنى الافراد (لتحديد الضرائب) ولمعرفة عدد السكان (للخدمة العسكرية). هكذا يدل "السلطان" على حضوره الواضح، فيتذمّر "الغيورون" الذين لا يرون إلا سلطة الله على البشر. وهكذا نفهم أن يسوع ليس الآن بملك. وأن "مملكته" لا تُقابل بقوى الارض. لهذا، يخطىء من يعتقد أن مجيء يسوع يحلّ جميع مشاكل حياتنا. إنه يدعونا...
وُلد يسوع في بيت لحم "مدينة داود"، لأن الملك داود ولد في هذه المدينة. وهكذا تمّت نبوءة ناتان: يسوع هو حقا إبن داود (مدينة داود هي أورشليم). ويروي لوقا مولد يسوع بطريقة بسيطة. وقد اهتمّت به أمه كما تهتمّ كل أم بأولادها. ومنذ دخوله الى العالم هو "مهجّر"، لأنه وُلد بعيداً عن البيت الوالدي. لأن لا مكان له في القاعة مع الناس، فوُلد في الغرفة المحاذية، ووُضع في مذود مع البهائم.
بساطة يشدّد عليها شهود ميلاد يسوع: إنهم الرعاة، تلك الفئة المحتقرة لا العالم اليهودي. وفي الليل الذي هو الوقت العادي لتقبّل وحي الله، كانوا أول من نال البشرى والخبر السعيد. إنه يسوع هذا الذي يبدو عادياً، الذي أجبر بسبب إرادة القوى والجشع عند الامبراطور، أن يقاسم "المهجرين" مصيرهم. هو في الحقيقة الرب الله. ويجد الوحي امتداده في علامة، وصداه في نشيد الملائكة الذين يعلنون المعنى الخفيّ للحدث: في ميلاد يسوع تلاقت السماء والارض. فالله الممجّد على الأرض بفم الملائكة، جاء يحمل السلام للبشر بواسطة هذا الطفل. أعطى الله ابنه فدّل البشرية على محبته لها.
كان حدث الميلاد مغموراً إلى درجة جعلت الناس لا يتذكرون الساعة ولا اليوم ولا السنة. لقد دخل يسوع إلى العالم صامتا. فدلّ لوقا أن الرب أراد منذ ولادته ان يكون مثل الفقراء، أن يتماثل بأفقر الفقراء. ونحن الذين جئنا بعد ميلاد يسوع ونعرف هويته الحقيقية، نحن نعيِّد الميلاد حين نرى في هذا الطفل الابن الذي أعطاه الله للبشر. يسوع تماثل مع الصغار، وعرفه الوضعاء بنعمة منه. هكذا يجب أن يكون الوضع اليوم. فالله يدعونا لأن نرى في وجه كل أبناء البشر ولاسيما المهجرين، الجائعين والمهمّشين، ابنه الوحيد، وان نحترمهم ونكرمهم كما نكرّم يسوع نفسه.
هناك ستار من الظلام تزداد عتمته في كثافة هذا الليل من ليالي الشتاء. هذا الستار قد تجاوزناه فاكتشفنا منزل المسيح الذي يغمره النور المنعكس ضياء في الخارج، في سواد الليل: إنه كمنارة تُمزّق الظلام فتقود خطانا. مفارقة غريبة: نحن في آن في قلب الليل وفي قلب النور. هذه هي معجزة الله الخالق: إنه يدعونا في هذه الليلة لنحتفل بولادة، لنحتفل بمجيء نور النهار، بمجيء النور والنهار.
وفي مناخ هذا النور المنتصر على الظلمة، نعيش بالفكر هذه الليالي العديدة التي فيها تدخّل الله لينير الانسان ويخلّصه ويجعله يقف على رجليه. هناك الليل العميق في الخلق الأول، ساعة كانت السماء خالية خاوية ولا نور فيها (تك 1: 2). حينئذ خلق الله الشمس والقمر والكواكب وقال: ليكن نور. وهناك ليلة الفراغ والرقاد. ساعة كوّن الرجل والمرأة ليريا النور والنهار، ليريا وجه الله.
وهناك ليلة الطلاق الاول بين الله والبشر: دمّرت البشرية العهدَ (والميثاق) وانفصلت عن خالقها. فوجدت نفسها خارج جنة عدن (سعادة لأن الله حاضر)، أمام الباب وفي الظلمة والليل. ولكن الله أرسل شعاع رجاء داخل تلك الليلة. وهكذا سيفعل في كل ليالي المحنة والموت. ليل هابيل الذي قتله أخوه (تك 4)، ليل يوسف حين رُمي في الجب (تك 37)، ليلة العبرانيين المستعبدين في مصر وليلة خروجهم (خر 11: 14؛ 12: 12؛ 29)، ليلة الشعب المنفي في بابل. وهناك ليال عديدة تغمر الشعوب والمدن، تغمر جماعاتنا وكل واحد منا.
إن الليل يمثل الاختناق والزوال التدريجي. شمعة انطفأت وما بقي منها شيء. كل شيء احترق وذاب، ومات النهار. ولكن في تلك الليلة، كانت الغلبة للنور. بعد هذا لن تطول الليالي وستقضم النهارات منها كل يوم إلى أن يحلّ فصل الصيف.
لقد تغلّب النور من جديد: لم تعد شعوب الارض تحت حكم الظلمة بعد أن تفجّر النور. ولن يستطيع الليل ان يدرك إله النور. والبرهان هو أنه في ملء الليل أطلع خليقة جديدة: ففي يسوع وُلدت خليقة جديدة. عملَ روحُ الله مع مريم العذراء لكي يولد ذاك الذي هو النور والنهار. لقد حوّل ميلاد يسوع الليل إلى نور، كما ان جسد يسوع الموضوع في القبر عند بداية الليل ولّد حياة جديدة للقائم من الموت وللذين اعتمدوا فيه.
أيها الرب الهنا، نحن هنا في قلب ليلنا. نطلب النور، نتقبّل النور. أمام طفل صغير، أمام طفل ضعيف وفقير، نتوقّف ونصلي إليك: في ليلة الميلاد التي نرى فيها مدهوشين علامة حنانك، وسِّع قلبنا وحياتنا، وسّع الحب الذي أظهرتَه للبشر من الآن والى الأبد