الفصل السابع والعشرون: المسيحي الحقيقي

الفصل السابع والعشرون
المسيحي الحقيقي 7: 21- 29

ونصل في هذا المقطع إلى نهاية عظة الجبل. إنها تتركّز على فعل "عمل". هناك طريق الكسالى وطريق الملكوت، تلك التي تؤدي إلى الهلاك وتلك التي تؤدي إلى الحياة. وهناك بابان، واحد واسع والآخر ضيق. وهناك نوعان من الأنبياء الكذبة والصادقين، ونحن نعرفهم من ثمارهم كما تُعرف الشجرة من ثمارها. وهناك نوعان من التلاميذ: من يقول ومن يفعل. إنهما يشبهان بيتين: واحد بُني على الصخر، وآخر على الرمل.
سنتوقّف نحن عند التلميذ الحقيقيّ، المسيحي الحقيقيّ، الذي يسمع أقوال الرب ويعمل بها. إنه حكيم. لا جاهل. إنه بيت مبنيّ على الصخر لا يؤثر فيه المطر والسيول والرياح.

1- تأليف النصّ
تتألف نهاية العظة على الجبل من عدة وحدات أدبيّة توحّد بينها ألفاظ تعود مراراً. "صنع" أو "مارس" (آ 21، 24، 26): "قال" (آ 21- 22). "هذه الأقوال" (آ 24، 26، 28). "يا ربّ، يا ربّ" (آ 21- 22)؛ "كل من" (آ 21، 24، 26). ثم إن هناك تدرّجاً دراماتيكياً يدلّ على محاولة التأثير على القارىء. فالتأكيد الذي فيه تنتهي العظة (سقط وكان سقوطه عظيماً) يعطي كل ثقله للتهديدات السابقة (قال يوحنا فم الذهب: ترك في قلب سامعيه عاطفة الخوف): "لا يكفي... لتدخل إلى ملكوت السموات" (آ 2). "ما عرفتكم قطّ، أبعدوا عني" (آ 23). عندئذٍ نفهم عاطفة الدهشة التي امتزجت بالخوف عند الجموع التي "بُهتت من تعليمه" (آ 28).
إذن، نجد في نهاية العظة التي هي برنامج يسوع، لهجة التهديد التي أشار إليها الشّراح. وقد ارتبطت بتقليد بيبليّ طويل نجد نموذجه الأول في لا 26: 1 ي وتث 28: 1 ي؛ 30: 1 ي: إن شريعة موسى انتهت هي أيضاً بلسلسة من المباركات (تكون مباركاً) والتحذيرات. ثم إن هذه التهديدات تتميّز ببعدها العام: لا يستطيع أحد أن يفلت منها (آ 21، 24، 26: كل من).
نجد في هذا النصّ أيضاً إحدى ميزات أسلوب عظة الجبل. تواتر النقائض. فمثل البيتين (آ 24- 27) والعبارة "لا يكفي أن نقوله، بل يجب أن نقول" (آ 21) يتناسقان مع عبارة "سمعتم أنه قيل... أما أنا فأقول لكم" (5: 17- 48). كما مع الطريقتين في القيام بالصدقة والصلاة والصيام (6: 1- 18). كما مع المقابلة بين الشجرة الصالحة والشجرة الرديئة (7: 15- 20). ولكننا لسنا فقط أمام أسلوب في الكتاب. فالشكل الأدبي يوافق تعليماً مهماً جداً. فأقوال يسوع تجعلنا تجاه خيار لا نستطيع الانفلات منه: نقبلها أو نرفضها. لا موقف بين بين. هذه الأقوال لا تسمح بالحياد أو اللامبالاة.
يبقى أن تفحّصاً دقيقاً لهذا النصّ يدلّ على عدم تماسك الآيات. فهناك إشارة أولى نجدها في لو الذي يتوافق توافقاً جوهرياً مع مت (ما عدا في آ 22- 23). فنسخة لوقا (13: 25 ب- 27) والسياق الذي فيه أدرجت (13: 24- 30: مثل الباب الضيّق) يطرحان عدّة أسئلة لم تجد بعد جواباً مرضياً. غير أن نصّ مت يوحي بأن آ 21- 27 تجمع مواد من مصادر مختلفة، وتتكوّن من ثلاث وحدات:
- آ 21: ترتكز على التعارض "قال-صنع". وتبدو بشكل كلمة نبويّة. اعتبر بعضهم أن آ 21 هي مقدّمة مثل البيتين (آ 24- 27). أما آ 22 و23 فهما قاطعة أخذت من سياق آخر وأدرجت هنا بسبب الدعاء "يا رب. يا رب". هذا هو موقف لو: "لماذا لا تصنعون ما أقول" (6: 46)؟ أما عند مت، فالمثل هو خاتمة عظة الجبل كلها.
- آ 22- 23: تنحصران في التعارض الضمني بين العمل المواهبي (النبوءات، المعجزات، طرد الشياطين) وذاك الذي يمنح الخلاص. نرى في هاتين الآيتين خطبة اسكاتولوجية مصغّرة.
- آ 24- 27: تورد المثل وتتلاحم مع "سمع، صنع".
في تدوين مت (وهنا نجد الاختلاف اللافت مع لو)، تتوجّه هذه التحذيرات إلى الجماعة المسيحية. فالمقطع كله يدور حول هذا السؤال الرئيسي: من هو التلميذ الحقيقي ليسوع؟ ويتضمّن الجواب ثلاث لاءات ونعم واحدة: التلميذ الحقيقي ليس ذلك الذي يعترف بيسوع كالرب. ليس ذلك الذي يجترح المعجزات. ليس ذلك الذي "يسمع" التعليم (حتى وإن قبل به). التلميذ الحقيقي هو الذي يعمل مشيئة الآب. يمارس "ما أقوله له هنا".
إن الحدّ الفاصل يمرّ داخل جماعة الذين يعترفون بيسوع رباً. غير أن الفصل لن يظهر بوضوح إلا في النهاية، في يوم الدينونة: هذا واضح من استعماله صيغة المضارع في القولات الثلاث. وأخيراً، نستشفّ من خلال هذه التنبيهات السلطة الفائقة التي يتمتع بها من يتلفّظ بهذا الكلام: كان يعلّمهم كمن له سلطان (آ 28- 29).

2- لا يكفي أن نقول: يا رب، يا رب (7: 21)
أ- معنى: يا رب، يا رب
إذا أردنا أن نفسّر تفسيراً صحيحاً هذه الكلمة، يجب قبل كل شيء أن نحدّد معنى الدعاء: "يا ربّ، يا رب". ففي سياق حياة يسوع العلنية، هو يعني عادة: رابي، معلم. أو هو يقابل "م ر ي" (في السريانية مريا) أي السيّد والرب (رج لو 6: 46). ولكن، يجب أن نعود أيضاً إلى العهد القديم (مز 109: 21؛ 141: 8) ومراجع الرابانيين لنرى في كلمة "رب" أصلاً فلسطينياً. وأهم من كل هذا، نعود إلى مقاطع تتكرّر فيها هذه اللفظة في مت (هذا التكرار يميّز انجيل متّى). في آ 22، نجد اللفظة (رب) في سياق الدينونة الأخيرة، في مثل العذارى العشر (25: 11). نجد لها رنّة تذكّرنا بالنداء الذي يطلقه الناس في الدينونة الأخيرة (25: 37، 44).
إذن، نحن أمام لقب يُعطى للمسيح الممجّد. وهو لقب يتضمّن الإيمان بمجيئه في نهاية العالم لكي يدين البشر. وهو في الوقت عينه فعل إيمان بالمسيح الربّ. والموضع الأفضل لهذا النوع من الدعاء، هو الليتورجيا، الصلاة الجماعية (1 كور 16: 22: ما رانا تا: تعال، يا رب، الديداكيه. ارتباط برسالة يسوع الآتي في نهاية الأزمنة).
يبدو متّى مهتماً هنا بفقاهة حول الصلة تكمّل ما قاله فيما قبل (6: 5- 15؛ 7: 7- 11). فالخطبة حول فاعلية الصلاة ولا سيما الصلاة الجماعيّة (7: 7 ي؛ 18: 19- 20؛ رج يو 14: 13؛ 15: 7؛ 16: 23)، قد اتخذت تفاسير لا تتوافق وروح الإنجيل. لهذا استحقّ المسيحيون توبيخ أش 29: 13 (رج عا 5: 21) تجاه الشعب الذي يكرم الله فقط بالكلام، ويبقى قلبه بعيداً عن الرب. ولكن من خلال هذا التنبيه الخاصّ، هناك تحذير ذو بعد أعمّ: فقد يكون اعتراف الايمان ملتبساً وبدون قيمة حين نتصوّره امتيازاً خاصاً أو حقاً مكتسباً أو منفعة نتمسّك بها.
ب- لا يكفي أن نقول. يجب أن نفعل
ليس التعارض فقط بين "قال" و"فعل" (صنع)، بل بين موقفين دينيين، بين نمطين من الإيمان. "الذين يعملون إرادة أبي الذي في السماوات" هم المميّزون. هي عبارة خاصة بمتّى. ونجدها أيضاً في التقوى اليهوديّة. نجد مثلاً عند يهوذا برتيما: "كن شجاعاً كالنمر، وخفيفاً كالنسر، وسريعاً كالغزال، وقوياً كالإسد لكي تعمل إرادة أبيك الذي في السماوات". وهذه الإرادة ليست إرادة ملك متسلّط، بل أب يطلب دوماً خير أبنائه. إذن، من أتمّ هذه الإرادة دلّ على روح المحبّة، روح الأبناء الذين يفرحون بأن يرضوا والديهم، لا على روح العبيد الذين يخافون سيّدهم وعقابه.
حين استعاد مت هذا الموضوع اليهودي، شدّد أقلّه مرتين على إرادته الرحيمة: "أريد رحمة (أو: محبّة) لا ذبيحة" (9: 13؛ 12: 7؛ رج هو 6: 6). غير أنه يجب أن نحدّد أن النصّ يتحدّث عن إرادة الآب التي يجب علينا أن نتمّها في حياتنا. لا عن الارادة (أو: القصد) التي يمارسها الله في إطار مخطّطه الخلاصي (رج 6: 10 ب وصلاة الأبانا). إن مت يشدّد على هذه النقطة: المهمّ لا أن يعمل الله ما يشاء هو أن يعمل (إنه كلي القدرة ولا يحتاج إلى "إذن" منا)، بل أن نعمل نحن ما يشاء هو (هذا ما قاله قبريانس اسقف قرطاجة في القرن الثالث). "فكل من يعمل إرادة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي" (12: 50).
إن آ 21 تلخّص التعليم الاساسيّ في الخطبة حول الصلاة، التي أبرزت العلاقة الضروريّة بين صلاة الإنسان وتصرّفه. فقد جاء بعد الصلاة الربية (وارتبط بها) تحريض على الغفران (6: 5- 13، 14- 15) يبدأ بحرف الفاء: "فإن غفرتم للناس". والخطبة حول فاعليّة الصلاة (7: 7- 11)، ارتبطت بالقاعدة الذهبية (افعلوا للناس ما تريدون أن يفعلوه لكم) مع أداة "هكذا": "هكذا، كل ما تريدون أن يفعل الناس لكم، فافعلوه أنتم لهم: هذا هو الناموس والانبياء" (7: 12). ولكن آ 21 تقوّي هذه العلاقة وتقدّمها بشكل جذري: فالصلاة مهما كانت ذا نمط مسيحي، لا تستطيع أن تخلّصنا إن لم تترافق مع اتمام إرادة الآب الرحيم. لا يكفي أن تقول لي: "يا ربّ، يا رب لكي تدخل ملكوت السموات".

3- كثيرون يقولون لي: يا رب، يا رب (7: 22- 23)
في آ 22- 23، ننتقل من الحياة الأرضيّة الحاليّة (آ 21) إلى يوم الدينونة. "في ذلك اليوم" (آ 22؛ رج 10: 15؛ 11: 22- 24؛ 21: 26). يحيلنا هذا المشهد إلى اللوحة الكبرى التي فيها يجيء "ابن البشر في مجده" (25: 31- 46). في الحالتين، يقدّم "الناس" اعتراضاً أمام الحكم الذي يصدره الرب، الديّان السامي. إن سمات المسيح الديّان (أمر خاص بمتّى) تظهر من خلال الطابع المطلق لحكم لا استئناف فيه، وفي فعل "هومولوغايو" الذي يستعمل في الاعلانات الرسمية بحصر المعنى.
أ- ما عرفتكم قطّ
ويأتي الحكم في جملتين. الثانية هي إيراد مز 6: 9: "أبعدوا عني". وهي تترجم بشكل أمر ما قالته الجملة الأولى. نجد الحكم بحصر المعنى في الإعلان: "ما عرفتكم قطّ". هي ترجمة عبارة حرم التي استعملها الرابانيون، فتضمّنت قطع العلاقة مع تلميذ على سبعة أيام. وفعل "عرف" له رنّة ساميّة قديمة: هو لا يعني معرفة خارجية محض تجعل الإنسان لا مبالياً بما يحدث للآخر. وليست إدراكاً موضوعياً لمعطية من المعطيات. عرف يعني تعرّف إلى أصدقائه. ونستطيع أن نترجم: "لم تكونوا يوماً أصدقائي حقاً".
ب- باسمك تنبأنا
يتوجّه هذا القول إلى الذين عملوا "باسم" يسوع. وتتكرّر ثلاثة مرات لفظة "باسمك" قبل الفعل فتدلّ على نيّة واضحة. نحن أمام أشخاص يشعرون بشكل خاص أنه يُسمح لهم بأن يستعملوا اسم يسوع على مثال بطرس الذي اجترح معجزته الأولى "باسم يسوع الناصري" (أع 3: 6). إن الأعمال التي يعلن هؤلاء الناس أنهم عملوها هي معجزات حقيقية تجعلنا نتذكّر السلطات التي أعطاها يسوع للاثني عشر (10: 7- 8). عندئذٍ نفكّر أن الرب يشجب لا مواهبيين من أي نوع كانوا، بل تلاميذ ينعمون في الكنيسة بسلطة رسولية.
إن الكلمة التي أوردها لو في نهاية إرسال السبعين (أو: الاثني والسعبين) تلميذاً، تقدّم لنا تثبيتاً لما نقول (لو 10: 20): طردُ الشياطين ورؤية اسمنا مسجلاً في سفر الحياة هما شيئان مختلفان. هنا نتذكّر ما يقول بولس الرسول على مستوى المحبة (1 كور 13)
ج- يا فاعلي الإثم
ويأتي عنصر آخر فيلقي ضوءاً على المعنى. هو الطريقة التي بها سمّى يسوع هؤلاء الناس. "أنتم الذين تفعلون الإثم، تقترفون الإثم". في اليونانية "أنوميا" (بلا شريعة): رج 13: 41؛ 23: 28؛ 24: 12. نحن هنا أمام نقص في المحبة. وهذا ما يظهر لدى قراءة 7: 21 حيث "القاعدة الذهبية" تلخّص "الشريعة" كلها. ولدى قراءة 24: 14 حيث "الاثم" يتعارض بوضوح مع المحبّة، عندئذٍ يقوم ذنب هؤلاء المواهبيين في النهاية بأن يعملوا أعمالهم دون أن يمارسوا المحبة.
قدّم القديس بولس فكرة قريبة جداً من هذه الفكرة، حين أكّد أن موهبة الالسن والنبوءة واجتراح المعجزات، قد نمارسها من دون المحبة (1 كور 13: 1- 2)، وقال الآباء: "المحبة وحدها هي ما يميّز أبناء الله من أبناء الشيطان". هذا ما يهدّد الكنيسة بأكبر الأخطار. إنهم كثيرون أولئك الذين يعملون باسم يسوع دون أن يكونوا تلاميذه الحقيقيين.

4- مثل البيتين (7: 24- 27)
هذا المثل هو خاتمة خطبة الجبل كلها، لا خاتمة القسم الأخير فقط (قد يبدأ في 7: 13). إن مت يحبّ أن ينهي خطبه بتشبيه أو مثل. رج 11: 16- 17 (يشبه صبياناً جالسين في الساحات)؛ 13: 51- 52؛ 18: 23- 32 (واجب المغفرة، لم يرحم رفيقه)؛ 24: 45- 25: 30. ثم إن عبارة "هذه الأقوال" تعاد بعد الخطبة لتدلّ على ما تفوّه به يسوع. وبما أننا في خاتمة خطبة، لم يعد فعل "عمل" مجموعاً مع فعل "قال" بل مع فعل "سمع". يسوع يتكلّم. لا يكفي أن نسمعه بانتباه لكي نكون تلاميذه بل يجب أن نضع موضع العمل الأقوال التي توردها ف 5- 7، أقوال عظة الجبل.
أ- سمع عمل
إذا أردنا أن نفهم معنى "سمع وعمل" نعود إلى يع 1: 22 (كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين لها فقط) في سياقها المباشر في آ 21- 25 (سمع، بمعنى تقبّل الكلمة، أطاع. رج 10: 14؛ 11: 5، 15؛ 13: 16، 19، 20...). بعد أن أوصى الرسول المؤمنين بأن يتقبّلوا الكلمة بخضوع (آ 21)، حدّد أن هذا لا يكفي: فيجب أن نعمل بها (آ 22). وتأتي بعد ذلك مقابلة (بُنيت كما في مت بشكل تعارض) الرجل الذي ينظر إلى وجهه في المرآة. ويختتم يع 1: 25 كلامه فيقول: إن الذي يعمل بالكلمة يجد فيها سعادته.
"وعمل الكلمة". هي عبارة ساميّة نموذجيّة. كان الرابانيون أنفسهم يؤكدون أنه، مهما كانت دراسة التوراة (الشريعة) هامة، فالعمل بالشريعة يبقى الأهم. قال الآباء: "ليس المهم أن ندرس، بل أن نعمل". وقال رابي اليشاع بن ابيا (سنة 120 ب. م.): "إنسان مليء بالأعمال الصالحة، وقد درس الشريعة كثيراً، يشبه شخصاً بني أساسات بيته بحجارة مقصوبة. وعلى هذه الاساسات رفع حجارة مصنوعة بالطين (جُعلت في الشمس). حين تأتي الفيضانات، لا تتزعزع الأسس".
غير أن هذه التوازيات التي تستعيد موضوعاً معروفاً في العالم اليهودي، تظهر في الوقت عينه أن نظرة الإنجيل مختلفة جداً. فالإنجيل يشدّد على، "السماع والعمل"، لا على فكرة الدرس والعمل. إن الإنجيل يستغلّ ميزة من ميزات التقليد التوراتي: "كل الشرائع التي فرضها الرب نعمل بها" (خر 24: 3). وحدّد بولس موقعه في هذا التقليد، فنبّه اليهود قائلاً: "ليست السامعون للشريعة هم أبرار عند الله، بل العاملون بالشريعة يبرّرون" (روم 2: 13).
في التقليد الإزائي اتخذ فعل "عمل" مدلولاً مطلقاً، فصار يدلّ على موقف الإنسان الذي يتمّم وصايا الله.
ب- المنظار الاسكاتولوجي
إن مثل البيتين ببنيته المتوازية والمتعارضة، يبدو في تدرّج دراماتيكيّ. يجد ذروته في "الرياح" والعاصفة، ونهايته في خلاص البيت أو في انهياره. والفكرة هي هي في الحالتين: إذا أردنا أن نتجاوز المحنة و"نبقى على قيد الحياة" نعمل بأقوال يسوع.
وكان اختيار يسوع للصورة بسيطاً وموفّقاً. البيت هو مسكن ثابت، ويختلف عن الخيمة. والبيوت في فلسطين كانت بدون أساس. في المثل جاءتها عاصفة فيها الرياح والأمطار. لم يعرف لوقا فلسطين فتحدّث عن بيت له أساس أو بدون أساس. فاض النهر فجرفه. أما نسخة مت فتشير إلى مواضيع بيبلية غنيّة جداً.
فالرياح عند الأنبياء هي صورة تدلّ على تدخّل الله في التاريخ. رج حز 13: 11- 15؛ أش 28: 15- 016 أعلن حزقيال مطراً غزيراً ورياحاً عواصف تضرب السور الذي رفعه الأنبياء الكذبة ليحميهم (رج أيضاً حز 22: 28؛ 38: 22). وقال أشعيا إن القلعة التي بُنيت على حجر موضوع في صهيون، تقاوم وحدها "الموج المدمّر".
على ضوء هذه الخلفيّة التوراتية، اتخذ عنف الرياح التي يتحدّث عنها الانجيل، مدولولاً دقيقاً: إنه يدلّ على التدخّل الذي به يختبر الله متانة حياتنا. وبما أننا لا نجد هنا تلميحاً إلى أي حدث تاريخي محدّد، نفسّر هذه المحنة كإشارة إلى الدينونة الأخيرة (آ 22- 23). هذا ما يثبته المضارع (يشبه) في بداية المثل. وسيقابل مت 24: 37- 39 (رج لو 17: 26- 27) نهاية العالم فيما بعد بطوفان شامل.
ولكن حين نعتبر صورة الرياح أمراً مطلقاً، نحوّل مرمى المثل حتى نرى فيه صورة عن فجاءة الدينونة، وهذا أمر غريب عنه. وهناك أيضاً عناصر تبرز المنظار الاسكاتولوجي: فبنية المثل توجّه الانتباه لا إلى صورة الرياح، بل إلى ما ينتج عن هذه الرياح. لم يسقط البيت الأول، لأن أساسه كان على الصخر... وسقط البيت الثاني وكان سقوطه عظيماً (انهياراً تاماً) (آ 25- 27).
إذا أردنا أن ندرك قوة هذه النتيجة، نتذكر أن البيت في الشرق القديم كان موضع الحماية من الطقس الرديء، والموضع الذي فيه نقضي الليل أو نجعل فيه المؤن... كان دوره الاساسى حمايتنا من السارقين والطقوس العاصفة. وصورة "الصخر" (16: 18؛ 27: 51) تعبرّ عن هذه الطمأنينة في اللغة البيبلية. لهذا يعارض أش 28: 15- 16 بين ملجأ سرابي بُني على مواثيق كاذبة، وصخر لا يزعزعه الموج المدمّر.
وهكذا يبدو المثل في مجمله جواباً على سؤال هو: من يقاوم المحنة الأخيرة؟ وجاء الجواب: ذاك الذي يبني بيته على الصخر، أي ذاك الذي لم يكتف بأن يسمع تعليم يسوع، بل عمل به.
ج- رجل حكيم رجل جاهل
وأوضح مت أن هذا الموقف هو موقف الرجل "الحكيم" (فرونيموس، الفطن). أما الجاهل (موروس، البليد، الأبله) فيبني بيته على الرمل. بما أننا لا نجد هذا التعارض إلا في مثل العذارى (25: 1- 13)، نقابل بين هذا النصّ ومثل العذارى.
يرى مت أن "الحكيم أو "الجاهل" هما من تصرّف بشكل فطن أو بليد في ظروف معيَّنة. فالعبد الأمين الذي وجده سيده في العمل هو "حكيم" (24: 45- 46). والعذارى اللواتي حملن الزيت في إناء مع مصابيحهن ساعة جاء العريس، هنّ "حكيمات". والوكيل "الخائن" الذي عرف كيف يخرج من موقف صعب، هو حكيم (لو 16: 18). ولكن ليست القضية في هذه الحالات أن ننجو من وضع رديء. فـ "الاحتياط" (أي: أن نحتاط) الإنجيلي يُمارس في أوضاع تتّصل بمجيء الرب. هكذا يكون حكيماً ذاك الذي فهم الوضع الاسكاتولوجي وتصرّف بالنسبة إلى هذا الوضع. "والجاهل" هو الإنسان الذي لعب به الجنون فعارض شريعة الله (أم 10: 31- 33) التي تجد "كمالها" في المسيح.

خاتمة
إن الآيات التي فيها انتهت عظة الجبل، شدّدت على ضرورة العمل بما قاله يسوع، وعلى الطابع الذي يجعل من أقواله قاعدة عمل. حذّر مت 7: 21- 27 من خطر حصر أخلاقية العهد الجديد في خلقيّة مثاليّة بعيدة عن الواقع. في خلقيّة مبنيّة على "نوايا صالحة" لا تصل إلى نتيجة. ولكن البرّ الجديد لا يتوقّف عند "النوايا الحسنة". فالقلب المستقيم يدلّ على استقامته بتصرّف مستقيم.
شدّد مت على تعليم الرب هذا، كما نجده في لو، وطبّقه على الجماعة المسيحية التي تدعو الرب وتعمل باسمه (آ 21، 22- 23)، التي "تسمع" أقواله بروح الورع (آ 24- 27). وقد هاجم الانجيلي ولا شكّ بعض التيّارات التي تحصر الإنجيل في تعليم باطني محض، وتفصله عن العمل الملموس.
عرفت الكنيسة دوماً هذه التجربة: تذوب متطلبات يسوع أمام بعض التعاليم التي قد تبدو قاسية. حينئذٍ نبني أخلاقية على قياسنا. ونحذف ما نشاء ونترك جانياً ما لا يوافق أهواءنا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM