الفصل الحادي والعشرون :ما لقيصر لقيصر وما لله لله

الفصل الحادي والعشرون
ما لقيصر لقيصر وما لله لله
22: 15- 23

هذه الصفحة الانجيليّة معروفة. وقبل أن نستعيد قراءتها تتفجّر الأسئلة طوعًا في فكرنا: حين أجاب يسوع خصومه بهذا الشكل، هل حدّد منطقتين مميّزتين تمييزًا دقيقًا، منطقة قيصر ومنطقة الله؟ أما نخاطر نحن الذين نعيش في عالم تقنيّ وصناعيّ أن نُدخل، دون أن ندري، عناصر غريبة عن النصّ؟ هل جواب يسوع هو فقط الحلّ العمليّ لحادث ضمير، أم هو يذهب أبعد بذلك بكثير؟ هل نجد وزن كلمة يسوع بشكل رئيسيّ في عبارة "أعطوا ما لقيصر لقيصر"، أم في القسم الثاني من الجواب: "ما لله لله"؟ حين قال يسوع: "أعطوا ما لله لله" هل أعلن فقط مبدأ عافا وجوهريًا مطلقًا في حب ة المؤمن، أم وجّه أيضًا في الوضع الملموس الذي تكلّم فيه، نداء محدّدًا إلى سامعيه من قبل الله؟ أخيرًا، إن كان من الواضح أن كلمة المسيح لا يمكن إلاّ أن يكون لها صدى في الطريقة التي بها تعلن الكنيسةُ الانجيل، أما نماهي مرارًا بين الله وكنيسته (الله لشد الكنيسة. وملكوت الله أوسع من الكنيسة) في تفسير كلمة يسوع؟
هذه الأسئلة وغيرها هي دعوة لكي نقرأ هذا النصّ الانجيليّ بعيون جديدة. نبدأ فنحدّد موقع النصّ، ثم نحدّد معنى السؤال الذي طرحه الخصوم على يسوع. وبُعد جواب المسيح. بعد ذلك نستخلص بعض النتائج حول تقبّل كلمة الله في حياتنا اليوم.

1- موقع هذا النصّ في الانجيل
ندرس موقع هذا النصّ في لحمة الأناجيل، في مسيرة رسالة يسوع على الأرض. في السياق السياسيّ والدينيّ في عصره. في علاقته باهتمامات سامعي يسوع والجماعات المسيحيّة الأولى.
أ- النصّ في لحمة الأناجيل الازائيّة
إن السؤال حول الجزية المعطاة لقيصر يأتي بعد دخول يسوع المسيحاني إلى أورشليم ببضعة أيام. يأتي بعد مثل الكرّامين القتلة الذي يهاجم خصوم يسوع الذين فهموا أنه يعرّض بهم (21: 45)، وبعد مثل مسيحانيّ آخر هو مثل وليمة العرس. وهكذا يكون حدث الجزية لقيصر داخل هجوم مثلّث قام به خصوم المسيح. سؤال حول الجزية لقيصر. سؤال حول قيامة الأموات انتهى بجواب جعل الجموع تدهش من تعليمه (33:22). سؤال حول الوصيّة العظمى. كل هذا يليه حواب معاكس من يسوع: كيف يمكن أن يكون المسيح ابن داود، ويكون في الوقت عينه ربّ داود؟ "من ذلك اليوم، لم يجسر أحد البتّة أن يلقي عليه سؤالاً" (22: 45).
ب- النصّ في سيرة حياة يسوع
إن موقع هذا الحدث في اللحمة الانجيليّة، بدا وكأنه يوافق جوهريًا وضعه الحقيقيّ في رسالة يسوع على الأرض. فموقع الحدث محدّد: في اليهوديّة حيث اعتاد الناس أن يدفعوا الجزية صاغرين. لا في الجليل حيث يختلف الأمر كثيرًا وقد عُرفت المنطقة بثورات متلاحقة حصلت فيها. وهكذا نفهم أن الفخّ الذي نصبه الخصوم ليسوع يقع في إطار من العداوة في نهاية رسالة يسوع. والجدالات المتعلّقة بمسيحانيّته، ومنها الجزية لقيصر، تقع في نهاية حياة يسوع العلنيّة، وبعد دخوله المسيحانيّ إلى أورشليم، واقتراب أيام الحاش والآلام. كل هذا يجعل النصّ الذي ندرس يدخل بشكل واقعيّ في إطار حياة يسوع. بعد أن قام عليه الرؤساء الروحيون، يبقى أن تقوم عليه السلطة الزمنيّة، سلطة رومة. فإن قال بدفع الجزية لرومة، نجا من الحكم الزمني ولكن الشعب سيبتعد عنه وهذا ما يريده الفريسيون. وإن قال بعدم دفع الجزية، يسلّم عند ذاك إلى الحاكم الروماني على أنه ثائر على الحكم.
إن موضع النصّ في سياق حياة يسوع، لا يرتدي فقط أهميّة كرونولوجيّة (على مستوى التسلسل الزمني)، بل أهميّة لاهوتيّة بدرجة أولى. فحين رأى يسوع خصومه يطرحون عليه سؤال الجزية لقيصر، فهمَ هدفهم بعد تدريب طويل يتوخّى أن يظهر طبيعة مسيحانيّته، وهو تدريب فيه ما سمِّي السر المسيحاني (أمرهم أن لا يخبروا أحدًا)، وفيه أعمال تدلّ على مسيحانيّته (شفاء العميان، تطهير البرص، إقامة الموتى)، وفيه تعليم توجّه أولاً إلى التلاميذ، وبعد ذلك إلى الكنيسة في أيام متّى.
فتجاه عقليّة جارية لا يجب أن نحتقرها، لأنها تدمج في منظار دينيّ خاص، الأمل بتحرير وطنيّ ومجيء المسيح، تجاه هذه العقليّة رفض يسوع أن ينخرط في طرق مسيحانيّة سياسيّة ودينيّة انتظرها عدد كبير من معاصريه: هذا هو معنى الخبرة الروحيّة التي تترجمها تجارب يسوع (4: 8- 10). هذا هو معنى رفضه بأن يقبل التراجع أمام الجموع التي رأت فيه النبيّ الآتي إلى العالم، فأرادت أن تضع يدها عليه لكي تجعله ملكًا. هذا الرفض هو الذي حرّك الأزمة الجليليّة (يو 6: 14-15). وأخيرًا، هذا هو معنى توبيخ يسوع لبطرس الذي "ثار" حين سمع اعلانًا حول المسيح المتألّم.
لقد رفض يسوع دومًا أن يتبع خط المسيحانيّة السياسيّة والدينيّة. فهذا الخطّ ليس الخطّ الذي رسمه لنفسه كالمسيح المنتظر. بل هو يحجب الوجهة الأساسيّة لرسالته التي لا تقف عند العالم اليهوديّ وانتظاراته الآتية، بل تصل إلى أقاصي الأرض. في منطق هذه التربية التي هيّأها يسوع لتلاميذه وللجمع، حمل الجوابُ على السؤال حول الجزية لقيصر، بعدًا شاملاً أيضًا يجب أن نتنبَّه له. أجل، لسنا أمام قضيّة خاصّة وقعت في نهاية حياة يسوع وأعطي لها جواب في ذلك الوقت. بل أمام تعليم يتوجّه إلى الكنيسة كلها، وبالتالي إلى كنيستنا.
ج- النصّ في السياق السياسي والديني في عصر يسوع
نتوقّف هنا عند وجهتين رئيسيتين. الأولى هي الوحدة الوثيقة بين السياسة والدين في العالم اليهوديّ كما في العالم الوثنيّ القديم. مع اختلافة بسيطة وهي أن السياسة تخضع للدين في العالم اليهوديّ وفي إطار العهد، وأن الرب في تساميه يحتفظ بحريّة مطلقة تجاه شعبه. في مصر يخضع الكهنة للفرعون. وكذلك في بلاد الرافدين. أما في أرض اسرائيل فالله هو الملك الوحيد في شعبه. والكهنة يمثّلونه. ليس بصنم يُخضعه الانسان لنزواته. بل هو سيّد التاريخ وربّ الخليقة. لهذا فهو يعرف متى يخلّص شعبه وكيف يخلّصه.
والوجهة الثانية هي الرباط بين النقد الذي يصكّه الملك وسلطانه: فهناك مبدأ معروف في العالم القديم يقول إن الأرض التي يمارس ملكٌ عليها سلطانه، تمتدّ بامتداد المكان الذي فيه يستعمل النقد الخاص به. لهذا احتفظ الرومان لنفوسهم بصكّ النقد الفضيّ الذي يدلّ على سلطانهم. ثم إن الدينار الروماني قد حمل صورة الامبراطور. فالدنانير والدراهم كانت تحمل صورة الامبراطور الحاكم. وفي أيام يسوع، كانت صورة طيباريوس مع ألقابه الرسميّة. بعد أن عزلة أوغسطس ارخيلاوس سنة 6 ب م، ارتبطت "مملكته" ولاسيّما اليهوديّة بمقاطعة سورية الرومانيّة. حكمها وال، فوجب عليها أن تؤدّي بشكل مباشر الجزية لقيصر. أما "مملكة" هيرودس انتيباس (وقد كان الجليل قسمًا منها) ومملكة فيلبس فقد احتفظتا بوضعهما كدولتين خاضعتين لرومة. كان الناس يدفعون الضرائب إلى انتيباس وفيلبس، وكانا بدورهما يقدّمان ما يجب عليهما لرومة. فإن لم يفعلا عزلتهما.
إذا كان الاتحاد الوثيق بين الديني والسياسيّ قد حرّك انتظار مسيحانيّة سياسيّة ودينيّة، إلاّ أن العلاقة بين النقد والسلطة في اليهوديّة، قد طرحت سؤالاً ضميريًا على اليهود. فعليهم أن يدفعوا الجزية بنقد أمبراطوري يحمل صورة الامبراطور: إن فعلوا هكذا أقرّوا بسلطان الامبراطور على اسرائيل ونسوا أن الملك الوحيد في الشعب هو الله أو مرسله. فاليهود الذين صاروا من جماعة الغيورين، كانوا منطقيّين مع أنفسهم فرفضوا أن يدفعوا الجزية، ورأوا في هذا الرفض علامة أمانتهم لإيمانهم اليهوديّ. أما الفريسيّون الذين كانوا يتحمّلون هذا العبء مكرهين، ويدفعون الجزية، فقد طمأنوا ضميرهم حين رأوا في العهد القديم أن الملوك الوثنيين (مثل كورش) قد تسلّموا سلطانهم من الله.
د- النصّ في علاقته مع محاوري المسيح والجماعات المسيحيّة الأولى
كانت مسألة الجزية لقيصر والعلاقات مع السلطة الرومانيّة مسألة تهم سامعي يسوع من اليهود. غير أن المسألة نفسها يمكن أن تطرح على المسيحيين المتهوّدين في جماعات فلسطين وسائر مقاطعات الامبراطوريّة. كما يمكن أن تطرح على المسيحيين الامميين (الآتين من الأمم الوثنيّة) الذين يعيشون في الامبراطوريّة ويعترفون بالله الواحد تجاه الآلهة الكثيرين في المدينة وفي العالم الوثنيّ: هنا نرى أهميّة جواب يسوع بالنسبة إلى الجماعات المسيحيّة.
غير أن السؤال حول الجزية لم يكن السؤال الوحيد الذي يهمّ سامعي يسوع: فعبر هذا السؤال تطلّعوا إلى اهتماماته المسيحانيّة وطبيعة مسيحانيّته. فالصعوبة التي لاقاها يسوع لدى اليهود بسبب طبيعة مسيحانيّته، قد وجدتها الكنيسة الأولى في إعلانها للانجيل: "نحن نكرز بمسيح مصلوب، شكّ لليهود وجهالة للوثنيين" (1 كور 1: 23). لهذا، ظلّ سؤال يسوع مطروحًا من أجل فهم واعلان مسيحانيّة يسوع المسيح.

2- ونصبوا له فخًا
شدّدت الأناجيل الازائيّة الثلاثة على "الفخ" الذي نصبه خصوم يسوع حين جاؤوا إليه يطرحون سؤالهم. قال مت: "فمضى اذ ذاك الفريسيون وائتمروا بغية أن يوقعوه في حبائل الكلام". ما نلاحظه هو أن الوفد لا يضمّ فقط التلاميذ الفريسيين بل الهيرودسيين أيضًا. وهؤلاء الأخيرون لا يظهرون إلاّ في مناسبتين على مدّ الانجيل، وكل مرة بمناسبة صراع مع يسوع (رج مر 3: 6): إنهم تشيّعوا لسلالة هيرودس العاملة من أجل السلطة الرومانيّة. في هذا السياق يكون لحضورهم معناه. وهكذا يبرز الهدفُ العدائيّ من محاولة تلاميذ الفريسيين والهيرودسيين.
سؤال معروف في سلسلة الأسئلة التي تُطرح على من أعطوا سلطة تفسير الشريعة: "أيجوز أن تدفع الجزية لقيصر أم لا"؟. وزاد مرقس على هذا السؤال المبدأي سؤالاً آخر يصل بنا إلى وضع ملموس: "هل يجب أن ندفع، نعم أم لا" (12: 14)؟ استبقى متّى السؤال الأول، واعتبر أن الجواب على السؤال الأول يتضمّن الجواب على السؤال الثاني.
تخفّى السؤال وراء كلام خبيث يمتدح يسوع الذي لا يحابي بل يحكم بالحق. ولكنه سؤال خصوم يريدون أن ينهوا أمر يسوع تجاه الشعب أو تجاه السلطة. وبشكل أوضح، نحن أمام سؤال مسيحاني، وهذا لا يدهشنا، لأن الفريسيين والهيرودسيين يهاجمون الاعتبارات المسيحانية لدى يسوع. الأولون باسم مبدأ ديني. والآخرون باسم مبدأ سياسيّ يعلن أن لا ملك إلاّ قيصر. لقد لاحظ الشّراح أن السائلين أرادوا أن يسجنوا يسوع: أو أنه يقول: لا تدفعوا فيشون به إلى السلطة الرومانيّة. أو يقول لهم: ادفعوا، فيخيب أمل الشعب الذي ينتظر محرّرًا وطنيًا. وهكذا يخسر يسوع كل شيء ولا يعود يعتبر نفسه المسيح الذي جاء يحقّق آمال الناس. أجل، يتركونه ويمضون. بل سينادون: أصلبه. ارفعه.
اكتشف يسوع خبثهم ورياءهم. وقبل أن يجيب، طلب من خصومه أن يقدّموا له نقد الجزية، ويكلّموه عن الصورة والكتابة. فما استطاعوا إلاّ أن يجيبوا: "هي صورة قيصر". لقد رأى الشّراح في سؤال يسوع محاولة يدفعهم فيها إلى التعريض بأنفسهم فيقرّوا أنهم أنفسهم يستعملون نقد الامبراطوريّة، وبالتالي يخضعون حقًا للسلطة الرومانيّة. هذا التفسير لسؤال يسوع لا يفرض نفسه انطلاقًا من معطيات النصّ وحدها. ولكنه ممكن بسبب إشارات عديدة تسير في هذا الخطّ. ومهما يكن من أمر، فهذا السؤال الذي انطلق من ملاحظة الواقع، كان نقطة انطلاق لجواب يسوع.

3- جواب يسوع
لم يتهرّب يسوع من الجواب. بل أعلن: "ردّوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله". عبارة قصيرة نجدها هي هي في الأناجيل الازائيّة الثلاثة. عبارة موجزة وتتميّز بالتوازي. إنها حقًا خرجت من فم المعلّم كما يقول معظم الشّراح.
أ- تفسير القول الرباني
قُدّمت لهذا القول عدة أنماط من التفاسير. تفسير فيه بعض السخرية، تفسير ملغز يفرض عليهم أن يبحثوا عن طريقة فهمه. تفسير مناوئ للغيورين... أما أكثر التفاسير انتشارًا فهو يفهم كلمة يسوع على أنها دعوة لكي يدفعوا الجزية. ويرد هذا التفسير في شكلين اثنين: أو أننا نعتبر جوهر السؤال حلاً عمليًا لمسألة حياة جارية، وبعد ذلك نعود بشكل إجمالي إلى الفكر البيبليّ. أو أننا نراه يشير عبر هذا الحلّ إلى مبدأ عام حول أهميّة السلطة السياسيّة. في الواقع، لا نستطيع أن نختار بسهولة بين هذين الاتجاهين: من جهة لا نستطيع أن نجد في هذا القول تعليمًا عن السلطة السياسيّة. ومن جهة أخرى، إن شدّدنا على الوجهة العمليّة في الجواب، نربطه طوعًا بفكر يقول إن الله أعطى الآن السلطة لقيصر.
نحن نقرأ أهميّة مسعى الفريسيين الذين أرادوا أن يستخدموا ضدّ يسوع الجوابَ الذي سيقدّمه وشكلَ هذا السؤال المشابه لأسئلة تتعلّق بتفسير الشريعة، والواقعَ الذي به سيحكمون على مسيحانيّة يسوع انطلاقًا ممّا سوف يقوله، والتمييزَ في مر بين المبدأ العام والتصرّف الملموس، واستعمال فعل "ردّوا" الذي يرتبط بواجب يُفرض علينا، والنظر إلى أن عبارة "ردّوا لله ما هو لله" تعبّر عن أكثر من تصرّف ظرفيّ، وموقف يسوع ثم موقف تلاميذه الأوّلين تجاه السلطة السياسيّة. كل هذا يدعونا إلى أن نفهم قول المسيح وكأنه يدل على ممارسة حسيّة تتأسّس على نظرة إلى السلطة السياسيّة وإلى علاقتها بالله.
ب- معنى قول يسوع
حين أجاب يسوع على السؤال، لم يتحدّث عن شرعيّة السلطات الرومانيّة ولا عن أصلها ولا عن أعمالها: انطلق من وضع واقعي ومسألة ملموسة طُرحت في إطار سياسيّ ودينيّ تحدّثنا عنه. وعرف يسوع من خلال الفخ الذي نُصب له رياء خصومه. كما لم يجهل أن مسألة مسيحانيّته هي المطلوب، وبالتالي مسألة الملكوت الذي يبشّر به. وفي النهاية، يجب أن لا ننسى أن يسوع يتكلّم في خاتمة استعدادات العهد القديم. لهذا، إذ نحاول أن نفهم جوابه نتفحّص على التوالي عناصر هذا الجواب في ذاتها وفي علاقتها المتبادلة.
أولاً: ردّوا ما لقيصر لقيصر
إن لهذا الشقّ الأول من الجملة مدلولين: الأول، ردّوا إلى قيصر ما يستطيع أن يطلب منكم عادة على مستوى الضرائب، وذلك بالنظر إلى سلطانه. لقد أعطى الله الآن السلطان إلى القيصر الرومانيّ، ويجب أن تطيعوه في هذا المجال. الثاني، في خلفيّة هذا القول الذي يعبّر بشكل مباشر أو لا مباشر عن مبدأ يؤسّس التعليم عن السلطة أو العلاقة بالسلطة، هناك منظار العهد القديم الذي بحسبه يأتي كل سلطان من الله. شاذ يشير يسوع إلى أن نردّ ما لقيصر لقيصر، يفهمنا أيضًا أنه ليس مسيحًا يريد أن يأخذ السلطة السياسيّة ومسؤوليات القيصر ووظيفته، لكي يتمّ عمله. مملكته ليست من هذا العالم، وهو لا يحتاج جزية ولا ضريبة.
ثانيًا: وما لله لله
نقرأ هذه الإضافة "وما لله لله" على أنها تبرز الشقّ الأول من الجواب. فالسؤال المطروح لم يكن يتطلّب بالضرورة إضافة: "ردّوا ما لله لله". إذن هذه الإضافة لها معناها، وهي تلفت انتباهنا.
* هي تلقي الضوء على الشقّ الأول: "ردّوا ما لقيصر لقيصر". هنا نتجنّب تفاسير خاطئة حين نقرأ هذا النص بسرعة ونحمّله عقليّتنا الحديثة. نحن نخطئ حين نفهم قول يسوع في عقليّة فصل الدين عن الدولة كما هو الأمر بالنسبة إلى بلدان أوروبا مثلاً. عند ذاك يبدو المسيح وكأنه حدّد مجالين غريبين كل الغربة الواحد عن الآخر: مجال قيصر ومجال الله. مثل هذا التفسير هو عكس المعنى على المستوى التاريخيّ لأنه يجهل عقليّة سامعي يسوع الذين يعتبرون أن لكل سلطان (حتى سلطان الملوك الوثنيين) يأتي في النهاية من الله (هذا ما قاله يسوع لبيلاطس: ليس لك عليّ سلطان لو لم يُعطَ لك من فوق). وجميع البشر، أكانوا ملوكًا وأمراء ام أشخاصًا عاديين، يخضعون لدينونة الله.
* هناك من يقرأ النصّ طوعًا فيُماهي بين الله والكنيسة. لاشكّ في أن ما يقوله يسوع سيكون له صداه على خدمة الكنيسة، فيدعوها إلى حمل انجيل الله إلى جميع البشر بمن فيهم السياسيون. غير أن لفظة "كنيسة" كير موجودة في النصّ. لهذا نخطىء حين نقف في تماه سهل لا يسنده شيء، فنطبّق على الكنيسة ما يُقال عن الله.
* رغم الطريقة التي بها يعبّر يسوع عن قوله، نخطئ (وهنا يتوافق الشّراح) حين نفسّر التوازي الذي يستعمله يسوع وكأنه يجعل الله والقيصر على ذات المستوى. فيسوع لا يعفي القيصر من سلطة الله التي تشمل الكون ومن الواجب المفروض عليه هو أيضًا أن يردّ لله ما لله. بل زاد ليحدّد واجبه "ردّوا ما لله لله"، حتى يؤكّد أولويّة الله بالنسبة إلى قيصر. الله هو أول من نخدم.
هذا الاعلان الذي جاء بعد الاعتراف بالسلطان السياسيّ، يصف هذا السلطان ويميّزه، وهذا مهمّ بالنسبة إلينا. فقد لاحظ مثلاً أحد الشّراح أن الردّ لله ما هو لله، يعني أيضًا أن على قيصر أن لا يمسّ حق الله في سلطانه الشامل على البشر. في هذا الخطّ نفهم ما سمّي الحريّة الدينيّة. فقد كان على الناس في القرون الوسطى أن يكونوا على دين ملوكهم.
ثالثًا: ردّوا ما لله لله
حين نقرأ أش 45: 1-7 (أقام الله كورش وسلّمه السلطان)، نفهم أن الله لا يكتفي بأن يختار ملكًا وثنيًا هو كورش لكي يُخضع له الأمم. بل هو يرمي إلى شيء آخر حين يؤكّد: "أنا الرب، وليس آخر (ليس من ربّ آخر). ليس من دوني إله" (خارجًا عني لا إله). كذلك في هذا الانجيل الذي ندرس لا يقع ثقل قول يسوع حصرًا على "ردّوا ما لقيصر لقيصر". ودور "ردّوا ما لله لله" لا يكتفي بأن يحدّد الشقّ الأول من القول: هذا الاعلان قيمته هي في ذاته، وهو يشكّل بلاشكّ العنصر الأهمّ في جواب المسيح. فما هو معناه؟
لاشكّ في أنه يملي متطلّبة رئيسيّة على المؤمنين الذين تقوم حياتهم حسب الايمان بأن يردّوا (يؤدّوا) لله ما هو لله. غير أن السياق المحدّد الذي يتكلّم فيه يسوع (متطلّبة الأمانة هذه) يُعبّر عن نداء ملموس مع العلم أنه يشير إلى جواب إجمالي يقدّمه المؤمنون لله. نحن أولاً أمام نداء لنتقبّل ملكوت الله، ونرى في هذا الملكوت المسيح الذي جاء يدشّن ملكوت السماوات. لقد جاء الآن ملكوت الله. هو حاضر في يسوع الذي يرونه أمامهم. ولكن الخصوم لا يرونه. اهتموا في الظاهر بكرامة الله، فتساءلوا إن كان يجب أن يدفعوا الضريبة لقيصر. ولكنهم تجاهلوا وأهملوا كليًا واقعًا يقول إن الله حاضر في ذاك الذي يسألونه (يسوع)، وأنه يقدّم متطلّبة أكثر إلحاحًا من تلك التي تشغل بالهم. وهي أن عليهم أن يعطوا ذواتهم كلها لله. وهكذا يبدو الجواب كنداء لملكوت الله وقد ظهر الآن في يسوع في قلب العالم.
أضاء الشقّ الثاني الشقّ الأول. ولكنه يستضئ بدوره بالشقّ الأول فيبدو في الوقت عينه نداء لتقبّل ملكوت الله كما أعلن في يسوع، وللتعرّف إلى طبيعة وحقيقة مسيحانيته. فملكوت الله ليس مملكة تزاحمُ مملكة قيصر. إنه من نظام آخر ويقف على مستوى آخر: المسيح لا يأتي ليحلّ محلّ قيصر ويحقّق مسيحانيّة سياسيّة ودينيّة، بل قد أتى ليؤسّس ملكوت الله. فالسؤال حول الجزية التي يفرضها الرومان، لم يكن له بُعد سياسيّ ودينيّ، بل مسيحانيّ أيضًا. أما يسوع فرفع السؤال على مستوى ملكوت الله الذي ظهر فيه. هنا نتذكّر كلامه في يو 36:18: "ليست مملكتي من هذا العالم". وهكذا أكّد أن ملكوت الله لا يتداخل مع مملكة البشر. إنه يقف على مستوى آخر.
وهكذا عرضت هذه المحاولة مرّة أخرى طبيعة الملكوت الاسكاتولوجيّ الذي لم يفهمه خصومُ يسوع. وأوضح جواب يسوع تصرّفًا عمليًا تجاه قيصر، كما دلّ على مكانة السلطة السياسيّة. جواب يسوع هو قبل كل شيء جواب مسيحانيّ. وهو يعني ملكوت الله والطبيعة الحقيقيّة لمسيحانيّته. وهكذا نفهم أيضًا أننا عندما نقرأ شطرين في أقوال الانجيل، تكون نقطة الثقل في القسم الثاني دون أن ننسى القسم الأول. ففي مثل الابن الضال، هناك تشديد على موقف الفريسيين الذين يمثّلهم الابن الأكبر دون أن ننسى رحمة الآب. وهنا، تشديد على ملكوت يسوع المسيحانيّ الذي يعرض متطلّباته على التلاميذ، مع تعليم حول واجب المؤمن في المجتمع الذي يعيش فيه.

خاتمة
بعد أن تفهّمنا قول يسوع، نودّ أن نشير إلى بعض وجهات هذا القول لكي نتقبّل كلمة الله اليوم ونطبّقها في حياتنا. ونسوق هنا أربع ملاحظات:
الأولى: النداء الأساسي الذي يوجّهه الله إلينا بهذا القول هو نداء لتقبّل ملكوت الله كما يعلنه المسيح (لا بحسب نظرتنا)، ولأن نتعرّف إلى يسوع، في سرّ آلامه وموته، كالمسيح الذي أرسله الآب. حين نردّ ما لله لله، نلتزم بحياة إيمان يكون الملكوت فيها مركزَ الانجذاب. حين قال لنا المسيح "ردّوا ما لله لله"، دعانا إلى أن نحيا حياة تكون نقطة الثقل فيها ملكوت الله، والمحور الأساسيّ الأمانة للانجيل. ويكون نورها ورجاءها شخصُ يسوع.
الثانية: حين رفض يسوع أن ينخرط في طرق مسيحانيّة سياسيّة ودينيّة حلم بها شعبه، حيّر عددًا كبيرًا من معاصريه، حيّر اليهود عادة والرسل أنفسهم في بعض المرّات. فلا نعجب في مرحلة أولى إن حيّر هذا الموقف بعض المؤمنين الذين وعوا أهميّة العمل السياسيّ فوجدوا في يسوع كفالة مباشرة لخيارات اتخذوها مع الاهتمام بالواقع والأهداف السياسيّة الحاليّة في جوّ من الأمانة الانجيليّة. ولكن بعد أن يمضي هذا الزمن الأول من الدهشة، يبدو موقف المسيح حين نفكّر فيه، عميقًا جدًا: فهو يريد أن يحرّر الانسان، يكشف له شموليّة هذا التحرّر. أي يريد أن يحرّر كل انسان. ورغم أهميّة البنى السياسيّة التي تحيط بممارسة الحرية والتي يجب أن نحسّنها، يدلّ يسوع على أن التحرّر الذي يحمله أكثر جذريّة من تبديل في البنى السياسيّة: هذا التحرّر يدرك الانسان في قلبه، فيخلّصه من الخطيئة ويفتحه على حب هو في الوقت عينه حبّ لله وحبّ للقريب لا ينفصلان. فإن حبّ الله يلج إلى أعماق البشر حتى عمق الألم والموت من أجل القيامة. وهكذا بدا جواب يسوع نداء لتقبّل التحرّر الذي جاء يتمّه بحسب جميع الأبعاد التي يتضمّنها ذاك التحرّر.
الثالثة: حين دعاهم يسوع لكي يردوا لقيصر (الذي سيدينه الله، شأنه شأن كل انسان) ما يستطيع أن يطلبه عادة بالنظر إلى مسؤوليته. وحين أفهمهم طبيعة الملكوت ومسيحانيّته. وحين أكّد أولويّة هذا الملكوت، أدخل في العالم القديم تمييزًا ثورويًا بكل معنى الكلمة: نزع عن "السلطة السياسيّة" طابعَها الالهي والقدسيّ، وأبعد كل محاولات العبادة عنها (كان الامبراطور يُعبَد وكذلك مدينة رومة). ردّ السلطة السياسيّة إلى ذاتها، فاعترف بقدرها، وأعادها إلى مسؤوليّتها الخاصة. وفي الوقت عينه دعانا إلى أن نرفض كل تشنّج بين السلطة السياسيّة والانجيل، فنقوم بجديّة بالمهام السياسيّة كأناس أحرار ومسؤولين. ولا ننسى أن هذه المهمات تعود في النهاية إلى رسالة سلّمها الله إلى البشر لكي يسودوا الأرض ويخضعوها (1: 28). وهي رسالة نؤدّي مع القيصر حسابًا عنها.
الرابعة: حين ردّ يسوع السلطة السياسيّة إلى ذاتها، لم يتركها وشأنها. فقد تحدّث بعضهم عن رفض كل سياسة لدى يسوع حين رفض أن ينخرط في طرق المسيحانيّة السياسيّة والدينيّة. هل هذا يعني أن الانجيل يبقى على الحياد في المجال السياسيّ؟ هذا ما يعارض "ردّوا ما لله لله". فيسوع يدعونا بهذا القول إلى أن نحيا حياتنا، بما فيها الحياة السياسيّة، في الأمانة لإله ظهر لنا. وهو يطلب منا أن نعيش الحياة السياسيّة في أمانة لالهامات الانجيل وروحه. وهو يدعو الكنيسة كجماعة إيمان أن تقوم بوظيفة الخدمة النبويّة والانجيليّة، لا بوظيفة السيطرة والولاية "على الحاكم". أما فاعليّة عمل الكنيسة فتتمّ بواسطة ارتداد القلوب: فهي تذكّر في قلب التاريخ البشري، بواسطة حياتها وتعليمها، بنداء الله الحيّ إلى قيصر. وتدعو جميع البشر لكي يضعوا موضع العمل متطلّبات الانجيل في بناء مدينة البشر، وإن بدا هذا العمل صعبًا، وإن وجب عليهم أن يكرّروا المحاولة المرّة بعد الأخرى. ففي النهاية يثمر عملهم، لأن كل شيء سيكون لهم شرط أن يكونوا للمسيح الذي هو بدوره لله. هكذا يردّون حقًا لله ما لله، لا في الحياة السياسيّة وحسب، بل في كل مجالات نشاطهم البشريّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM