الفصل السابع والعشرون بكاء على الشعب، بكاء على أورشليم

الفصل السابع والعشرون
بكاء على الشعب، بكاء على أورشليم
23: 33-39

جاءت الويلات السبعة كسيوف قاطعة ضدّ مرائين يقولون ولا يفعلون، يبدون طاهرين في الظاهر ولكنهم نجسون في الداخل. ضدّ أشرار أغلقوا باب الملكوت وفتحوا باب جهنّم أمام الناس. ضد قتلة يتابعون خطّ آبائهم الذين قتلوا الأنبياء. بل هم يستعدون ليقتلوا من يرسلهم يسوع من أنبياء وحكماء وكتبة. بدا كلام يسوع قاسيًا في خط الأنبياء الذين هدّدوا الشعب والمدينة المقدسة بأقسى العقوبات لأنهم خانوا الرب وتعلّقوا بالأصنام وقتلوا الغريب والفقير واليتيم والأرملة. وها هو يذكر أول شهيد وكأني به يقول بفم الانجيلي وهو يرى ما يرى: لم تنته بعد لائحة الشهداء. لهذا جاء العقاب لأورشليمُ ودُمّر "البيت" أو الهيكل. وكل ذلك لأن الشعب رفض أن يسمع، رفض أن يسير في حماية المسيح كما فعل أجداده في البريّة يوم حملهم الرب كما يحمل النسر صغاره.
بعد النظرة العامة، نتوقّف عند التفاصيل فندرس البنية والمراجع وننهي في التفسير.

1- نظرة عامة
أ- أيها الحيات، نسل الأفاعي (آ 33-36)
نحن هنا في الواقع أمام مقطعين. آ 33-36. ثم آ 37-39. أما آ 33-36 فهي تستعيد الاتهام الذي قرأناه في آ 29-32 وتوضحه، كما تزيد عليه بشكل خاص فكرة رهيبة تقول: في العنف الذي مارسه اليهود ضدّ يسوع وتلاميذه، تتمّ دينونةُ الله ضدّ الفريسيين. هذا هو معنى "اوبوس" (لكي) في آ 35: "لكي ينزل عليكم كلّ دم زكي هُدر على الأرض".
أما الألفاظ التي تتحدّث عن الاتهام فنقرأها في 7:3 (يا نسل الأفاعي). فالحيّة هي نموذج الحيوان الذي يحمل السمّ فيحمل خطر الموت إلى الانسان. هذا ما يدلّ على القتل الذي مارسه الفريسيّون تجاه المسيحيين في الكنيسة الأولى ولا سيّما في مناطق سورية وفلسطين حين حافظوا على نفوذ كبير لدى "الحاكم".
جاء الاستفهام (مع كيف) في آ 33 بشكل بلاغي، وهو لا يحتاج إلى جواب: لاشكّ في أن الفريسيين لن يُفلتوا من الدينونة. دينونة جهنّم أي نار جهنم (رج 5: 22؛ 18: 9؛ 23: 15). وتأتي عبارة "من أجل ذلك" (ديا توتو) فتربط الجملة بما في آ 33 أو آ 32. ولكننا نفضّل الربط مع آ 33: تتم الدينونة التي أعلنت في أرسال تلاميذ المسيح الذين رذلهم اليهود. غير أننا إذا ربطنا "من أجل ذلك" بـ آ 32 نفهم الآية كما يلي: بإرسال تلاميذ أعطيت لكم امكانيّة ملء مكيال آبائكم. كنتم قد بدأتم مع الأنبياء. وها أنتم تكمِّلون مع الرسل. كانت طلائع الدينونة آتية وها هي قد وصلت بكم إلى ملء العقاب، دينونة جهنّم.
وذكر النصّ "الأنبياء والحكماء والكتبة". قد نكون هنا أمام خدم ذُكرت في الكنيسة الأولى. ونكون أيضًا في خطّ العالم اليهوديّ والكتاب المقدس: كما رذلتم (أيها الفريسيون) مرسلي الله في الماضي، ترذلون اليوم مرسليه، مرسلي يسوع. وتُذكر الأعمال التي قام بها اليهود ضد المسيحيين: القتل، الصلب، الجلد، الطرد، الملاحقة. قال لو 11: 49: "سأرسل إليهم أنبياء ورسلاً، فمنهم من يقتلون ومنهم من يضطهدون". ما أراد لوقا أن يتوسّع كما فعل متّى. أو هو لم يعرف الخبرة التي اختبرها متّى في كنيسة التصقت التصاقًا حميمًا بالعالم اليهوديّ.
نشير هنا إلى أن الصلب كان عذابًا رومانيًا، ولكن اليهود أخذوا به. أما الجلد في المجامع فأمرٌ انتشر انتشارًا واسعًا. قال بولس في 2 كور 11: 24: "جلدني اليهود خمس مرّات". وحين أورد متّى توصيات يسوع، انطلق من الواقع فقال: "سيسلمونكم إلى المحافل وفي مجامعهم يجلدونكم" (10: 17؛ رج مر 13: 9). وهذا ما حدث للرسل (أع 5: 40)، وكان الرؤساء قد أرادوا قتلهم (أع 33:5). يُذكر الجلد في تث 25: 2-3: "إن كان المذنب يستحقّ الجلد، يطرحه القاضي ويأمر بجلده أمامه على قدر ذنبه عددًا من الجلدات لا يزيد على أربعين". وقد حدّدت المشناة طريقة الجلد: 13 على الصدر. 13 على كل كتف. وهكذا يتوقّف الجلد عند الرقم 39 ولا يتجاوزه. نشير إلى أن السوط الروماني الذي حلّ محلّ العصا اليهوديّة، حمل أجزاء عظام وحديد ورصاص.
"وتطاردون من مدينة إلى مدينة". هذا ما حدث في الواقع لبولس. وصل إلى أنطاكية بسيدية، فأثار اليهود عليه اضطهادًا (أع 13: 50). جاء إلى أيقونية، فجاءه التهديد بالشتم والرجم من اليهود هناك (أع 14: 5). وصل إلى لسترة، "فأقبل يهود من أنطاكية وإيقونية واستمالوا الشعب فرجموا بولس" (أع 14: 19). وهذا ما حدث لمرسلي يسوع كلهم في عالم الانجيليّ متّى. وربط الانجيل قتل الرسل بأول قتل بريء تذكره التوراة (تك 4). لهذا، سيكون العقاب قاسيًا بالنسبة إلى "هذا الجيل"، يعني إلى مجمل الشعب اليهوديّ الذي اتّهم في رؤسائه في زمن يسوع نفسه وفي زمن تدوين الأناجيل.
ب- يا أورشليم، يا أورشليم (آ 37- 39)
في آ 37-39، نسمع رثاء يسوع لأورشليم في موازاة ما نقرأ في لو 34:13-35: "يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين...". كان تأليف مت متماسكًا منذ ف 21. أما هنا فتبدو هذه الآيات الثلاث (آ 37-39) وكأنها ليست في محلّها. فلهجتها تختلف عمّا سبقها (من كلام قاس: أيها الحيات أولاد الأفاعي) وعمّا سيأتي بعدها (24: 1-3: يسوع أمام الهيكل). فبدل الكلمات الهجوميّة القاسية والنبوءات التي تدلّ على الكارثة الآتية (بالنسبة إلى يسوع) وعلى كارثة أتت (بالنسبة إلى الانجيل)، تعبّر آ 37-39 عن حزن يسوع العميق، وتعلن عودته القريبة كمسيح يعترف به شعبه ويهتف له: "مبارك الآتي باسم الرب" (آ 39 ب).
قدّم لوقا نصًا موازيًا كل الموازاة لنصّ متّى (لو 13: 34-35)، ولكنه لم يجعله في ف 11 بعد الكلام على الكتبة والفريسيين (رج مت 23). بل في 13 حيث الموضوع يختلف كل الاختلاف عمّا في مت 23. إن لو 13: 34-35 يلي خبر عداوة هيرودس ليسوع. هذه القطعة (تث 23: 37-39) تُدخل أقلّه موضوعين لا يردان في موضع آخر من مت: "جمع" اسرائيل على يد يسوع (آ 37)، و"البيت" الذي يبقى خرابًا (آ 38). إذن، نحن أمام إعلان مستقل تفوّه به يسوع في أكثر من مناسبة. نحن أمام ثلاث قولات ليسوع وقد "ركَّبها" التقليد قبل أن تصل إلى مت ولو. ودليلنا إلى ذلك هو أن آ 37 أ (يا أورشليم، يا أورشليم) لا تتناسق بسهولة مع آ 37 ب-39.
ويبدأ النصّ بأسماء الفاعل: قاتلة، راجمة. هذا ما يعبّر (لا عن عمل مضى) عن عمل مستمرّ وآني. فعنف أورشليم ضدّ مرسلي الله لا يعود إلى البارحة، بل إلى زمن بعيد. لا إلى زكريا الكاهن فقط، بل إلى بداية البشريّة إلى هابيل. وليس هذا العنف ابن الصدفة والاتفاق. فهو وليد إرادة معاندة لا يقف بوجهها شيء حتى لو قيل لها أنها "تقاوم الله" (أع 39:4). إن فكرة مقاومة اسرائيل لله، بما في هذه المقاومة من "قتل" وعناد واستمرار، تسيطر على مت 23 كلّه.
كان اليهود في زمن يسوع يقبلون بأن يذكَّروا بخيانة آبائهم، ولكن لا ليُتّهموا بذات الجرائم. هناك قتل. بل هناك رجم. كانت الشريعة تفرض الرجم على عبّاد الأوثان (تث 17: 5-7)، على السحرة (لا 20: 27)، على الأبناء المتمرّدين (تث 21: 18- 21)، على الذين يتجاوزون السبت (عد 15: 32- 36). وكان العذاب يتمّ خارج المدينة (لا 24: 14؛ عد 36:15؛ 1 مل 21: 10). وكان الشهود يرمون الحجر الأول (تث 17: 7؛ يو 8: 7). ولكن من رجم مرسلي الله، دلّ على أنه يرفض عمل الله، يرفض الله. وهؤلاء المرسلون (أو الرسل) قد بعث بهم الرب من أجل شعبه (21: 35). فمن رجمهم رفض الذين أرسلهم. يقول النص "الأنبياء والمرسلين"، فكأني به يجمع العهد القديم مع العهد الجديد في خطيئة أورشليم وبنيها.
كم مرّة (بوساكيس، رج 18: 21)؟ هذا يعني أن يسوع جاء أكثر من مرّة إلى أورشليم، كما يقول يو. نشير إلى أن الازائيين تحدّثوا مرّة واحدة عن صعود يسوع إلى أورشليم. نحن أمام بناء أدبي، لا بناء تاريخيّ. "كم مرّة أردت أن أجمع بنيك"! أي شعب اسرائيل. هنا يسوع يختلف كل الاختلاف عن الكتبة والفريسيين الذين أرادوا أن يجمعوا حول شخصهم، لا في حظيرة الله. ولكن الشعب ما أراد. أراد يسوع، وإرادته تدلّ على مخطّط الله. ولكن الشعب دلّ على إرادة سيّئة، على رفض عنيد. هذا هو الصراع بين ما أراده يسوع وما لم يُرده الشعب اليهوديّ. إذن، لسنا أمام حكم على شعب من الشعوب، بل على إرادة سيّئة لدى شعب رفض الخلاص الذي يقدّم له، وسوف يقول في المحاكمة: دمه علينا وعلى أولادنا.
ونجد هنا موضوع "الجمع" (رج 24: 31؛ مر 1: 33؛ لو 12: 1؛ 37:17) الذي يعود إلى السبعينيّة فيصوّر تجمّع الأمم، أو تجمّع الشعب اليهوديّ، في نهاية الأزمنة. نقرأ في مز 47:106: "خلّصنا يا رب إلهنا، واجمعنا من بين الأمم لنحمد اسمك القدوس، ونبتهج ونهلّل لك". لسنا هنا أمام حشد من الناس لا يجمع بينهم سوى تقارب الأجساد، بل أمام جمع من أجل هدف معيّن. ونجد أيضًا صورة جناحَيْ الله، الذي تصوّر قدرته وحمايته تجاه خطر قاتل. هنا نقرأ خر 19: 4 كيف عامل الرب شعبه: "حملتكم على أجنحة النسور". وفي نشيد موسى يشبّه الله بـ "النسر الذي يغار على عشّه. على فراخه يرفّ فيفرش جناحيه ليأخذهم ويحملهم على ريشه" (تث 32: 10). وينشد المرتّل في مز 8:36: "ما أكرم رحمتك يا الله! في ظلّ جناحيك يحتمي البشر" (رج 8:17؛ 9: 4). في هذا السياق، نفهم أن يسوع يريد أن يعمل اليوم لشعبه ما عمله الربّ في الماضي. يريد أن يحميه من خطر يحدق به، أن يحميه من الدينونة الأخيرة التي يرمز إليها سقوط أورشليم (24: 1-3). حاول يسوع، عمل كما تعمل الدجاجة بحنان. والآن انتهى وقت الحنان، وحلّت محلّه قدرةُ المخلّص في نهاية الأزمنة.
"هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا" (آ 38) (إريموس). البيت يعني الشعب في مجمله. ويعني العائلة الملكيّة. ويعني هيكل أورشليم. نحن في هذه الحالات الثلاث أمام نبوءة تدلّ على الوضع الذي صار فيه الشعب: تُرك لأمره. ترك يدَ الله، فتركته يد الله. وهكذا تُدمّر عظمةُ شعب اسرائيل كما قال الأنبياء مرارًا. مثلاً نقرأ كلام الرب للملك سليمان: "إذا حدتَ عني أنت وبنوك... فإني أبيد بني اسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتها لهم، وأهجر الهيكل الذي كرّسته لاسمي" (1 مل 9: 6-7). ونقرأ كلام الرب بلسان إرميا (22: 5): "إن كنتم لا تسمعون لهذا الكلام، سأجعل هذا البيت خرابًا" (رج 12: 7). قالت بداية الآية: "ها هوذا". هذا ما يدلّ على أن ساعة العقاب قد حلّت، وما عاد المسيح ينتظر شيئًا من أجل خلاص شعبه. وإذا تذكّرنا أن متّى كتب انجيله بعد دمار أورشليم وهيكلها، نفهم هذا الحاضر وكأنه ما زال يهدّد الشعب اليهوديّ إن هو رفض تعليم يسوع كما تقدّمه الكنيسة.
"أقول لكم: إنكم لن تروني من الآن حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب" (آ 39). المسيح ذاهب إلى الموت بعد أن رذله شعبه. ولكنه سيعود في يوم من الأيام فيهتف له هذا الشعب: "مبارك الآتي باسم الرب". كما هتف له التلاميذ في يوم الشعانين (21: 9؛ رج مز 118: 26). أجل، ذاك الذي يأتي لكي يدشّن الملكوت، سيجد الشعب اليهوديّ يستعدّ لاستقباله. وإذا اعتبرنا الخبر يمثّل الكل، نستطيع القول بأن الذين آمنوا بيسوع في نهاية حياته العلنيّة هم باكورة الذين سيؤمنون به في مجيئه الثاني.

2- الدراسة التفصيليّة
أ- البنية
تتوجّه آ 33-36 إمّا إلى الكتبة والفريسيين، وإمّا إلى أورشليم التي ستُذكر فيما بعد. نحن هنا مع أقوال تختتم مت 23. فبعد النداء في آ 33، تستعيد آ 34 تاريخًا مأساويًا من رفض مرسلي الله. وتتحدّث آ 35 عن العقاب المنتظر. ومع آ 36 و"الحقّ أقول لكم"، توضع آ 35 في إطار إسكاتولوجي: كل هذا. هذا الجيل (رج 24: 33-34).
أما آ 37-39 فتبدأ بالمنادى (في المقطع الأول هو الشعب برؤسائه، وفي المقطع الثاني هو الشعب بمدينته). توجّه يسوع إلى أورشليم، وكما في آ 34، أعلن مصير الأنبياء الحزين، كذلك أعلن مصيره أيضًا. وبعد هذا، جاءت آ 38، شأنها شأن آ 35، فأصدرت الحكم: سيكون بيتكم خرابًا. وتختتم آ 39 ف 23 بإعلان حول عودة المسيح فتهتف له كما هتف الشعب يوم الشعانين: "مبارك الآتي باسم الرب".

وتتوزعّ هذه المقطوعة حسب اللوحة التالية:
الجريمة العقاب في نهاية العالم
آ 34: أرسل أنبياء آ 35 آ 36: أقول لكم
آ 37: قاتلة الأنبياء آ 38 آ 39: أقول لكم
ب- المراجع
نجد في آ 34-36 ذات التقليد الذي نجده في لو 11: 49- 51. أما آ 37- 39، فهي مشابهة لما في لو 13: 34-35. وهكذا ننسب هاتين الوحدتين إلى المعين. ثم هناك بعض الأسباب التي تجعلنا نتحدّث عن نظرية الينبوعين. قيل: بدّل لوقا قولاً تفوّه به يسوع ووجّهه بشكل مباشر إلى معاصريه (لهذا أرسل إليهم أنبياء...) في خطاب بفم الحكمة الموجودة من البدء (لهذا قالت حكمة الله: ها أنا أرسل إليهم أنبياء...). هذا ليس بمعقول أن يكون من لوقا الذي لا يهتمّ بصورة الحكمة. هناك تفاصيل في مت لا نجدها في لو، وهي تفاصيل تبدو ثانوية، وتذكّرنا بمصير يسوع وتلاميذه (منهم من تصلبون مثل يسوع... من تجلدون في مجامعكم مثل التلاميذ). حين نأخذ بعين الاعتبار اتجاه لوقا المعروف في أع، بأن يماثل بين آلام التلاميذ وآلام يسوع، لا يُعقل أن يُغفل مثل هذه التفاصيل.
أما في ما يتعلّق بارتباط آ 37-39 بالمعين، فليس من اتفاق بعد. هل وضع لوقا القطعة بعد ملاحظة يسوع التي تقول لايهلك نبيّ خارج أورشليم (13: 33)؟ أو هل رتّب متّى الأمور بحيث يكون الرثاء في ذروة ف 23 فيهيِّئ الطريق لما في ف 24؟ اعتاد لو أن يكون قريبًا من المعين. أما في هذه الحالة الخاصة، فيبدو أن لو حرّك الوحدة (يا أورشليم، يا أورشليم) من مكانها ليجعل النصوص حول أورشليم بعضها مع بعض: بعد 22:13-30 (هي مقدّمة تدوينيّة تذكر أورشليم)، يأتي 13: 31-33 (يستحيل أن يموت نبيّ خارج أورشليم)، ثم 13: 34-35 (يا أورشليم، يا مدينة تقتل الأنبياء). ثم إن صورة "الدجاجة" (مؤنث) ولفظة "بوساكيس" (كم مرة)، تعنيان أن آ 36-39 (في مت) كانت، في المعين، امتدادًا لكلمات الحكمة (لو 11: 49- 51) (يسوع هو "أم"، هو دجاجة. والحكمة هي مؤنّث وهي ترمز إلى المسيح). ولو 13: 34- 35 ينتمي بالأحرى إلى مجموعة أقوال هجوميّة في المعين (= لو 11: 14- 26+29-52). لا إلى مواد تحريضيّة في المعين (= لو 33:13 ي). حتى لو لم نقتنع بأن مت حرّك موضع 23: 37-39 إلى موقعه الحاضر، تبقى هذه الآيات ذروة في الخطبة الهجوميّة (مت 23) وانتقالة ناجحة إلى مت 24. هذا الرثاء على أورشليم قد قيل في العاصمة نفسها: فكأن يسوع وقف أمامها وجهًا لوجه وكلّمها مع ما في كلامه من قساوة تحرّك العاطفة.
ج- التأويل
هناك سمات تميّز آ 33-39 فتتضمّن ما يلي: يسوع (في لوقا: الحكمة) هو من يتكلّم، لاشكّ في ذلك. يستعمل الخطاب المباشر (استعمل لوقا صيغة الغائب في 49:11- 51). صيغة الحاضر هي المسيطرة. ويُذكر الصلب والاضطهاد من مدينة إلى مدينة. وهكذا يقدّم الانجيل تركيزًا كرستولوجيًا (يسوع المسيح)، واتجاهًا اكليزيولوجيا (الكنيسة) وهدفًا هجوميًا (على رؤساء اليهود ومدينتهم).
تتضمّن آ 34-35 تأليفًا موحَّدًا يُنسب في لو إلى حكمة الله (كما في المعين). اعتبر عدد من الشّراح هاتين الآيتين وكأنهما إيراد كتابيّ من وثيقة يهوديّة ضاعت. فحتى إن كان الأمر هكذا، فلا يُستبعد أن تعودا إلى يسوع نفسه: قد يكون أورد كلامًا قيل قبله أو استعمل قولاً من أقوال الحكمة المشخَّصة (وهكذا يكون قد تماهى مع الحكمة). ولكن يبدو أن أصل هاتين الآيتين يعود إلى ما بعد الفصح. وهكذا تُنسبان إلى نبيّ مسيحيّ. لاشكّ في أن موضوع (نجده في التاريخ الاشتراعي) رذل اسرائيل للأنبياء، ومفهوم الحكمة التي ترسل رسل الله، لعبا دورًا في الرسالة المسيحيّة الأولى. غير أننا نتساءل: أما نقلّل من تقدير وعي يسوع للمعارضة؟ أما كان يعرف يسوع ما ينتظره من خطر سيقوده إلى الموت؟ وعبارة "من هابيل إلى زكريا" تستطيع أن تكون قيلت قبل الفصح. وإذا كنا أمام تأليف بعد فصحيّ، كيف يمكن أن لا يذكر الإنجيليّ يسوع أو شهيدًا معروفًا في المسيحيّة الأولى مثل اسطفانس؟ لهذا، ننسب آ 34- 35 إلى يسوع الذي عرف نفسه كالنبيّ للجيل الأخير.
هناك من يقابل بين آ 34-35 و1 تس 2: 15-16 الذي يقول: "الذين قتلوا الربّ يسوع والأنبياء، واضطهدونا نحن أيضًا. الذين لا يُرضون الله البتّة، وقد صاروا أعداء لجميع الناس...". نجد في النصين قتل الأنبياء مع اضطهاد المؤمنين، وملء مكيال الخطايا الذي يجلب الدينونة الأخيرة. هذا التوازي بين نصّ المعين (مت 34:23-35= لو 11: 49- 51) ونص 1 تس 2: 15-16 قد جُعل فيما بعد في نص الرسالة البولسيّة التي دوّنت سنة 51 ب م. أو: عاد بولس والمعين إلى تقليد واحد لا يعود في الأصل إلى يسوع. أو: عاد بولس إلى تقليد يرتبط بيسوع. نستطيع أن نأخذ بالخيارين الثاني والثالث، لا بالخيار الأول.
وفي ما يتعلّق ب آ 37-39 وز، فقد انفصلت في الأصل عن آ 34-36. ويمكن أن تُدرس على حدة. نلاحظ الاختلاف في الوجهة (في آ 37-39 وز أرسل الأنبياء. في لو 11: 49- 51 سوف يرسلون) وفي اللهجة (في آ 37-39 هو الحزن. في لو 11: 49 ي، الاتهام فقط). تعود هذه الآيات إلى الربّ يسوع ووعيه لعمله النبويّ حول دمار الهيكل. ولكن هناك من يتحدّث عن مرجع يعود إلى العالم اليهوديّ أو الجماعة المسيحيّة. تكلّم يسوع كشخص فوق التاريخ (كم مرة أردت أن أجمع بنيك)، فتضمّن كلامُه إشارة إلى وضعه المسيحاني.
د- تفسير الآيات (33:23-39)
أولاً: أيها الحيات نسل الأفاعي (آ 33)
إن الخطيئة التي يقترفها الكتبة والفريسيون في أعمالهم هي من الخطورة بحيث إن الدينونة الاسكاتولوجيّة ستقع عليهم. هم لا يستطيعون أن يُفلتوا. وكما يقول عد 33:35-34: "الدم يدنّس الأرض ولا يكفّر عنها الدمُ الذي سُفك عليها إلاّ بدم سافكيه. فلا تدنّسوا الأرض التي أنتم ساكنون فيها".
"أيها الحيّات...". هذا قول تدوينيّ يرتكز على قول يوحنا المعمدان للفريسيين والصادوقيّين في 7:3 (من علّمكم الهرب من الغضب الآتي. أثمروا)؛ ق 12: 34 (يتحدّث أيضًا عن الفريسيين). يتكلّم يسوع، شأنه شأن يوحنا، وتعليمه هو تعليم السابق: لا يستطيع الفريسيون أن يفلتوا من الغضب الآتي (رج رؤ 6: 15-16). ينتج عن هذا أن طبع الفريسيين لم يتغيّر، وأن رسالتي يسوع ويوحنا لم تنفعا، وأن سمّ الحيّة ما زال هنا.
الحيّة هي عنصر شرّ تجاه السمكة التي يطلبها الابن من أبيه (7: 10). وهي عنصر خير لأنها تعلّم الرسل "الحكمة" التي ترافق "الوداعة" (10: 16). وهناك عنصر التوبيخ كما نقرأ في تك 49: 17: "يكون دان ثعبانًا على الطريق، أفعوانًا على السبيل، يلسع الفرس في عقبها فيقع راكبها إلى الوراء" (رج مز سليمان 4: 11). دينونة جهنّم هي عبارة رابينيّة وتعني الدينونة التي يكون حكمها جهنّم كموضع الغضب. إن "جهنم" (بدل "الغضب الآتي" كما في 3: 7) تربطنا مع آ 15: سيشارك الكتبة والفريسيون الدخلاء في مصيرهم: فأبناء الذين قتلوا الأنبياء يصيرون أبناء جهنّم.
ثانيًا: "أنا أرسل إليكم" (آ 34-36)
نتذكّر آ 30 (لو عشنا في أيام آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء) التي لا تتعارض مع آ 34. إن تاريخ الخلاص صار تاريخ الهلاك. "من أجل ذلك، ها أنا أرسل إليكم أنبياء". ق 10: 16؛ إر 7: 25 (حسب السبعينيّة: أرسل إليكم عبيدي الأنبياء)؛ 8: 17 (سأرسل عليكم)؛ ترجوم أش 50: 2: "حين أرسلت أنبياء، فلماذا لم تتوبوا"؟ أما "لأجل ذلك"، رج أش 5: 24 الذي ينهي سلسلة من الويلات. بعد الكلمتين الأوليين اللتين تنبّهان أولئك الذين هم مثل آبائهم بحيث يضطهدون المرسلين إليهم، يقول لو 11: 49: "قالت الحكمة: أرسل إليهم أنبياء ورسلاً" (هي عبارة خاصة بلوقا). زاد متّى "الكتبة". أما لوقا فاكتفى بمرسلي العهد القديم (الأنبياء) والعهد الجديد (الرسل). تعود "من أجل ذلك" في مت إلى ملء مكيال الآباء (آ 32). أما في لو فتدلّ على القبول بما فعله الآباء.
لا نفسّر "أنبياء وحكماء وكتبة" كسلسلة كرونولوجيّة تنقلنا من العهد القديم إلى العهد الجديد. ولا نظن أن المواهب محصورة في تلاميذ المسيح وفي المسيحيين. فالمجموعات الثلاث التي لا نستطيع أن نميّز بعضها من بعض، تدلّ بالأحرى على مجمل من أرسلهم الله ويسوع: الأنبياء والحكماء والكتبة.
فيسوع أرسل الأنبياء إلى الذين يكرّمون الأنبياء الذين ماتوا (آ 29)، والحكماء إلى الذين هم حكماء بالاسم (25:11)، والكتبة إلى الذين أخطأوا في واجبهم ككتبة (آ 3).
"فمنهم من تقتلون وتصلبون". رج ملكتا خر 17:15 (هـ ر ج. ص ل ب). فالذين أرسلهم يسوع وحضّهم ليكونوا حكماء كالحيات (16:10)، سقطوا في يد الحيّات واستُشهدوا. كان يسوع الرسول. وموته هو النموذج. صُلب. وقد يُصلب تلاميذه. وهناك الجلد أيضًا. وقد جُلد يسوع. لقد تكلّم يسوع. ومهما كان من تفاصيل في كلامه، فهذا ما عاشته كنيسة متّى.
وبعد الاتهام التهديد، كما في عا 3: 11؛ 4: 11؛ 5: 11. فالذين اضطهدوا يسوع وتلاميذه، وهكذا عارضوا الله، شاركوا في خطايا آباءهم وبالتالي هيّأوا عقابقم. "لكي ينزل عليكم كل دم..." (آ 35). رج مز 1: 32؛ أم 6: 17 (حسب السبعينيّة، يدان تسفكان الدم البريء)؛ مرا 4: 13؛ يون 1: 14؛ يو 19:3؛ رؤ 18: 24؛ تلمود بابل سنهدرين 6: 5 (سفك دم الصديقين). نقرأ في لو 11: 50: "دم جميع الأنبياء الذي سُفك منذ أساس العالم سيُطلب من هذا الجيل". كان لوقا قريبًا من المعين. ودّن متّى نصّه، فجعله في صيغة المخاطب الجمع.
يظهر "الدم" ثلاث مرات، ويدلّ على أن الله ينتقم للدم البريء (تك 4: 10- 11؛ رؤ 6: 10؛ 1 أخنوخ 47: 1- 14؛ وصية موسى 9: 7؛ تلمود بابل سنهدرين 6: 5). نتذكّر هنا بيلاطس الذي يغسل يديه من الدم البريء (27: 24-26)، والجمع يهتف: "دمه علينا وعلى أولادنا". "على الأرض" قد تعني أرض "اسرائيل"، وتعني أيضًا "الأرض كلها".
لماذا يحلّ العقاب بمجموعة واحدة من أجل مقتل كل دم زكي؟ هل قتل الفريسيون زكريا؟ هل قتلوا هابيل؟ ولكنهم جاؤوا يملأون المكيال (آ 32). نقرأ عن هابيل في عب 4:11؛ 1 يو 12:3؛ يوسيفوس، العاديات 1: 53؛ الترجوم الاجزائي في تك 4: 10. زكريا بن بركيا هو النبيّ (زك 1: 1). في الواقع، هو زكريا بن يوياداع (2 أخ 24: 20- 22) الكاهن.
"الحقّ أقول لكم" (آ 36). يتوسّع الحكم أبعد من الكتبة والفريسيين فيصل إلى "هذا الجيل" الذي يتبع قوّاده الفاسدين فيصبح مثلهم فاسدًا. منذ الآن يستعدّ الشعب لمضايق الخطبة الاسكاتولوجيّة
ثالثًا: "يا أورشليم، يا أورشليم" (آ 37- 39)
وينتهي ف 23 برثاء يوجّه مباشرة إلى أورشليم. فالمدينة تشارك في خطايا الكتبة والفريسيين. هي أيضًا قتلت مرسلي الله. ولكن محبّة يسوع لها ما زالت حاضرة: فرغم تاريخ من الدم المراق، ما زال الربّ يحبّ أورشليم.
"يا أورشليم..." (آ 37). رج 21: 35، نح 9: 26؛ إر 2: 30. هي تقتل الأنبياء (آ 31). ترجمهم (35:21). رج يو 59:8 بالنسبة إلى يسوع؛ أع 7: 59 بالنسبة إلى اسطفانس، عب 11: 37 بالنسبة إلى أبطالا العهد القديم؛ 4 با 9 بالنسبة إلى ارميا؛ يوسيفوس، العاديات 4: 22 (موسى). تلمود بابل سنهدرين 43 أ (يسوع). خر ربه 6: 13 (موسى).
"هوذا بيتكم يُترك خرابًا" (آ 38). وينهي مت بالاشارة إلى حدثين يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالفصل التالي: دمار أورشليم (آ 38)، مجيء ابن الانسان (آ 39). الأول يتكلّم عن الدينونة، والثاني عن الرجاء. وهذا ما سوف نراه.

خاتمة
هذا المقطع يتحدّث عن رذل اسرائيل بشكل نهائيّ، ولكن لا اسرائيل ككل، بل رؤساؤه ومدينته. فالعلاقات ما زالت خاصة بين الله وشعبه. ثم إن آ 39 ليست حكمًا على الشعب بل وعدًا بالفداء: سيجيء المسيح حين يتوب شعبه (رج أع 19-20).
حين نقرأ آ 37-39، نجد ثلاث محطّات بالنسبة إلى أورشليم: رُذلت ساعة أرسل إليها الأنبياء فقتلتهم (في الماضي، آ 37). هُجرت ساعة تركها ابن الانسان (في الحاضر، آ 38 كما تركت "الشكينة" أو الحضور الالهي الهيكل). زمن التوبة والمصالحة وفيه سوف تستقبل المسيح (المستقبل، آ 39). وهكذا لم يتركنا الانجيليّ في جوّ الدينونة والهلاك. بل أعطانا صورة عن حنان يسوع كالدجاجة مع فراخها. صورة عن ذاك الذي يأتي في النهاية لكي يتقبّل توبة شعبه وينال منه الاستقبال الملوكي: "مبارك الآتي باسم الربّ".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM