الفصل السابع عشر :تطوير الهيكل والتينة الملعونة

الفصل السابع عشر
تطوير الهيكل والتينة الملعونة
21: 12-27

نجد في هذا الفصل ثلاث مقطوعات. الأولى (21: 12-17) تتحدّث عن دخول النبيّ الملك إلى الهيكل بعد أن دخل إلى المدينة المقدّسة. يسوع هو ملك في أورشليم. وهو عظيم الكهنة في الهيكل. بل هو النبيّ الذي سار في خطّ الأنبياء، فتحدّثوا عن دمار الهيكل إن لم يتنقّى الشعب من خطيئته. أجل، جاء يسوع يعيد إلى الهيكل وظيفته الأولى: بيت صلاة لا مغارة لصوص. هذا ما قاله إرميا. وتوقّفت المقطوعة الثانية (18:21-23) عند تينة لعنها يسوع. منع عنها البركة، فيبست في الحال. حكم يسوع على التينة، لأنه لم يجد فيها الثمار التي انتظرها. هذه التينة الجميلة في الخارج تشبه أبنية الهيكل الفخمة التي صارت عقيمة على المستوى الديني. فلماذا تبقى في الأرض وتعطّلها. قال يسوع: "لا يكن فيك ثمر". "فيبست التينة من ساعتها". أما المقطوعة الثالثة (21: 23-27) فترينا رؤساء الكهنة والشيوخ يطرحون على يسوع سؤالاً حول سلطته. "بأي سلطان تفعل هذا"؟ ليس السؤال حول سلطان خاص بيسوع، بل حول ينبوع هذه السلطة. الله، الشيطان، البشر، أنت نفسك؟ ولكن يسوع ردّ على السؤال بسؤال أحرج به سائليه.
من أجل هذا نقسم هذا الفصل ثلاثة أقسام كبيرة، وفي كل قسم نتوقّف عند الفكرة الاجماليّة، عند الدراسة التفصيليّة. وفي النهاية، نتعرّف إلى الفكرة اللاهوتيّة والروحيّة.

1- طرد الباعة من الهيكل (12:21-17)
أ- نظرة إجمالية إلى النصّ
تبع مت سرد مر، فجعل بعد خبر دخول يسوع إلى أورشليم، خبر تطهير الهيكل. وبعد ذلك، ذهب في الليل إلى بيت عنيا. وعاد في الصباح بعد أن لعن التينة وأعطى تلاميذه تعليمًا عن قدرة الصلاة. عند ذاك يلتقي مت ومر ولو في الهيكل حيث يردّ يسوع على سؤال طرحه الخصوم حول سلطانه.
قد نفهم فعلة يسوع حين طرد الباعة من الهيكل كعمل يدلّ على سلطانه الذي به يلغي ذبائح الهيكل. أو فعلة رمزيّة تشير إلى تطهير الهيكل وهو عمل انتظره اليهود بعد أن نجّسه أنطوخيوس الرابع سنة 167 ق م أو بومبيوس سنة 63 ق م. أو احتجاجًا على تجاوزات التجّار والصيارفة الذين لا يعرفون حرمة هذا المكان. كان الصيارفة يتيحون للحجّاج الآتين من بعيد صرف المال ليشتروا ذبائحهم أو ليدفعوا جزية الدرهمين (= جزية الهيكل). أما التجّار فكانوا يؤمّنون حاجات الآتين إلى الحج. ولكن الصيارفة كانوا يقيمون في الأروقة المخصّصة للوثنيين وينسون أنها مقدّسة شأنها شأن رواق الرجال والنساء.
حين نصعد وادي قدرون، نستطيع أن ندخل بشكل مباشر إلى الهيكل دون المرور في المدينة. ولكن هذا يمنعنا من التحدّث عن المدينة التي ارتجّت. ولكن ما همّ؟ اختلف الازائيون عن يو 2: 14-16 فجعلوا تطهير الهيكل في آخر أيام يسوع. ذكر مر ومت فقط الصيارفة وباعة الحمام. وأضاف يو باعة البقر والغنم لكي يلمّح إلى ذبيحة الفصح اليهودي (سوف تُلغى) التي ترافقت مع موت يسوع. كل هؤلاء الناس كانوا في رواق الوثنيين. طردهم يسوع فدلّ على سلطته النبويّة والمسيحانيّة على الهيكل كله.
ب- الدراسة التفصيليّة
أولاً: البنية
نجد في 21: 12-17 مشهدين يوحّد بينهما موضعٌ مشترك هو الهيكل، وإيراد كتابيّ يبرّر ما فعله يسوع (آ 13، 16).
* يشكّل المشهد الأول (آ 12-13) فعلة نبويّة من يسوع يندّد فيها بما يحصل في الهيكل الذي يضمّ حتى أروقة الأمم. ما يميّزه جمل قصيرة يجمع بينها حرف العطف (كاي)، وتنتهي مع "أما أنتم" (فجعلتم منها مغارة لصوص).
1- الوصول: ودخل يسوع الهيكل
2- الاحتجاج: جملة طويلة مع يسوع كفاعل الأفعال
أ- الأفعال
أولاً: طرد الباعة والشارين
ثانيًا: قلب موائد الصيارفة ومقاعد باعة الحمام
ب- الأقوال
أولاً: بيتي بيت صلاة
ثانيًا: أما أنتم فصيرتموه مغارة لصوص
* أما المشهد الثاني (آ 14-17) فهو خبر اعتراض مثلَّث: عمل، احتجاج، جواب. هي جمل قصيرة يجمع بينها أيضًا حرف العطف (كاي). ونجد بداية الاعتراض والجواب مع الاداة "دي" (ولكن، أما).
1- المشهد (آ 14)
وتقدّم إليه
وشفاهم
2- احتجاج المعترضين (آ 15- 16 أ)
ولما رأى (ايدونتس دي)
عظماء الكهنة
والكتبة
العجائب
والاولاد يهتفون ويقولون
سخطوا
وقالوا
3- جواب يسوع (آ 16 ب ج)
فقال يسوع (هو دي...). من فم الأطفال والرضّع
4- الخروج (آ 17)
تركهم وخرج من المدينة.
ثانيًا: المراجع
حين نقرأ 1: 12-13 نجد إشارتين تدلاّن على أولويّة مر بالنسبة إلى مت. الأولى: في مر 11: 16 منع يسوع حمل الاواني عبر الهيكل. معنى هذا العمل غامض، وإلغاؤه يكون أكثر طبيعيًا من إضافته. الثانية: لا نجد في مت ولا في لو(= مر 17:11) عبارة "لجميع الأمم". قد نظنّ بعد تدمير أورشليم سنة 70 ب م، أن هذه العبارة صارت غير مفهومة فألغيت (في مت ولو). لم يصر الشكل يومًا بيت صلاة لجميع الأمم.
أما مت 21: 14-17 فلا يجد ما يوازيه في مر. وهكذا نكون في تدوين متاويّ. غير أن لو 39:19-40 يتضمّن ما يشبه هذه القطعة الصغيرة: طلب الفريسيون من يسوع أن يزجر تلاميذه لأنهم يمجّدونه. نرى مع بعض الشرّاح أننا في خبر اعتراض حيث يهاجم رؤساء أورشليم يسوع لأنه يتقبّل مديح مز 118: 25-26. في التقليد اللوقاويّ، أجاب يسوع بأن حجارة الهيكل سوف تصرخ إن توقّف المديح. وفي التقليد المتّاويّ، ارتبط المديح بالمزمور الثامن من أجل العلاقة بين ما فعله المسيح والخروج.
في مت، قدّم الاولاد المديح. وفي لو التلاميذ. وبما أن التلاميذ هم "الصغار"، قد نفهم العلاقة بين التوسّعين. وهناك من انطلق من اللفظة الارامية التي تعني "الأبناء" وتلك التي تعني "الحجارة". هما قريبان: بنايا وابنايا. قد يكون هناك تقليد شفهيّ تحدّث عن "الأبناء"، فجاء جواب يسوع كما في لو 19: 40 (إن سكت هؤلاء صرخت الحجارة). في هذه الحال، قد يكون التقليد اللوقاويّ اعتبر "الأبناء" كلفظة تتحدّث عن التلاميذ. ويكون مت أحلّ محلّ جواب يسوع إيرادًا من الكتاب المقدس.
ثالثًا: التأويل
بعد أن دخل يسوع إلى العاصمة كملك، ها هو يلعب الآن دور النبيّ. دخل إلى الهيكل، قلْب العالم ورمز الهويّة الوطنيّة للشعب اليهودي. فأعلن عدم رضى الله عبر عمل عنيف وعبارة من الكتاب المقدس. وعدم رضى هذا لا يوجّه ضدّ الهيكل في ذاته، بل ضدّ الذين شوّهوا هذه المؤسّسة، الذين منعوا الهيكل من أن يكون كما أراده الله، بيت صلاة.
وهكذا اختلف 21: 12-17 عن النصّ المرقسي الموازي. (1) لم تُقحم المقطوعة بين جزئي حدث التينة: فخبر التينة توحّدَ في مت وتبع عمل يسوع في الهيكل. (2) إن تسلسل الاحداث (في مر) التي بحسبها ذهب يسوع إلى الهيكل، نظر حوله، مضى ثم عاد أيضًا، كل هذا تركه مت. فالدخول إلى أورشليم والدخول إلى الهيكل حصلا في اليوم عينه. (3) إن عبارة مر 11: 16 الغامضة (لم يدع أحدًا ينقل متاعًا عبر الهيكل، رج نح 8:13) قد ألغيت. (4) نص أش 7:56 في مت ليس سؤالاً بل تصريحًا، وهذا في خطّ مت. (5) إن عبارة "لجميع الأمم" (مر 7:11، من أش 7:56) لم تجد لها مكانًا في مت. (6) إن مر 18:11-19 قد وضع في آ 14-17 (رج مر 11: 11).
اختلف الشرّاح حول التقليد التاريخيّ لما في مر 11: 15-19. إذا اعتبرنا أن يو 13:2-17 هو نصّ مستقلّ، نظنّ أنه وُجد تقليد سابق لمرقس ضمّ ما هو مشترك بين يو ومر 11: 15-17: وصول يسوع إلى الهيكل، خبر طرد الباعة وقلب الموائد، كلمة تفسير قادت تقليد مرقس إلى أش 56: 7 (بيتي يُدعى بيت صلاة)، وتقليد يوحنا إلى مز 69: 10 (غيرة بيتك أكلتني). وقد يكون تضمّن كل هذا وصول يوم الربّ.
قام يسوع بفعلة رمزيّة (شأنه شأن مصلحين عديدين) في هيكل أورشليم. ولكن نتساءل: هل توخّى هذا العمل أن يرمز إلى دمار الهيكل (رج التينة الملعونة) أو أن يحتجّ على بعض الممارسات؟ ربّما الاثنان.
ما يُسند الرأيَ الأول (دمار الهيكل) هو (1) أن يسوع تنبّأ على دمار الهيكل. (2) إذا كان تذكّرُ الازائيين دقيقًا، فقد دُفع يسوع إلى التحدّث عن دمار الهيكل في الاسبوع الذي فيه طرد الباعة (مر 53:14 وز). (3) في يو 2: 13-22، انضمّ القول حول نهاية الهيكل إلى احتجاج على الهيكل. (4) إن كلمات الازائيين الذي تفسّر عمل يسوع كاحتجاج على الفساد، تستند إلى الكتاب وتُعتبر بعد فصحيّة (أورد مر نص السبعينيّة). (5) النبوءة على دمار الهيكل تجد سابقة لها في العهد القديم (إر 26: 1- 11) والعالم اليهوديّ (يشوع بن حنانيا، رج يوسيفوس، الحرب 6: 30- 309). (6) إن الأفعال النبويّة في العهد القديم قد ترمز إلى الدمار كما في إر 19: 10-11. (7) إن يسوع مر لم يطرد الباعة فقط، بل الشارين أيضًا. هذا يعني أنه لا يحتجّ على استغلال النشاط التجاريّ.
وما يسند الرأي الثاني (احتجاج على بعض الممارسات). (1) أورد خبر يوحنا النشاط التجاريّ. (2) انتقاد الكهنة والاعلان بأن الهيكل قد نجّس، نجدهما في العهد القديم ولاسيّما في التقليد النبويّ. (3) لاشكّ في أن التوتّر موجود بين يسوع والكهنة الذين همَّهم توقيف يسوع. (4) كانت خدم عديدة تتطلب الركض في الهيكل. ما احتجّ يسوع في المبدأ على هذه الخدم، بل على الانحرافات التي ارتبطت بهذه الخدم.
من أجل هذا لا نعارض رأيًا برأي. فالاحتجاج على التجاوزات والتعبير الرمزي عن الدينونة يسيران معًا. في إر، مي 3، حز، 1 اخنوخ 83- 90، انضمّ انتقاد فساد الكهنة إلى انتظار دمار الهيكل والتطلّع إلى هيكل جديد. ومن المعقولة أن يكون يسوع (مع زك 14: 21) قد أشار في قول نبويّ وفعلة رمزيّة إلى دينونة الله للهيكل في نهاية الأزمنة. وهذا لا يعارض النظام الذبائحي في ذاته، بل ما يجعل المقدّس دنيويًا. في أي حال، نحن أمام حدث بسيط لم يضع البلبلة في الشعب. فلو كان الأمر كذلك لتدخّلت الفرقة الرومانيّة المتمركزة في برج أنطونيا، ولذكَره يوسيفوس وهو الذي اعتاد أن يذكر الاحداث التي تتعلّق بالهيكل.
رابعًا: تفسير الآيات (21: 12-17)
* "ودخل يسوع الهيكل" (آ 12-13)
هذه الآية التي تبدو معارضة لوداعة يسوع (11: 29؛ 21: 5)، تتوافق في نظر متّى مع تصرّف فيه بعض العنف (سي 23:45-24؛ 1 مك 54:2؛ 4 مك 12:8). حوّل مت صيغة الفعل كما وجده عند مر، وزاد لفظة "يسوع"، ووصف الهيكل بأنه "هيكل الله". قال مر: "بدأ يطرد". قال مت: "طرد"، وزاد "جميع".
إن لفظة "هيارون" (الهيكل) تعني الهيكل ككل، بما فيه الرواق الخارجيّ الذي يسمح للوثنيين بالدخول إليه. هذا الرواق كان يحيط برواق النساء ورواق الكهنة. وفعل "اكبالاين" (2 أخ 29: 5 حسب السبعينيّة، يتحدّث عمّا فعله حزقيا الملك)، يدلّ على القوّة والعنف (هو 9: 15 حسب السبعينيّة). هاجم الذين يبيعون الذبائح والزيت والحنطة، لا الكهنة. الاشارة إلى الذين يبيعون ويشترون تدلّ على كل "الأعمال التجاريّة" التي يهتمّ بها الموكّل على الخزانة وموظّفوه.
"وقلب موائد الصيارفة". كانت ضريبة الهيكل تدفع في النقد الصيرفي (شقل ونصف شقل) لا النقد اليوناني والروماني (22: 15-22). لهذا كان الصيارفة من الكهنة واللاويّين. كانت هذه "الموائد" توضع في الهيكل قبل عيد الفصح بثلاثة أسابيع. كان الحمام تقدمة الفقراء.
"وقال لهم: مكتوب" (آ 13). قال مر: "وكان يعلّمهم ويقول لهم". أما مت: "وقال لهم". وزاد مر "لجميع الأمم". يتحدّث لو 18: 10 عن الشعب الذاهب إلى الهيكل للصلاة (رج 37:2؛ 2 مك 10: 26؛ سي 51: 14). ونتذكّر أن البخور في الهيكل يرمز إلى الصلاة (مز 148: 2؛ رؤ 5: 8)، وأن اليهود المقيمين خارج أورشليم يصلّون ساعة تحرق الذبائح (مع صلوات، أع 3: 1) في الصباح والمساء. وهكذا ارتبطت الذبائح بالصلاة. إن عبارة "ولكن صيّرتموه مغارة لصوص" يفسّر من وجهة مت أن الله سمح بدمار الهيكل. ليست هذه العبارة إيرادًا دقيقًا من إر 7: 11 (نبوءة على دمار الهيكل)، بل استلهامًا حرًا. إن الهيكل يخفي شعبًا من اللصوص في نظر يسوع.
* "جاء إليه العرج والعميان" (آ 14-17)
ق 11: 5؛ 15: 31. هذا المقطع هو الأخير الذي فيه يُذكر شفاء يسوع للمرضى في مت. قيل لداود في 2 صم 5: "لا تستطيع أن تدخل إلى هنا. فالعرج والعميان يصدّونك" (آ 6). قتل داود الأول حتى العرج والعميان ودخل. أما داود الثاني فجاء إليه العميان والعرج إلى الهيكل فشفاهم. مثل هؤلاء المرضى، كانوا يُطردون من الهيكل. أما يسوع فاستقبلهم.
"ولما رأى رؤساء الكهنة" (آ 15-16). كما في 2:2-3 و23:12-24، حرّك الاعتراف بيسوع كابن داود معارضة قويّة. هذا ما يعكس خبرة مت حول معارضة العالم اليهوديّ لإعلان يسوع كالمسيح. يُذكر مز 118: 25-26 (ذُكر في آ 9) هنا أيضًا. إن هويّة الذين يصرخون هوشعنا وموضع صراخهم يدلاّن على رضى الله على يسوع. ولا ننسى هنا أن الهيكل هو موضع الوحي في العالم القديم. في آ 16، الله هو صاحب المديح: "أعددتَ تسبيحًا". ونستنتج: الهتاف هو معجزة كما قال يوحنا الذهبيّ الفم (عظات في مت، 67: 1).
"فقال لهم يسوع"، دافع يسوع هنا كما في 13:19-15 عن الأطفال ضدّ الذين يهاجمونهم. "من فم الأطفال". هم يقابلون رؤساء الكهنة والكتبة، ويمثِّلون جواب الايمان. ما قاد مت إلى مز 8 هو ذكر اسم الرب والأطفال. وهناك التفسير الكرستولوجيّ للمزمور في أسفار العهد الجديد (1 كور 15: 27؛ أف 1: 22؛ عب 2: 6-9؛ رج فل 3: 21؛ 1 بط 3: 22). والاشارة إلى المعجزات. واستعمال مز 8: 3 المدراشيّ في التقليد اليهوديّ. إن تفسير "ملكتا" خر 15: 1 يورد مز 8: 3 ويربطه بالخروج فيقول: أسّست عزًا. وهكذا يرتبط مز 8 بما في خر 15، وقد قيل إن الأطفال أنشدوا الله عند البحر الأحمر (رج حك 10: 21). وهكذا نجد مرة أخرى مقابلة بين موسى ويسوع، بين الخروج وحدث المسيح.
"ثم تركهم وخرج" (آ 17). كان ليسوع الكلمة الأخيرة. فأدار ظهره للكهنة والكتبة. بيت عنيا هي قرية تقع إلى الشرق بالنسبة إلى جبل الزيتون. قد تكون عنينة المذكورة في نح 11: 32، والعازارية الحديثة. اتّفق يوحنا والازائيّون على القول بأن يسوع أقام في بيت عنيا خلال أسبوع الفصح (مر 11: 11- 12؛ 3:14؛ يو 12: 1، في بيت مريم ومرتا).
ج- الفكرة اللاهوتيّة الروحيّة
منذ أيام أنطوخس أبيفانيوس الذي نجّس الهيكل وذبح فيه للأصنام (1 مك 44:4-46)، انتظر الشعب نبيًا يأتي ويطهّره من هذه النجاسة. ونجّس بومبيوس الهيكل سنة 63 ق م. فدوّنت مزامير سليمان متحدّثة عن هذا الوضع في التقوى الفريسيّة. ويتداخل موضوعان: الله يسحق أولئك الذين نجسّوا الهيكل ودمّروه. ثم إن هذا الشقاء عقاب سبّبته خيانة اسرائيل. "صعدت شعوب غريبة على هيكلك، وسارت عليها بنعالها المتكبّرة لأن أبناء أورشليم نجّسوا أقداس (شعائر العباد) الربّ، وشوّهوا بآثامهم تقادم مقرّبة إلى الله" (مز سليمان 2:2-3؛ 8: 1-4). عند ذاك "صار الهيكل كلا شيء أمام الله. احتُقر إلى آخر حدّ". "في شقاء اليهود هذا، وهو أعظم شقاء، كان تنجيس المعبد الذي ظلّ بعيد المنال وخفيًا. دخل بومبيوس مع عدد كبير من جنوده إلى داخل المعبد. كانت هناك طاولة الذهب وكؤوس السكيب وكميّة كبيرة من العطور. وفي الخزائن المقدسة قرابة 2000 وزنة" (يوسيفوس، العاديات 14/ 14: 4؛ الحرب 1/ 7: 6). ما لمس بومبيوس كنزًا من هذه الكنوز، ولكن وجود الوثنيين في الهيكل كان في ذاته كارثة دينيّة يُزاد عليها مقتل 1200 يهوديّ في الهيكل.
لهذا انتظر اليهود في زمن يسوع ملكًا يطهّر شعبه. ويجتمع في فكرة التطهير هذه موضوعان يسيطران على الحنين المسيحاني: أن يسحق الله أعداءنا. أن يجعل منا شعبًا جديرًا باسمه. "يطهّر أورشليم في التقديس كما في القديم" (مز سليمان 17: 33). ويبدو بشكل عام، أن اليهود انتظروا من أجل الأزمنة المسيحانيّة عودة الهيكل إلى عظمته الأولى. إذن، طرحت فعلة يسوع مسألة سلطته الاسكاتولوجيّة على الهيكل. هذا ما يوضحه انجيل يوحنا في النصّ الموازي.

2- التينة الملعونة (21: 18- 22)
أ- قراءة إجماليّة
لا تظهر مقطوعة التينة الملعونة (18:21-22) إلاّ عند مت ومر في شكلين مختلفين بعض الاختلاف. جاء نص مت أبسط، وتركّز كلُّ شيء على الخاتمة. ما ذكر الانجيليّ الذهاب من بيت عنيا، ولكنه افترضه (آ 17). وأغفل واقعًا مزعجًا ذكره مر 13:11 (لم يكن أوان التين. وهكذا يشدّد مر على رمز الحدث). وأعلن أن التينة يبست حالاً. وهكذا يبدو أن نص مت أعيدت صياغته بشكل متماسك ومطبوع بطابع متّى.
أغفل لو هذا الخبر، فاعتبر بعضهم هذا الاغفال حذرًا تربويًا: فلوقا يترك جانبًا عناصر من التقليد لا يفهمها قرّاؤه الآتون من العالم اليوناني. وظنّ آخرون أن لوقا ترك جانبًا هذا الخبر لأنه اعتبره تكرارًا لمثل التينة العقيمة الذي تفرّد بذكره (لو 6:13-9). ولكن المثل اللوقاويّ الذي تُشرف عليه مهلة أعطيت للفلاّح، يحمل مدلولاً مناقضًا لمدلول التينة الملعونة التي حُكم عليها بالموت حالاً. لهذا لا نستطيع أن نقبل بما قال بعض الشّراح حول تحوّل مثل لوقا إلى ما نقرأ في مت ومر. وقال آخرون: وُجدت تينة يابسة على قارعة الطريق بين بيت عنيا وأورشليم في زمن انتظر المسيحيون أن تورق كعلامة لمجيء المسيح. ولكنّنا لم نعد هنا على مستوى الانجيل، بل على مستوى المخيّلة التي لا تعرف الحدود.
نبدأ فنتوقّف عند ثلاثة أمور. نلاحظ أولاً موضح الخبر في بنية مر ومت. هو يرتبط ارتباطا بصراع يقود إلى الموت بين يسوع ورؤساء الشعب، في الهيكل. والحكم على التينة صورة عن حكم المسيح على شعبه في شخص الرؤسا. حين ننظر إلى الهيكل نجد شعبًا ينعم "بالصحّة"، مثل تينة مورقة تشعّ في الشمس. ولكنَّها في الواقع لا تحمل الثمر الذي ينتظره الفلاّح منها. ونلاحظ ثانيًا أنه يجب أن نفصل آ 20-22 عن آ 18-19. حين جعلت هذه الآيات من خبر التينة الملعونة تعليمًا عن الصلاة لا يرتبط بالسياق المباشر للنصّ، جعلت ضبابًا على معناه. ثم إن آ 20-22 تتألّف من عناصر متفرّقة في التقليد قرأناها في أماكن أخرى من الانجيل. نلاحظ ثالثًا أن موضوع العقم وغياب الثمر والقحط القاتل، يتجذَّر عميقًا في العهد القديم فيصوّر خطيئة شعب الله. "لم يجد فيها إلاّ ورقًا". تلك هي ذروة الخبر في مت وفي مر. كل ما يفعله يسوع ويقوله، حاسم بالنسبة إلى البشر. والمسيح الذاهب إلى آلامه، يمارس الدينونة من خلال هذه الفعلة الرمزية. لا مجال لحمل الثمار عند ساعة الموت. ولا مجال لشراء الزيت عند مجيء العريس.
ب- الدراسة التفصيليّة
أولاً: البنية والمراجع
يتضمّن 18:21-22 ثلاثة أقسام رئيسيّة: (1) عمل يسوع (آ 18-19). (2) سؤال التلاميذ (آ 20). (3) جواب يسوع (آ 21-22). بنية هذا النصّ تشبه بنية 21: 14-17: إنه خبر صراع يحرّك فيه عملٌ من الأعمال سؤالاً لدى المعارضين أو احتجاجًا. كل هذا يقود إلى قول يدلّ على سلطان (9: 10-13؛ 12: 1-8).
ونصل إلى المراجع فنرى أن اختلافات مت عن مر تفسَّر على مستوى التدوين المتّاويّ. ولا حاجة إلى القول بمرجع لا مرقسيّ. غير أن الطرح يقول بأولويّة مرقس يخسر بعض الأنوار. (1) حيث يعلن مر 13:11 أن يسوع اقترب من الشجرة لكي يرى إن كان هناك ثمر، تخلّى مت عن هذا التفصيل. وربط بعضهم هذا الجهل بأن مت هو الأقدم. (2) إن 13:11 (لم يكن أوان التين) لا يجد ما يوازيه في مت. فاعتبر الشرّاح منذ أوريجانس أن يسوع يطلب اللامعقول. كيف يستطيع أن ينتظر أن يجد ثمرًا في غير أوانه. وهكذا يكون مت قد أحسن إن هو أهمل هذا التفصيل. (3) ركّز مت 19:21 على العنصر العجائبي: يبست التينة في الحال. وهكذا نفهم اتجاه التقليد في تعظيم قدرة يسوع.
ثانيًا: التأويل
قدّم يسوع هنا للمرة الثالثة في ثلاثة مقاطع فعلة رمزيّة. وقد اعتُبر 18:21-22 معجزة تحمل عقابًا مع تعليم لاحق. هنا يتبع العقاب الخطيئة. ويُطرح السؤال: ماذا تمثّل التينة؟ أورشليم أم الهيكل برؤسائه؟ يجد عقابه بشكل رمزيّ في التينة لأنه رذل المسيح. ولكن نستطيع أيضًا أن نجعل 18:21-19 في إطار عمل نبويّ يدلّ على القدرة (قل افرام إن يسوع أجرى معجزة لكي يشجّع التلاميذ ويساعد أورشليم على الايمان. وهو لا يماهي بين التينة وأورشليم). نحن هنا كما أمام الآية في المعنى اليوحناويّ. العمل ضد التينة هو صورة منظورة، مثَل في الفعل يدشّن الدينونة. ولكن يجب أن نعرف أن آ 18-19 وحدهما تُشيران إلى الدينونة. أما آ 20- 21 فتشيران إلى أعمال الايمان وما فيها من بطولة. هذا يعني أن المدلول الكرستولوجي (والاسكاتولوجي) قد عاد إلى الوراء على حساب التفسير الكنسي الذي يدلّ على امكانيات التلاميذ إن كان فيهم إيمان.
اختلف مت 18:21-22 عن مر 11: 12-14، 20-25. هناك اختلاف في الترتيب: في مر قُسم الخبر قسمين بحيث إن حدث الهيكل جاء بين لعنة يسوع ونتيجة اللعنة. أما الخبر في مت فهو وحدة يتبعها حدث الهيكل. واختلاف في تسلسل الأحداث: في مر الأقوال حول الايمان قد أخِّرت إلى اليوم التالي في أورشليم، بينما لُعنت التينة في اليوم الأول. أما في مت فكل شيء يحدث في اليوم الثاني. وحصلت المعجزة في الحال. واختلاف في عدد الكلمات في كل خبر: في مر 158 كلمة (في اليوناني). في مت، 98 فقط. (ألغى مت مر 11: 25. ولكن هناك ما يوازي مر في مت 23:5-24؛ 6: 5- 7، 14-15). واختلاف في المنظار الجغرافي: في مر جاء يسوع من بيت عنيا. أما في مت فهو راجع من المدينة. وفي النهاية، ترك الانجيليّ الأولى عددًا من العوائق لكي يصل بسرعة إلى هدفه.
والقول في آ 21-22 يستند إلى كلمة الربّ، غير أن جذر الخبر في آ 18- 20 يبقى المشكلة. هنا ننطلق من فكتور الانطاكي الذي يتحدّث عن مثَل في عمل يستعمل فيه يسوع التينة ليُبرز الدينونة التي ستصيب أورشليم. في خط هذا التفسير (1) نجد أفعالاً رمزيّة غريبة يقوم بها الأنبياء في العهد القديم (أش 8: 1-4؛ إر 13: 1ي؛ 19: 1ي؛ حز 4: 1ي؛ هو 1: 2-9). (2) نجد الموازاة مع عمل يسوع في الهيكل الذي يفسَّر كتنبيه نبويّ. ولكن عددًا كبيرًا من الشرّاح يعتبر أن عمل الدمار يتنافى مع ما نعرفه عن يسوع (لو 9: 55-56)، فيرى فيه توسّعًا في مثل التينة. وظنَّ آخرون أننا أمام خبر ايتيولوجي (يدرس السبب) يفسّر وجود تينة يابسة قرب أورشليم. مهما يكن من أمر، لقد أراد يسوع أن يعبّر عن حقيقة إلهيّة: الشعب الذي رفض مرسلي الله في نهاية الزمن، ستصيبه الدينونة واللعنة.
ثالثًا: تفسير الآيات
* عمل يسوع (آ 18-19)
"وفيما هو راجع". "اباناغو" (رجع) فعل مراحد عند مت. رج 2 مك 9: 21. عبارة "إلى المدينة" تربط الحدث ربطًا وثيقًا بأورشليم. وكلمة "جاع" في إطار ما سيَلي (رج 4: 2 عن يسوع، 12: 1 عن التلاميذ) حوّلت عقم الشجرة إلى تخلّف عن خدمة يسوع.
"وإذ رأى شجرة" (آ 19). تصرّف يسوع بشكل مجاني كما قال افرام في نشيد البتولية (8:30). وهذا ما يدلّ أن عمله رمزيّ. تينة قريبة من الطريق، على جانب الطريق. هي لا تخصّ أحدًا. في مر، رأى يسوع التينة من بعيد (هنا المعنى الروحي، صار الشعب وثنيًا، في البعيد). قصد إليها. لم يجد فيها شيئًا، ليس فيها إلاّ الورق. زاد مت: "فقط". "لا يكن فيك ثمر إلى الأبد". نحن هنا أمام تلميح إلى تك 3: 22. "فيبست التينة". قال مر: "سمع التلاميذ" (11: 14). لا مكان لهذه العبارة في مت 19:21 الذي يعود إلى مر 11: 20. قام مت بهذا التبديل رغبة في الايجاز، وفي جمع مقطوعتي مر في خبر واحد. وتمّت المعجزة في الحال. تلك هي قدرة الربّ التي صارت منظورة أمام التلاميذ.
ترمز التينة إلى الدينونة. قال أش 34: 4: "يسقط جند السماء جميعًا سقوط أوراق الكرم والتين". وإر 8: 13: "سأبيدهم... فلا يكون عنب في الكرم ولا تين في التينة. حتى الورق يسقط". هذا ما سيحدث ليهوذا في المنفى سنة 587 ق م. ونقرأ في إر 24: 1-10 عن اليهوذاويين الذين لم يذهبوا إلى السبي سنة 587: "وأراني الرب سلّتَي تين". وتحدّث هو 2: 12 عن دمار الكرم والتين كعلامة عن عقاب مملكة اسرائيل في الشمال. رج يوء 1: 7؛ إر 17:29؛ حز 17: 1ي؛ هو 16:9؛ مي 7: 1 (لا عنقود آكله بعد، ولا باكورة تين أشتهيها). قد يعني خبر التينة قساوة الله ضد القلوب القاسية بشكل عام. وعدم رضاه على اسرائيل ككل كما يقول اثناسيوس الاسكندراني في رسالة العيد سنة 334 (6: 5). ولكنه يعني بشكل خاص دينونة أورشليم والقائمين في الهيكل. غير أن مت لا يقدّم تفسيرًا. وما نجده في مر يُبرز أمرًا آخر.
* سؤال التلاميذ (آ 20)
"فلما رأى التلاميذ". ق مر 11: 20- 21. "تومازو" (تعجّب). اعتاد مر أن يتحدّث عن الشعب الذي يتعجّب. أما مت فيذكر الناس (8: 27)، التلاميذ (21: 10)، الجموع (8:9، 33؛ 12: 33؛ 15: 31). هنا التلاميذ تعجّبوا. وبعد التعجّب يأتي فعل القول في صيغة اسم الفاعل (عادة، قائلين). في مر 11: 21 تذكّر بطرس ودعا يسوع "رابي" (يا معلم). أما في مت فليس من تذكّر، لأن الشجرة يبست حالاً. نشير إلى أن لفظة رابي لا ترد في فم التلاميذ في مت، ما عدا في فم يهوذا. قد يكون مت أحلّ التلاميذ محلّ بطرس كما فعل في 24: 1= مر 13: 1. وطرح التلاميذ السؤال على يسوع.
* جواب يسوع (آ 21-22)
"فأجاب يسوع وقال لهم" (آ 21). سوف نرى أن موضوع الايمان الذي سوف يتكلّم عنه يسوع هو أهمّ من معجزة لاحظناها. "الحق أقول لكم". دمج مت مر 11: 22-23 والمعين (= لو 17: 6) ومت 17: 20. وهكذا صار يسوع نموذجًا في ممارسة الايمان. في السياق الحاضر قد يعني "الجبل" جبل الزيتون (زك 14: 24) أو جبل بيت الرب (= جبل الهيكل). والبحر يعني البحر الميت (زك 14: 4). تلك شروح الاباء.
"وكل ما تسألونه بإيمان في الصلاة تنالونه" (آ 22). ق 7: 7؛ 18: 19. هذه الآية التي تعمّم ما قيل في صورة في آ 21، توجز مر 24:11 (عشر كلمات بل خمس عشرة) فتصبح عبارة مر ("آمنوا أنكم تنالونه يكن لكم"): "آمنوا تنالوا".
ج- النظرة اللاهوتيّة والروحيّة
كان الحجّاج عديدين في زمن الأعياد. وكانوا يقيمون في القرى المجاورة للمدينة المقدسة. ويعودون في الصباح الباكر إلى أورشليم لكي يشاركوا في العيد (بروي، باكرًا، رج 20: 1؛ مر 15: 1). وبعد أن نزل يسوع وتلاميذه من بيت عنيا في وادي قدرون، صعدوا إلى أورشليم والهيكل (اباناغو: صعد). حدّد مت موقع هذا الخبر قرب الهيكل، ليساعدنا على ربط المثل بالهيكل الذي سيكون شأنه شأن هذه التينة التي لعنها يسوع. لا يُذكر جوعُ يسوع مرارًا في الأناجيل (4: 2؛ 25: 35). اعتبر بعضهم أننا أمام رمز يشير إلى الملكوت حيث لا يعرف الناس جوعًا، وفهموا الخبر دهشة يسوع لأنه لم يجد على هذه التينة العقيمة خصب الملكوت العجائبيّ. مع أن هذا الملكوت سيسطع الآن بحضوره في أورشليم.
أعلن مر أن الوقت لم يكن وقت التين. أترى جاء يسوع قبل الأوان؟ بل جاء في ملء الزمن. ولكن الشعب لم يكن مستعدًا. ألغى مت هذه العبارة المرقسيّة. وافترض أن يسوع توخّى أن يجد ثمرًا على هذه الشجرة، على مثال المسيح الذي توقّع ثمر البرّ والايمان في مدينته. إن مقابلة الشعب بغرس أو بشجرة، ومقابلة الثمر بالورق، كانت من المواضيع التقليديّة في العالم اليهوديّ (إر 18: 1). وكذا نقول عن القحط والجفاف (13: 6؛ رؤ 14: 15؛ 16: 12).
حين نقرأ مر نجد أن لعنة التينة (11: 12-14) والتفسير بفم يسوع (20:11-25) يحيطان بخبر تطهير الهيكل (11: 15-19). أما مت فجمع اللعنة والتفسير في خبر واحد بحيث إن التلاميذ (لا بطرس وحده كما في مر) تعجّبوا من يباس الشجرة في الحال. فطرحوا السؤال: "كيف" (بوس كما في 29:12، 34). ما أجاب يسوع على سؤالهم بشكل مباشر، بل أعطى تعليمًا في الصلاة. أدخل قولاً ذكره في 17: 20 وحوّله تحويلاً عميقًا. في 17: 20 يشدّد مت على "كميّة" الايمان (قلّة الايمان، أوليغوبستيا). أما هنا فيُبرز التعارض بين الايمان والشكّ. ذكرُ الايمان جاء من مر، وقد أوضحه مت في "ولا تردّدون" (ولا تشكّون). نحن هنا أمام شرح وتفسير: أن يكون لنا الايمان وأن لا نشكّ (حرف العطف الواو لا يضيف هنا شيئًا على آخر بل يشرح الواحد بالآخر) هما عبارتان مترادفتان. هنا يشجب يسوع الشك لا الايمان الذي يخامره الشكّ.
إن فعل "دياكريناين" (شك، ارتاب، رج 16: 3 في معنى مميًز) لا يظهر إلاّ هنا وفي مر 23:11 الذي يوازي نصّ مت. عادة، يعبّر النص عن الشك بلفظة "اوليغوبستوس" (قليل الايمان) (8: 26؛ 14: 31؛ 16: 8). والعبارة "لا تفعلان ما فعلت بالتينة فقط" هي كلام يسوع لتلاميذه وكلام الانجيلي لجماعته. هي صدى لجواب يُعطى للمسيحيين الذين دهشوا من غياب المعجزات في الكنيسة. بسبب شكّكم وارتيابكم. وتتوسّع آ 22 في تعليم حول الايمان (أو ضدّ الشك) فتُدخل فكرة الصلاة. قال مر: آمنوا أنكم نلتموه. حوّل مت هذا تحويلاً عميقًا فقال: حين تصلّون أطلبوا بايمان. ليرافق الايمان طلباتكم. هذا القول لا يعني أن صلاة المؤمن تحصل على استجابة آلية، ميكانيكيّة، كما في سحر. بل يعني أن طلباتنا في الصلاة لا تخضع إلاّ لشرط واحد: أن تقدَّم في الايمان، هذا مع العلم أن الايمان بحسب الأناجيل هو أولاً خضوع لمشيئة الله السامية.

3- سلطان يسوع (23:21-27)
أ- نظرة إجمالية
ق مر 11: 27-33؛ لو 20: 1-8. ء هذه المقطوعة نجد نفوسنا أمام خبر يورده الازائيون الثلاثة في كلمات شبه مماثلة، ولاسيّما في مر ومت. فالسؤال الذي طرحه رؤساء الكهنة على يسوع (مر ولو: رؤساء الكهنة، والكتبة والشيوخ) هو هو وفي العبارات ذاتها. هذا السؤال الذي هو محور النصّ، سيعبّر عنه يو 18:2 في خبر موازٍ: "أية آية ترينا لكي تصنع هذا"؟ أما في العمق، فالسؤال هو هو في يوحنا وفي الأناجيل الإزائيّة.
افترض أحدهم أن هذا الخبر يؤكّد أن يسوع لا يمثل أمام السنهدرين الذي جاء في ثلاثة وفود (حسب مر ولو) وطرح أسئلة على يسوع. بل إن السنهدرين هو الذي يمثل أمام يسوع (آ 24-27). وافترض أيضًا (هنا كما في مواضع أخرى) أن نصوص مر ومت ترتبط بوثيقة أولانيّة واحدة استعملها الواحد بمعزل عن الآخر مع موضوع مركزيّ هو موضوع المسيح المتألم.
ب- الدراسة التفصيليّة
أولاً: البنية والمراجع
إن مت 21: 23-27، شيخه شكل مر 11: 27-33، يتميّز بجمل متوازية. هناك مقدّمة إخباريّة قصيرة (آ 23 أ) يتبعها حوار. ونجد فريقين في هذا الحوار: من جهة، عظماء الكهنة والشيوخ. ومن جهة ثاني، يسوع. وكل فريق منهما يتكلّم مرتين. بالاضافة إلى ذلك، بدأ المعارضون فتحدّوا يسوع وطرحوا عليه سؤالين (آ 23). وفعل يسوع مثلهما في جوابه الأول (آ 25 أب). وأجاب الخصوم على جواب يسوع فتكلّموا أولاً عن نفوسهم، وقدّموا امكانيتين (من السماء، من البشر). ثم أعلنوا بشكل واضح أنهم لا يعرفون (آ 25-27 أ). عند ذاك أنهى يسوع الجدال مقارعًا الرفض بالرفض: أنتم لا تعرفون وأنا لا أقول. وتأتي العبارة الأخيرة "بأي سلطان أفعل هذا" (آ 27 ج) بشكل تضمين يستعيد ما قاله الخصوم في البداية: "بأن سلطان تفعل هذا" (آ 23 رج آ 24).
والمراجع؟ 21: 23- 27= مر 11: 27- 33= لو 20: 1- 8. إن الاختلافات بين الأناجيل الثلاثة هي أسلوبيّة في الدرجة الأولى ويمكن أن تفسّر في إطار أكثر من نظريّة. ونلاحظ اتفاق متّى ولوقا ضد مرقس. ولكن يبقى أننا لا نشكّ في أولوية مر.
ثانيًا: التأويل
تنتمي هذه المقطوعة إلى خبر صراع أو سؤال اختبار (رج 3:19-9؛ 22: 15-22، 23-30، 34-40). ولكن السؤال هنا لا ينال جوابًا مباشرًا، والخبر لا يتوخَّى أن يلقي الضوء على قول يسوع، بل أن يزيد الانشداد الدراماتيكيّ بين يسوع وخصومه، وأن يدلّ على هويّة هؤلاء الخصوم. يأتي هذا المقطع في خطّ تطهير الهيكل ولعن التينة، فيقول لماذا حُكم على أورشليم وعلى هيكلها: إن رؤساء الكهنة والشيوخ قد أداروا آذانًا صمّاء لمرسلي الله في نهاية الأزمنة.
إن 23:21- 27 هو أيضًا سؤال اختبار (كما في ف 22)، وقد كنا ننتظره في ف 22. ولكن المتتالية المرقسيّة وموقعها في الهيكل جعلا هذه المقطوعة حيث هي. فكما في مرقس، يستبق النص الجدالات التي سنقرأها في ف 22.
وما هي الاختلافات بين 12: 23-27 ومر 11: 27-33؟ (1) لا نجد لفظة "يعلّم" إلاّ في مت (آ 23). (2) في مر يواجه يسوع رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ. وفي مت، رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب (آ 23). (3) يبرز شخص يسوع فقط في مت مع "وأنا أيضًا" (كاغو، آ 24) و"هو أيضًا" (اوتوس، آ 27). (4) الكلام التفسيريّ في مر 11: 32 (كانوا يخافون الشعب) جُعل في فم خصوم يسوع (آ 26). (5) الموازاة أكثر وضوحًا في الانجيل الأول (كاغو، وأنا أيضًا، مرتين...). (6) استعمل مت كعادته كلمات قليلة بالنسبة إلى مر (116 مقابل 127 كلمة).
نحن هنا أمام لقاء تاريخيّ. هو يعلّمنا أن يسوع عارض أعضاء السنهدرين أو المجلس الأعلى. اعتبر المعمدان كل اعتبار. لم يحسّ بنفسه مقيّدًا لكي يعطي "تقريرًا" عن نفسه إلى معارضيه بمن فيهم الرؤساء الدينيون. تحفَّظ، فما تحدّث بشكل مباشر عن شخصه أقلّه بشكل علنيّ. وهذا ما نعرفه هنا وفي سائر الانجيل.
ثالثًا: تفسير الآيات (21: 23-27)
* مقدمة اخبارية (آ 23 أ)
نحن هنا في الرواق الخارجي أو في أحد الأروقة المجاورة. نقرأ: "ولما جاء إلى الهيكل". ق 21: 21 ≠ مر 15:11. بدأ مت بصيغة اسميّة (لا بالفعل). أوجز مر 27:11 أ (أيضًا إلى أورشليم قد قيلت في مت 18:21) وألغى "يتمشّى". "تقدّم إليه رؤساء الكهنة...". ق يو 1: 19. زاد مت "يعلّم" (رج مت 27: 55؛ لو 20: 1). فسلطة يسوع سلطة تعليميّة (28:7-29). وألغى لفظة الكتبة (هناك كتبة صالحون، كل كاتب يتلمذ)، لأن الجدال لا يدور على الشريعة. وهكذا يخاصم يسوعَ فئتان: رؤساء الكهنة، وشيوخ الشعب.
* الجدال (آ 23 ب- 27 أ)
"بأي سلطان" (آ 23). رج مر 11: 28؛ لو 20: 2؛ ق يو 18:2. في المرحلة الأولى من التقليد الانجيليّ قد يكون السؤال: هل يسوع هو النبيّ أو أكثر من ذلك حين عمل ما عمل في الهيكل؟ "هذا" (أو: هذه الأشياء) قد يشير إلى ما عمله يسوع في الهيكل، كما يشير إلى سائر الأعمال المذكورة في ف 21 بما فيها الدخول إلى أورشليم والتعليم (رج 7: 28-29؛ لو 20: 2 والعلاقة بين السلطة والتعليم). وهكذا يكون السؤال (الذي أجاب يسوع عليه بأعماله وما فيها من تحدٍّ) حول اعتبار يسوع بأن يفعل كالملك المسيح وأن يعلّم كما سيفعل في المقطوعات اللاحقة. فإن أجاب يسوع: أفعل هذا بسلطة بشريّة، عارض تصرّفه. وإن أجاب: بسلطة إلهيّة، أعلن أمام الناس وضعه المسيحاني فاعتُبر مجدِّفًا (26: 64-65) أو تجاوز ما يريد الله أن يُكشف عن شخص المسيح. وفي أي حال هناك خطر المباحث الرومانيّة حول ثورة ممكنة. وهكذا يستخلص القارئ أن أعضاء المجلس هم أصحاب حيلة.
"ومن آتاك هذا السلطان"؟ ق أع 4: 7. هناك سؤالان لا سؤال واحد. رج 24: 3؛ مر 12: 14. وهكذا سيكون لنا جوابان يرفض فيهما يسوع أن يتحدّث عن نفسه.
"فأجاب يسوع" (آ 24). وأنا أيضًا أسألكم سؤالاً. إن أجبتموني أجبتكم. دار يسوع حول هذا السؤال الحرج، فنقل الانتباه من نفسه إلى خصومه. لم يعد السؤال حول ما يفكّر به يسوع، بل حول ما يفكّر به رؤساء الكهنة والشيوخ.
"معموديّة يوحنا..." (آ 25؟). رج أع 38:5 حيث يُقابل البشرُ مع الله (نطيع البشر أم الله). كان في مر سؤال واحد فصار سؤالين عند مت. من السماء أي من الله. أن يكون المعمدان نبيًا حقيقيًا يؤثِّر على مسألة سلطة يسوع. فعلى مستوى مت، شهد يوحنا ليسوع (14:3). فمن قبل يوحنا قبل يسوع.
تتضمّن هذه المقطوعة ذات الينبوع لسلطة يوحنا وسلطة يسوع. وتذكّرنا أن يوحنا اعتُبر نبيًا (26)، وأن رؤساء اليهود لم يعترفوا بسلطته النبويّة، وأنهم خافوا أن يقولوا الحقيقة حول يوحنا خوفًا من الشعب. في كل هذا صار يوحنا ويسوع متشابهين. اعتُبر يسوع نبيًا (آ 11، 43). ولكن رؤساء اليهود لم يعترفوا بسلطته، وخافوا هنا أيضًا من الشعب فما قالوا الحقيقة (آ 43). وهكذا مال مت في هذه المقطوعة إلى التقريب بين يوحنا ويسوع.
"فجعلوا يفكّرون في نفوسهم". فعل "ديالوغيزوماي". هناك حوار دخلي. أو بين بعضهم بعضًا. في أي حال، تظهر أفكار خصوم يسوع من خلال أعمالهم. إن قالوا من السماء، أجاب يسوع: لماذا لم تؤمنوا؟ وان قالوا من الناس! ولكنهم يخافون الشعب. ولهذا صمتوا لئلاّ يقعوا في الفخّ. سؤالان تجاه سؤالين. إحراج تجاه إحراج. ماذا يختار يسوع؟ ولكن ماذا يختار الرؤساء؟ يبدو أنهم يخافون الناس ولكنهم لا يخافون الله. فلو خافوا الله لكانوا أقرّوا بسلطة يوحنا النبويّة وبالتالي بسلطة يسوع كالمسيح المرسل من لدن الآب.
"نخاف من الجمع" (آ 26). هكذا خاف هيرودس (14: 5) ورؤساء اليهود (46:21). كانت شعبيّة يوحنا كبيرة. وهذا ما يشهد له يوسيفوس في العاديات (18: 118).
"فأجابوا يسوع: لا نعرف" (آ 27 أ). تظاهروا بالجهل. وهكذا لم ينتصروا على يسوع. هذا ما يدلّ على عماهم. رفضوا السلطة النبويّة، فوضح أن لا سلطة لهم أيضًا. فمن أين تأتي سلطتهم إلاّ من كلمة الله التي حملها الأنبياء، كما فعل يوحنا ويسوع؟
* كلمة يسوغ الأخيرة (آ 27 ب)
"فقال لهم هو أيضًا". ذكر مر اسم يسوع (فقال لهم يسوع). أما مت فجعل الضمير "هو" (اوتوس). "وأنا لا أقول لكم". وهكذا نكون أمام تأكيد خفيّ حول سلطة يسوع. رفض يسوع أن يجيب فكان في رفضه جواب. ودلّ على سلطته على الرؤساء، فما قبل بأسئلة يطرحونها عليه حول شخصه.
ج- نظرة لاهوتيّة وروحيّة
كان الهيكل (هيارون) يشمل أربعة أروقة متعاقبة: رواق الوثنيين، رواق النساء، رواق الرجال، رواق الكهنة. أما رواق الوثنيين الواسع فقد كان في الواقع ساحة عامّة. كان مركزَ الحياة الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة للشعب. علّم فيه يسوع كما علّم في المجامع (23:4؛ 9: 35؛ 13: 54؛ رج 5: 2؛ 11: 1). إن فعل "علّم" يلعب في مت دورًا لا يلعبه في سائر الأناجيل. فبحسب مر كان يسوع يتمشّى (يروح ويجيء) في الهيكل. ويمكن أن يكون يعلّم. حسب لو، كان يعلّم ويبشّر (يؤنجل، أنجل، حمل الانجيل) الشعب. هذه التصرّفات الثلاثة ليسوع في الهيكل توافق كل الموافقة طريقة كل إنجيل لتقديم المسيح.
نقرأ "عظماء الكهنة" في صيغة الجمع (مع أن هناك رئيس كهنة واحدًا) أكثر من مرّة في الأناجيل (2: 4؛ 16: 21؛ 15:21، 45؛ 3:26). وهذا ما يدهشنا. هذا لا يعني أنه كان أكثر من عظيم كهـنة يقوم بوظيفته في زمن يسوع. إن عظيم الكهنة كان شخصًا فريدًا: مراقب الهيكل الأعلى، خادم الذبيحة اليوميّة وذبيحة التكفير السنويّة، رئيس المجلس الأعلى أو السنهدرين، القائد السياسيّ والدينيّ للشعب (نحد صيغة المفرد، رئيس الكهنة، في 26: 51، 57، 58). وكان يحتفظ بوظيفته مدى الحياة. ولكن حين يتحدّث عنه الانجيل في صيغة الجمع، فهو يشير إلى أعضاء العائلات الكهنوتيّة وموظّفي الهيكل، كما يشير بشكل خاص إلى رؤساء الكهنة السابقين الذين أعفوا من وظائفهم، بالرغم ممّا تقوله الشريعة.
إذا كان نظام الشيوخ (ز ق ن ي م، بسبب اللحية في ذقونهم) قديمًا في تاريخ اسرائيل، كما في تاريخ سائر الشعوب، فالحلقة الرسمية التي توجّه الشيوخ وتعقد جلساتها في أورشليم، تعود إلى زمن السلوقيّين. كوّن الشيوخ "غاروسيا" (2 مك 1: 10؛ 4: 44؛ 2 مك 7: 33؛ 12: 6؛ 14: 20) أو سنهدرين (مجلس الشيوخ، المجلس الأعلى). وما عتّمت هذه المؤسّسة أن تكوّنت من ثلاث فئات متزاحمة: عظماء الكهنة. علماء الشريعة أو الكتبة. وعنصر العوام (العنصر العلماني) أو الشعب الذي يمثّله الشيوخ وكانوا ينتمون مرارًا إلى العائلات الشريفة ذات الميول الصادوقيّة في أورشليم. بعد سقوط أورشليم سنة 70 ب م، لم يعد السسنهدرين مكوّنًا إلاّ من الفئة الثانية، من علماء الشريعة أو الكتبة.
طرح الخصوم سؤالاً في سؤالين. ولكن السؤال الثاني لا يزيد شيئًا على السؤال الأول، بل يوضحه ويفسّره. من أين سلطة يسوع؟ من الله، من البشر، من نفسه؟ فالفكر اليهوديّ لا يعرف سلطة حقيقيّة لا يعطيها الله. الله هو الذي يعطي كل سلطة من أجل مهمّة يقوم بها حاملها (29:7؛ 9:8؛ 9: 6؛ 10: 1). هذا هو المعنى هنا. ولسنا أمام صفات بشريّة نالها الانسان من أجل عمله. بل أمام تفويض من قبل الله.
لا يُعتبر هذا السؤال إساءة إلى يسوع. ولا يعني أن الرؤساء منشغلون بسلطتهم، يخافون من يسوع ويدافعون عن امتيازاتهم. هو سؤال يطرحه كل يهودي يريد أن يميّز كلمة الله. بل يطرحه رئيس الشعب تجاه يسوع. أن يكون هذا السؤال قد طُرح كما طرح، هذا لا يهمّ. ولكنه معقول جدًا في السياق التاريخيّ. هذا ما رآه يو 18:2. فتجاه فعلة ما اعتدنا عليها مثل فعلة يسوع في الهيكل، لا يطرح المؤمن سؤالاً حاول عبقريّة الشخص الذي قام بهذا العمل ولا حول صفاته السيكولوجيّة، بل حول أهليته القانونيّة والدينيّة.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، طُرح هذا السؤال طرحًا حسنًا لأنه لا يتوقّف عند فعلة يسوع نفسها، بل يبحث عن مدلولها. لسنا أمام مدلول عام وكأن هذه الفعلة رمز إلى حقيقة لازمنيّة، بل أمام مدلول يعني شخص يسوع نفسه. ومن جهة ثالثة نرفض أن نرى في هذا السؤال صراعًا بين الجماعة والفرد، بين رؤساء الشعب وعبقريّة يسوع الدينيّة. فيسوع في جوابه رفض أن يقف على هذا المستوى. بل هو تضامن مع يوحنا المعمدان وما انفصل عنه. فلماذا ينفصل عن سائر الشعب؟ أجل، إن سلطة يسوع لا تُفهم إلاّ في إطار تاريخ شعبه الذي كانت ساعاته الأخيرة في كرازة المعمدان.
"وأنا أيضًا أسألكم سؤالاً". جاء جواب يسوع يحمل بعض السخريّة أو الهجوم. في هذا القسم من مت، لا يحاول يسوع أن يقنع خصومه، بل أن يجعلهم يعون أنهم غير أهل لما يعملون. قال: وأنا لي كلمة واحدة. سؤال واحد. فما يكون الجواب من قبل الخصوم؟ هناك خياران لا ثالث لهما: أو أن يسوع يأخذ سلطته من الله أو من البشر. السلطة التي تبرّر أعماله. والشيء نفسه ينطبق على يوحنا: معموديّته هي من الله أو من البشر. وربط يسوع رسالته برسالة يوحنا، وسرّ شخصه بسرّ شخص يوحنا. فلو آمن اليهود بيوحنا (قال يو: لو آمن اليهود بموسى)، لكانوا آمنوا بيسوع. ولكنهم رفضوا سماع كلمة الله، وبالتالي رفضوا الله لأنهم فضّلوا رضى الناس على رضى الله، كما قال الانجيل الرابع.

خاتمة
نسوق في هذه الخاتمة الملاحظات التالية:
1- كتب متّى إنجيله بعد سنة 70 فما احتاج أن يهاجم هيكل أورشليم، وما فعل. بل نظر إلى أساسه في الشريعة كما نظر إلى قداسته في وقت من الأوقات: جعل الله من الهيكل بيت صلاة (21: 13)، وموضع تقدمة الذبائح (23:5-24)، ومكانًا تتقدّس به الآنية التي فيه (23: 16-22). فإذا لم يعد الهيكل كل هذا، فلأن دينونة الله حلّت بأورشليم: فساد الكهنة والآخرين (21: 13؛ 23: 35)، ورذْل يسوع (21: 42-43؛ 22: 7)، كل هذا كان أمرًا إلهيًا بدمارها (24: 2؛ رج تفسير دمار الهيكل الأول في 2 مل 21: 10- 15).
في كل هذا، كان مت في خطّ الفكر اليهوديّ في القرن الأول المسيحيّ (عزرا الرابع، باروك الثاني، رؤيا ابراهيم). وإذا كانت وظائف الهيكل قد انتقلت إلى يسوع (هو أعظم من الهيكل، 6:12) وجماعته (التي هي الهيكل الحيّ)، فيوحنا بن زكاي استعمل هو 6:6 (أريد رحمة لا ذبيحة) ليحلّ شيئًا ما محلّ شعائر العبادة في الهيكل. فما تفرّد به متّى، ليس تفسيره لدمار أورشليم كدينونة من الله بسبب خطيئة الشعب اليهوديّ. وليس الحديث عن شعائر عبادة صارت ميتة، بل نظرته الكرستولوجيّة (حول يسوع المسيح) والاكليزيولوجيّة (حول الكنيسة): فيسوع وكنيسته أخذا الوظائف التي كانت خاصة بالهيكل.
2- ونقابل ما نعرفه عن موسى مع مت 21: 1-17. كان موسى وديعًا ويسوع أيضًا (آ 5). عاد موسى إلى مصر مع حمارين (خر 19:4 حسب السبعينيّة، سيذكرهما زك 9: 9). وركب يسوع "حمارين" فأتمّ نبوءة زك 9: 9 (آ 5). أنشد الأطفال على البحر الأحمر ومن أناشيدهم، حسب التقليد، المزمور الثامن. وهكذا فعل الأطفال ليسوع في يوم الشعانين، فأنشدوا مز 8 (آ 15-16). كان موسى نبيًا وملكًا. ويسوع أيضًا هو ابن داود والنبي الذي "رآه" موسى في تث 18: 15-18. في خر 28:12 (حسب السبعينية) نقرأ أن بني اسرائيل صنعوا ما أمر به الرب موسى وهارون. وفي مت 6:21 نقرأ أن التلميذين صنعا ما أمرهما به يسوع. يذكر تث 12:24 (حسب السبعينية) العجائب التي صنعها موسى. وهذا ما يقوله مت 21: 15 عن يسوع. إن مت 21: 1-17 يذكّرنا بنمطيّة موسى كما نقرأها في مت 1: 1؛ 8: 1؛ 25:11- 30؛ 17: 1-8. يسوع هو النبي الملك مثل موسى الذي أتمّ مواعيد نقرأها في تث 15:18، 18.
3- تخبرنا هذه المقطوعة (21: 1-17) عن الملك المتواضع الذي شفى فئتين (العرج والعميان) عائشتين على هامش المجتمع، الذي امتدحه الأطفال. عارضته أورشليم مركز الأمّة العظيم والمجيد، مع رؤساء الكهنة والكتبة، وهم رجال سلطان وتأثير في الشعب. فالذين تسلّموا مهمّة بدوا في الحقيقة وكأنهم لم يتسلّموا. والدينونة ستأتي قريبًا وتزيلهم. أما الذين بدوا بدون قدرة ولا سلطان، فقد استقبلهم المسيح وورثوا الأرض (مت 5: 4 كالودعاء)، أرض الميعاد، الأرض الجديدة والسماء الجديدة.
4- وجاء 18:21-22 بين مقطعين يشيران إلى الهيكل. في الأول، عارض يسوع الهيكل. في الثاني عارض الكهنة يسوع. وهكذا يدفعنا السياق المباشر إلى أن نفسّر لعنة التينة كفعلة نبويّة تشير إلى الدينونة: بدأ الغضب الالهي ضدّ هيكل أورشليم في الظهور، وأعدّت الطريق لشعب آخر يثمر ثمرًا (43:21). ولكننا نجد أكثر من ذلك في هذه المقطوعة. من جهة، نجد عند مت اتجاهًا يجعل الرحمة والرأفة تجاه الدينونة. ومن جهة ثانية، عاد 21: 13 إلى الهيكل "بيت صلاهّ". لقد مضى الهيكل القديم، وحلّت محلّه الكنيسة. نحن هنا في تاريخ الخلاص. وقد حلّت الجماعة الحيّة محل بناء حدّد موقعه على تلّة من التلال. وهي تستطيع أن تسمع كلمات يسوع حول الصلاة: ما تسأله بإيمان تناله.
5- وأخيرًا نرى رؤساء الشعب وقد "أزعجتهم" أعمال يسوع، يرفضون الحقيقة ويبيّنون أن سلطتهم من البشر لا من الله. هم أقلّ من الجمع الذين رأوا في يوحنا المعمدان نبيًا أرسله الله، وقد يكونون مستعدّين لأن يروا في يسوع ذاك الذي قدّسه الآب وأرسله. أما الشيوخ فلا. وهكذا نفهم أن موت يسوع ليس نتيجة عدم فهم لسلطة لم تكن واضحة، بل مؤامرة تدلّ على إرادة سيّئة لدى الرؤساء اليهود. في الواقع هو صراع بين الشرّ والخير. وعلى رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب أن يختاروا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM